Arabic    

كتاب منزل في صقلية - الفصل السابع - بيب


2019-07-03 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : منزل في صقلية

 
 
بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | الناشرون: كارول وغراف المحدودة | ترجمة أميمة الزبير | الفصل السابع- بيب
**********
أصبح من الضروري البحث عن مساعد جديد بعد أن رحل فينشنزو. علمت أنَّ المتقدم للعمل كان "يتيماً". كانت هذه محاولتي الأولى للعثور على خادم بنفسي، وقد زاد من وطأة الحرج الذي هيمن على أجواء المقبلة ما لقيته من صعوبات في اللغة واللهجة أيضاً. 
كان بيب ضئيل الجسم، يقل طوله عن الخمسة أقدام. كان يرتدي بزّة برتقالية لامعة مخططة. أما سحنته فاتسمت بالقتامة حتى أنّ الناظر إليه يخاله أفريقياً، ولابد أنّ أسلافه كانوا كذلك. جاء إلى مركز الجزيرة الجنوبي الأكثر إزدهاراً بحثاً عن وظيفة، وهو الرابعة والعشرين من عمره، مدفوعاً بالفقر المدقع والبطالة في – وطنه- قريته الصغيرة على الساحل الشمالي، حيث شاعت أنباء عن وجود أغنياء أجانب وسياح في الجنوب يدفعون أجوراً خرافية، ويجزلون البقشيش، ويتزوجون حتى- في الماضي- من السكان المحليين المنحدرين من أسرٍ فقيرة جداً، والذين غادروا إلى بلادهم ليعيشوا في دعة ورغد من العيش لما تبقى من حياتهم الكسولة. 
لم يسبق لبيب العمل في المنازل لكنه كان واثقاً من قدرته على التعلّم إن وجد الفرصة. اتفقنا على 10000 ليرة شهرياً، ومعيشته، وكان يريني ما يستطيع فعله ومدى سرعته في التعلّم.
أتقن بيب في سرعة مذهلة وبراعة مهام وظيفته الجديدة، وكان يعمل بجد وسرور لأداء المهام الروتينية، واظهر أمانة في حسابات المشتريات الأمر غير المألوف في هذا الجزء من العالم حيث ما يتم اختلاسه من صاحب العمل يعتبر زيادة مشروعة في الأجر. وعندما ينتهي من عمله في المنزل كان يخرج إلى الحديقة لتقليم الأشجار أو تطعيمها، أو إعادة فتح المصارف، أو إصلاح سورٍ متضرر. كان دائب العمل على أمر ما، ولم يكن هنالك الكثير من المشاكل. بعد يوم عمل يمتد لأربعة عشر ساعة كان يذهب إلى غرفته، حيث يشغل نفسه لساعة من الزمن قبل أن يطفيء الضوء. ماريا، الطباخة المسنّة، أخبرتني أنّه كان يكتب خطابات لفتاته، وبالفعل كانت هنالك بعض المغلفات بما عليها من عناوين مكتوبة بخط متعرج وغريب في انتظار إرسالها إلى مكتب البريد. (لقد تمكن من اقتطاع بضع ساعات من الدراسة أثناء الحرب، ولولا حدة ذكائه لما استطاع الكتابة على الإطلاق.) 
بعد ذلك بعشرة أيام اتت ماريا تتهادى إلى غرفتي، وهي تُنقِّلُ جسدها الضخم بين ساقيها المقوّستين، وقالت: " سيدتي، لقد عملت في هذا المنزل لثمانية وأربعين عاماً. كان الصبية يأتون ويذهبون، ولكن ليس بينهم مثل بيب. حافظي عليه."
وهكذا، في نهاية الشهر، حصل بيب على زيادة في الراتب، وكان من أسباب بهجته وفخره الواضحين أنْ تم اعتماده في وظيفة دائمة. وجدت تلك الزيادة في مستوى ثقته بنفسه طريقها إلى ملامحه على الفور، فلم يعد يقضي أمسياته رفقة قلمه العنيد، بل خرج يتنزه في الشارع العام بحثاً عن المغامرة. وسرعان ما وجدها. بدأت أتساءل، عن مسؤولياتي الأخلاقية عن هذا "اليتيم" ذي الأربعة والعشرين عاماً، والذي جاء على حسابي من قريته الصغيرة إلى المركز السياحي الحديث. لم يعد تنظيف الطاولة من الأطباق في الليل عملاً صامتاً. بل كان يؤديه وهو يدندن بسلسلة من الأغنيات القديمة والحديثة عن الحب والحبيبة والعاشق والشقراوات بصوته ذي اللكنة العربية التي فاجأتني. 
انتهى عمله، وكنا نسمع الأغنيات تنحسر في ممر الحديقة، وبعد ساعات، قد نستيقظ على عودتها الخافتة في البداية من مسافة بعيدة ثم يعلو الصوت شيئاً فشيئاً بينما كان يصعد إلى سطح الحديقة. ظل الحال على ماهو عليه، ليلة بعد الأخرى، ولكن لم يتأثر عمله أبداً. استدعيت مستشارتي ماريا، التي كانت تشاركني القلق في مكان أوصدت فيه الأبواب على الفتيات الصالحات بعد حلول الظلام، بينما يخرج آباؤهن وإخوتهن وأزواجهن للاستمتاع بصحبة الأجنبيات. نعم لقد كان خاطباً. نعم، كانت ماريا تعتقد أنّ من واجب السيدة أن تحادثه في الأمر.
تم استدعاء بيب هو الآخر، فتمتم معترفاً بأنّه مغرم بفتاة في الشمال. كان ينوي الزواج منها- لقد كانت فتاة صالحة، عملت بجد ولم تكن تهتم بالقيل والقال- بيد أنَّ بيب كان يرغب في خمس سنوات من الحياة الحرة قبل أن يقيّد نفسه بالزواج. لقد أراني صورة صديقته التي يحملها معه، ولكنّه لم يتزحزح عن موقفه. على الفتاة أن تنتظر. واستمر الغناء...
منحته في عيد الميلاد ثلاثة أيام للراحة كان يستحقها تماماً. ولم أعرف سوى مؤخراً أنّه استخدم هذه الإجازة ليفر مع عشيقته. فقد أخذ فتاته، من القرية الصغيرة التي شهدت مولده، ومن منزل والديها إلى منزله، ومن تلك اللحظة صارت امرأة، إن لم يتزوجها في المستقبل القريب، ستصبح حطام إنسان، ولن ينظر إليها أي رجل مهما كان جمالها، أو سخاء مهرها. وهذا في بلد لا تحصل فيه النساء على وظيفة سوى الزواج. 
وبعد يوم أو نحوه من الرزانة والنوم المبكر، عاد الغناء إلى المشهد مرة أخرى. في الأسفل منذ التاسعة، ثم في منتصف الليل. بدأت الخطابات والبطاقات تتدفق إلى المنزل من الشمال: " في المرة القادمة التي تأتي فيها إلى هذا المنزل، سيتم تزويجك على الفور!"
"لقد أعددنا جميع التراخيص بالفعل."
"تم طلب النبيذ- واللحم."
"والكاهن بالانتظار."
لقد اتفقت وماريا على أنّ الوقت قد حان لإجراء مقابلة أخرى. 
كان بيب عنيداً: " إنّي أفضّل ألا أذهب إلى هناك مرة أخرى على أن أتزوج! ولأن أخسر أرضي، وسترتي ودراجتي= نعم حتى دراجتي- لأحبّ إلي من أن أن أذهب إلى هناك مرة أخرى...". كنت أشعر بما هو أكثر من مجرد التعاطف، لكني نجحت في إخفاء ذلك.
تساءل بعض الأصدقاء، منزعجين من أوضاع الخدم السيئة المزمنة في إنجلترا، عما إذا كنت أرغب في حل هذه المعضلة على نحو غيري وتركهم يأخذون بيب معهم إلى البلاد. شعرت بأنّني لا استطيع رفض هذه الفرصة دون الرجوع إليه، لذلك سألته عمّا إذا كان يريد الذهاب مع أحد الأصدقاء. فقرر على الفور بأنّ: " سأذهب!"
نبهته بأنّ ذلك سوف لن يحل مشكلته: " تذكر أنّ عليك العودة في غضون سنة."
"سأتزوج الفتاة أولاً، ثم أجد طريقة للبقاء هناك للأبد."
"كيف؟"
"سأرتبط بزوجة إنجليزية هناك، حتى أستطيع الإقامة."
فكرت أنّه ينوي الزواج من ثلاث على ما يبدو، بينما قفزت إلى ذهني الفتاة التي في البلدة، إن كانت هي الوحيدة في حياته حقاً.
سحب الاصدقاء عرضهم بحسب نصيحتي، وظلت الأمور كما كانت عليه. 
في أحد الأسابيع، على أية حال، تحطمت معنوياته. كان ذلك بسبب خراج سنّي. كان الألم يزداد يوماً بعد يوم. لكنّه ظل يعمل في أسىً وببطء، وبدون أن يذوق طعم النوم، ولا الطعام، وكان الورم يزداد سوءاً مع الوقت. لم يصغ لتحذيراتنا ولا دعواتنا، وظل على عناده حتى بدد الألم قدرته على المقاومة بعد أربعة أيام بلياليها، فانطلق إلى العيادة لا يلوي على شيء. 
لا بد أنّه كان بين يدي طبيب الأسنان عندما أحضر ساعي البريد بطاقة أخرى من الشمال. تبادلت النظرات مع ماريا: " من الأفضل أن نتركه يحظى بقسط من النوم قبل أن ندعه يراها" اتفقنا، وخبأناها إلى اليوم التالي.
لم نكن نعرف فحوى تلك البطاقة ولكن أثرها عليه كان هائلاً: " لابد من العودة إلى المنزل حالاً. لا أملك شيئاً سوى العودة." فأذنت له في يومين. 
أوفى بعهده، وعاد في اليوم الثاني عند منتصف الليل، حزيناً، ومكتئباً، وما زالت علامات الالتهاب والتوّرم على وجهه. ذهب إلى فراشه في صمت. وفي اليوم التالي أخبرتني ماريا أنّه كان يوم عيد ميلاده الخامس والعشرين وزفافه في آن واحد. قدمت له التهاني بما استطعت استحضاره من حماسة، ودعوت زوجته لقضاء خمسة عشر يوماً من شهر العسل معي. لكنه قال في اعتداد بالنفس: " إنّه لطف كبير منك، سيدتي، لكني لا أستطيع القبول. فأنا أود التعريف بنفسي كعازب في التاسعة عشر من العمر أثناء وجودي في هذه البلدة."
مرّ أسبوع في عمل وصمت. وفي يوم الأحد، يوم راحته، ظهر وهو يحمل كتاباً سميكاً في قواعد النحو الإنجليزية.
" ألن تخرج اليوم يا بيب؟"
"لا سيدتي، لن أخرج بعد الآن."
"ولكن لِمَ؟ ماذا تعني؟ ألن تفعل أبداً؟"
" أبداً، طالما كنت في خدمتك، سوف لن أخرج مرة أخرى أبداً."
وبدلاً عن ذلك كان ذاهباً لإتقان اللغة الإنجليزية. 
صمدت محاولته الشجاعة في الوفاء بعهود زواجه لما يزيد عن الأسبوع بقليل. ثم عاد يصدح بالغناء مرة أخرى. كنت أراقب في عجز. وافقتني ماريا على أن ليس بأيدينا ما نفعله بالخصوص. 
ولكن تعاطفي بدأ يتحوّل باتجاه الزوجة المُهملة.
بعد مرور شهرين، ظل بيب خادماً مثالياً، ولكن تزايد قلقنا حتى اندفعت ماريا في أحد الأيام وهي تبكي: "سيدتي، ينبغي أن تفعلي شيئاً- إنّه الآن يعطّر حاجبيه وشاربه!". لا أخالفها الرأي لكن ماذا أفعل؟ (تمنيت فقط أنّه ليس ذلك العامل الممتاز في عالم تسوده النقائص...) 
من رحمة الله حُلَّت المشكلة بالنسبة لي من تلقاء نفسها، فقد دخل إلى غرفتي، بعد أن عاد إليه رشده، ليقول: " سيدتي، أخشى أن يصيبني الجنون إن لم تأت زوجتي إلى هنا."
أجبت بأكبر قدر ممكن من الهدوء، " أنت تعلم أنني قدمت لها الدعوة. اذهب واحضرها، يمكنها الإقامة هنا لأسبوعين."
"لابد أن تظل معي بشكل دائم."
"أنا لا أعرفها بعد. يجب أن تأتي على سبيل التجربة. كما فعلت أنت من قبل، وعندها يمكننا أن نتخذ ذلك القرار سوية."
"إن لم تبقَ معي هنا للأبد، فإنني سأترك العمل معك."
"ربما- سوف نرى."
خرج وهو ناقم وفي اليوم التالي وجدت نفسي أتساءل عن الطريقة المناسبة لاستقبال فرانكا، عروس فقيرة صغيرة غير مرحب بها في الثامنة عشرة من عمرها، لم تستقل قطاراً من قبل، ولم تخرج بمفردها أبداً، ولم تر منزلاً كهذا، أو تتحدث أية لغة سوى لهجتها المحلية.
استقبلت الزوجين من أعلى الدرج، وأهديتها باقة ورد حرصت أن تلائم المناسبة قدر الإمكان. لقد كان وجهها مصفرّاً من القلق والخوف، لكنها تمكنت من رسم ابتسامة شاحبة على وجهها. 
"انظر يا بيب أليست جميلة؟" كانت كذبة، لكن لا بدّ منها. " ليس كثيراً." جاءت الإجابة ممتعضة من زوج مرهق بعد رحلة حتمية مضنية. 
كانت فرانكا، كما قال، فتاة صالحة لم تهتم بالقيل والقال. وبينما كانت تستعيد توازنها، شرعت في معاونة ماريا، لقد كانت فلاحة ومفيدة. وجاء الاتفاق على بقائها ضمنياً لدى نهاية الفترة التجريبية. 
مرت شهور لم تترك العروس خلالها المنزل على الإطلاق. وحتى في أيام راحة بيب كانت تبقى في المنزل مع ماريا وابن أخيها ذي الأعوام الثمانية بينما كان زوجها يرفه عن نفسه (على نحو لائق) بحسب ماريا، مع أصدقائه على الشارع الرئيسي، أو دار السينما التي افتتحت مؤخراً. 
لقد حاولت –سدى- أن أحدث نفسي بأنني لست في حاجة للشعور بالشفقة المفرطة تجاه النساء من طبقتها اللواتي اعتدن رؤية أزواجهن- لقرون من الزمان- وهم يخرجون للترويح عن أنفسهم كل بمفرده أو ضمن مجموعات من الرجال فقط. ولكن شعوري حيال حقوق النساء كان قوياً. كان عليَّ التدخل. بعد الكثير من محاولات الإقناع المتأنية، أخذ بيب زوجته أخيراً إلى أحد المواكب الدينية في البلدة، حتى إنّه قدم لها فستاناً جديداً. لقد كنا نراقبهما من على البعد، ولدى عودتهما انهالت عبارات الاستحسان والإطراء على فرانكا بسخاء: "بيب، لقد كانت زوجتك أجمل فتاة في الاحتفال كلّه." قوبلت جهودنا في صمت يسوده الجفاء. ولكن لاحقاً عندما سنحت لي فرصة أخرى: " بيب، لقد كنتما أكثر زوجين وسامة في الجموع كلها." في هذه المرة قوبل إطرائي بابتسامات مشرقة من وجهيهما، وبدأت المشاوير المشتركة تتكرر بشكل تدريجي. 
في صيف ذلك العام، وبينما كنت خارج الجزيرة وصلتني رسالة من بيب: 
السيدة الأغلى 
عليّ أن أخطرك بأنّ زوجتي قد وضعت في مطلع هذا الصباح رجلاً صغيراً بهي الطلعة. جميع الأمور تسير على ما يرام معي. سنسميه فيتوس. 
خادمك المخلص 
بيب
طويت مغامراته خارج إطار الزواج في عمق النسيان. أصبح بيب أكثر الآباء والأزواج تفانياً- في تلك الناحية، بل إنّه قال في إحدى المرات عندما أُقترح عليه العمل بشكل استثنائي ظهيرة يوم الأحد، بحماس كبير وهو يعتدل واقفاً بطوله الذي بلغ أربعة أقدام وإحدى عشرة بوصة: " هذا هو الوقت الذي ينبغي أن يأخذ الرجل المسؤول فيه زوجته في نزهة. ولن يكون من اللائق أن يفوّته." فتم سحب الاقتراح.
والآن، وفي دهشة وذهول، صار عليَّ مراقبة التحوّل التدريجي لفرانكا من زوجة بسيطة ومعظّمة لزوجها إلى شيء مرعب- أم صقلية مستبّدة مزعجة.
ومنذ لحظة إدراك حملها، أصبح بيب مثقلاً بالهموم. لقد كان يساعدها في كل الأوقات، وكان يقول مشيراً إلى جسدها المنتفخ: " يجب ألا تسقط فإبني في أحشائها." لقد كانت فرانكا في النهاية هي القناة التي سينجب من خلالها ذاته الجميلة. وقد اعتادت النساء الصقليات في تلك الأيام على هذا الموقف. كان إنجاب ابن هو الهدف الرئيسي من وجودهن، وكان الرجال يميلون إلى الاستئثار بالفضل كله..." 
لقد استدفأت فرانكا بشمس اهتمامه غير المعهود، وعندما أنجبت الابن والوريث زادت دلالاً على دلال، لا غرو فقد كانت مصدر الحليب الذي كانت تتغذى عليه المعجزة الصغيرة، وقد كان لديها الكثير من الحليب. كانت فرانكا ذات طمع وكانت تعرف أنّها سلعة رائجة. عليه وبعد أشهر قليلة استقبلت أحد الرضعاء الذي جف صدر أمّه من اللبن. كانت أجرة الرضاعة تقليداً راسخاً منذ قديم الزمان: وهي مبلغ معين من الليرات وإفطاراً دسماً كل يوم. ولكن فرانكا خسرت أكثر مما كسبت، وكانت خسارتها الحقيقية فادحة. لم يعد ابنها يرضع من ثديها مرة أخرى. وعندما يقدم له الثدي كان يصرخ ويصيح وليس ثمة شيء يحمله على الرضاعة. عندها تولى بيب أمر تغذيته بواسطة زجاجة الرضاعة بينما استمرت فرانكا في عملها كمرضعة. كانت هذه هي نقطة البداية لمشكلة طويلة الأمد بين الأم والابن، ويحتمل أن تكون أيضاً بذرة لعداء فرانكا المتزايد تجاهي. 
استدعاني بيب في إحدى الليالي بشكل عاجل. كان طفله العزيز مريضاً ولا يستطيع التقاط أنفاسه. كانت الساعة حوالي 11:30 قبل منتصف الليل. وحتى إن ذهبت إلى القرية- في تلك الأيام لم أكن أملك هاتفاً- فهل سأكون قادرة على إقناع الطبيب بالخروج في تلك الساعة؟ أمر غير وارد. إن كانت فعلا مسألة حياة أو موت، إذن سأكون مستعدة للتمثيل، والتهديد بالفضيحة وألحّ في مجيئه، ولكن الأمر لا يتعدى مخاوف أبوين قلقين بشكل زائد، فكان عليّ توفير تلك الدراما لوقت الشدة الحقيقية. 
كانت لديّ ضيفة في ذلك الوقت، أطلقنا عليها لقب "الصرح الوطني"، بسبب آرائها الفدائية البريطانية المتشددة، وشبهها ببورتريه وليام نيكولسون للملكة فيكتوريا. لقد كانت رمزاً للاستقامة والكبرياء، ممرضة في مستشفى لندن. وفي آخر أيامها تزوجت من مريض ثري، ترمّل حديثاً. لم تألف بعد حياة الغربة وحدها، وقد طُلب مني إيلائها عناية خاصة. فهي لم تغادر بريطانيا قبل هذا إلا في رعاية زوجها الحنون، وكانت عرضة للبكاء الشديد. لقد ظننت أنَّ استحضار ماضيها المهني ربما ساهم في صرف تفكيرها في محنتها الراهنة. ربما وفّرت علي أيضاً متاعب رحلة ليلية بلا فائدة لإحضار الطبيب. 
لقد كانت في سريرها بالفعل وقابلت طلبي باضطراب: " أنا لا أعرف شيئاً عن الأطفال- لم أر طفلاً منذ سنوات..لكن إن كنتِ تعتقدين حقاً..."
طمأنتها أنَّ رأيها ذو أهمية عظيمة لنا: سواء أكان عليَّ السعي لإحضار الطبيب فوراً أو ما إذا كان بإمكاننا الانتظار بأمان حتى الصباح. فخرجت تلبي نداء الواجب في نبل بضفيرتها الطويلة البيضاء المتدلية على ياقة قميصها الأزرق الشاحب المبطن، في طريقها إلى الكوخ الصغير في الطابق الأرضي. كانت فرانكا مستلقية على سرير كبير مع طفلها فيتو بين ذراعيها، وكنت أراه مريضاً، وبائساً، بامتقاع لونه وصعوبة تنفسه.
أصبحت الصرح الوطني ممرضة مرة أخرى، وأخذت قياس نبضه وحرارته، وطرحت بعض الأسئلة بمساعدتي كمترجمة فورية، ثم أدلت برأيها الحاسم الباعث على الارتياح، بأنّ الطفل يعاني من التهاب الشعب الهوائية، وليس ثمة خطر عليه، إن توفر له الدفء الكافي. من الممكن إرجاء زيارة الطبيب حتى الصباح بأمان. معظم الأطفال الصقليين يعانون من التهاب الشعب الهوائية. 
فهم يرتدون في هذا المناخ المعتدل ملابس ثقيلة كما لو أنّهم يعيشون بالقطب الشمالي. وفوق كل ذلك تُلف رؤوسهم- وأقدامهم وسائر أجسادهم بأثقل أنواع الصوف. وفي ذلك الوقت حتى عربات الأطفال تجهّز بنوافذ من البلاستيك، لا تسمح إلا بدخول الهواء اللازم لمنع اختناق الطفل المغطى داخلها. ولا يسمح بدخول نسمة من الهواء المنعش إلى المنزل في الليل، حيث الكائنات الصغيرة المسكينة الملفوفة تتعرق بسهولة وتُصاب بالمرض، فلا تكتسب مناعة قوية ضد الأمراض. 
عاش فيتو، وكبر حتى أصبح طفلاً جميلاً وذكياً وحساساً. مرضتُ بشدة ذات مرة، عندما التقطت عدوى الحمى المالطية من لسعة قرادة. و بدا لي أنّ هنالك اثنين من الصقليين يعرفان كيف يحسنان التصرف أثناء التواجد في غرفة شخص مريض- هما فيتو وكلبي ميسكيندو، لقد أتيا، وجلسا، واحد على كل من جانبي فراشي، في صمت وحزن وسكون، لساعات حتى النهاية- كان هذا على العكس من الكبار، الذين كانوا قادرين على صنع الضوضاء حتى من العدم، والشجار بأعلى صوت في غرفتي بسبب أمر تافه مثل ما سآكله في ذلك اليوم، إن كنت سآكل أصلاً. 
كان تفاني وهدوء الطفل والكلب يعنيان لي الكثير، وقد ساعدا على سرعة نقاهتي. 
أحرز فيتو تقدماً سريعاً في المدرسة. جاء بعد فصل دراسي واحدة إلى غرفتي في مطلع صباح أحد الأيام، وهو يحمل نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كان قد كتب بحروف كبيرة بعناية GION CHNENEDI. كما سمعها على جهاز المذياع الخاص به، أدرك اهتمامي بالأمر. 
تعتمد التهجئة الإيطالية على الأصوات إلى درجة كبيرة، وفيتو لم يتردد. لقد كان حاد الذهن بشكل واضح. عندما كانت فرانكا المسكينة ما تزال في المدرسة نشبت الحرب فلم تتعلم الكتابة والقراءة. إنّها ممتعضة من تعلقه بي. 
كان يقول: "لدي أفضل اثنتين، لي امرأتان، ماما والسنيورينا."
كان من الصعب على فرانكا تحمل هذا، ولكنها قامت بقطع الرباط الجسدي بينهما بقسوة إن لم يكن بغباء، ولم تكن تملك الخيال ولا الصبر لتمد حبلاً جديداً للوصل بينهما.
لم تترك لها الطفولة الصعبة التي عاشتها في ظل الحرمان وقتاً للعب. لقد وُلدت في أسرة كبيرة، وكان المال شحيحاً. كانت تقول لي إنّها في الصغر كانت تُرسل قبل الفجر لتلتقط السلال الملأى بأزهار الياسمين العطرة البيضاء والتي كانت تعمل على نظمها بعد ذلك في خيوط من رؤوس نبات السعد المظلّي الجافة. تباع هذه العقود لاستخدامها في مناسبات الزفاف وغيرها من الاحتفالات. لقد تذكرت البرد المبلل بالندى في الصباح الباكر عندما كانت تتجمد أصابعها. كانت عائلتها تحتاج المال الذي تكسبه. ربما كانت تتحدث إلى ابنها بلغة الأطفال لكنها لم تستطع أن تسرد له القصص، ولا أن تخترع له الألعاب، لذلك أتاني فيتو. لقد أحبّ قصصي، وألعابي وأغنياتي. لقد حاولت عبثاً جذب فرانكا إلى اللعب معنا، لكنها لم تستطع.
ثم مرة أخرى أصبحت حبلى، ومشغولة بنفسها. 
لقد بدأت تتنمر على بيب، وتخبره أنّه كان غبياً في علاقته الحسنة معي!: لابد أن تلّح على أن تدفع لك أكثر- لابد أن تمنحك إجازات أطول- لا تكن غبياً وتعمل لساعات إضافية من أجلها." وما إلى ذلك. زادت نميمتها مع الجيران بزيادة عداوتها لي، وأصبح الأمر مزعجاً، كما أنّها غضبت للغاية في إحدى المرات عندما كانا في إجازتهما ونهض في الثانية والنصف صباحاً، قبل أسبوع من موعدهما ليلحقا بالقطار حتى يطمئن على سير الأمور في غيابه. لقد تطلب الأمر المشي لمسافة طويلة حتى المحطة، ولم يلحق بالقطار، يا له من رجل طيب. استمر سيل سخريتها من تصرفه الغبي نتيجة إحساسه العميق بالواجب يتدفق لشهور طويلة. 
في أحد الأيام وبعد أن كان معي لعدة سنوات أعلن بيب بفرحة أنَّ أخته التي هاجرت إلى شمال إيطاليا وعاشت في قرية على سفح جبل الألب ستة عشر عاماً ستجيء مع زوجها الغريب لقضاء إجازتهما في صقلية. 
"بيب، هذا أمر رائع. عليك أن تذهب لاستقبالها حالما تضع قدميها على تراب صقلية. "خذ هذا اليوم كإجازة، وانطلق إلى مسينا واستقبلهما لدى النزول من العبّارة."
لقد كان متحمساً. جاء اليوم الموعود، ولدهشتي الكبيرة، كان بيب هناك ما زال يعمل.
"ولكني ظننتك ذاهبًا إلى ميسينا؟"
"لا، لم ترد فرانكا ذلك."
تساءلت إلام تظل قادرة على التحكم في زوجها؟ 
جاءت الأخت. لم تتسم شخصيتها بالجاذبية، وكانت أيضاً مشعرة الوجه، وترتدي البنطال، وتدخن اللفافة إثر الأخرى. لم تكن النساء الصقليات في تلك الفترة يرتدين البناطيل، بخلاف نساء الشمال، وكانت النساء المتقدمات في السن يتحسسن خامة البنطال بفركها بين السبابة والإبهام، ويقطبن بشدة بينما يسألن: " أرجل أنتِ أم امرأة؟" (بعد عشر سنوات فقط صارت بناطيل الجينز على كل فتاة.) كانت أخت بيب قصيرة وبدينة مثله، وحقاً لم تصلح لارتداء البناطيل. ولكنها جاءت لتبين للجهلة الجنوبيين، الذين يدعوهم الشماليون بالأرضيين، كيف كانت المرأة المتعلمة من الشمال حرة في التصرف كما تحب، ومتحررة من أفكار الجنوب البالية القديمة. كانت الحياة جميلة حيث تعيش الآن. والفرصة سانحة السيدات العمل وجني المال أكثر منهن في هذه المنطقة. وكذلك بإمكانهن وضع أطفالهن في رياض الأطفال بينما يعملن. تشتمل المساكن على حمامات، وأجهزة التلفاز. لم تلاحظ ربما أنّ بيب وفرانكا يتمتعان بجميع هذه المزايا بالفعل عدا المصانع- جهاز التلفاز كان يعمل بالفعل. 
أو إن كانت قد لاحظت ذلك فهي قد قررت هدم سعادة أخيها. سيصبح هذا الأمر سهلاً جداً لو حاولت استغلال فرانكا. كانت الأخيرة شديدة الانبهار بكل هذا التظاهر والتفاخر ولم تكن قادرة على أن ترى-مثلي- أن ضيفتها قد خسرت جمالها الطبيعي وكرامتها التي تشكل السمة المميزة لنساء الريف الصقليات. 
جاء إليّ بيب في أحد الأيام وسألني ما إذا كان بإمكان فرانكا الحصول على إذن لسبعة أيام لتذهب مع "أختها"، برفقة طفليها، إلى القرية التي شهدت ولادتهما. 
"ولكن يا بيب، أنت من يجب أن يحصل على الإجازة، إنّ من جاءت هي أختك."
"لا يا سيدتي، لقد جمعت بينهما صداقة جميلة ورائعة، حتى إنني لا أريد الوقوف حائلاً دون اجتماعهما. لقد أحبّتها فرانكا التي كانت متوجّسة في البداية، لكنّ الأمر اختلف الآن جداً..."
تساءلت، أكان سعيداً بالتخلص منهما جميعاً؟ هكذا ظلّ بيب هنا، وسافر الثلاثة- تلقى زوج الأخت دعوةً هو الآخر- والطفلان. 
غادرت الأخت وزوجها بنهاية الأسبوع. وكانت فرانكا محمّرة العينين من البكاء. وظلت كذلك لساعات وساعات. 
"سيدتي، عليك أن تفهمي أنّها فقدت أختاً جديدة طيبة ورائعة. لقد كانت في البداية خائفة منها، ولكنها بدت تحبها شيئاً فشيئاً، والآن أصبح فراقهما شيئاً فظيعاً."
استمر البكاء طوال اليوم، وفي الصباح التالي، كان وجه بيب شاحباً ومرهقاً، مؤكداً أنّه لم يغمض له جفن بسبب بكائها طوال الليل. استمر الأمر طوال اليوم التالي، منوّعاً بين الأنين، والتأوه الشجي، والنحيب المنكسر. مهرجاناً للبكاء بجميع أنواعه...
حاولت وقف سيل الدموع. "لكن لم تبكين؟"
فاندفعت قائلة على الفور بين تأوهاتها المتزايدة، " لقد فقدت صديقتي الحميمة."
"ولكنك لم تفقدينها، ستأتي مرة أخرى. وبإمكانها أن تراسلك." ثم دفعتني استماتتي في المحاولة إلى القول لها بحسم، عسى ولعل أن تجدي معها الشدة: " توقفي عن ذلك الآن!"
لم تختلف الإجابة عن الفعل كثيراً، ظلت الدموع تنهمر على خديها. 
في الصباح التالي، أخبرني بيب الذي كان مرهقاً لكنه مبتسماً: " لقد انتهى الأمر. توقفت عن البكاء." كان الوقت جميلاً أيضاً. 
انكشف سر البكاء بعد شهر فقط. لقد كان هو سلاح فرانكا الوحيد للضغط عليه وإرهاقه حتى يوافق على خطتها. كان عليهم مغادرة الجنوب المتخلف والذهاب للعيش في الشمال الرائع الذي زينه لها خيالها المحموم. ينبغي أن تكون بالقرب من صديقتها الحميمة. سيجنون من الثروة أكثر بكثير مما يستطيعون جمعه إن ظلوا عالقين هنا. وفي أحد الأيام بعد عيد الميلاد، والذي شابه رفض فرانكا -المتجهمة الوجه حادة المزاج- المشاركة في أي من مظاهر الاحتفال، جاء بيب إلى غرفتي: " أحمل لك يا سيدتي أخباراً لا تسر. سنغادر بنهاية شهر مارس. جميعنا."
"لماذا؟"
"لانّها تريد الذهاب وصنع ثروة مع أختي."
"ولكن يا بيب، لقد جربت العمل في الشمال، ولم تحبه، وعدت ثانية."
"إن كان الأمر بيدي يا سيدتي لما ذهبت. فإن لم يكن هنالك أطفال لظللت معك وتركتها تذهب بمفردها."
"لا يا بيب، أنت لم تتزوجني أنا بل فرانكا. ينبغي أن تختار أمراً من اثنين، إما أن تكبح جماحها أو تتبعها." لقد ترددت قبل أن أنطق بهذا: " لم لا توقفها عند حدها؟" 
"لأني أخشى ما قد أفعله، يا سيدتي. فأنت لم تريني قط في سوْرة غضبي."
ورأيته، ورأيت كم هو مرعب حقاً. في أحد الأيام كان ينزل الدرج بسرعة كبيرة، ووجهه شاحب ومحمر من شدة الغيظ: " أود الحديث إليك إن كانت لديك فسحة من الوقت."
فأجبت بسرعة وأنا أركز في كتابتي " أنا مشغولة جداً الآن، كما ترى، و سنتحدث عندما عندما تسنح لي الفرصة."
لشد ما ارتحت عندما رأيته يندفع خارجاً من الغرفة. هرعت بدوري إلى تلك السيدة الحكيمة: " ماريا، ما الذي فعلته لأثير غضب بيب لهذه الدرجة؟"
" لست أنتِ، يا سيدتي، إنّه حانق على كاتينا." تنفست الصعداء، إنّها كنّة البستانيّ بونيري. أخبرت ماريا أنّ ترسل إلىّ بيب. وتركته واقفاً بينما كنت جالسة في وقار على عرش الأسقف: " ماهي القصة بالكامل؟"
قال رافعاً صوته:" لقد أهانتني!"
"ولكن كيف؟"
" لقد قامت- ليس مرّة واحدة- بل مرّتين بنفض اللحاف خارج النافذة بينما كنت أمرّ تحتها..مرّتين!"
"لكن هل كان الأمر سيئاً فعلاً؟"
"لقد كانت إهانة مقصودة."
"ولكن هل كان من الضروري أن تضع نفسك للمرّة الثانية تحت النافذة، بينما كانت تنفض الألحفة؟" 
هدأ، وابتسمنا. لم يطل به الأمر قبل أن يستعيد سيطرته على مزاجه، ولكنّي كنت مذعورة أثناء الفترة التي أمضيتها وأنا أظن أنني السبب في غضبه.
والآن، مشكلة فرانكا" أنا أخشى من شدة غضبي: لقد قاربت على إزهاق روحها مرتين. مرة حملت سكيناً، كنت سأذبحها ذبحاً، لكنّ شيئاً ما أنقذني. فحوّلتُ نصلها باتجاهي. انظري، مازال أثر جرحها بادياً على رسغي. تلك الحادثة أعادتني إلى صوابي. ومرة أخرى، كنت غاضباً، وكدت أن أخنقها بكفيّ هاتين إلا أنني أمسكت منشفتي شاي، ولففتهما بكل قوتي حتى شطرتهما إلى نصفين. إني أخشى من حدة غضبي وقوتي. لا أستطيع السيطرة على فرانكا بدون أن أفقد السيطرة عليهما. لقد استسلمت بعد ليلتين لم أذق فيهما طعم النوم بسبب تذمرها وبكائها ووعدتها بالرحيل."
"ولكنك تعلم كيف هو الحال هنا بينما لا تعرف هي شيئاً عن ذلك. ولا تدرك إلى أي درجة يصل البرد في الشمال. لا تعرف مطلقاً ماذا يعني أن تكون جنوبياً تتحدث بلهجة لا تُفهم- وستندم! أو أنّ تكون واحدة من القِلّة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. إنّها لم تر مصنعاً في حياتها، ولم تتشارك الشقة أو المطبخ مع عائلة أخرى. ليس لديها أدنى فكرة عما سيكون الوضع عليه، وسيصبح كل شيء في أسوأ حالاته أثناء فصل الشتاء الطويل. إنّه أمر يصعب عليها تخيلّه حتى.!"
"لقد أخبرتها بكل ذلك، ولكنها لم تصغ إلي. بل قالت لي إنّها ستبدأ البكاء مرة أخرى إن لم أوافق. وأنا لا أستطيع تحمل ذلك يا سيدتي."
"ولكن لماذا شهر مارس؟" كانت الإجابة واضحة لكني سألت. 
"لانّها تعتقد أنّ الطقس سيكون دافئاً بحلول شهر مارس. لكني أعلم أنّ الثلج سيستمر في النزول حتى مارس وربما بعده بكثير..."
حاولت أن أؤثر عليه، على أمل أن أجعله يعتد بنفسه أكثر في مواجهة جهلها. " أنت لن تغادر في شهر مارس، بل حالما يخبرني محاميّ عن فترة الإخطار اللازمة قبل استقالتك. أتوقع أنّها لا تزيد على الشهر. هذا يعني أنّ عليك قضاء الجزء الأسوأ من الشتاء هناك. لا أستطيع –بالطبع- الانتظار حتى الربيع لأبحث عن من يحلّ محلك. يجب عليّ العثور على أحد ما الآن، بينما يسعى الناس للحصول على وظيفة. فكّر في الأمر ثانية وبتانٍّ غدًا أو بعده، ثم اطلعني على ما تنوي فعله."
استخدمت فرانكا قوتها، وكانت عنيدة. 
يا للرجل الهزيل المسكين، لقد غادروا في يناير. لقد كان الطقس مرتفع البرودة حتى هنا، ولم يكن ثمة جليد في منطقتنا. أما الطفلان- اللذان كانا في ذلك الوقت في العام السادس والرابع من العمر على التوالي- فقد اكتست ملامحهما بابتسامات لا مبالية. لقد امتلأت عقولهما بالقصص عن الحياة الجديدة التي سيعيشانها- القطارات، والجبال، والجليد، والأقارب، والألعاب، والكمأة (تفوق الألماس قيمةً مثلهم؟) والأطعمة الشهية الأخرى... أشرت عليهم بأنّ من الحكمة أن يتركوا بعض قطع الأثاث الكبيرة في صقلية، في حال أنّهم لم يحبوا الحياة هناك، وأرادوا الرجوع. إلا أنّ فرانكا أصرّت على أنْ تفعل العكس. ولم تترك غير ثلاث زجاجات من الزيتون الفاسد، والذي أخفقت في حفظه، و تسببت عمداً في سدّ ما أسمّيه تأدباً "الأنبوب الكبير" حتى اضطررت إلى استدعاء السبّاك الذي رفع الأرضية، وكذلك أزال مسماراً كبيراً كانت قد غرسته كالساحرات في شجرة اليوسفي الأثيرة لدي. لقد كانت تعرف، بينما لم أدر أنا، أنّه إنّه لم يكتشف في الوقت المناسب فسيؤدي إلى موتها بلا شك، وإن كان ببطء. أشجار الحمضيات لا تحتمل المسامير. 
تلقى جيراني بعد فترة قصيرة رسالة: " كل شيء هنا رائع- أكثر بكثير من هناك." وأنّه صار يكسب ضعف ما كان يكسبه هنا، وأنّ أقاربه عطوفون ولطيفون. سرعان ما ستحصل فرانكا على عمل، والأطفال سعداء في روضة الأطفال، وما إلى ذلك. شعرت بأنّ هذه الأخبار أجمل بكثير من أن تكون حقيقية. وبدأت أخبار الوضع الحقيقي تتسرب بشكل تدريجي. لم تكن الأمور بتلك الرفاهية. عقب ذلك ببضعة شهور وصلت أخته الأخرى لتستطلع الوضع هنا. هل بإمكانهم العودة؟ يا للأسف لم تعد بي حاجة إليهم، لقد وجدت الزوجين المناسبين اللذين سيظلان معي لأكثر من ثلاثين عاماً. 
وكان على بيب المسكين العودة إلى القرية الجبلية النائية حيث مسقط رأسه، وإلى ما استطاع الحصول عليه من عمل ميداني. لقد احتفظ بمنزل صغير هناك، واستقر فيه هناك مرة أخرى مع فرانكا وطفليهما- كان الثالث في الطريق. تبخرت جميع أحلام فرانكا بالثروة والنجاح. 
اضطر في إحدى المرات المجيء إلى بلدتنا لاستخراج شهادات الميلاد، وبعض المستندات الرسمية الأخرى. لقد أخبر جارنا بأنّه لم يكن يريد أن يراني، فقد كان يشعر بالخزي الشديد. ولكن الجار ألّح عليه أن يفعل. تبعني إلى أحد المطاعم حيث كنت أتناول وجبة الغداء رفقة صديقة قديمة كانت تعرف قصته. استقبلناه بحرارة، ولكنه كان مضطرباً وهو يرتدي أفضل بزّاته، التي لابد أنّها قد بليت في مناسبات العزاء، وكان محرجاً منّا. لقد أصبح أكثر هزالاً، وبدا أكبر بكثير. 
"سيدتي، إنَّ الحياة ليست بالسهلة، جميعنا نخطيء، وعلينا دفع ثمن أخطائنا." لقد كان يستحق مصيراً أفضل. 
مضت عشرون سنة أو نحوها في انشغال، كنت أثناءها أذكر الرجل النحيل بالخير والود، وأتساءل عن ما جرى معه. لم يره أحد هنا، أو يسمع عنه، فقررت أن أحاول معرفة ذلك بنفسي، فقدت السيارة مع صديقة قديمة كانت تعرفه، وقد عادت هي الأخرى بعد فترة طويلة. ذهبنا في اتجاه الساحل الشمالي للجزيرة، ثم صعدنا على طريق جبلي وعر وضيّق. وعلى مقربة من القرية التي كانت جميلة في السابق لكنها عانت كثيراً من الحرب والفقر والبطالة، سألت سيدة مسنّة، ارتدت ملابسَ سوداء بالكامل، عمّا إذا كانت تعرف بيب. فأجابت بلهجة صقلّية واضحة بأنّه قد مات. صُدمت حينها، ولكني تذكرت أنّ معظم الأبناء الأبكار في القرى يدعون لأسلافهم من الأب، لذلك يشيع تشابه الأسماء. لكنّها ظلت تؤكد على أنّه توفى، لذلك سألت عن أختيه التوأم. فجعلها سؤالي تعيد النظر في إجابتها. أخذت أصف العائلة كما أعرفها، مرددةً عليها الأسماء المسيحية لزوجته وطفليه، وشيئاً فشيئاً بدت السيدة المسنّة أكثر قدرة على المساعدة. هل هو من سافر بعيداً وعاد؟ هل فقد زوجته وتزوج مرة ثانية؟ " يعيش ذلك البيب في الميدان- إنّها لا تعلم رقم المنزل، ولكنه بالقرب من المتجر، الجيع يعرفه.
شعر الجميع بالراحة. واصلت الصعود باتجاه الميدان، وترددت للحظة بينما كنت أختار من أسأله المساعدة. فجأة، وجدت نفسي بين أحضان امرأة صغيرة الحجم تمطرني بقبلاتها في حماسة شديدة، وقالت: " كنت أعلم أنك ستأتين في يوم ما. أكاد لا أُصدق أنّك جئتِ أخيراً! إنّه حلم وتحقق! لابّد أنَّ العذراء ساقتك إلينا!" لقد كانت واحدة من أختيه التوأم، التي أصبحت الآن في الخمسين من عمرها أو أكثر. " سيفرح أخي كثيراً، وسيسعد جداً جداً. إنّه يتحدث عنك كثيراً. ولطالما كان يأمل..." 
"ولكن أين هو؟"
" إنّه في العمل، ولكنه سيكون هنا في غضون دقائق. إنّه يعمل في موقع بناء. عمل متعب، وهو لم يعد شاباً، ولكنهم يحبّونه جداً، ولم يترك العمل أبداً، ولكنه شاق."
لقد قادتنا إلى منزل صغير قديم. البهو الصغير، الذي من الواضح أنّه يستخدم للاستقبال، لابد أنّه يُستغل كغرفة استقبال، يكاد يضيق بأريكة حديثة واسعة، وكرسيّ عريض مكمّل لها. دعتنا للجلوس بينما ظلت تقف أمامنا مبتسمة في ابتهاج. لم تشاركنا الجلوس بل ظلت واقفة. اجتمع جمهور غفير بالخارج، في حرص على ألا يفوتوا أية لحظة من هذه الدراما.
لقد سألت، " وفرانكا.؟"
"لقد توفيت؛ كان قلبها عليلاً."
لقد ذكرني هذا بأحد الفلاحين الذي أخبرني ذات مرةً، كما لو أنّه يشكو من تشويه صورته أمام الناس، بأنّ كنّته المتزوجة مؤخراً قد توفيت بسبب اعتلال القلب: " إنّها لم تكن صالحة للزواج." لكن فرانكا عاشت لفترة أطول.
"وفيتو؟"
لقد تزوج. وقريباً سأصبح جدةً. إنّه يعمل محاسباً، بوظيفة مرموقة بالمدينة. لقد اجتهد كثيراً في الحقيقة." 
أخبار سارة. وظيفة مكتبية عالمية ثابتة وحلماً عصيّ المنال على الكثرة الغالبة. 
"ستصل ماريا حالاً، إنّها تعمل في مصنع وتعيش معنا." يكلف زواج الإبنة الكثير من المال، فالحفاظ على الكرامة أمر واجب، والديون قد تتراكم بسهولة. "لدي ابنة أخت أخرى- وهي تعمل أيضاً." 
في تلك اللحظة أقبل بيب مسرعاً. أخبرته الجموع في الخارج بالخبر السار لتوه. ولكنه سرعان ما انسحب إلى الوراء

    بيت في صقلية | تأليف: دافني فيليبس | الناشرون: كارول وغراف المحدودة | ترجمة أميمة الزبير | الفصل السابع- بيب ********** أصبح من الضروري البحث عن مساعد جديد بعد أن رحل فينشنزو. علمت أنَّ المتقدم للعمل كان "يتيماً". كانت هذه محاولتي الأولى للعثور على خادم بنفسي، وقد زاد من وطأة الحرج الذي هيمن على أجواء المقبلة ما لقيته من صعوبات في اللغة واللهجة أيضاً.  كان بيب ضئيل الجسم، يقل طوله عن الخمسة أقدام. كان يرتدي بزّة برتقالية لامعة مخططة. أما سحنته فاتسمت بالقتامة حتى أنّ الناظر إليه يخاله أفريقياً، ولابد أنّ أسلافه كانوا كذلك. جاء إلى مركز الجزيرة الجنوبي الأكثر إزدهاراً بحثاً عن وظيفة، وهو الرابعة والعشرين من عمره، مدفوعاً بالفقر المدقع والبطالة في – وطنه- قريته الصغيرة على الساحل الشمالي، حيث شاعت أنباء عن وجود أغنياء أجانب وسياح في الجنوب يدفعون أجوراً خرافية، ويجزلون البقشيش، ويتزوجون حتى- في الماضي- من السكان المحليين المنحدرين من أسرٍ فقيرة جداً، والذين غادروا إلى بلادهم ليعيشوا في دعة ورغد من العيش لما تبقى من حياتهم الكسولة.  لم يسبق لبيب العمل في المنازل لكنه كان واثقاً من قدرته على التعلّم إن وجد الفرصة. اتفقنا على 10000 ليرة شهرياً، ومعيشته، وكان يريني ما يستطيع فعله ومدى سرعته في التعلّم. أتقن بيب في سرعة مذهلة وبراعة مهام وظيفته الجديدة، وكان يعمل بجد وسرور لأداء المهام الروتينية، واظهر أمانة في حسابات المشتريات الأمر غير المألوف في هذا الجزء من العالم حيث ما يتم اختلاسه من صاحب العمل يعتبر زيادة مشروعة في الأجر. وعندما ينتهي من عمله في المنزل كان يخرج إلى الحديقة لتقليم الأشجار أو تطعيمها، أو إعادة فتح المصارف، أو إصلاح سورٍ متضرر. كان دائب العمل على أمر ما، ولم يكن هنالك الكثير من المشاكل. بعد يوم عمل يمتد لأربعة عشر ساعة كان يذهب إلى غرفته، حيث يشغل نفسه لساعة من الزمن قبل أن يطفيء الضوء. ماريا، الطباخة المسنّة، أخبرتني أنّه كان يكتب خطابات لفتاته، وبالفعل كانت هنالك بعض المغلفات بما عليها من عناوين مكتوبة بخط متعرج وغريب في انتظار إرسالها إلى مكتب البريد. (لقد تمكن من اقتطاع بضع ساعات من الدراسة أثناء الحرب، ولولا حدة ذكائه لما استطاع الكتابة على الإطلاق.)  بعد ذلك بعشرة أيام اتت ماريا تتهادى إلى غرفتي، وهي تُنقِّلُ جسدها الضخم بين ساقيها المقوّستين، وقالت: " سيدتي، لقد عملت في هذا المنزل لثمانية وأربعين عاماً. كان الصبية يأتون ويذهبون، ولكن ليس بينهم مثل بيب. حافظي عليه." وهكذا، في نهاية الشهر، حصل بيب على زيادة في الراتب، وكان من أسباب بهجته وفخره الواضحين أنْ تم اعتماده في وظيفة دائمة. وجدت تلك الزيادة في مستوى ثقته بنفسه طريقها إلى ملامحه على الفور، فلم يعد يقضي أمسياته رفقة قلمه العنيد، بل خرج يتنزه في الشارع العام بحثاً عن المغامرة. وسرعان ما وجدها. بدأت أتساءل، عن مسؤولياتي الأخلاقية عن هذا "اليتيم" ذي الأربعة والعشرين عاماً، والذي جاء على حسابي من قريته الصغيرة إلى المركز السياحي الحديث. لم يعد تنظيف الطاولة من الأطباق في الليل عملاً صامتاً. بل كان يؤديه وهو يدندن بسلسلة من الأغنيات القديمة والحديثة عن الحب والحبيبة والعاشق والشقراوات بصوته ذي اللكنة العربية التي فاجأتني.  انتهى عمله، وكنا نسمع الأغنيات تنحسر في ممر الحديقة، وبعد ساعات، قد نستيقظ على عودتها الخافتة في البداية من مسافة بعيدة ثم يعلو الصوت شيئاً فشيئاً بينما كان يصعد إلى سطح الحديقة. ظل الحال على ماهو عليه، ليلة بعد الأخرى، ولكن لم يتأثر عمله أبداً. استدعيت مستشارتي ماريا، التي كانت تشاركني القلق في مكان أوصدت فيه الأبواب على الفتيات الصالحات بعد حلول الظلام، بينما يخرج آباؤهن وإخوتهن وأزواجهن للاستمتاع بصحبة الأجنبيات. نعم لقد كان خاطباً. نعم، كانت ماريا تعتقد أنّ من واجب السيدة أن تحادثه في الأمر. تم استدعاء بيب هو الآخر، فتمتم معترفاً بأنّه مغرم بفتاة في الشمال. كان ينوي الزواج منها- لقد كانت فتاة صالحة، عملت بجد ولم تكن تهتم بالقيل والقال- بيد أنَّ بيب كان يرغب في خمس سنوات من الحياة الحرة قبل أن يقيّد نفسه بالزواج. لقد أراني صورة صديقته التي يحملها معه، ولكنّه لم يتزحزح عن موقفه. على الفتاة أن تنتظر. واستمر الغناء... منحته في عيد الميلاد ثلاثة أيام للراحة كان يستحقها تماماً. ولم أعرف سوى مؤخراً أنّه استخدم هذه الإجازة ليفر مع عشيقته. فقد أخذ فتاته، من القرية الصغيرة التي شهدت مولده، ومن منزل والديها إلى منزله، ومن تلك اللحظة صارت امرأة، إن لم يتزوجها في المستقبل القريب، ستصبح حطام إنسان، ولن ينظر إليها أي رجل مهما كان جمالها، أو سخاء مهرها. وهذا في بلد لا تحصل فيه النساء على وظيفة سوى الزواج.  وبعد يوم أو نحوه من الرزانة والنوم المبكر، عاد الغناء إلى المشهد مرة أخرى. في الأسفل منذ التاسعة، ثم في منتصف الليل. بدأت الخطابات والبطاقات تتدفق إلى المنزل من الشمال: " في المرة القادمة التي تأتي فيها إلى هذا المنزل، سيتم تزويجك على الفور!" "لقد أعددنا جميع التراخيص بالفعل." "تم طلب النبيذ- واللحم." "والكاهن بالانتظار." لقد اتفقت وماريا على أنّ الوقت قد حان لإجراء مقابلة أخرى.  كان بيب عنيداً: " إنّي أفضّل ألا أذهب إلى هناك مرة أخرى على أن أتزوج! ولأن أخسر أرضي، وسترتي ودراجتي= نعم حتى دراجتي- لأحبّ إلي من أن أن أذهب إلى هناك مرة أخرى...". كنت أشعر بما هو أكثر من مجرد التعاطف، لكني نجحت في إخفاء ذلك. تساءل بعض الأصدقاء، منزعجين من أوضاع الخدم السيئة المزمنة في إنجلترا، عما إذا كنت أرغب في حل هذه المعضلة على نحو غيري وتركهم يأخذون بيب معهم إلى البلاد. شعرت بأنّني لا استطيع رفض هذه الفرصة دون الرجوع إليه، لذلك سألته عمّا إذا كان يريد الذهاب مع أحد الأصدقاء. فقرر على الفور بأنّ: " سأذهب!" نبهته بأنّ ذلك سوف لن يحل مشكلته: " تذكر أنّ عليك العودة في غضون سنة." "سأتزوج الفتاة أولاً، ثم أجد طريقة للبقاء هناك للأبد." "كيف؟" "سأرتبط بزوجة إنجليزية هناك، حتى أستطيع الإقامة." فكرت أنّه ينوي الزواج من ثلاث على ما يبدو، بينما قفزت إلى ذهني الفتاة التي في البلدة، إن كانت هي الوحيدة في حياته حقاً. سحب الاصدقاء عرضهم بحسب نصيحتي، وظلت الأمور كما كانت عليه.  في أحد الأسابيع، على أية حال، تحطمت معنوياته. كان ذلك بسبب خراج سنّي. كان الألم يزداد يوماً بعد يوم. لكنّه ظل يعمل في أسىً وببطء، وبدون أن يذوق طعم النوم، ولا الطعام، وكان الورم يزداد سوءاً مع الوقت. لم يصغ لتحذيراتنا ولا دعواتنا، وظل على عناده حتى بدد الألم قدرته على المقاومة بعد أربعة أيام بلياليها، فانطلق إلى العيادة لا يلوي على شيء.  لا بد أنّه كان بين يدي طبيب الأسنان عندما أحضر ساعي البريد بطاقة أخرى من الشمال. تبادلت النظرات مع ماريا: " من الأفضل أن نتركه يحظى بقسط من النوم قبل أن ندعه يراها" اتفقنا، وخبأناها إلى اليوم التالي. لم نكن نعرف فحوى تلك البطاقة ولكن أثرها عليه كان هائلاً: " لابد من العودة إلى المنزل حالاً. لا أملك شيئاً سوى العودة." فأذنت له في يومين.  أوفى بعهده، وعاد في اليوم الثاني عند منتصف الليل، حزيناً، ومكتئباً، وما زالت علامات الالتهاب والتوّرم على وجهه. ذهب إلى فراشه في صمت. وفي اليوم التالي أخبرتني ماريا أنّه كان يوم عيد ميلاده الخامس والعشرين وزفافه في آن واحد. قدمت له التهاني بما استطعت استحضاره من حماسة، ودعوت زوجته لقضاء خمسة عشر يوماً من شهر العسل معي. لكنه قال في اعتداد بالنفس: " إنّه لطف كبير منك، سيدتي، لكني لا أستطيع القبول. فأنا أود التعريف بنفسي كعازب في التاسعة عشر من العمر أثناء وجودي في هذه البلدة." مرّ أسبوع في عمل وصمت. وفي يوم الأحد، يوم راحته، ظهر وهو يحمل كتاباً سميكاً في قواعد النحو الإنجليزية. " ألن تخرج اليوم يا بيب؟" "لا سيدتي، لن أخرج بعد الآن." "ولكن لِمَ؟ ماذا تعني؟ ألن تفعل أبداً؟" " أبداً، طالما كنت في خدمتك، سوف لن أخرج مرة أخرى أبداً." وبدلاً عن ذلك كان ذاهباً لإتقان اللغة الإنجليزية.  صمدت محاولته الشجاعة في الوفاء بعهود زواجه لما يزيد عن الأسبوع بقليل. ثم عاد يصدح بالغناء مرة أخرى. كنت أراقب في عجز. وافقتني ماريا على أن ليس بأيدينا ما نفعله بالخصوص.  ولكن تعاطفي بدأ يتحوّل باتجاه الزوجة المُهملة. بعد مرور شهرين، ظل بيب خادماً مثالياً، ولكن تزايد قلقنا حتى اندفعت ماريا في أحد الأيام وهي تبكي: "سيدتي، ينبغي أن تفعلي شيئاً- إنّه الآن يعطّر حاجبيه وشاربه!". لا أخالفها الرأي لكن ماذا أفعل؟ (تمنيت فقط أنّه ليس ذلك العامل الممتاز في عالم تسوده النقائص...)  من رحمة الله حُلَّت المشكلة بالنسبة لي من تلقاء نفسها، فقد دخل إلى غرفتي، بعد أن عاد إليه رشده، ليقول: " سيدتي، أخشى أن يصيبني الجنون إن لم تأت زوجتي إلى هنا." أجبت بأكبر قدر ممكن من الهدوء، " أنت تعلم أنني قدمت لها الدعوة. اذهب واحضرها، يمكنها الإقامة هنا لأسبوعين." "لابد أن تظل معي بشكل دائم." "أنا لا أعرفها بعد. يجب أن تأتي على سبيل التجربة. كما فعلت أنت من قبل، وعندها يمكننا أن نتخذ ذلك القرار سوية." "إن لم تبقَ معي هنا للأبد، فإنني سأترك العمل معك." "ربما- سوف نرى." خرج وهو ناقم وفي اليوم التالي وجدت نفسي أتساءل عن الطريقة المناسبة لاستقبال فرانكا، عروس فقيرة صغيرة غير مرحب بها في الثامنة عشرة من عمرها، لم تستقل قطاراً من قبل، ولم تخرج بمفردها أبداً، ولم تر منزلاً كهذا، أو تتحدث أية لغة سوى لهجتها المحلية. استقبلت الزوجين من أعلى الدرج، وأهديتها باقة ورد حرصت أن تلائم المناسبة قدر الإمكان. لقد كان وجهها مصفرّاً من القلق والخوف، لكنها تمكنت من رسم ابتسامة شاحبة على وجهها.  "انظر يا بيب أليست جميلة؟" كانت كذبة، لكن لا بدّ منها. " ليس كثيراً." جاءت الإجابة ممتعضة من زوج مرهق بعد رحلة حتمية مضنية.  كانت فرانكا، كما قال، فتاة صالحة لم تهتم بالقيل والقال. وبينما كانت تستعيد توازنها، شرعت في معاونة ماريا، لقد كانت فلاحة ومفيدة. وجاء الاتفاق على بقائها ضمنياً لدى نهاية الفترة التجريبية.  مرت شهور لم تترك العروس خلالها المنزل على الإطلاق. وحتى في أيام راحة بيب كانت تبقى في المنزل مع ماريا وابن أخيها ذي الأعوام الثمانية بينما كان زوجها يرفه عن نفسه (على نحو لائق) بحسب ماريا، مع أصدقائه على الشارع الرئيسي، أو دار السينما التي افتتحت مؤخراً.  لقد حاولت –سدى- أن أحدث نفسي بأنني لست في حاجة للشعور بالشفقة المفرطة تجاه النساء من طبقتها اللواتي اعتدن رؤية أزواجهن- لقرون من الزمان- وهم يخرجون للترويح عن أنفسهم كل بمفرده أو ضمن مجموعات من الرجال فقط. ولكن شعوري حيال حقوق النساء كان قوياً. كان عليَّ التدخل. بعد الكثير من محاولات الإقناع المتأنية، أخذ بيب زوجته أخيراً إلى أحد المواكب الدينية في البلدة، حتى إنّه قدم لها فستاناً جديداً. لقد كنا نراقبهما من على البعد، ولدى عودتهما انهالت عبارات الاستحسان والإطراء على فرانكا بسخاء: "بيب، لقد كانت زوجتك أجمل فتاة في الاحتفال كلّه." قوبلت جهودنا في صمت يسوده الجفاء. ولكن لاحقاً عندما سنحت لي فرصة أخرى: " بيب، لقد كنتما أكثر زوجين وسامة في الجموع كلها." في هذه المرة قوبل إطرائي بابتسامات مشرقة من وجهيهما، وبدأت المشاوير المشتركة تتكرر بشكل تدريجي.  في صيف ذلك العام، وبينما كنت خارج الجزيرة وصلتني رسالة من بيب:  السيدة الأغلى  عليّ أن أخطرك بأنّ زوجتي قد وضعت في مطلع هذا الصباح رجلاً صغيراً بهي الطلعة. جميع الأمور تسير على ما يرام معي. سنسميه فيتوس.  خادمك المخلص  بيب طويت مغامراته خارج إطار الزواج في عمق النسيان. أصبح بيب أكثر الآباء والأزواج تفانياً- في تلك الناحية، بل إنّه قال في إحدى المرات عندما أُقترح عليه العمل بشكل استثنائي ظهيرة يوم الأحد، بحماس كبير وهو يعتدل واقفاً بطوله الذي بلغ أربعة أقدام وإحدى عشرة بوصة: " هذا هو الوقت الذي ينبغي أن يأخذ الرجل المسؤول فيه زوجته في نزهة. ولن يكون من اللائق أن يفوّته." فتم سحب الاقتراح. والآن، وفي دهشة وذهول، صار عليَّ مراقبة التحوّل التدريجي لفرانكا من زوجة بسيطة ومعظّمة لزوجها إلى شيء مرعب- أم صقلية مستبّدة مزعجة. ومنذ لحظة إدراك حملها، أصبح بيب مثقلاً بالهموم. لقد كان يساعدها في كل الأوقات، وكان يقول مشيراً إلى جسدها المنتفخ: " يجب ألا تسقط فإبني في أحشائها." لقد كانت فرانكا في النهاية هي القناة التي سينجب من خلالها ذاته الجميلة. وقد اعتادت النساء الصقليات في تلك الأيام على هذا الموقف. كان إنجاب ابن هو الهدف الرئيسي من وجودهن، وكان الرجال يميلون إلى الاستئثار بالفضل كله..."  لقد استدفأت فرانكا بشمس اهتمامه غير المعهود، وعندما أنجبت الابن والوريث زادت دلالاً على دلال، لا غرو فقد كانت مصدر الحليب الذي كانت تتغذى عليه المعجزة الصغيرة، وقد كان لديها الكثير من الحليب. كانت فرانكا ذات طمع وكانت تعرف أنّها سلعة رائجة. عليه وبعد أشهر قليلة استقبلت أحد الرضعاء الذي جف صدر أمّه من اللبن. كانت أجرة الرضاعة تقليداً راسخاً منذ قديم الزمان: وهي مبلغ معين من الليرات وإفطاراً دسماً كل يوم. ولكن فرانكا خسرت أكثر مما كسبت، وكانت خسارتها الحقيقية فادحة. لم يعد ابنها يرضع من ثديها مرة أخرى. وعندما يقدم له الثدي كان يصرخ ويصيح وليس ثمة شيء يحمله على الرضاعة. عندها تولى بيب أمر تغذيته بواسطة زجاجة الرضاعة بينما استمرت فرانكا في عملها كمرضعة. كانت هذه هي نقطة البداية لمشكلة طويلة الأمد بين الأم والابن، ويحتمل أن تكون أيضاً بذرة لعداء فرانكا المتزايد تجاهي.  استدعاني بيب في إحدى الليالي بشكل عاجل. كان طفله العزيز مريضاً ولا يستطيع التقاط أنفاسه. كانت الساعة حوالي 11:30 قبل منتصف الليل. وحتى إن ذهبت إلى القرية- في تلك الأيام لم أكن أملك هاتفاً- فهل سأكون قادرة على إقناع الطبيب بالخروج في تلك الساعة؟ أمر غير وارد. إن كانت فعلا مسألة حياة أو موت، إذن سأكون مستعدة للتمثيل، والتهديد بالفضيحة وألحّ في مجيئه، ولكن الأمر لا يتعدى مخاوف أبوين قلقين بشكل زائد، فكان عليّ توفير تلك الدراما لوقت الشدة الحقيقية.  كانت لديّ ضيفة في ذلك الوقت، أطلقنا عليها لقب "الصرح الوطني"، بسبب آرائها الفدائية البريطانية المتشددة، وشبهها ببورتريه وليام نيكولسون للملكة فيكتوريا. لقد كانت رمزاً للاستقامة والكبرياء، ممرضة في مستشفى لندن. وفي آخر أيامها تزوجت من مريض ثري، ترمّل حديثاً. لم تألف بعد حياة الغربة وحدها، وقد طُلب مني إيلائها عناية خاصة. فهي لم تغادر بريطانيا قبل هذا إلا في رعاية زوجها الحنون، وكانت عرضة للبكاء الشديد. لقد ظننت أنَّ استحضار ماضيها المهني ربما ساهم في صرف تفكيرها في محنتها الراهنة. ربما وفّرت علي أيضاً متاعب رحلة ليلية بلا فائدة لإحضار الطبيب.  لقد كانت في سريرها بالفعل وقابلت طلبي باضطراب: " أنا لا أعرف شيئاً عن الأطفال- لم أر طفلاً منذ سنوات..لكن إن كنتِ تعتقدين حقاً..." طمأنتها أنَّ رأيها ذو أهمية عظيمة لنا: سواء أكان عليَّ السعي لإحضار الطبيب فوراً أو ما إذا كان بإمكاننا الانتظار بأمان حتى الصباح. فخرجت تلبي نداء الواجب في نبل بضفيرتها الطويلة البيضاء المتدلية على ياقة قميصها الأزرق الشاحب المبطن، في طريقها إلى الكوخ الصغير في الطابق الأرضي. كانت فرانكا مستلقية على سرير كبير مع طفلها فيتو بين ذراعيها، وكنت أراه مريضاً، وبائساً، بامتقاع لونه وصعوبة تنفسه. أصبحت الصرح الوطني ممرضة مرة أخرى، وأخذت قياس نبضه وحرارته، وطرحت بعض الأسئلة بمساعدتي كمترجمة فورية، ثم أدلت برأيها الحاسم الباعث على الارتياح، بأنّ الطفل يعاني من التهاب الشعب الهوائية، وليس ثمة خطر عليه، إن توفر له الدفء الكافي. من الممكن إرجاء زيارة الطبيب حتى الصباح بأمان. معظم الأطفال الصقليين يعانون من التهاب الشعب الهوائية.  فهم يرتدون في هذا المناخ المعتدل ملابس ثقيلة كما لو أنّهم يعيشون بالقطب الشمالي. وفوق كل ذلك تُلف رؤوسهم- وأقدامهم وسائر أجسادهم بأثقل أنواع الصوف. وفي ذلك الوقت حتى عربات الأطفال تجهّز بنوافذ من البلاستيك، لا تسمح إلا بدخول الهواء اللازم لمنع اختناق الطفل المغطى داخلها. ولا يسمح بدخول نسمة من الهواء المنعش إلى المنزل في الليل، حيث الكائنات الصغيرة المسكينة الملفوفة تتعرق بسهولة وتُصاب بالمرض، فلا تكتسب مناعة قوية ضد الأمراض.  عاش فيتو، وكبر حتى أصبح طفلاً جميلاً وذكياً وحساساً. مرضتُ بشدة ذات مرة، عندما التقطت عدوى الحمى المالطية من لسعة قرادة. و بدا لي أنّ هنالك اثنين من الصقليين يعرفان كيف يحسنان التصرف أثناء التواجد في غرفة شخص مريض- هما فيتو وكلبي ميسكيندو، لقد أتيا، وجلسا، واحد على كل من جانبي فراشي، في صمت وحزن وسكون، لساعات حتى النهاية- كان هذا على العكس من الكبار، الذين كانوا قادرين على صنع الضوضاء حتى من العدم، والشجار بأعلى صوت في غرفتي بسبب أمر تافه مثل ما سآكله في ذلك اليوم، إن كنت سآكل أصلاً.  كان تفاني وهدوء الطفل والكلب يعنيان لي الكثير، وقد ساعدا على سرعة نقاهتي.  أحرز فيتو تقدماً سريعاً في المدرسة. جاء بعد فصل دراسي واحدة إلى غرفتي في مطلع صباح أحد الأيام، وهو يحمل نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كان قد كتب بحروف كبيرة بعناية GION CHNENEDI. كما سمعها على جهاز المذياع الخاص به، أدرك اهتمامي بالأمر.  تعتمد التهجئة الإيطالية على الأصوات إلى درجة كبيرة، وفيتو لم يتردد. لقد كان حاد الذهن بشكل واضح. عندما كانت فرانكا المسكينة ما تزال في المدرسة نشبت الحرب فلم تتعلم الكتابة والقراءة. إنّها ممتعضة من تعلقه بي.  كان يقول: "لدي أفضل اثنتين، لي امرأتان، ماما والسنيورينا." كان من الصعب على فرانكا تحمل هذا، ولكنها قامت بقطع الرباط الجسدي بينهما بقسوة إن لم يكن بغباء، ولم تكن تملك الخيال ولا الصبر لتمد حبلاً جديداً للوصل بينهما. لم تترك لها الطفولة الصعبة التي عاشتها في ظل الحرمان وقتاً للعب. لقد وُلدت في أسرة كبيرة، وكان المال شحيحاً. كانت تقول لي إنّها في الصغر كانت تُرسل قبل الفجر لتلتقط السلال الملأى بأزهار الياسمين العطرة البيضاء والتي كانت تعمل على نظمها بعد ذلك في خيوط من رؤوس نبات السعد المظلّي الجافة. تباع هذه العقود لاستخدامها في مناسبات الزفاف وغيرها من الاحتفالات. لقد تذكرت البرد المبلل بالندى في الصباح الباكر عندما كانت تتجمد أصابعها. كانت عائلتها تحتاج المال الذي تكسبه. ربما كانت تتحدث إلى ابنها بلغة الأطفال لكنها لم تستطع أن تسرد له القصص، ولا أن تخترع له الألعاب، لذلك أتاني فيتو. لقد أحبّ قصصي، وألعابي وأغنياتي. لقد حاولت عبثاً جذب فرانكا إلى اللعب معنا، لكنها لم تستطع. ثم مرة أخرى أصبحت حبلى، ومشغولة بنفسها.  لقد بدأت تتنمر على بيب، وتخبره أنّه كان غبياً في علاقته الحسنة معي!: لابد أن تلّح على أن تدفع لك أكثر- لابد أن تمنحك إجازات أطول- لا تكن غبياً وتعمل لساعات إضافية من أجلها." وما إلى ذلك. زادت نميمتها مع الجيران بزيادة عداوتها لي، وأصبح الأمر مزعجاً، كما أنّها غضبت للغاية في إحدى المرات عندما كانا في إجازتهما ونهض في الثانية والنصف صباحاً، قبل أسبوع من موعدهما ليلحقا بالقطار حتى يطمئن على سير الأمور في غيابه. لقد تطلب الأمر المشي لمسافة طويلة حتى المحطة، ولم يلحق بالقطار، يا له من رجل طيب. استمر سيل سخريتها من تصرفه الغبي نتيجة إحساسه العميق بالواجب يتدفق لشهور طويلة.  في أحد الأيام وبعد أن كان معي لعدة سنوات أعلن بيب بفرحة أنَّ أخته التي هاجرت إلى شمال إيطاليا وعاشت في قرية على سفح جبل الألب ستة عشر عاماً ستجيء مع زوجها الغريب لقضاء إجازتهما في صقلية.  "بيب، هذا أمر رائع. عليك أن تذهب لاستقبالها حالما تضع قدميها على تراب صقلية. "خذ هذا اليوم كإجازة، وانطلق إلى مسينا واستقبلهما لدى النزول من العبّارة." لقد كان متحمساً. جاء اليوم الموعود، ولدهشتي الكبيرة، كان بيب هناك ما زال يعمل. "ولكني ظننتك ذاهبًا إلى ميسينا؟" "لا، لم ترد فرانكا ذلك." تساءلت إلام تظل قادرة على التحكم في زوجها؟  جاءت الأخت. لم تتسم شخصيتها بالجاذبية، وكانت أيضاً مشعرة الوجه، وترتدي البنطال، وتدخن اللفافة إثر الأخرى. لم تكن النساء الصقليات في تلك الفترة يرتدين البناطيل، بخلاف نساء الشمال، وكانت النساء المتقدمات في السن يتحسسن خامة البنطال بفركها بين السبابة والإبهام، ويقطبن بشدة بينما يسألن: " أرجل أنتِ أم امرأة؟" (بعد عشر سنوات فقط صارت بناطيل الجينز على كل فتاة.) كانت أخت بيب قصيرة وبدينة مثله، وحقاً لم تصلح لارتداء البناطيل. ولكنها جاءت لتبين للجهلة الجنوبيين، الذين يدعوهم الشماليون بالأرضيين، كيف كانت المرأة المتعلمة من الشمال حرة في التصرف كما تحب، ومتحررة من أفكار الجنوب البالية القديمة. كانت الحياة جميلة حيث تعيش الآن. والفرصة سانحة السيدات العمل وجني المال أكثر منهن في هذه المنطقة. وكذلك بإمكانهن وضع أطفالهن في رياض الأطفال بينما يعملن. تشتمل المساكن على حمامات، وأجهزة التلفاز. لم تلاحظ ربما أنّ بيب وفرانكا يتمتعان بجميع هذه المزايا بالفعل عدا المصانع- جهاز التلفاز كان يعمل بالفعل.  أو إن كانت قد لاحظت ذلك فهي قد قررت هدم سعادة أخيها. سيصبح هذا الأمر سهلاً جداً لو حاولت استغلال فرانكا. كانت الأخيرة شديدة الانبهار بكل هذا التظاهر والتفاخر ولم تكن قادرة على أن ترى-مثلي- أن ضيفتها قد خسرت جمالها الطبيعي وكرامتها التي تشكل السمة المميزة لنساء الريف الصقليات.  جاء إليّ بيب في أحد الأيام وسألني ما إذا كان بإمكان فرانكا الحصول على إذن لسبعة أيام لتذهب مع "أختها"، برفقة طفليها، إلى القرية التي شهدت ولادتهما.  "ولكن يا بيب، أنت من يجب أن يحصل على الإجازة، إنّ من جاءت هي أختك." "لا يا سيدتي، لقد جمعت بينهما صداقة جميلة ورائعة، حتى إنني لا أريد الوقوف حائلاً دون اجتماعهما. لقد أحبّتها فرانكا التي كانت متوجّسة في البداية، لكنّ الأمر اختلف الآن جداً..." تساءلت، أكان سعيداً بالتخلص منهما جميعاً؟ هكذا ظلّ بيب هنا، وسافر الثلاثة- تلقى زوج الأخت دعوةً هو الآخر- والطفلان.  غادرت الأخت وزوجها بنهاية الأسبوع. وكانت فرانكا محمّرة العينين من البكاء. وظلت كذلك لساعات وساعات.  "سيدتي، عليك أن تفهمي أنّها فقدت أختاً جديدة طيبة ورائعة. لقد كانت في البداية خائفة منها، ولكنها بدت تحبها شيئاً فشيئاً، والآن أصبح فراقهما شيئاً فظيعاً." استمر البكاء طوال اليوم، وفي الصباح التالي، كان وجه بيب شاحباً ومرهقاً، مؤكداً أنّه لم يغمض له جفن بسبب بكائها طوال الليل. استمر الأمر طوال اليوم التالي، منوّعاً بين الأنين، والتأوه الشجي، والنحيب المنكسر. مهرجاناً للبكاء بجميع أنواعه... حاولت وقف سيل الدموع. "لكن لم تبكين؟" فاندفعت قائلة على الفور بين تأوهاتها المتزايدة، " لقد فقدت صديقتي الحميمة." "ولكنك لم تفقدينها، ستأتي مرة أخرى. وبإمكانها أن تراسلك." ثم دفعتني استماتتي في المحاولة إلى القول لها بحسم، عسى ولعل أن تجدي معها الشدة: " توقفي عن ذلك الآن!" لم تختلف الإجابة عن الفعل كثيراً، ظلت الدموع تنهمر على خديها.  في الصباح التالي، أخبرني بيب الذي كان مرهقاً لكنه مبتسماً: " لقد انتهى الأمر. توقفت عن البكاء." كان الوقت جميلاً أيضاً.  انكشف سر البكاء بعد شهر فقط. لقد كان هو سلاح فرانكا الوحيد للضغط عليه وإرهاقه حتى يوافق على خطتها. كان عليهم مغادرة الجنوب المتخلف والذهاب للعيش في الشمال الرائع الذي زينه لها خيالها المحموم. ينبغي أن تكون بالقرب من صديقتها الحميمة. سيجنون من الثروة أكثر بكثير مما يستطيعون جمعه إن ظلوا عالقين هنا. وفي أحد الأيام بعد عيد الميلاد، والذي شابه رفض فرانكا -المتجهمة الوجه حادة المزاج- المشاركة في أي من مظاهر الاحتفال، جاء بيب إلى غرفتي: " أحمل لك يا سيدتي أخباراً لا تسر. سنغادر بنهاية شهر مارس. جميعنا." "لماذا؟" "لانّها تريد الذهاب وصنع ثروة مع أختي." "ولكن يا بيب، لقد جربت العمل في الشمال، ولم تحبه، وعدت ثانية." "إن كان الأمر بيدي يا سيدتي لما ذهبت. فإن لم يكن هنالك أطفال لظللت معك وتركتها تذهب بمفردها." "لا يا بيب، أنت لم تتزوجني أنا بل فرانكا. ينبغي أن تختار أمراً من اثنين، إما أن تكبح جماحها أو تتبعها." لقد ترددت قبل أن أنطق بهذا: " لم لا توقفها عند حدها؟"  "لأني أخشى ما قد أفعله، يا سيدتي. فأنت لم تريني قط في سوْرة غضبي." ورأيته، ورأيت كم هو مرعب حقاً. في أحد الأيام كان ينزل الدرج بسرعة كبيرة، ووجهه شاحب ومحمر من شدة الغيظ: " أود الحديث إليك إن كانت لديك فسحة من الوقت." فأجبت بسرعة وأنا أركز في كتابتي " أنا مشغولة جداً الآن، كما ترى، و سنتحدث عندما عندما تسنح لي الفرصة." لشد ما ارتحت عندما رأيته يندفع خارجاً من الغرفة. هرعت بدوري إلى تلك السيدة الحكيمة: " ماريا، ما الذي فعلته لأثير غضب بيب لهذه الدرجة؟" " لست أنتِ، يا سيدتي، إنّه حانق على كاتينا." تنفست الصعداء، إنّها كنّة البستانيّ بونيري. أخبرت ماريا أنّ ترسل إلىّ بيب. وتركته واقفاً بينما كنت جالسة في وقار على عرش الأسقف: " ماهي القصة بالكامل؟" قال رافعاً صوته:" لقد أهانتني!" "ولكن كيف؟" " لقد قامت- ليس مرّة واحدة- بل مرّتين بنفض اللحاف خارج النافذة بينما كنت أمرّ تحتها..مرّتين!" "لكن هل كان الأمر سيئاً فعلاً؟" "لقد كانت إهانة مقصودة." "ولكن هل كان من الضروري أن تضع نفسك للمرّة الثانية تحت النافذة، بينما كانت تنفض الألحفة؟"  هدأ، وابتسمنا. لم يطل به الأمر قبل أن يستعيد سيطرته على مزاجه، ولكنّي كنت مذعورة أثناء الفترة التي أمضيتها وأنا أظن أنني السبب في غضبه. والآن، مشكلة فرانكا" أنا أخشى من شدة غضبي: لقد قاربت على إزهاق روحها مرتين. مرة حملت سكيناً، كنت سأذبحها ذبحاً، لكنّ شيئاً ما أنقذني. فحوّلتُ نصلها باتجاهي. انظري، مازال أثر جرحها بادياً على رسغي. تلك الحادثة أعادتني إلى صوابي. ومرة أخرى، كنت غاضباً، وكدت أن أخنقها بكفيّ هاتين إلا أنني أمسكت منشفتي شاي، ولففتهما بكل قوتي حتى شطرتهما إلى نصفين. إني أخشى من حدة غضبي وقوتي. لا أستطيع السيطرة على فرانكا بدون أن أفقد السيطرة عليهما. لقد استسلمت بعد ليلتين لم أذق فيهما طعم النوم بسبب تذمرها وبكائها ووعدتها بالرحيل." "ولكنك تعلم كيف هو الحال هنا بينما لا تعرف هي شيئاً عن ذلك. ولا تدرك إلى أي درجة يصل البرد في الشمال. لا تعرف مطلقاً ماذا يعني أن تكون جنوبياً تتحدث بلهجة لا تُفهم- وستندم! أو أنّ تكون واحدة من القِلّة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. إنّها لم تر مصنعاً في حياتها، ولم تتشارك الشقة أو المطبخ مع عائلة أخرى. ليس لديها أدنى فكرة عما سيكون الوضع عليه، وسيصبح كل شيء في أسوأ حالاته أثناء فصل الشتاء الطويل. إنّه أمر يصعب عليها تخيلّه حتى.!" "لقد أخبرتها بكل ذلك، ولكنها لم تصغ إلي. بل قالت لي إنّها ستبدأ البكاء مرة أخرى إن لم أوافق. وأنا لا أستطيع تحمل ذلك يا سيدتي." "ولكن لماذا شهر مارس؟" كانت الإجابة واضحة لكني سألت.  "لانّها تعتقد أنّ الطقس سيكون دافئاً بحلول شهر مارس. لكني أعلم أنّ الثلج سيستمر في النزول حتى مارس وربما بعده بكثير..." حاولت أن أؤثر عليه، على أمل أن أجعله يعتد بنفسه أكثر في مواجهة جهلها. " أنت لن تغادر في شهر مارس، بل حالما يخبرني محاميّ عن فترة الإخطار اللازمة قبل استقالتك. أتوقع أنّها لا تزيد على الشهر. هذا يعني أنّ عليك قضاء الجزء الأسوأ من الشتاء هناك. لا أستطيع –بالطبع- الانتظار حتى الربيع لأبحث عن من يحلّ محلك. يجب عليّ العثور على أحد ما الآن، بينما يسعى الناس للحصول على وظيفة. فكّر في الأمر ثانية وبتانٍّ غدًا أو بعده، ثم اطلعني على ما تنوي فعله." استخدمت فرانكا قوتها، وكانت عنيدة.  يا للرجل الهزيل المسكين، لقد غادروا في يناير. لقد كان الطقس مرتفع البرودة حتى هنا، ولم يكن ثمة جليد في منطقتنا. أما الطفلان- اللذان كانا في ذلك الوقت في العام السادس والرابع من العمر على التوالي- فقد اكتست ملامحهما بابتسامات لا مبالية. لقد امتلأت عقولهما بالقصص عن الحياة الجديدة التي سيعيشانها- القطارات، والجبال، والجليد، والأقارب، والألعاب، والكمأة (تفوق الألماس قيمةً مثلهم؟) والأطعمة الشهية الأخرى... أشرت عليهم بأنّ من الحكمة أن يتركوا بعض قطع الأثاث الكبيرة في صقلية، في حال أنّهم لم يحبوا الحياة هناك، وأرادوا الرجوع. إلا أنّ فرانكا أصرّت على أنْ تفعل العكس. ولم تترك غير ثلاث زجاجات من الزيتون الفاسد، والذي أخفقت في حفظه، و تسببت عمداً في سدّ ما أسمّيه تأدباً "الأنبوب الكبير" حتى اضطررت إلى استدعاء السبّاك الذي رفع الأرضية، وكذلك أزال مسماراً كبيراً كانت قد غرسته كالساحرات في شجرة اليوسفي الأثيرة لدي. لقد كانت تعرف، بينما لم أدر أنا، أنّه إنّه لم يكتشف في الوقت المناسب فسيؤدي إلى موتها بلا شك، وإن كان ببطء. أشجار الحمضيات لا تحتمل المسامير.  تلقى جيراني بعد فترة قصيرة رسالة: " كل شيء هنا رائع- أكثر بكثير من هناك." وأنّه صار يكسب ضعف ما كان يكسبه هنا، وأنّ أقاربه عطوفون ولطيفون. سرعان ما ستحصل فرانكا على عمل، والأطفال سعداء في روضة الأطفال، وما إلى ذلك. شعرت بأنّ هذه الأخبار أجمل بكثير من أن تكون حقيقية. وبدأت أخبار الوضع الحقيقي تتسرب بشكل تدريجي. لم تكن الأمور بتلك الرفاهية. عقب ذلك ببضعة شهور وصلت أخته الأخرى لتستطلع الوضع هنا. هل بإمكانهم العودة؟ يا للأسف لم تعد بي حاجة إليهم، لقد وجدت الزوجين المناسبين اللذين سيظلان معي لأكثر من ثلاثين عاماً.  وكان على بيب المسكين العودة إلى القرية الجبلية النائية حيث مسقط رأسه، وإلى ما استطاع الحصول عليه من عمل ميداني. لقد احتفظ بمنزل صغير هناك، واستقر فيه هناك مرة أخرى مع فرانكا وطفليهما- كان الثالث في الطريق. تبخرت جميع أحلام فرانكا بالثروة والنجاح.  اضطر في إحدى المرات المجيء إلى بلدتنا لاستخراج شهادات الميلاد، وبعض المستندات الرسمية الأخرى. لقد أخبر جارنا بأنّه لم يكن يريد أن يراني، فقد كان يشعر بالخزي الشديد. ولكن الجار ألّح عليه أن يفعل. تبعني إلى أحد المطاعم حيث كنت أتناول وجبة الغداء رفقة صديقة قديمة كانت تعرف قصته. استقبلناه بحرارة، ولكنه كان مضطرباً وهو يرتدي أفضل بزّاته، التي لابد أنّها قد بليت في مناسبات العزاء، وكان محرجاً منّا. لقد أصبح أكثر هزالاً، وبدا أكبر بكثير.  "سيدتي، إنَّ الحياة ليست بالسهلة، جميعنا نخطيء، وعلينا دفع ثمن أخطائنا." لقد كان يستحق مصيراً أفضل.  مضت عشرون سنة أو نحوها في انشغال، كنت أثناءها أذكر الرجل النحيل بالخير والود، وأتساءل عن ما جرى معه. لم يره أحد هنا، أو يسمع عنه، فقررت أن أحاول معرفة ذلك بنفسي، فقدت السيارة مع صديقة قديمة كانت تعرفه، وقد عادت هي الأخرى بعد فترة طويلة. ذهبنا في اتجاه الساحل الشمالي للجزيرة، ثم صعدنا على طريق جبلي وعر وضيّق. وعلى مقربة من القرية التي كانت جميلة في السابق لكنها عانت كثيراً من الحرب والفقر والبطالة، سألت سيدة مسنّة، ارتدت ملابسَ سوداء بالكامل، عمّا إذا كانت تعرف بيب. فأجابت بلهجة صقلّية واضحة بأنّه قد مات. صُدمت حينها، ولكني تذكرت أنّ معظم الأبناء الأبكار في القرى يدعون لأسلافهم من الأب، لذلك يشيع تشابه الأسماء. لكنّها ظلت تؤكد على أنّه توفى، لذلك سألت عن أختيه التوأم. فجعلها سؤالي تعيد النظر في إجابتها. أخذت أصف العائلة كما أعرفها، مرددةً عليها الأسماء المسيحية لزوجته وطفليه، وشيئاً فشيئاً بدت السيدة المسنّة أكثر قدرة على المساعدة. هل هو من سافر بعيداً وعاد؟ هل فقد زوجته وتزوج مرة ثانية؟ " يعيش ذلك البيب في الميدان- إنّها لا تعلم رقم المنزل، ولكنه بالقرب من المتجر، الجيع يعرفه. شعر الجميع بالراحة. واصلت الصعود باتجاه الميدان، وترددت للحظة بينما كنت أختار من أسأله المساعدة. فجأة، وجدت نفسي بين أحضان امرأة صغيرة الحجم تمطرني بقبلاتها في حماسة شديدة، وقالت: " كنت أعلم أنك ستأتين في يوم ما. أكاد لا أُصدق أنّك جئتِ أخيراً! إنّه حلم وتحقق! لابّد أنَّ العذراء ساقتك إلينا!" لقد كانت واحدة من أختيه التوأم، التي أصبحت الآن في الخمسين من عمرها أو أكثر. " سيفرح أخي كثيراً، وسيسعد جداً جداً. إنّه يتحدث عنك كثيراً. ولطالما كان يأمل..."  "ولكن أين هو؟" " إنّه في العمل، ولكنه سيكون هنا في غضون دقائق. إنّه يعمل في موقع بناء. عمل متعب، وهو لم يعد شاباً، ولكنهم يحبّونه جداً، ولم يترك العمل أبداً، ولكنه شاق." لقد قادتنا إلى منزل صغير قديم. البهو الصغير، الذي من الواضح أنّه يستخدم للاستقبال، لابد أنّه يُستغل كغرفة استقبال، يكاد يضيق بأريكة حديثة واسعة، وكرسيّ عريض مكمّل لها. دعتنا للجلوس بينما ظلت تقف أمامنا مبتسمة في ابتهاج. لم تشاركنا الجلوس بل ظلت واقفة. اجتمع جمهور غفير بالخارج، في حرص على ألا يفوتوا أية لحظة من هذه الدراما. لقد سألت، " وفرانكا.؟" "لقد توفيت؛ كان قلبها عليلاً." لقد ذكرني هذا بأحد الفلاحين الذي أخبرني ذات مرةً، كما لو أنّه يشكو من تشويه صورته أمام الناس، بأنّ كنّته المتزوجة مؤخراً قد توفيت بسبب اعتلال القلب: " إنّها لم تكن صالحة للزواج." لكن فرانكا عاشت لفترة أطول. "وفيتو؟" لقد تزوج. وقريباً سأصبح جدةً. إنّه يعمل محاسباً، بوظيفة مرموقة بالمدينة. لقد اجتهد كثيراً في الحقيقة."  أخبار سارة. وظيفة مكتبية عالمية ثابتة وحلماً عصيّ المنال على الكثرة الغالبة.  "ستصل ماريا حالاً، إنّها تعمل في مصنع وتعيش معنا." يكلف زواج الإبنة الكثير من المال، فالحفاظ على الكرامة أمر واجب، والديون قد تتراكم بسهولة. "لدي ابنة أخت أخرى- وهي تعمل أيضاً."  في تلك اللحظة أقبل بيب مسرعاً. أخبرته الجموع في الخارج بالخبر السار لتوه. ولكنه سرعان ما انسحب إلى الوراء , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

كتاب منزل في صقلية - الفصل الثالث عشر- عرَّابة الدمى المتحركة
كتاب منزل في صقلية - الفصل الثاني عشر- الآثار
صور توثيقية من كتاب منزل في صقلية
كتاب منزل في صقلية - الفصل الحادي عشر- العمل الاجتماعي في صقلية
كتاب منزل في صقلية - الفصل العاشر- العرّاب
كتاب منزل في صقلية - الفصل التاسع - السيد ديلان توماس
كتاب منزل في صقلية - الفصل الثامن - كونستا