Arabic    

الجيوكندا - من رحلة إلى إيطاليا | محمد أحمد السويدي


2023-11-01 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : مقالات الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي

 
 
الجيوكندا
من رحلة إلى إيطاليا | محمد أحمد السويدي
هل سبق لك أن رأيت الموناليزا وجها لوجه؟ سألت كلّ من شاهد زوجة تاجر الحرير الفلورنسي عمّا انتابه لحظة لقائها العين بالعين؟ 
أجاب بعضهم: أنّه شعر بسحر غامض يسرى في جسده، ولم يجد له تفسيرا. بهتّ، قال أحدهم؛ «خيبة أمل كبيرة» قال آخر؛ بعضهم قال: خيّل لي أنّها قدّيسة تنزّلت من السماء؛ قال شاعر كبير: رأيت رجلا! وآخرون قالوا: لم تحرّك فينا ساكنا، فالفتاة ليست على حظ وافر من الجمال، إن لم تكن هناك جملة من العيوب: فالأنف طويل نسبيّا، والحواجب نسيتها ريشة الفنّان، والعينان ضيّقتان يعوزهما الكحل؛ وقال آخرون: كلّها جبين، أو خفيفة الشعر، إلى غير ذلك من مثالب.
مادالينا زوجة التاجر أجنولو دوني، جلست ذات الجلسة في نفس التاريخ ونفس المدينة أمام الشاب رافائيل الذي كان متأثرا بدافنشي حتّى سرق فكرته، وأنجز لوحته الشبيهة بالمادونا على عجل، دون أن يثير جلبة. واللوحة تمنحك صفاء في الألوان قلّ نظيره، كما أن مادلينا بدت مزيّنة بقطع المجوهرات على خلاف الموناليزا العاطل.
لا يكترث المهتّمون اليوم بموناليزا رافائيل المغمورة، بل بالحسناء العاطل، ولكنّهم يسألون: أليست العذراء عند الصخور، أوالمادونا في أكثر من لوحة له، أو القدّيسة آن، أو ليدا المغرية، أكثر جمالا؟ ويعجبون، كيف قضى السنوات الباقية من عمره - وكان قد ناهز الخمسين-  في لوحة أنفق عليها من ماله وروحه، إذ راح يسخّر لها فريقا من العازفين والمهّرجين، ليذهب عن نفسها الغمّ والحزن أو الوحدة والملل، وهي ماثلة في وضع ثابت لا يرفّ لها جفن.
 لقد أسهب فاساري في وصف جفنيْ الموناليزا، ولكن كل الاختبارات الحديثة التى أجريت على اللوحة لم تعثر لهما على أثر. فهل تراه رآها أو نقل ما سمعه عنها؟ وهل طالت الترميمات وعوامل الأكسدة طوال الخمسمائة سنة الماضية نهار اللوحة فبدّلته إلى (غروب)، إذ شكا الناس ذلك منذ مطلع القرن السابع عشر، وسوء ما آلت إليه اللوحة، إثر الأخطاء التي ارتكبها المرمّمون؟ 
وعلى الرغم من حماس البعض للموناليزا، إلا أنها لم تعدّ عملا خارقا أو استثنائيا. ولكن بزوغ نجمها بدأ في منتصف القرن التاسع عشر، وولد في شمال أوروبا بالتحديد، إثر موجة الافتنان بعصر النهضة في إيطاليا بشكل عام، وبعبقريّة ليوناردو المتعدّد المواهب بالتحديد. وكان اختيار السيّدة الفلورنسيّة قصر اللوفر سكنى لها في باريس منعطفا آخر لتلك الشهرة، إذ اختارت هذه النبيلة ودافنشي نفسه المنفى وطنا. ثمّ أسهم الأدباء في إعلاء شأنها بما دبّجوا بها من عبارات المديح والثناء. قال عنها الروائي والناقد الفنّي ثيوفيل جوتيه: عنقاء الجمال ذات الابتسامة المحيّرة، وأثنى عليها الشاعر ييتس بطريقته، وكذلك أوسكار وايلد، وسومرست موم، وفورستر الذى نعتها في روايته «غرفة ذات إطلالة» بقوله: تلك التي لا نحبّها، لأنها تضنّ علينا بما يجيش في صدرها من حديث.
في يوم الاثنين الحادي والعشرين من أغسطس عام 1911م، حلّقت الموناليزا في سماوات المجد، عندما خطفها لصّ في الحادية والثلاثين من العمر يدعى فينزنسو بيروجيا، رسّام ومرمّم وصاحب سوابق يعمل في اللوفر، كان يريد اختطاف الآلهة مارس وفينوس لمانتينا، ولكن اللوحة كانت أكبر من أن يحتملها كاهله، فاكتفى بالموناليزا الأصغر حجما والأخف حملا. ولفّ الحسناء التي استسلمت للثعلب في قماش، وخرج دون أن يثير أدنى ريبة. ولم يفلح البوليس في الكشف عن هويّة الخاطف، وطال التحقيق كثيرا من المشتبه بهم بمن فيهم بيكاسو الذي شوهد غير مرّة يحوم حول اللوحة. وفي أواخر نوفمبر 1913م أرسل فينزنسو رسالة إلى تاجر التحف الفلورنسي ألفريدو جيري يعرض فيها ردّ السيّدة الفلورنسيّة إلى وطنها لقاء نصف مليون ليرة، فأعلن التاجر قبوله العرض. وفي الثاني عشر من ديسمبر استقلّ بيروجيا بصندوقه الخشبيّ القطار إلى فلورنسا، واستأجر لدى وصوله غرفة في فندق خامل، سيعرف باسم الجيوكندا فيما بعد. وفي لحظة اللقاء الحاسمة فتح الصندوق أمام تاجر التحف الذي كاد أن يتوقّف قلبه، وأخرج زوجا من الأحذية القديمة، وبعضا من الملابس الداخليّة البالية التي تبعث على الغثيان، ثمّ جلا العروس التي طال غيابها. اعترف الفريدو بالمشاعر التي انتابته ساعة رآها، وكيف راح بورجيا يعرض اللوحة ويتقمّص دور دافنشي نفسه. «أميرتكم ردّت إليكم»، قال بيروجيا كمن حقّق مجدا مؤثلا، وها أنا أنتظر الثواب. عندها انقضّ رجال الشرطة من كلّ مكان وألقوا القبض على الثعلب فينزنسو وأودع السجن. 
ومنذ ذلك اليوم تصطفّ طوابير الزوّار القادمة من كلّ فجّ عميق أمام الغرفة 13 في الدور الأول من القصر لتقديم واجب الاحترام للنبيلة الفلورنسيّة، حمدا على سلامة الإياب.

    الجيوكندا من رحلة إلى إيطاليا | محمد أحمد السويدي هل سبق لك أن رأيت الموناليزا وجها لوجه؟ سألت كلّ من شاهد زوجة تاجر الحرير الفلورنسي عمّا انتابه لحظة لقائها العين بالعين؟  أجاب بعضهم: أنّه شعر بسحر غامض يسرى في جسده، ولم يجد له تفسيرا. بهتّ، قال أحدهم؛ «خيبة أمل كبيرة» قال آخر؛ بعضهم قال: خيّل لي أنّها قدّيسة تنزّلت من السماء؛ قال شاعر كبير: رأيت رجلا! وآخرون قالوا: لم تحرّك فينا ساكنا، فالفتاة ليست على حظ وافر من الجمال، إن لم تكن هناك جملة من العيوب: فالأنف طويل نسبيّا، والحواجب نسيتها ريشة الفنّان، والعينان ضيّقتان يعوزهما الكحل؛ وقال آخرون: كلّها جبين، أو خفيفة الشعر، إلى غير ذلك من مثالب. مادالينا زوجة التاجر أجنولو دوني، جلست ذات الجلسة في نفس التاريخ ونفس المدينة أمام الشاب رافائيل الذي كان متأثرا بدافنشي حتّى سرق فكرته، وأنجز لوحته الشبيهة بالمادونا على عجل، دون أن يثير جلبة. واللوحة تمنحك صفاء في الألوان قلّ نظيره، كما أن مادلينا بدت مزيّنة بقطع المجوهرات على خلاف الموناليزا العاطل. لا يكترث المهتّمون اليوم بموناليزا رافائيل المغمورة، بل بالحسناء العاطل، ولكنّهم يسألون: أليست العذراء عند الصخور، أوالمادونا في أكثر من لوحة له، أو القدّيسة آن، أو ليدا المغرية، أكثر جمالا؟ ويعجبون، كيف قضى السنوات الباقية من عمره - وكان قد ناهز الخمسين-  في لوحة أنفق عليها من ماله وروحه، إذ راح يسخّر لها فريقا من العازفين والمهّرجين، ليذهب عن نفسها الغمّ والحزن أو الوحدة والملل، وهي ماثلة في وضع ثابت لا يرفّ لها جفن.  لقد أسهب فاساري في وصف جفنيْ الموناليزا، ولكن كل الاختبارات الحديثة التى أجريت على اللوحة لم تعثر لهما على أثر. فهل تراه رآها أو نقل ما سمعه عنها؟ وهل طالت الترميمات وعوامل الأكسدة طوال الخمسمائة سنة الماضية نهار اللوحة فبدّلته إلى (غروب)، إذ شكا الناس ذلك منذ مطلع القرن السابع عشر، وسوء ما آلت إليه اللوحة، إثر الأخطاء التي ارتكبها المرمّمون؟  وعلى الرغم من حماس البعض للموناليزا، إلا أنها لم تعدّ عملا خارقا أو استثنائيا. ولكن بزوغ نجمها بدأ في منتصف القرن التاسع عشر، وولد في شمال أوروبا بالتحديد، إثر موجة الافتنان بعصر النهضة في إيطاليا بشكل عام، وبعبقريّة ليوناردو المتعدّد المواهب بالتحديد. وكان اختيار السيّدة الفلورنسيّة قصر اللوفر سكنى لها في باريس منعطفا آخر لتلك الشهرة، إذ اختارت هذه النبيلة ودافنشي نفسه المنفى وطنا. ثمّ أسهم الأدباء في إعلاء شأنها بما دبّجوا بها من عبارات المديح والثناء. قال عنها الروائي والناقد الفنّي ثيوفيل جوتيه: عنقاء الجمال ذات الابتسامة المحيّرة، وأثنى عليها الشاعر ييتس بطريقته، وكذلك أوسكار وايلد، وسومرست موم، وفورستر الذى نعتها في روايته «غرفة ذات إطلالة» بقوله: تلك التي لا نحبّها، لأنها تضنّ علينا بما يجيش في صدرها من حديث. في يوم الاثنين الحادي والعشرين من أغسطس عام 1911م، حلّقت الموناليزا في سماوات المجد، عندما خطفها لصّ في الحادية والثلاثين من العمر يدعى فينزنسو بيروجيا، رسّام ومرمّم وصاحب سوابق يعمل في اللوفر، كان يريد اختطاف الآلهة مارس وفينوس لمانتينا، ولكن اللوحة كانت أكبر من أن يحتملها كاهله، فاكتفى بالموناليزا الأصغر حجما والأخف حملا. ولفّ الحسناء التي استسلمت للثعلب في قماش، وخرج دون أن يثير أدنى ريبة. ولم يفلح البوليس في الكشف عن هويّة الخاطف، وطال التحقيق كثيرا من المشتبه بهم بمن فيهم بيكاسو الذي شوهد غير مرّة يحوم حول اللوحة. وفي أواخر نوفمبر 1913م أرسل فينزنسو رسالة إلى تاجر التحف الفلورنسي ألفريدو جيري يعرض فيها ردّ السيّدة الفلورنسيّة إلى وطنها لقاء نصف مليون ليرة، فأعلن التاجر قبوله العرض. وفي الثاني عشر من ديسمبر استقلّ بيروجيا بصندوقه الخشبيّ القطار إلى فلورنسا، واستأجر لدى وصوله غرفة في فندق خامل، سيعرف باسم الجيوكندا فيما بعد. وفي لحظة اللقاء الحاسمة فتح الصندوق أمام تاجر التحف الذي كاد أن يتوقّف قلبه، وأخرج زوجا من الأحذية القديمة، وبعضا من الملابس الداخليّة البالية التي تبعث على الغثيان، ثمّ جلا العروس التي طال غيابها. اعترف الفريدو بالمشاعر التي انتابته ساعة رآها، وكيف راح بورجيا يعرض اللوحة ويتقمّص دور دافنشي نفسه. «أميرتكم ردّت إليكم»، قال بيروجيا كمن حقّق مجدا مؤثلا، وها أنا أنتظر الثواب. عندها انقضّ رجال الشرطة من كلّ مكان وألقوا القبض على الثعلب فينزنسو وأودع السجن.  ومنذ ذلك اليوم تصطفّ طوابير الزوّار القادمة من كلّ فجّ عميق أمام الغرفة 13 في الدور الأول من القصر لتقديم واجب الاحترام للنبيلة الفلورنسيّة، حمدا على سلامة الإياب. , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

الرحلة الإيطاليّة - روميو وجولييت - لمحمد أحمد السويدي
قادنا دافنشي إلى موناليزا بالصنادل المجنحة
وادي غوفي
وداعا ساموراي السينما الفرنسية - وداعا الين ديلون
Carmen
The Priceless Necklace of a Florentine Beauty: A Testament to the Toil and Sacrifice of My Ancestors
A Lady from Florence