Arabic    

محادثات مع غوته - الجزء الرابع


2019-07-05 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : محادثات مع غوته

 

 

 

 

محادثات مع غوته | الجزء الرابع
الثلاثاء، 27 يناير، 1824.
 
تحدث جوته معي عن الاستمرار في كتابة مذكراته، التي تشغل وقته وجهده في الوقت الحالي. وأورد ملاحظة بخصوص أنَّ الفترة الأخيرة من حياته لن تروي بمثل الدقة التي سرد فيها أزمنة الشباب في مذكراته التي جاءت بعنوان "من حياتي: الشعر والحقيقة". وقال: "عليّ مُعالجة هذه الفترة في وقت لاحق بصورة أكثر بأسلوب سجلات الأحداث: بحيث تظهر أفعالي نحو الخارج أكثر من حياتي الداخلية. إنَّ الجزء الأهم من حياة الفرد هو ذلك الخاص بتطوره الذاتي، وقد لخَّصتها في مجلدات مفصلة في "من حياتي: الشعر والحقيقة". بعدها يبدأ الصراع مع العالم، والتي تثير الاهتمام فقط في نتائجها.
 
"ثم ما هي حياة  المثقف الألماني؟ فما قد يكون جيداً بالفعل في حالتي لا يمكنني مشاركته، وما يمكن مُشاركته لا يستحق العناء. إلى جانب ذلك، أين يوجد المُستمعون الذين قد يشعر المرء معهم بالرضا؟
 
"عندما أعود إلى الفترات الأولى والوسطى من حياتي، والآن في سن الشيخوخة، أفكّر في عدد قليل من أولئك الذين قضوا معي الطفولة، ودائماً أفكّر في الإقامة الصيفية في أماكن الاستحمام. عند وصولك، يمكنك خلق تعارف وأصدقاء من أولئك الموجودين بالفعل في المكان منذ حين، والذين سيغادرون في غضون أسابيع قليلة. الخسارة مؤلمة. ثم تتحول إلى الجيل الثاني، الذي تعيش معه فترة جيدة، وتكون أكثر حميميّة. ولكن هذا الجيل يمضي أيضاً، ويتركنا وحيدين مع الجيل الثالث، الذي يأتي في اللحظة التي نقرر فيها الذهاب، والذي ليس لدينا أمرٌ ذو شأن يجمعنا معه.
 
"لقد سبق أن كنتُ ممن يبتسم لهم الحظ، حيث لم أشك أو أجد خطأ ضمن مسار حياتي. ولكن في الحقيقة، لم يكن هناك سوى الكدح والرعاية، ويمكنني القول إنه خلال سنوات حياتي السبعين لم أملك شهراً من الراحة الحقيقية، لقد كانت حياتي مثل حجرٍ يتدحرج باستمرار، حيث كان عليّ دائماً النهوض من جديد. سوف أقدّمُ ملاحظات واضحة عما أقوله الآن في سجل أحداث حياتي الذي أقوم بتدوينه. فقد كانت الادعاءات المتعلقة بنشاطي، من الداخل أو الخارج، كثيرة جداً.
 
"كانت سعادتي الحقيقية تكمن في تأمل الشعر وإنتاجه. ولكن كيف كانت ظروفي الخارجية تشوشه، وتحدّ منه، وتعيقه! لو تمكنتُ من الامتناع عن الحياة العامة، والعيش أكثر في العزلة، كنتُ بالضرورة سأكون أكثر سعادة، وكنتُ لأنجز كشاعر أكثر مما قمتُ به بكثير. ولكن، بعد فترة وجيزة من كتابة مسرحية "غوتس فون برليشنغن" ورواية "آلام فرتر"، تحقَّقتْ لي الحكمة القائلة- ’إذا فعلت أي شيء من أجل العالم، سوف تحذر بشدة من فعل ذلك لمرة ثانية‘. 
 
"إنَّ الشُهرة واسعة الانتشار، والمكانة السامية في الحياة، هي أشياء جيّدة، ولكن، بالنسبة لمكانتي الاجتماعية وشهرتي، ما زلتُ مضطراً إلى أن أكون صامتاً حيال رأيي في الآخرين، ولا يجوز لي القيام بإطلاق إساءة. لن يكون هذا سوى أمرٍ مُثبطٍ للهمم، إن كان يعني أنني لا أملك أفضلية تعلُّم أفكار الآخرين دون أن يكونوا قادرين على تعلُّم أفكاري".
 
الأحد، 15 فبراير، 1824.
 
هذا المساء دعاني غوته لممارسة المشي قبل تناول وجبة الغداء. وعندما دخلتُ الغرفة وجدتُه يتناول وجبة الإفطار: بدا سعيداً وفي حالة ممتازة.
 
"لقد حظيتُ بزيارة ممتعة"، قال مبتهجاً. "قبل قليل كان معي شابٌ واعدٌ من ويستفاليا، اسمه ماير، يكتب قصائد تنبيء بآمال عالية، إذ حقّق تقدماً لا يُصدَّق وهو لا زال في سنّ الثامنة عشر.
 
"سعيدٌ أنا"، واصل حديثه مبتسماً "، إذ لستُ في عمر الثامنة عشر الآن. عندما كنتُ في الثامنة عشرة، كانت ألمانيا في سن المراهقة أيضاً، وكان يمكنك القيام بإنجاز شيٍء ما. أما الآن، فقد يتطلب الأمر صفقة كبيرة، وفي الوقت نفسه يتم حظر كل سبيل.
 
"ألمانيا نفسها تقف عالية جداً في كل جانب منها، حيث بشق الأنفس نملك قدرة دراسة كل ما أنجزته؛ والآن يجب أن نكون يونانيين ولاتينيين، وإنجليزًا وفرنسيين ضمن مساومة جامعة. ليس هذا فحسب، فلدى البعض ولع مجنون في الإشارة إلى الشرق أيضاً؛ وبالتأكيد هذا يكفي لإرباك عقل كًلّ شاب!
 
"ومن باب المواساة، جعلتُه يرى تمثال رأس الألهة جونو الهائل، كعلامة على ضرورة تمسُّكه بالإغريق، والعثور على السلوى هناك. إنه شاب جيّد، وإذا استطاع الاعتناء ونجح في عدم تبديد طاقاته، فسيكون له شأن. ومع ذلك، كما قلتُ من قبل، أشكر السماء أنني لست يافعاً في هذا الزمن الذي بلغ اكتماله. لم أكن لاستطع البقاء هنا. وحتى في حال لجأت إلى أمريكا، فسأكون قد تأخرتُ كثيراً، إذ لا وجود لكثير من الضوء حتى هناك".
 
الأحد، 22 فبراير، 1824.
 
تناولتُ وجبة العشاء مع غوته وابنه. قصّ علينا هذا الأخير بعض القصص الشيِّقة عن الفترة التي قضاها طالباً في هايدلبرغ. حيث كان يقضي كثيرًا من أوقات إجازته مع أصدقائه في رحلة على طول نهر الراين، وسرد لنا على وجه الخصوص عن ذكرى عزيزة مع صاحب منزل، قضى في منزله وعشرة طلاب آخرين إحدى الليالي، حيث قدَّم لهم النبيذ مجاناً، فقط لمجرد أنه شاركهم بهجة حفل طلابي لتناول الكحول "commerz".
 
بعد العشاء، عرض علينا غوته بعض الرسومات الملونة لمناظر إيطالية، وخاصة من شمال إيطاليا، مع الجبال السويسرية المجاورة، وبحيرة لاغو ماغيور. كانت الجزر البوروميانية تنعكس على صفحة الماء. وبالقرب من الشاطئ توجد قوارب وأدوات صيد الأسماك، مما دفع غوته إلى القول إنَّ هذه هي البحيرة المذكورة في روايته "سنوات تجوال فلهلم". في الشمال الغربي، ناحية مونتي روزا، وقفت التلال المتاخمة للبحيرة في شكل كتل كثيفة سوداء مع مسحة زرقاء خفيفة، مثلما نراها في الوقت الذي يتلو غروب الشمس مباشرة. 
 
أبديتُ رأيي، أنه بالنسبة لي، أنا الذي وُلِدتُ في السهول، فإنَّ المهابة الكالحة لهذه الكُتَل وَلَّدت لدي شعوراً بعدم الارتياح، وأنني لا أرغب أبداً في استكشاف مثل هذه الخبايا البريّة.
 
"هذا الشعور هو أمرٌ طبيعي"، قال غوته. "إنها الحالة الوحيدة المناسبة للإنسان الذي ولد ضمنها ومن أجلها. كُلّ من لا تدفعه الأشياء العُظمي للسفر، سيكون أكثر سعادة بكثير في المنزل. في البداية، لم تترك سويسرا انطباعاً كبيراً لديَّ، بل جعلتّني مشوشاً ومضطرباً. فقط بعد زيارات متكررة- فقط بعد سنوات، عندما زرتُ هذه الجبال لمجرَّد دراسة معادنها- تمكَّنتُ من الشعور بالراحة فيها".
 
نظرنا بعد ذلك، في سلسلة طويلة من الصفائح النحاسية، للوحات فنانين حديثين في واحدة من صالات العرض الفرنسية. كانت الابتكارات التي تطرحها هذه اللوحات تشترك تقريباً في أنها ركيكة، ومن بين الأربعين قطعة، وجدنا بالكاد أربعة أو خمسة جيدة. مثل فتاة تُملي رسالة حُبّ؛ امرأة في منزل إيجار، لن يتخذه أحد للسكنى. "اصطياد سمك"؛ "وموسيقيين يقفون قبالة لوحة مادونا. لم تكن المناظر الطبيعية المرسومة بأسلوب نيكولا بوسان سيئة: وعند تمعُّنه في هذه المناظر، قال غوته " لقد أخذ هؤلاء الفنانون فكرة عامة عن مناظر بوسان الطبيعية، واشتغلوا عليها".
 
لا يمكننا وسم صورهم بالجيدة أو السيئة: فهي ليست سيئة، حيث، من خلال النظر لكل جزء، يمكنك التقاط لمحات من نموذج ممتاز. ولكن، لا يمكنك الجزم بجودتها، لأنَّ الفنانين يريدون عادة الميزة الشخصية الكبيرة من فنّ بوسان. وهذا يشابه ما يحدث بين الشعراء، حيث، على سبيل المثال، يوجد أولئك الذين من شأنهم خلق بنية غاية السوء على نمط شكسبير الجليل". 
 
انتهينا، بعد الدراسة والتحدُّث لفترة طويلة، بتمثال روخ لغوته، الذي صنعه لأجل مدينة فرانكفورت.
 
الثلاثاء، 24 فبراير، 1824
 
ذهبتُ إلى غوته في تمام الساعة الواحدة من نهار هذا اليوم. حيث أراني بعض المخطوطات التي كان قد كتبها للعدد الأول من المجلد الخامس من "عن الفن والعصور القديمة". ووجدتُ أنه كتب تذييلاً لكتابتي النقدية عن "باريا الألمانية"، في إشارة إلى كل من المأساة الفرنسية وثلاثيته الغنائية، وبهذا كان الموضوع، إلى حد ما، مُكتملًا.
 
"لقد كنتَ على حق تماماً"، قال غوته: "للاستفادة من فرصة كتاباتك النقدية، في التعرّف على المسائل الهندية، طالما، في النهاية، نحن نحتفظ من دراستنا فقط بتلك التي نعمل على تطبيقها عملياً".
 
وافقتُه الرأي، وقلتُ إنني قد خضتُ هذه التجربة في الجامعة، حيث بين كُلّ ما قيل في المحاضرات، كنتُ قد احتفظتُ فقط، بقدر استطاعتي، من خلال ميل طبيعتي، بما يملك تطبيق عملي. وعلى العكس من ذلك، كنتُ قد نسيتُ تماماً كل ما كنتُ غير قادر على اخضاعه للممارسة. ''سمعتُ محاضرات هيرين حول التاريخ القديم والحديث، وحالياً أجهل كلّ ما له علاقة بخصوص هذه المسألة. ولكن إذا قمتُ بدراسة فترة من التاريخ من أجل علاجها درامياً، فما أتعلمه سيبقى محفوظاً في أمان إلى الأبد".
 
قال غوته: "إنَّ الأكاديميات تُقدِّم الكثير من الأشياء، والكثير جداً منها لا جدوى منه. ثم يطيل الأساتذة، كُلّ من ناحيته، كثيراً في موضوعه- إلى ما هو أبعد من رغبة سامعيهم. في السابق، كانت محاضرات الكيمياء وعلم النبات تنتمي إلى دراسة الطب، بحيث كان بإمكان الطبيب الاحاطة بها. أما الآن، أصبح كلاهما شديد الاتساع، إذ يتطلب كُلّ واحد منهما حياة؛ ولكن لازالت معرفتهما متوقعة من قبل الطبيب. لا شيء يمكن أن يُثمر من هذا؛ يجب إهمال شيء واحد ونسيانه من أجل الآخر. والحكيم هو من يضع جانباً كل الادعاءات التي قد تُبدِّد انتباهه، ويقتصر على فرع واحد، ويتفوق فيه".
 
ثم عرض لي غوته نقداً قصيراً، كان قد كتبه لمسرحية اللورد بايرون "قابيل"، قرأتُه باهتمام كبير.
 
قال غوته: "نحن نرى، كيف أثَّرت عقائد الكنيسة غير الملائمة على عقل حرَّ مثل بايرون، وكيف كافح خلال هذا المسرحية للتخلُّص من المذهب الذي أجبر عليه. لن يقوم رجال الدين الإنجليز بشكره، ولكنني سأفاجأ إذا لم يمضِ في معالجة موضوعات توجد في الكتاب المقدس وتملك أهمية مماثلة، وما إذا لم يتناول موضوعاً مثل تدمير سدوم وعمورة".
 
بعد هذه الملاحظات الأدبية، وجَّه غوته انتباهي إلى الفن التشكيلي، من خلال عرض جوهرة عتيقة، كان قد أعرب بالفعل عن إعجابه بها في اليوم السابق. كنتُ مسحوراً بمراقبة سذاجة التصميم. رأيتُ رجلاً يتناول وعاءً ثقيلاً من كتفه ليُقدّم شراباً لصبي. ولكن الصبي وجد أنَّ الوعاء يميل بزاوية غير مريحة بالنسبة له؛ وبالتالي الشراب لا ينسكب؛ وبينما هو يضع كلتا يديه على الوعاء، كان يتوجه بنظره صوب الرجل، في ما يبدو أنه يطلب منه إمالة الوعاء قليلاً أكثر نحوه. 
 
"الآن، ما رأيك؟"، قال غوته، "نحن الحديثون نشعر بما فيه الكفاية بجمال مثل هذا الدافع الطبيعي تماماً، الساذج تماماً؛ لدينا المعرفة والفكرة التي تُمكنَّنا من أداء هذا الأمر، لكننا لا نستطيع القيام بذلك؛ الفهم هو دائماً أمرٌ سامي، وهذه النعمة الساحرة مرغوبة دائماً". 
 
من ثمّ، أمعنّا النظر في ميدالية براندت برلين، التي تُمثِّل الشاب ثيسيوس وهو يلتقط أسلحة والده من أسفل الحجر. كان للموقف الكثير مما يستحق الثناء، ولكننا راينا أنَّ أطراف الجسد لا تُبرز الجهد الكافي الذي يُمكنها من رفع هذا الثقل. كما يبدو من الخطأ أن يحمل الشاب السلاح بإحدى يديه بينما يرفع الحجر بالأخرى؛ فوفقاً لطبيعة الأشياء، سيقوم بدءاً بدحرجة الحجر الثقيل جانباً، ومن ثم يلتقط الأسلحة. "على النقيض من ذلك"، قال غوته، "سأريك جوهرة عتيقة، حيث عالج القدماء الموضوع نفسه بطريقة مُغايرة".
 
نادى على ستادلمان لجلب صندوق يحتوي على مئات الجواهر العتيقة، التي أحضرها معه من روما، أثناء سفره لإيطاليا. حيث نظرتُ كيف عُولج الموضوع ذاته من قبل اليونانيين القدماء، وكيف كان مختلفاً! كان الشاب يضع جُلَّ قوته على الحجر، أيّ بما يساوي المهمة التي يرغب في القيام بها، وكذلك الوزن الذي كان بالفعل قد تمَّ التغلب عليه بوضوح، فقد أزيح الحجر عن موضعه، بحيث سيُلقى به في القريب على إحدى جوانبه. وكانت كُلّ القوى الجسدية للبطل الشاب مُوجَّهة إزاء الكتلة الثقيلة؛ عدا نظرته التي كانت مُثبَّتة على الأسلحة التي تقبع أسفل الحجر.
 
سُرِرنا بالحقيقة الطبيعية العظيمة لهذه المُعالجة.
 
قال غوته ضاحكاً، "يقول ماير دائماً ’ماذا لو لم يكن التفكير بهذه الصعوبة الشديدة‘، والأسوأ من ذلك هو أنَّ جميع سُبُل التفكير الموجودة في العالم لا تحملنا صوب الفِكر؛ يجب أن نكون على وفاق مع الطبيعة، بحيث تأتي الأفكار الجيّدة صوبنا مثل أطفال الله الأحرار، وهي تهتف، ’ها أنا ذي‘". 
 
الأربعاء، 25 فبراير، 1824.
 
في هذا اليوم، أراني غوته قصيدتين شديدتي الروعة، ذاتيْ بعد أخلاقي كبير في توجههما، ولكن في دوافعهما العديدة تبدوان طبيعيتين وحقيقيتين دون تحفُّظ، وهي من النوع الذي يرتسم فيه العالم بصورة غير أخلاقية. ولهذا السبب، قال إنه سيحتفظ بهما لنفسه، ولا ينوي نشرهما.
 
قال غوته: "هل بإمكان الفكر والثقافة العالية أن يصبحا ملكاً للجميع، وهل يستطيع الشاعر اللعب بنزاهة؛ نعم يمكنه أن يكون دائماً على صواب تام، وإن لن يضطر إلى الخوف في إطلاق أفضل أفكاره. ولكن، مثلما هو الأمر دائماً، يجب أن يبقى دائمًا ضمن مستوى معين؛ يجب أن يتذكر أنَّ أعماله سوف تقع في أيدي مجتمع مختلط، وبالتالي يجب أن يأخذ الحيطة خشية الانفتاح الكبير الذي قد يسيء لغالبية الناس الطيبين. الوقت شيء غريب؛ هو طاغية غريب الأطوار، وفي كل قرن له وجهٌ مختلفٌ في كلّ ما يقوله ويفعله. حيث ليس بمقدورنا أن نتحدث، بالقدر الملائم، عن أشياء كان يسمح بها الإغريق القدماء؛ كما لا يستطيع إنجليز عام ( 1820) تحمُّل ما يناسب معاصري شكسبير المُفعمين بالحيوية؛ لذا، كان من الضرورة اللازمة أن نجد في الوقت الحاضر شيئاً على شاكلة كتاب "مسرحيات شكسبير للعائلات". 
 
"بالتالي"، قلتُ، "هناك الكثير أيضاً بخصوص الشكل. إحدى هاتين القصيدتين مكتوبة في أسلوب ونظم شعر القدماء، لذا ستكون أقل هجومية بكثير من الأخرى. نعم ستثير أجزاء معزولة منها الاستياء، ولكن سيكون بمقدور المُعالجة طرح الكثير من العظمة والكرامة على مُجمل العمل. بحيث يبدو وكأننا نسمع صوتاً عتيقاً شديد القوّة، وأننا نقفل عائدين إلى عصر الأبطال اليونانيين. أما القصيدة الأخرى، فهي تجري في أسلوب ونظم ميسر أريوستو، لذا هي أشدّ خطورة بكثير، فهي تتعلَّق بحدث يخصُّ حاضرنا، ومكتوبة بلغة حاضرنا، ولأنها تأتي فعلياً لتميط اللثام عن حاضرنا، فإنَّ السمات الخاصة بالجرأة تبدو أمضى جسارة بكثير". 
 
"أنت على حق"، قال غوته. "فالآثار الغامضة والكبيرة تنتجها أشكال شعرية مختلفة. إذا تم وضع مضمون مرثيات روميش في قياس مع أسلوب بايرون في 'دون خوان'، سوف يكون الأمر في مجمله شائنًا".
 
جاءتنا الصحف الفرنسية. كان غوته عظيم الاهتمام بحملة الفرنسيين العسكرية في إسبانيا تحت قيادة دوق بانجولم، والتي انتهت لتوها. "لا بد من أن أشيد بالبوربون على هذا التدبير"، قال غوته، "حيث لم يستولوا على العرش إلا بعد أن كسبوا الجيش، وهو الأمر الذي أنجز الآن. لذا يدين الجندي بولائه إلى ملكه؛ وذلك لأنه بسبب انتصارات الملك، وخيبة أمله في الحشد الإسباني الذي يرأسه عديدون، تعلَّم الفرق بين طاعة الواحد والكثرة. لقد حافظ الجيش على سمعته القديمة، وأظهر أنه يمتلك الشجاعة، ويمكنه القيام بالغزو دون نابليون".
 
ثم عاد غوته بأفكاره إلى الوراء صوب التاريخ، وتحدث بإسهاب عن الجيش البروسي أثناء حرب السنوات السبع، الذي اعتاد مع قائده فريدريك الكبير على النصر الدائم، ما أدى لأن يصير مستهتراً، لدرجة أن خسر، فيما بعد، الكثير من المعارك بسبب الزهو والثقة الزائدة. كانت كل التفاصيل الدقيقة حاضرة في ذهنه، فلم أملك سوى الإعجاب بذاكرته الممتازة.
 
"لقد كان لي أفضلية كبيرة بسبب أنني وُلِدتُ في وقت وقعت فيه أهم الأحداث التي أربكت العالم، والتي استمرت تحدث خلال حياتي الطويلة؛ فقد عاصرت أثناء حياتي حرب السنوات السبع، وانفصال أمريكا عن إنكلترا، والثورة الفرنسية، وجُلّ عصر نابليون، ثم سقوط ذلك البطل، والأحداث التي تلت ذلك. وبالتالي حصدتُ ثمرات وبصيرة تستحيل على الذين وُلدوا الآن وهم ملزمون بتعلُّم جميع هذه الأشياء من الكُتُب، التي لن يستوعبوها.
 
"لا أستطيع التنبؤ بما ستحمله لنا مُقبل السنوات؛ ولكن أخشى أننا لن نحصل على الراحة في القريب؛ إذ ليس مُقدَّراً لهذا العالم بلوغ الرضا؛ ليست العظمة شيئاً نحصده من سوء استخدام السلطة؛ الجماهير ليست على هذا النحو؛ فعلى أمل التحسُّن التدريجي، سوف ترضى بالحالة المُعتدلة. ولحين يعود بمقدورنا تجويد الطبيعة البشرية، علينا أيضاً توقُّع حالة مثالية للأشياء؛ ولكن، والحال كما هو عليه، سيكون هناك تذبذُب دائم هنا وهناك؛ إذ يجب على جزء أن يعاني في حين يحصل الآخر على السكينة، وستواصل الحسد والأنانية أداء واجبهما مثل شياطين سيئة، وسيستمر النزاع الحزبي بلا نهاية.
 
"الطريقة الأكثر معقولية هي أن يتبع كل شخص مهنته الخاصة التي وُلِدَ لأجلها، والتي تعلَّمها، وتجنُّب إعاقة الآخرين عن اتباع مهنتهم. دع صانع الأحذية يلتزم بقوالبه، والفلاح بمحراثه، واسمحوا للملك أن يعرف كيف يحكم؛ فهذا أيضاً من الأعمال التي يجب تعلُّمها، والتي لا يجب على من لا يفقه فيها حشر أنفه".
 
قال غوته في معرض عودته إلى الصحف الفرنسية: "يمكن للليبراليين أن يتكلموا، فعندما يكونون منطقيين، نودُّ سماعهم؛ أما الملكيون الذين في يدهم السلطة التنفيذية- فيجب عليهم القيام بشيء. قد يكون بمقدورهم تسيير الجيوش، وقطع الرؤوس وشنق الناس- كل هذا لا بأس به؛ أما مهاجمة الآراء، وتبرير تدابيرهم الخاصة بقمع المطبوعات العامة، فلا يحقُّ لهم. فإذا كان للملوك شعبية، ربما عليهم أن يدلوا بدلوهم في الكلام.
 
استمر قائلاً: "بالنسبة لي، كنتُ دائماً ذا نزعة ملكية. تركتُ للآخرين الثرثرة، وفعلتُ ما رأيتُه مناسباً. لقد فهمتُ سبيلي، وعرفتُ هدفي. وإذا ارتكبتُ خطأ باعتباري فردًا، يمكنني إصلاحه بصورة جيدة؛ ولكن في حال اشتركتُ في الخطأ مع ثلاثة أو أربعة آخرين، سيكون من المستحيل النجاح في إصلاحه، فحيث يوجد كثيرون توجد العديد من الآراء".
 
كان غوته في حالة ممتازة في هذا اليوم. وأراني مجموعة السيدة شبيجل الأدبية، التي نشر ضمنها بعض الأشعار فائقة الجمال. حيث تُرِكت له مساحة خالية في المختارات لفترة استمرت سنتين، وكان فرحاً في قدرته على الإيفاء بهذا الوعد القديم. بعد أن قرأتُ "قصيدة للسيدة شبيجل". تصفحَّتً أوراق الكتاب، الذي ضمَّ العديد من الأسماء المُميّزة. في الصفحة التالية كانت قصيدة للشاعر تيدجه، كتبها بنفس روح وأسلوب عمله "أورانيا". وقال غوته: "أثناء نوبة حماسية، كنتُ على وشك كتابة بعض الأبيات أسفل تلك؛ ولكنني سعيد لعدم القيام بذلك. لم تكن هذه المرة الأولى التي استخدمتُ فيها عبارات طائشة، نفَّرتْ أناساً طيبين، وأفسدتُ تأثير أفضل أعمالي.
 
"ومع ذلك"، واصل غوته، "اضطررتُ إلى تحمُّل الكثير من قصيدة تيدجه 'أورانيا'؛ ففي تلك الفترة، لم يكن من شيء يتمُّ التغنيّ به أو التلفُّظ به أكثر من قصيدة ’أورانيا’. أينما ذهبتْ، ستجد 'أورانيا' على الطاولة. كانت 'أورانيا' والخلود موضوعا جميع المحادثات. بأي حال من الأحوال، أودّ الاستغناء عن سعادة الاعتقاد في وجود مستقبل مُشرق؛ في الواقع، سأشارك لورينزو دي ميديسي، في قوله، إنَّ من ماتوا في هذه الحياة لا يأملون في أي حياة أخرى. ولكن هذه الأمور غير المفهومة تكمن في مكان بعيد جداً من أن تكون موضوعاً للتدبُّر اليومي، والتأمل الذي يُشتِّت الفكر. اسمحوا لمن يؤمن بالخلود أن يستمتع بسعادته في صمت، فهو لا يملك مُبرراً لإعطاء نفسه مكانة أسمى من الآخرين. قادتني ’أورانيا‘ تيدجه إلى ملاحظة أنَّ التقوى، مثل النبالة، لها أرستقراطيوها. فقد قابلتُ نساء غبيبات، ممَّن طمأنَّ أنفسهن بالاعتقاد، مع تيدجه، في الخلود، واضطررتُ لأن أكون موضع كثير من الاستجواب الكئيب حول هذه النقطة. فقد كانوا محبطين من قولي إنني سأكون غاية السرور، بعد انتهاء هذه الحياة، إذا كنا مُباركين بحياة أخرى، فقط أتمنى ألَّا اضطرَّ في ما يلي ملاقاة واحدٍ من أولئك الذين كانوا يعتقدون في الخلود في حياتنا هذي. حيث سيتوجَّبُ عليّ أن أكون معذباً! إذ من شأن الورعين الاحتشاد من حولي، والقول: "ألم نكن على حق؟ ألم نتوقع ذلك؟ ألم يحدث الأمر مثلما أخبرنا؟". وهكذا، سيكون هنالك ملل لا متناهٍ حتى في العالم الآخر.
 
"هذا الانشغال بأفكار الخلود"، استمر غوته في الحديث، "هو من نصيب علِّية القوم، وخاصة السيّدات، اللائي ليس لديهنَّ ما يفعلنه. أمّا الرجل القادر، الذي يملك شيئاً منتظماً للقيام به في هذه الحياة، والذي ينبغي عليه الكدّ والكفاح والإنتاج يوماً بعد يوم، فهو يترك مستقبلاً في هذا العالم ذاته، ويكون نشطاً ومفيداً في هذا العالم. هذه الخواطر عن الخلود هي جيّدة لمن لم يحققوا نجاحاً كبيراً في هذه الحياة الدنيا؛ وأودُّ المراهنة أنه إذا كان تيدجه الصالح قد تمتَّع بمصير أفضل، لكان امتلكَ أفكاراً أفضل بالطريقة نفسها".
 
الخميس 26 فبراير 1824.
 
تناولتُ وجبة الغداء مع غوته. وبعد إزاحة غطاء المائدة، طلب من ستدلمان إحضار بعض محافظ النحاس ذات الحجم الكبير. كانت طبقة من الغبار قد تجمَّعت على الأغطية، وحيث لم تكن هناك قطعة قماش مناسبة في متناول اليد لإزالتها، استاء غوته كثيراً، ووبَّخ ستدلمان. "للمرة الأخيرة سأخبرك، إذا لم تذهب خلال هذا اليوم لشراء القماش الذي طلبتُه منك مراراً، سأذهب بنفسي في الغد. وسترى أنني سأفي بوعدي". ذهب ستدلمان.
 
قال غوته: "لقد تكررت الحادثة نفسها مع بيكر، الممثل". وأخبرني في لهجة حية، "عندما رفض تمثيل دور الفارس في مسرحية ’فالنشتاين‘/ حذَّرتُه أنه في حال لم يقم بلعب الدور، سأقوم بنفسي بتمثيله. هذا العمل كان فعَّالاً؛ لأنَّ أهل المسرح يعرفونني جيداً بما فيه الكفاية، ويعلمون أنني لا أسمح بالتهريج في مثل هذه الأمور، وأنني مجنونٌ بما يكفي للوفاء بكلمتي في أي مسالة". 
 
''وهل قمتَ حقاً بلعب ذاك الدور؟". سألتُه.
 
"نعم"، قال غوته، "قمتُ بتمثيل دور الفارس، وتفوَّقتُ على السيَّد بيكر أيضاً، لأنني أعرف الدور أفضل منه".
 
ثم قمنا بفتح المحافظ، وشرعنا في فحص الرسومات والنقوش. في مثل هذه الأمور، يبذل غوته جهداً كبيراً تجاهي، بحيث أرى نيّته في منحي قدراً عالياً من الذكاء في مراقبة أعمال الفنّ. لذا تراه يُظهر لي فقط ما يبلغ الكمال في نوعه، ويسعى لجعلي أتمكَّن من قصد وجدارة الفنان، بحيث أتعلم متابعة الأفضل مما يوجد في الفكر، والشعور بالأفضل. "هذا"، قال غوته، ''هو السبيل لصقل ما نُطلِق عليه الذوق". الذوق هو شيء يمكن الحصول عليه فقط من خلال التأمل، ليس ذاك الجيّد المُحتَمل، بل المُتَفوِّق بصدق. لذلك، أنا أعرض عليك فقط أفضل الأعمال. وعندما تتحصَّل على معرفة تامة بها، سيكون لديك معيار للبقية، وسوف تعرف كيفية تقييمها، دون المُبالغة في تقديرها. وسأريك الأفضل في كل فئة، حتى تدرك أنه لا وجود لفئة يجب تحقيرها، ولكن كُلٌّ واحد منها يمنح البهجة عندما يُحقِّق رجلٌ نابغة درجة سامية في هذه الفئة. على سبيل المثال، هذه القطعة التي تعود لفنان فرنسي، هي من الروعة، لدرجة لن تراها في مكان آخر، وبالتالي هي نموذج في أسلوبها".
 
قدَّم لي غوته نقشاً، تطلَّعت فيه بفرح. رأيتُ غرفةً جميلة في منزلٍ صيفي، مع أبواب مفتوحة ونوافذ مشرعة على حديقة، يمكن للمرء أن يرى فيها أكثر الأجساد رشاقة. سيّدة مليحة، تبلغ من العمر حوالي الثلاثين، كانت تجلس وهي تحمل في يدها نوتة موسيقية، يبدو أنها كانت تتغني منها توَّاً. بجوارها، قليلاً إلى الوراء، كانت هناك فتاة صغيرة تقريباً في الخامسة عشر من عمرها. خلف النافذة المفتوحة وقفت سيدة شابة أخرى، تحتضن آلة العود، ويبدو من ملامحها أنها لا تزال تعزف عليها. في هذه اللحظة، يدخل شابٌّ مهذب، فتوجّهت نحوه عيون السيدات. ويبدو أنَّ دخوله قد أوقف سريان الموسيقى؛ منحت انحناءته الطفيفة فكرة أنه كان يُبدي اعتذاره، الذي كانت السيدات راضيات بسماعه. 
 
قال غوته: "أظنُّ أنَّ هذه روعة تشبه أعمال كالديرون؛ والآن بعدما رأيتَ الأفضل في هذا النوع، ما رأيك في هذه؟". 
 
مع هذه الكلمات، قدَّم لي بعض نقوش روس، الرسَّام الذي اشتهر بلوحاته عن الحيوانات. كانت جميع النقوش تضُمُّ رسوماً لخِراف، في مواقف ووضعيات متنوعة. تم تمثيل بساطة محياها، وصوفها البشع الأشعث بأقصى قدر من الإخلاص، كما لو كانت الطبيعة نفسها.
 
قال غوته: "أشعر دائماً بعدم الارتياح، عندما أنظر إلى هذه الوحوش. فهي محدودة جداً في أفقها، بليدة، تُحدِّق ببلاهة، وحالمة، وتثير فيّ هذا النوع من التعاطف، بحيث أخشى أن أكون خروفاً، وعلى ما أعتقد أنَّ الفنان كان عليه أن يكون واحداً منها. ففي جميع هذه النقوش، يبدو أكثر من رائع كيف أنَّ روس كان قادراً على التفكير والشعور بالروح الصميمة لهذه المخلوقات، وذلك بجعل الخصيصة الداخلية تتبدى للعيان بهذه القوة عبر الحجاب الخارجي. هنا سترى ما تستطيع المواهب العظيمة فعله عندما تبقى ثابتة على المواضيع التي تتجانس مع طبيعتها.
 
فقلتُ: "هذا الفنان، الذي رسم كلاباً وقططاً ووحوشاً ضارية بحقيقة مماثلة؛ ألا يمكنه، مع هذه الهبة العظيمة التي تُمكّنه من افتراض حالة ذهنية أجنبية لنفسه، أن يكون قادراً على وصف الخصيصة الإنسانية بدقة وإخلاص مماثلين؟".
 
"لا"، قال غوته، "بالنسبة لكل ما يخرج عن مجاله، عدا الحيوانات الأليفة، آكلة الأعشاب، الخراف والماعز والأبقار، وما شابها، لن يكون مرتاحاً أبداً في تكرار رسمها؛ فقد كان هذا ميداناً مخصوصاً لموهبته، لم يغادره خلال مُجمل حياته. وفي هذا الميدان أنجز بجودة. لقد ولد وهو يحمل تعاطفاً مع هذه الحيوانات، ومُنِح هبة معرفة حالتها السيكولوجيّة، ومن ثمّ كانت لديه نظرة حسَّاسة لتكوينها الجسماني. أما المخلوقات الأخرى، فهي ليست مُكتملة الوضوح بالنسبة له، وبالتالي فهو لا يشعر بالنداء ولا الدافع لرسمها".
 
أحيتْ ملاحظة غوته هذه الكثير مما كان متماثلاً في دواخلي، وطرحتها بحيويتها الكاملة في ذهني. وكان قد قال لي، قبل وقت ليس ببعيد، إنَّ معرفة العالم هي فطرية بالنسبة للشاعر الحقيقي، وهو لا يحتاج إلى كثير خبرة أو مراقبة متنوعة لتمثيلها بشكل مُلائم. "لقد كتبتُ ’غوتز فون بيرليشينغن’، قال غوته: "وأنا شابٌ في الثانية والعشرين؛ وكنتُ مندهشاً، بعد عشر سنوات، من حقيقة تخطيطي. من المعلوم أنني لم أكن قد اختبرتُ أو رأيتُ أي شيء من هذا النوع، وبالتالي كان عليَّ اكتساب معرفة الظروف الإنسانية المتنوعة عن طريق الحدس.
 
"عموماً، قبل تعرُّفي على العالم الخارجي لم أستغرق سوى في رسم عالمي الداخلي. ولكن عندما وجدتُ، في الحياة الفعلية، أنَّ العالم كان يتطابق في الواقع مع ما كنتُ أحتضنه في خيالي، أصابني هذا بالغيظ، ولم أعد أشعر بالبهجة في تمثيله بالرسم. في الواقع، بإمكاني القول إنني لو كنتُ قد انتظرتُ لحين تعرُّفي على العالم قبل أن أقوم بتمثيله، لكان تمثيلي قد جاء على هيئة ساخرة.
 
"هناك في كلّ خصيصة"، قال لي في وقت آخر، "ضرورة ما وتسلسل، والذي، جنباً إلى جنب مع هذه الميزة الأساسية أو تلك، يتسبب في ميزات ثانوية. الملاحظة تُعلِّمنا هذه بصورة كافية؛ ولكن لدى بعض الأشخاص ربما تكون هذه المعرفة فطرية. أما إذا كانت الخبرة والفطرة قد اتحدتا داخلي، فهو أمر لن استفسر بشأنه؛ ولكن ما أعرفه، أنه إذا تحدثتُ مع أي رجل لمدة ربع ساعة، سأجعله يتحدث لساعتين". 
 
تحدَّث غوته بصورة مماثلة عن اللورد بايرون، من حيث أنَّ العالم كان شفافاً بالنسبة له، وأنَّ بإمكانه الرسم مُستَخدماً الحدس. عبّرتُ عن بعض الشكوك حول ما إذا كان بايرون - على سبيل المثال- سوف ينجح في رسم جوهر حيوان من مرتبة أدنى، لأنَّ شخصيته تبدو لي من القوة بحيث يصعب عليه أن يمنحها، بأيّ من درجات الميل، لمثل هكذا موضوع. اعترف غوته بذلك، وأجاب قائلاً، إنَّ ملاحظتنا للاشياء تمضي فقط إلى حيث الأشياء تُماثل للموهبة؛ واتفقنا على أنه بقدر ما يتقيَّد الحدس أو يتمدد، يكون نطاق الموهبة التي تقوم بالتمثيل أكبر أو أصغر.  
 
قلتُ: "إذا كنتَ يا صاحب السعادة قد أكَّدتً على أنَّ العالم فطري بالنسبة للشاعر، فإنك تقصد بالطبع العالم الداخلي فقط، وليس العالم التجريبي للمظاهر والأعراف؛ وإذا كان بمقدور الشاعر تقديم تمثيلٍ ناجحٍ لهذا أيضاً، فإنَّ التحقيق بخصوص الواقعي سيكون بالتأكيد مطلباً أساسياً".   
 
"بالتأكيد"، أجاب غوته، "وهو كذلك؛ إنَّ منطقة الحبّ والكراهية والأمل واليأس، أو أيَّاً ما تطلقه على طبائع وعواطف الروح، هي فطرية في نفس الشاعر، وهو ينجح في تمثيلها. إلا أنه لا يُولد وهو يعرف بالغريزة كيف تُعقد المحاكم أو كيف يدار البرلمان أو مراسم التتويج؛ وإذا لم يسيء إلى الحقيقة، في الوقت الذي يُعالج فيه مثل هذه المواضيع، وجب عليه أن يلجأ إلى الخبرة أو التقاليد. وهكذا، استطعتُ في مسرحية "فاوست"، باستخدام الحدس، معرفة كيف يمكنني وصف ضجر بطلي الكالح من الحياة، والعواطف التي يثيرها الحبّ في قلب غريتشن؛ ولكن الأبيات التالية تتطلَّب بعض الملاحظات حول الطبيعة".
 
يالها من كآبة، تلك التي يصنعها القرص الناقص
 
للقمر الأخير مع التوهج الرطب الناشيء.
 
"ومع ذلك"، قلتُ، "كل سطر من ’فاوست‘ يحمل علامات، إن لم أكن على خطأ، على دراسة متأنية للحياة والعالم؛ بحيث ليس بمُستطاع أحد أن يفترض، ولو للحظة، بخلاف أنَّ مُجمل العمل هو نتيجة تجربة واسعة". 
 
"ربما الأمر كذلك"، أجاب غوته؛ "ومع ذلك، ما لم يكن العالم موجوداً بالفعل في روحي من خلال الحدس، كان سيُفتَرَض عليَّ البقاء أعمى حتى مع عيني المُبصرة، وكان على جميع الخبرات والمُلاحظات أن تكون بمثابة عملٍ ميَّتٍ، وغير مُنتج. الضوء يوجد في الخارج، والألوان تُحيط بنا، ولكن ما لم يكن لدينا ضوء أو ألوان داخل أعيننا، لن يكون بمقدورنا إدراك الظواهر الخارجية".
 
السبت، 28 فبراير 1824.
 
قال غوته إنَّ هناك رجالاً على درجة عالية من الامتياز، لا يستطيعون القيام بأي شيء مُرتجل، أو سطحي، لأنَّ طبيعتهم تتطلب منهم التغلغل بهدوء وعمق في كل موضوع يؤخذ بمتناول يدهم. تجعلنا مثل هذه العقول، في كثير من الأحيان، نافذي الصبر، لأننا نادراً ما نحصل منهم على ما نريده في اللحظة التي نريد؛ ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يتم بها إنجاز أنبل المهام".   
 
أدرتُ دفة الحديث إلى رامبرغ. حيث قال غوته: "إنه فنان من طابع مختلف تماماً، وهو من أكثر المواهبة حيوية، وإنْ كان لا مثيل لقدرته على الارتجال. لقد طلب مني في درسدن أن أمنحه موضوعاً، فحدَّثته عن أغا ممنون لحظة عودته من طروادة، حين يترجَّل من عربته الحربية ويلمس عتبة منزله، مصاباً بشعورٍ كئيب. وستوافق معي أنَّ هذا الموضوع ذو طبيعة صعبة، ومع فنان آخر، لكان قد طالب بتداول أكثر تفصيلاً، ولكن قبل أن أكمل حديثي، كان رامبرغ قد شرع في الرسم. وبالفعل، شعرتُ بالإعجاب من أنه التقط على الفور موضوعه بشكل صحيح. ولا أستطيع إنكار أننى أرغب فى امتلاك بعض رسومات رامبرغ". 
 
تحدثنا بعد ذلك عن فنانين آخرين، ممن شرعوا يعملون بطريقة سطحية، وبالتالي تحوّلت أعمالهم إلى نزعة أسلوبية. 
 
قال غوته إنَّ "الأسلوبية في حالة توق دائم لإنجاز العمل، بحيث لا تتمتع بالصدقية أثناء إنجاز العمل. ومن ناحية أخرى، تجد الموهبة الحقيقية العظيمة أعظم سعادتها في التنفيذ. عمل روس بصورة دؤوبة في رسم شعر وصوف ماعزه وأغنامه، وترى من خلال تفاصيله اللانهائية أنه يتمتع بسعادة كبيرة في أداء عمله، وأنه لا يرغب في وضع حدٍّ له.
 
"المواهب الرديئة لا تستمتع بالفن من أجل ذاته: بحيث لا تضع نصب أعينها أثناء إنجازها العمل شيئًا سوى الربح الذي يأملون في تحصيله من العمل. مع مثل هذه الآراء والميول الدنيوية، لم يُنتَج شيء عظيم في أيّ من الأزمنة السابقة".
 
الأحد، فبراير 29، 1824.
 
ذهبتُ إلى منزل غوته، حوالي الثانية عشرة، وكان قد دعاني إلى التنزُّه قبل تناول وجبة الغداء. وجدتُه يتناول وجبة الإفطار عندما دخلتُ، فاتَّخذتُ مقعدي قبالته، وحولت المحادثة نحو تلك الآثار التي تشغل تفكير كِلينا بخصوص الطبعة الجديدة لأعماله. وكنتُ قد نصحته بإدراج كل من "آلهة، أبطال، وويلاند" و"رسائل القسّ" في هذه الطبعة الجديدة.
 
قال غوته: "لا أستطيع حسب وجهة نظري الحالية أن أحكم بشكل سليم على جدارة إنتاجات الشباب. ربما إذا رغبتم بإمكانكم أن تقرروا. لكنني لا ألوم تلك البدايات؛ في الواقع، كنت أحيا في الظلام، أكافح، بلا وعي من أجل ما كنتُ أسعى إليه بجدية؛ ولكن كان لي حِسٌّ بالصواب، صولجان إلهي، دلَّني على حيث يمكنني العثور على الذهب". 
 
لاحظتُ أنَّ هذا ما يجب أن يكون عليه الحال مع جميع المواهب العظيمة، وإلا، وعلى خلاف ذلك، حينما تستيقظ في عالم مختلط، لن تتمكَّن من إدراك الحق وتجنُّب الخطأ.
 
في هذا الوقت، تم سرج الخيول، وانطلقنا متجهين صوب يينا. تحدثنا حول مواضيع مختلفة، وذكر غوته آخر ما تقوله الصحف الفرنسية. حيث قال: "ينتمي دستور فرنسا إلى شعب يحتضن في داخله الكثير من عناصر الفساد، وهو يقوم على أسس مختلفة تماماً عن الدستور الإنجليزي. كل ما يحدث في فرنسا يتم عن طريق الرشوة، بل إنَّ مجمل الثورة الفرنسية كانت موجهة بهذه الوسائل".
 
ثم تحدث عن وفاة يوجين نابليون (دوق ليوشتنبرغ)، الذي وصلت أخباره ذلك الصباح، حيث بدا بالغ الحزن. "كان واحداً من تلك الشخصيات العظيمة"، قال غوته، "التي أصبحت أكثر وأكثر ندرة؛ لقد أصبح العالم مرةً ثانية أكثراً فقراً بسبب غياب رجل مهم. كنتُ أعرفه بصورة شخصية؛ ففي الصيف الماضي كنتُ معه في مارينباد. كان رجلًا وسيم الطلعة، في حوالي الثانية والأربعين، على الرغم من أنه يبدو أكبر سناً، وهو أمر لا يبدو مُدهشاً عندما نستدعي إلى الذهن كلّ ما مر به خلال مسيرة حياته، وكيف كانت الحملات والاتفاقيات ضاغطة باستمرار على حياته. أخبرني في مارينباد بإسهاب عن خطة لربط نهر الراين مع نهر الدانوب، عن طريق قناة- وهو مشروع عملاق، عندما نمعن النظر في العقبات التي تطرحها جغرافيا المنطقة. ولكن مع رجل خدم تحت إمرة نابليون، وشاركه في هزّ ثوابت العالم، لا شيء يبدو مستحيلاً. كان لدى تشارلمان نفس الخطة، حتى أنه شرع في التنفيذ، لكنه سرعان ما وصل إلى طريق مسدود. حيث لم تستطيع الرمال الصمود، وكان الركام يسقط باستمرار على كلا الجانبين".
 
الاثنين، 22 مارس، 1824.
 
هذا اليوم، قبل موعد الغداء، ذهبت مع غوته إلى الحديقة.
 
تقع هذه الحديقة على الجانب الآخر من نهر إيلم، بالقرب من المنتزه، على المُنحدر الغربي من التلَّة، الشيء الذي يعطيها مظهراً شديد الجاذبية. الحديقة محمية من الرياح الشمالية والشرقية، لكنها مفتوحة على التأثيرات المُبهِجة للجنوب والغرب، ما يجعلها مسكناً شديد المُتعة، وخاصة في الربيع والخريف.
 
أمَّا المدينة، التي تقع على الشمال الغربي، فهي قريبة بحيث يمكن للمرء بلوغها في بضع دقائق، ومع ذلك إذا تلفَّت المرء حوله، فلن يرى في أيّ مكان سقوف مباني، أو حتى أبراج، تُذكّره بهذا القرب؛ لأنَّ أشجار الحديقة الطويلة والمزروعة بكثافة تُغطّي كل ما يقع على الجانب الآخر. تمتد الحديقة التي تحمل اسم "النجمة"، يساراً، ناحية الشمال الجغرافي، على مقربة من طريق المركبات، الذي يبتديء من الحديقة مباشرة. 
 
نحو الغرب والجنوب الغربي، ينفتح المشهد على مرج واسع، من خلاله، على مسافة إطلاق قوس من سهمه، تعبر الرياح نهر إيلم بصمت. ترتفع حافة النهر على الجانب الآخر مثل تلة؛ على القمة والجانبين يمتدُّ متنزَّهٌ فسيح، تكسوه أوراق مُختلطة لأشجار النغت والمُران والحور والبتولا، التي تُحيط بالأفق على مسافة معقولة ناحية الجنوب والغرب.
 
يمنح منظر الحديقة أعلى المرج، وخاصة في الصيف، شعوراً وكأن المرء قرب أجمة تمتد ملتوية لمسافة فراسخ. ويعتقد أنَّه مع كل لحظة تمضي ستلوح للعين ظبية تقفز على المروج. وهنا يشعر المرء وكأنه مغروسٌ بسلام في وحشة الطبيعة القاتمة، بسبب الصمت غير المنقطع في الغالب، إلا من نغمات الشحرور المنفردة، أو أغنية معلقة في كثير من الأحيان لطائر السمَّان.  
 
وبينما نحن في حلم العزلة العميقة، أيقظنا قرع ساعة البرج، وصراخ طواويس الحديقة، أو طبول وأبواق الجيش في الثكنات. لم يكن هذا بالأمر المزعج. فمثل هذه النغمات تُذكِّر المرء بمدينة حميمة في الجوار، يتوهم المرء أنه بعيد عنها أميال كثيرة.
 
في بعض المواسم، تنقلب هذه المروج نقيضاً للوحدة. حيث يشاهد المرء في بعض الأحيان القرويين يذهبون إلى فايمار للتسوُّق، أو العمل، ثم يقفلون عائدين؛ وأحياناً ترى متسكعين من جميع الأنواع يتمشّون على طول انحناءات نهر إيلم، وخاصة في الاتجاه الصاعد نحو فايمار العليا، التي تزدحم بالزوار في أيام معينة من السنة. كذلك، يقوم موسم الحشائش بنفخ الروح في المشهد بشكل متناغم. في الأرض الخلفية، يرى المرء قطعان من الخِراف ترعي، وأحياناً تتحرك بفخامة؛ كما نشاهد البقر السويسري للمزرعة المجاورة.
 
ومع ذلك، لم يكن هناك أيّ أثر لهذه الظواهر الصيفية، التي تنعش الحواس. على المروج، يمكنك مشاهدة بعض البقع الخضراء؛ لكن ليس لدى أشجار الحديقة ما تتباهى به سوى الأغصان ذات اللون البُنّي والبراعم. ومع ذلك فإنَّ أصوات عصفور الدوري، وأغنيات الشحرور والسمَّان المتقطعة، كانت تصدح مُعلنة مجيء الربيع. 
 
كان الجو لطيفاً وصيفياً؛ والرياح الجنوبية الغربية المعتدلة تهبّ. وكانت هناك سُحب رعدية صغيرة ومعزولة تعبر على طول السماء الصافية. وهناك في الأعلى قد يلاحظ المرء خيوطاً متناثرة من السحب البضاء. راقبنا السحب بدقة، ورأينا أنَّ الغيوم الضخمة للمنطقة السفلى كانت مُتفرَّقة كذلك؛ ومن ذلك استنتج غوته أنَّ مقياس الضغط الجوي سيرتفع.  
 
ثم تحدث غوته بإسهاب عن ارتفاع وهبوط البارومتر، الذي وصفه مُستخدماً الزيادة في المياه ونقصانها. وتحدث عن عمليات استنشاق وزفير الأرض، وفقاً للقوانين الأبدية؛ وعن الطوفان المحتمل، في حال استمرت "زيادة المياه". بجانب ذلك، تحدث قائلاً، إنه رغم امتلاك كل مكان لمناخه الخاص، فإنَّ مقياس الضغط الجوي في جميع أنحاء أوروبا متّحد بصورة كبيرة. كذلك تحدَّث عن أنَّ الطبيعة غير قابلة للقياس، وبسبب شذوذها الكبير هذا، كثيراً ما صعب على الناس معرفة قوانينها.  
 
في أثناء تثقيفه إيّاي بهذه المواضيع الهامة، كنا نسير صعوداً وهبوطاً في الحديقة على ممشى واسع مفروش بالحصى. وعند اقترابنا من المنزل، نادى الخادم لفتح البوابة، حيث أراد أن يريني البيت من الداخل. كانت الجدران البيضاء مُغطاة بشجيرات الورد، التي نمت على تعريشات وصلت حتى السطح. درتُ حول المنزل، وشاهدتُ باستمتاع عدداً كبيراً من أعشاش الطيور، من مختلف الأنواع، موجودة على فروع شجيرات الورد الموجودة في مكانها هناك منذ الصيف السابق، والآن بسبب أنَّ الشجيرات عارية من الأوراق، أصبحت مبذولة لتراها العين. كم كان استثنائياً مُشاهدة كيف أنَّ أعشاش طائر حسُّون التفاح وأنواعًا مختلفة من عصفور الشوك، قد بُنيت عالية أو منخفضة وفقاً لعادات الطيور.  
 
بعدها، أخذني غوته داخل المنزل، الذي لم أره منذ الصيف الماضي. في الطابق الأدنى، وجدتُ غرفة واحدة فقط قابلة للسكن، عُلَّقت على جدرانها خرائط ونقوش، إلى جانب بورتريه لغوته، في حجم كبير بعظمة الحياة، رسمه ماير بعد وقت قصير من عودة الصديقين من إيطاليا. يظهر غوته في اللوحة وهو في قمَّة قوَّته ورجولته، شديد السُمرة، وبالأحرى شجاعًا. لم يكن التعبير المرسوم على محياه شديد الحيوية، لكنه شديد الجدِّية؛ ويبدو وكأنَّ المرء يتطلَّع نحو رجل يكمن في عقله ثِقل مآثر المستقبل. 
 
صعدنا الدرج إلى الغُرف العليا. حيث توجد ثلاث غُرف، إحداها صغيرة الحجم. ولكن في العموم، كانت كلها صغيرة جداً، وغير مريحة. قال غوته إنه أمضى في السنوات السابقة جزءاً كبيراً من وقته بسرور في هذا المكان، حيث كان يعمل بهدوء شديد.
 
كانت هذه الغرف باردة نوعاً ما، لذا عدنا إلى الهواء الطلق، الذي كان معتدلاً. وبينما نسير صعوداً وهبوطاً على الطريق الرئيسي، تحت شمس الظهيرة، تحوَّل مدار حديثنا إلى الأدب الحديث، وشيلينغ، وبعض مسرحيات الكونت بلاتن الجديدة.
 
سرعان ما عدنا إلى الحديث عن المواضيع الطبيعية. كانت أزهار تاج القيصر والزنابق قد نمت بالفعل، كما كانت الخبيزة على جانبي الحديقة شديدة الاخضرار.
 
الجزء العلوي من الحديقة، عند مُنحدر التل، كان مفروشاً بالعشب، ويوجد هنا وهناك عدد قليل من أشجار الفاكهة. امتدَّت المسارات على طول القمّة، ثم استدارت عائدة نحو الأسفل؛ الشيء الذي أيقظ فيّ الرغبة في الصعود والبحث عن نفسي. غوته، الذي صعد هذه المسارات من قبل، سبقني مُتقدماً، وكنتُ فرحا لرؤيته بهذا النشاط.
 
في الأعلى وجدنا سياجاً يضمُّ إناث الطاووس، التي يبدو أنها آتية من حديقة الأمير. وأشار غوته إلى أنه كان مُعتاداً في فصل الصيف المجيء وجذب الطواويس بأن يقدم لها الطعام الذي تحبه.
 
وأثناء نزولنا على مسار متعرج على الجانب الآخر من التلّ، وجدتُ حجراً، تحيط به الشجيرات، نُقشت على سطحه أبيات هذه القصيدة المعروفة:
 
"هنا في الصمت فكَّر الحبيب مليَّاً في محبوبه".
 
وشعرت كما لو كنتُ أقف على أرضٍ كلاسيكية.
 
هناك بالقرب دغل كثيف لأشجار نصف نامية تتكون من السنديان، والتنوب، والبتولا، وأشجار الزان. أسفل التنوب، وجدت علامات تشير لوجود طيور جارحة. وبعدما أريتها لغوته، قال إنه كثيراً ما رأى مثلها في هذا المكان. من هذا استنتجتُ أنَّ هذه التنوب كانت مسكناً مُفضَّلاً لبعض أنواع البوم، التي كثيراً ما شُوهِدت في هذا المكان. 
 
اجتزنا الدغل، لنجد أنفسنا مرة أخرى على الطريق الرئيسي بالقرب من المنزل. كانت أشجار السنديان، والتنوب، والبتولا، والزان، التي اجتزناها للتوّ، متشابكة معاً، وتُشكِّل نصف دائرة في هذا المكان، أو قوساً يشبه مغارةً في هذا الفضاء الداخلي، حيث جلسنا على كراسي صغيرة، وُضِعت حول طاولة مستديرة. كانت الشمس شديدة السطوع، ورغم ذلك كان ظلُّ هذه الأشجار عديمة الورق مُناسباً. "أنا أعرف"، قال غوته، "لا ملجأ أفضل، من سخونة الصيف، من هذه البقعة. فقبل أربعين عاماً زرعتُ كل هذه الأشجار بيدي. وكان من دواعي سروري مشاهدتها تنمو، حيث أستمتع منذ فترة طويلة بظلها المُنعش. ولأنَّ أوراق شجر هذه السنديان والزان منيعة من أشعة الشمس القوية، أحبُّ في أيام الصيف الحارة الجلوس هنا بعد الغداء؛ حيث في كثير من الأحيان يسودُ نوعٌ من السكون في هذه المروج ومجمل الحديقة، يماثل ما أطلق عليه القدماء "سُبات الإله بان". 
 
سمعنا أجراس ساعة المدينة تعلن عن الساعة الثانية، فعدنا إلى المنزل.
 
الثلاثاء، 30 مارس، 1824
 
هذا المساء، كنتُ وغوته وحيديْن في منزله. تحدثنا حول مواضيع مختلفة، وشربنا قنينة من النبيذ. تحدثنا عن الدراما الفرنسية، وكيف أنها تقف على النقيض من نظيرتها الألمانية.
 
وقال غوته: "سيصعب جداً على الجمهور الألماني أن يصل لنوع من الحكم الصحيح، مثلما يفعل الجمهور في إيطاليا وفرنسا، فهناك عقبة ظرفية تخصنا، حيث تقوم خشبة المسرح عندنا بعرض مزيج من كل الأنواع. ففي المجالس نفسها، حيث شاهدنا هاملت بالأمس، سنشاهد ستابيرل (شخصية مسرحية هزلية) في اليوم التالي، وإذا عُدنا غداً سنسعد بأوبرا ’الناي السحري‘، وفي اليوم التالي سوف نكون مسحورين مع غرائب مخلوق محظوظ آخر. بالتالي، يصبح الجمهور مشوشاً في حكمه، حيث يجمع بين مختلف الأنواع التي لن يتعلم حقيقتها بطريقة تسمح له بتقديرها وفهمها. علاوة على ذلك، لدى كلّ واحد مطالبه الفردية ورغباته الشخصية، وبالتالي يعود إلى المكان حيث يجدها مُشخَّصة. فإلى الشجرة التي قطف منها ثمرة التين اليوم، سيعود مرة أخرى في الغد، وسيعلو الإحباط وجهه إذا وجد برقوقة نمت بدلاً عنها خلال ساعات الليل. أما الشخص الذي يحب البرقوق، فسيذهب إلى الأشجار الشوكية.
 
"كان لدى شيلر هذه الفكرة الجذلة الخاصة ببناء مكان مُخصَّص للتراجيديا فقط، وإعطاء قطعة أرض في كل أسبوع للذكور فقط. لكن هذا المفهوم يفترض مسبقاً مدينة كبيرة جداً، ولا يمكن تحقيقها بوسائلنا المتواضعة".
 
تحدثنا عن مسرحيات إيفلاند وكوتزيبو، التي أثنى غوته على أسلوبها. "بسبب هذا الخطأ الفادح، لا يستطيع الناس التمييز بإتقان بين ضروب الفنون، أما أعمال هؤلاء الرجال، فهي تتعرَّض في كثير من الأحيان للرقابة ظُلماً. وقد ننتظر وقتاً طويلاً قبل أن يأتي اثنان يملكان مثل هذه المواهب الشعبية مرة أخرى".
 
أشدتُ بمسرحية إيفلاند "العجوز الأعزب"، والتي سعدتُ للغاية بمشاهدتها على المسرح. وقال غوته: "إنها بلا شك أفضل أعمال إيفلاند. "الوحيدة التي تجاوزت النثر إلى الخيال".
 
أخبرني بعدها عن عملٍ، انتوى هو وشيلر أن يكون بمثابة استمرار لمسرحية إيفلاند "العجوز الأعزب"؛ وذلك في أثناء محادثة ضمّتهما، لكن دون أن يقوما بتدوين ذلك على الورق. كما حدثني غوته عن التقدم في عملهما هذا منتقلاً مشهداً تلو مشهد؛ كان أمراً بالغ اللطف والبهجة، ومنحني فرحة كبيرة.
 
ثم تحدث غوته عن بعض مسرحيات أوغست بلاتين الجديدة. "في هذه الأعمال"، قال: "نرى تأثير كالديرون. فهي شديدة الذكاء، وبمعنى ما، كاملة؛ لكن ينقصها الثقل النوعي، ثقل وجود مغزى ما. كما أنها ليست من النوع الذي يثير في ذهن القارئ اهتماماً عميقاً دائمًا؛ وعلى العكس من ذلك، تلمس شغاف الروح ولكن بخفة عابرة. مثل قطعة الفلين التي، عندما تسبح في الماء، لا تترك انطباعًا، ولكن من السهل الحفاظ عليها تسبح على السطح.
 
"تتطلَّب الألمانية جديّة ما، وعظمة معينة للفكر، وامتلاء من نوع ما للمشاعر. وعلى هذا الأساس نجد شيلر مُبجلاً جداً من قبل الجميع. لا أشكك في قدرات بلاتين؛ ولكن، ربما بسبب وجهات نظر خاطئة للفن، لم تستطيع أن تتجلى في المانيا. فهو يظهر ثقافة متميزة، وفكراً، وذكاءً نفاذاً، وكمالاً فنيّاً؛ ولكن هذه، لا سيما في ألمانيا، ليست كافية.
 
"وفي العموم، تؤثِّر السمات الشخصية للكاتب على الجمهور أكثر من مواهبه كفنان. فقد قال نابليون عن بيير كورني، "لو كان حيَّاً، لقلَّدته منصب الأمير"، هذا رغم أنه لم يقرأ له قط. في حين أنه قرأ راسين، دون أن يمنحه مثل هذا الحديث. لافونتين أيضاً، ينظرُ إليه الفرنسيون بدرجة عالية من التقدير، ليس بسبب مزاياه الشعرية، ولكن لعظمة الشخصية التي أظهرها في كتاباته".
 
ثم تحدثنا عن روايته "التجاذب الاختياري". حيث أخبرني غوته عن رجل إنجليزي مُتجوّل، كان يفترض أن يكون مُنفصلاً عن زوجته عندما يعود إلى إنجلترا. ضحك على مثل هذه الحماقة، وأعطاني عدة أمثلة عن أشخاص منفصلين، لكن بعد ذلك لم يستطيعوا ترك أحدهما الآخر.
 
وأردف قائلاً: "كثيراً ما سألني الراحل راينهارد متعجباً، كيف أملكُ مثل هذه المبادئ الصارمة بخصوص الزواج، بينما كنتُ متسامحاً جداً في كل شيء آخر".
 
تعبير غوته هذا كان لافتاً للنظر بالنسبة لي، لأنه أظهر بوضوح ما قصده حقاً من قبل عنما تحدث كثيراً عن إساءة فهم عمله (''التجاذب الاختياري").
 
ثم تحدثنا عن لودفيغ تيك، وعلاقته الشخصية مع غوته.
 
وقال غوته: "أكنُّ مشاعر عظيمة ناحية تيك"؛ وأعتقد أنه، على وجه العموم، حسُن النية تجاهي. ولكن، هناك شيء ليس كما يُرام في علاقته بي. هذا الخطأ لا يأتي من ناحيتي أو ناحيته، ولكنه يعود لأسباب دخيلة تماماً.
 
''عندما بدأ الأخوة شليجل في صنع مكانة لأنفسهم، كنتُ في موضع قوي جداً بالنسبة لهم. ولتحقيق ترجيح معي، اضطروا للبحث عن رجلٍ ذي موهبة يضعونه في تعارض معي. ووجدوا هذه الموهبة لدى تيك. وبالتالي، عندما وضعوه على النقيض منّي، بدا ذا أهمية كبيرة في نظر الجمهور، وأضطروا حينها لإعطائه أكثر مما يملك. أدى ذلك إلى إنزال الضرر بعلاقتنا المتبادلة؛ فبالنسبة لتيك، دون أن يكون على وعي صائب بنفسه، وُضِع في موقف كاذب في ما يتعلق بي.
 
"تيك هو رجل يمتلك موهبة فائقة الأهمية، ولا يمكن لأحد أن يكون أكثر حساسية منّي بخصوص مزاياه الاستثنائية؛ فقط عندما يرفعونه لمكانة تفوقه، ويضعونه في مستوى واحد معي، سيكونون على خطأ. يمكنني الحديث بصراحة حول هذا الأمر، لا يهمني، لأنني لم أصنع نفسي. قد أقارن نفسى فقط مع شكسبير، الذي لم يصنع نفسه بنفسه أيضاً، وهو مع ذلك كائن من رتبة أعلى، يجب أن يكون هو من أطمح نحوه بخشوع".
 
هذا المساء، كان غوته ممتلئاً بالطاقة والمرح. جلب بعضاً من مخطوطات قصائده وقرأها بصوتٍ عالٍ. جلب لي سماعه سروراً من نوع خاص، إذ ليست فقط قوة القصيدة الأصلية ونضارتها هي ما أثارت حماستي بدرجة عالية، ولكن غوته نفسه، بأسلوبه في قراءتها،  قدَّم لي جانباً عن نفسه غير معروف حتى الآن، رغم أهميته الشديدة. يا لها من تنويعة وقوة تلك الموجودة في صوته! يا لها من حياة وتعبير في محياه النبيل، كامل التجاعيد! ويا لها من عيون!
 
الأربعاء، 14 أبريل، 1824.
 
خرجنا للتمشَّي غوته وأنا. وناقشنا خلال ذلك أساليب كُتَّاب مختلفين.
 
"في العموم"، قال غوته، "التأملات الفلسفية أصابت الألمان في مقتل، لأنها تميل إلى جعل أسلوبهم غامضًا وصعبًا، ومبهمًا. كل ما قوي ارتباطهم ببعض المدارس الفلسفية، ساءت كتابتهم. أما أولئك الألمان، المهتمون بشؤون الأعمال والحياة الفعلية، فقد حجزوا لأنفسهم كتابة عملية وذات جودة. بحيث يكون أسلوب شيلر أكثر نبلاً وإثارة للإعجاب كلما نأى عن التفلسُف، وهو الأمر الذي ألاحظه يومياً في رسائله شديدة المتعة، التي أنا مُنشغل بها حالياً.
 
"هناك أيضاً بين النساء الألمانيات، كائنات تكتب بأسلوب ممتاز حقاً، وفي الواقع، في هذا الصدد يتجاوزن العديد من كتابنا الذكور المشهورين.
 
"الإنجليز دائماً ما يكتبون بصورة جيدة؛ لأنهم وُلِدوا عمليين ومُفوَّهين، مع ميل نحو الحقيقي.
 
"الفرنسيون، بدورهم، لا يزالون على صواب في طابعهم العام، وهم ذوو طبيعة اجتماعية، وبالتالي لا ينسون أبداً الجمهور الذي يخاطبونه، بل يسعون جاهدين ليكونوا واضحين، بحيث يقنعون القارئ- ولطيفين، حتى يُعجب بهم.
 
"إجمالا، فإنَّ أسلوب الكاتب هو تمثيل مُخلص لعقله، لذا، متى رغب رجلٌ في الكتابة بأسلوب واضح، عليه في البدء أن يكون واضحاً في أفكاره؛ وإذا أراد أن يكتب بأسلوب نبيل، عليه أولاً امتلاك روحٍ نبيلة".
 
من ثمّ تحدَّث غوته عن خصومه كسُلالة لن تنقرض أبداً. حيث قال إنَّ"عددهم بمثابة فيلق، ولكنهم يقعون ضمن درجة من التصنيف: أولاً، هناك خصومي من الأغبياء،- أولئك الذين لم يفهموا شخصيتي، وعثروا مع ذلك على عيوب فيّ دون معرفتي. هذه الجماعة كبيرة العدد أرهقتني كثيراً خلال مسيرة حياتي، ولكن يجب أن يُغفر لهم، لأنهم لا يدركون ما قاموا به.
 
"تتألف الفئة الثانية الكبيرة من أولئك الذين يحسدونني. وهذا الحقد سببه حظوظي وحالتي الجليلة التي حققتها بسبب مواهبي. تراهم ينتفون شهرتي، ويرغبون في تدميري. لكن في حال كنتُ فقيراً وبائساً، فسوف يهاجمونني لا أكثر.
 
"هناك العديد ممّن أصبحوا خصومي، فقط لأنهم انهزموا في أنفسهم. ضمن هذه الفئة هناك رجال من أصحاب الموهبة الرائعة، لكن لا يمكنهم غفران أنني ألقيتُ بهم في الظلال.
 
رابعاً، هناك خصومي ممّن هم على صواب. أنا إنسان، وبهذه الصفة لديَّ أخطاء وعيوب بشرية، بالتالي لن تخلو كتابتي من وجود هذه الأخطاء. ومع ذلك، لأنني عازم باستمرار على تحسين نفسي، والسعي الدائم لرفع نفسي إلى مرتبة النبلاء، كنتُ في حالة من التقدم المستمر، وكثيرا ما حدث أنهم ألقوا باللوم عليَّ بسبب الأخطاء التي تركتها ورائي منذ فترة طويلة. لقد أصابني هؤلاء الناس أقلّ من غيرهم، لأنهم أطلقوا النار عليّ، بينما أنا على بعد أميال بعيدة. عموماً، عندما أنتهي من عملٍ ما، يصبح غير مهماً بالنسبة لي؛ لن يعود يشغل بالي، بل أشغل نفسي بخطة جديدة.
 
''فئة كبيرة أخرى تضم أولئك الذين يأتي خصامهم بسبب اختلافهم عني في وجهات النظر وطرق التفكير. يُقال بخصوص أوراق الشجرة، أنك لن تجد اثنتين متشابهتين تماماً، بالتالي، بين ألف رجل، من النادر أن تجد اثنين، ينسجمان تماماً في وجهات نظرهم وطرق التفكير. بوضع هذا في الاعتبار، فإنَّ وجود الكثير من المعارضين سيكون أقلّ إدهاشاً من امتلاكي لكثير من الأصدقاء والأتباع. كانت ميولي تتعارض مع ميول من عاصرتهم، التي كانت ذاتية تماماً؛ بينما في جهودي الموضوعية، وقفتُ وحيداً إزاء عوائقي.
 
"كان شيلر، في هذا الصدد، ذا فائدة كبيرة بالنسبة لي، وبالتالي، قدَّمت لي بعض المفاهيم العامة ذات النوايا الحسنة وضوحاً كيما أفهم أنه يجب عليّ أن أكتب مثل شيلر. استجبتُ وقمتُ بتحليل مزايا شيلر، لأنني أعرفها أفضل منه. مضيتُ بهدوء قُدماً على طريقتي الخاصة، ولم أقلق نفسي بالنجاح، وأخذتُ بأقل قدر ممكن من ملاحظات خصومي".
 
عدنا، وقضينا وقتاً لطيفاً على مائدة الغداء. تحدثت فراو فون غوته عن برلين، حيث كانت هناك مؤخراً. وتحدثت بحميمية خاصة عن دوقة كمبرلاند، التي أظهرت لها الكثير من اللطف. تذكَّر غوته هذه الأميرة باهتمام خاص، حيث قضت جزءاً من سنوات صباها مع والدته.
 
في المساء، حظيتُ بمتعة موسيقى رفيعة المستوى في منزل غوته، حيث قام بعض المُغنين، تحت إشراف إبيروين، بأداء جزء من مقطوعة "المسيح" لهاندل. انضمت الكونتيسة كارولين فون إغلوفستين وفراولين فون فرويب مع مدام فون بوغويش ومدام فون غوته إلى المطربات الإناث، ومن ثم أشبعن بلطف التمنيات التي كان غوته قد أسرَّاها منذ فترة طويلة.
 
جلس غوته على مسافة، مُستغرقاً بالكامل في الاستماع، وممتلئاً في هذه الأمسية السعيدة بالإعجاب بهذا العمل النبيل.
 
الاثنين، 19 أبريل، 1824.
 
زارنا اليوم، أعظم فقيه لغة في عصرنا، فريدريش أوغست وولف، من أهالي برلين، وهو في طريقه نحو جنوب فرنسا. وعلى شرفه، قدم غوته دعوة غداء لأصدقائه في فايمار، حيث حضرها المشرف العام رور، المستشار فون مولر، مدير البنية الفوقية كودراي، البروفيسور ريمر، وهوفراث رحبين، وشخصي. كانت المحادثة شديدة الحيوية. كان وولف ممتلئاً بالملاحظات البارعة، في حين أخذ غوته دور الخصم الدائم بطريقة دمثة. لاحقاً، أخبرني غوته: "لا أستطيع، في كل مرة التقي فيها وولف، ألّا افترض فيه شخصية ميفيستوفيلس (الشيطان الذي أغرى فاوست)، لا شيء يبرز كنوزه الخفية أكثر من ذلك".
 
كانت المُلاحظات البارعة في المائدة سريعة الزوال، ووليدة اللحظة، بحيث أنتجت تكرارات. كان وولف شديد العظمة في التفاتاته البارعة وبديهته الحاضرة، ولكن مع ذلك بدا لي أنَّ غوته حافظ دائماً على تفوق ما عليه. 
 
طارت الساعات على المائدة كما لو كانت تملك أجنحة، وجاءت الساعة السادسة دون أن نلحظ ذلك. ذهبتُ مع غوته الابن إلى المسرح، حيث شاهدنا أوبرا "الناي السحري". بعدئذٍ رأيتُ وولف في المقصورة مع الدوق الكبير كارل أغسطس.
 
ظلَّ وولف في فايمار حتى يوم 25 من الشهر، حيث سافر متجهاً صوب جنوب فرنسا. لم تكن حالته الصحية على ما يُرام، حيث لم يخف غوته قلقه الكبير عليه.
 
================  
محادثات مع غوته
تأليف: يوهان بيتر إيكرمان
ترجمة من الألمانية للإنجليزية:  جون اوكسنفورد
ترجمة من الإنجليزية: سماح جعفر
 
تقوم «القرية الإلكترونية» بتكليف من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، بترجمة يوميات من حياة "جوته"، المعنونة بـــ «محادثات مع غوته»، من تأليف: «يوهان بيتر إيكرمان*»، وهي عبارة عن يوميّات كتبها "إيكرمان" عن السنوات الأخيرة من حياة شاعر ألمانيا الكبير «غوته Goethe»، وتمت ترجمتها من الألمانية للإنجليزية بواسطة «جون أوكسنفورد»، وترجمها من الإنجليزية إلى العربية: «طارق زياد شعار»، وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في الصفحة نأمل أن تحوز إعجابكم.
*«يوهان بيتر إيكرمان» Johann Peter Eckermann 1792-1854: عمل كأمين خاص لجوته في الفترة الأخيرة من حياة الأخير. وسرعان ما أصبح كتابه محادثات مع غوته، ذو شعبية تخطت الحدود الألمانية، ولعب دوراً مهما في إحياء الاهتمام والتقدير لأعمال جوته في وقت لاحق.
 
#محمد_أحمد_السويدي_ترجمة_محادثات_مع_غوته

        محادثات مع غوته | الجزء الرابع الثلاثاء، 27 يناير، 1824.   تحدث جوته معي عن الاستمرار في كتابة مذكراته، التي تشغل وقته وجهده في الوقت الحالي. وأورد ملاحظة بخصوص أنَّ الفترة الأخيرة من حياته لن تروي بمثل الدقة التي سرد فيها أزمنة الشباب في مذكراته التي جاءت بعنوان "من حياتي: الشعر والحقيقة". وقال: "عليّ مُعالجة هذه الفترة في وقت لاحق بصورة أكثر بأسلوب سجلات الأحداث: بحيث تظهر أفعالي نحو الخارج أكثر من حياتي الداخلية. إنَّ الجزء الأهم من حياة الفرد هو ذلك الخاص بتطوره الذاتي، وقد لخَّصتها في مجلدات مفصلة في "من حياتي: الشعر والحقيقة". بعدها يبدأ الصراع مع العالم، والتي تثير الاهتمام فقط في نتائجها.   "ثم ما هي حياة  المثقف الألماني؟ فما قد يكون جيداً بالفعل في حالتي لا يمكنني مشاركته، وما يمكن مُشاركته لا يستحق العناء. إلى جانب ذلك، أين يوجد المُستمعون الذين قد يشعر المرء معهم بالرضا؟   "عندما أعود إلى الفترات الأولى والوسطى من حياتي، والآن في سن الشيخوخة، أفكّر في عدد قليل من أولئك الذين قضوا معي الطفولة، ودائماً أفكّر في الإقامة الصيفية في أماكن الاستحمام. عند وصولك، يمكنك خلق تعارف وأصدقاء من أولئك الموجودين بالفعل في المكان منذ حين، والذين سيغادرون في غضون أسابيع قليلة. الخسارة مؤلمة. ثم تتحول إلى الجيل الثاني، الذي تعيش معه فترة جيدة، وتكون أكثر حميميّة. ولكن هذا الجيل يمضي أيضاً، ويتركنا وحيدين مع الجيل الثالث، الذي يأتي في اللحظة التي نقرر فيها الذهاب، والذي ليس لدينا أمرٌ ذو شأن يجمعنا معه.   "لقد سبق أن كنتُ ممن يبتسم لهم الحظ، حيث لم أشك أو أجد خطأ ضمن مسار حياتي. ولكن في الحقيقة، لم يكن هناك سوى الكدح والرعاية، ويمكنني القول إنه خلال سنوات حياتي السبعين لم أملك شهراً من الراحة الحقيقية، لقد كانت حياتي مثل حجرٍ يتدحرج باستمرار، حيث كان عليّ دائماً النهوض من جديد. سوف أقدّمُ ملاحظات واضحة عما أقوله الآن في سجل أحداث حياتي الذي أقوم بتدوينه. فقد كانت الادعاءات المتعلقة بنشاطي، من الداخل أو الخارج، كثيرة جداً.   "كانت سعادتي الحقيقية تكمن في تأمل الشعر وإنتاجه. ولكن كيف كانت ظروفي الخارجية تشوشه، وتحدّ منه، وتعيقه! لو تمكنتُ من الامتناع عن الحياة العامة، والعيش أكثر في العزلة، كنتُ بالضرورة سأكون أكثر سعادة، وكنتُ لأنجز كشاعر أكثر مما قمتُ به بكثير. ولكن، بعد فترة وجيزة من كتابة مسرحية "غوتس فون برليشنغن" ورواية "آلام فرتر"، تحقَّقتْ لي الحكمة القائلة- ’إذا فعلت أي شيء من أجل العالم، سوف تحذر بشدة من فعل ذلك لمرة ثانية‘.    "إنَّ الشُهرة واسعة الانتشار، والمكانة السامية في الحياة، هي أشياء جيّدة، ولكن، بالنسبة لمكانتي الاجتماعية وشهرتي، ما زلتُ مضطراً إلى أن أكون صامتاً حيال رأيي في الآخرين، ولا يجوز لي القيام بإطلاق إساءة. لن يكون هذا سوى أمرٍ مُثبطٍ للهمم، إن كان يعني أنني لا أملك أفضلية تعلُّم أفكار الآخرين دون أن يكونوا قادرين على تعلُّم أفكاري".   الأحد، 15 فبراير، 1824.   هذا المساء دعاني غوته لممارسة المشي قبل تناول وجبة الغداء. وعندما دخلتُ الغرفة وجدتُه يتناول وجبة الإفطار: بدا سعيداً وفي حالة ممتازة.   "لقد حظيتُ بزيارة ممتعة"، قال مبتهجاً. "قبل قليل كان معي شابٌ واعدٌ من ويستفاليا، اسمه ماير، يكتب قصائد تنبيء بآمال عالية، إذ حقّق تقدماً لا يُصدَّق وهو لا زال في سنّ الثامنة عشر.   "سعيدٌ أنا"، واصل حديثه مبتسماً "، إذ لستُ في عمر الثامنة عشر الآن. عندما كنتُ في الثامنة عشرة، كانت ألمانيا في سن المراهقة أيضاً، وكان يمكنك القيام بإنجاز شيٍء ما. أما الآن، فقد يتطلب الأمر صفقة كبيرة، وفي الوقت نفسه يتم حظر كل سبيل.   "ألمانيا نفسها تقف عالية جداً في كل جانب منها، حيث بشق الأنفس نملك قدرة دراسة كل ما أنجزته؛ والآن يجب أن نكون يونانيين ولاتينيين، وإنجليزًا وفرنسيين ضمن مساومة جامعة. ليس هذا فحسب، فلدى البعض ولع مجنون في الإشارة إلى الشرق أيضاً؛ وبالتأكيد هذا يكفي لإرباك عقل كًلّ شاب!   "ومن باب المواساة، جعلتُه يرى تمثال رأس الألهة جونو الهائل، كعلامة على ضرورة تمسُّكه بالإغريق، والعثور على السلوى هناك. إنه شاب جيّد، وإذا استطاع الاعتناء ونجح في عدم تبديد طاقاته، فسيكون له شأن. ومع ذلك، كما قلتُ من قبل، أشكر السماء أنني لست يافعاً في هذا الزمن الذي بلغ اكتماله. لم أكن لاستطع البقاء هنا. وحتى في حال لجأت إلى أمريكا، فسأكون قد تأخرتُ كثيراً، إذ لا وجود لكثير من الضوء حتى هناك".   الأحد، 22 فبراير، 1824.   تناولتُ وجبة العشاء مع غوته وابنه. قصّ علينا هذا الأخير بعض القصص الشيِّقة عن الفترة التي قضاها طالباً في هايدلبرغ. حيث كان يقضي كثيرًا من أوقات إجازته مع أصدقائه في رحلة على طول نهر الراين، وسرد لنا على وجه الخصوص عن ذكرى عزيزة مع صاحب منزل، قضى في منزله وعشرة طلاب آخرين إحدى الليالي، حيث قدَّم لهم النبيذ مجاناً، فقط لمجرد أنه شاركهم بهجة حفل طلابي لتناول الكحول "commerz".   بعد العشاء، عرض علينا غوته بعض الرسومات الملونة لمناظر إيطالية، وخاصة من شمال إيطاليا، مع الجبال السويسرية المجاورة، وبحيرة لاغو ماغيور. كانت الجزر البوروميانية تنعكس على صفحة الماء. وبالقرب من الشاطئ توجد قوارب وأدوات صيد الأسماك، مما دفع غوته إلى القول إنَّ هذه هي البحيرة المذكورة في روايته "سنوات تجوال فلهلم". في الشمال الغربي، ناحية مونتي روزا، وقفت التلال المتاخمة للبحيرة في شكل كتل كثيفة سوداء مع مسحة زرقاء خفيفة، مثلما نراها في الوقت الذي يتلو غروب الشمس مباشرة.    أبديتُ رأيي، أنه بالنسبة لي، أنا الذي وُلِدتُ في السهول، فإنَّ المهابة الكالحة لهذه الكُتَل وَلَّدت لدي شعوراً بعدم الارتياح، وأنني لا أرغب أبداً في استكشاف مثل هذه الخبايا البريّة.   "هذا الشعور هو أمرٌ طبيعي"، قال غوته. "إنها الحالة الوحيدة المناسبة للإنسان الذي ولد ضمنها ومن أجلها. كُلّ من لا تدفعه الأشياء العُظمي للسفر، سيكون أكثر سعادة بكثير في المنزل. في البداية، لم تترك سويسرا انطباعاً كبيراً لديَّ، بل جعلتّني مشوشاً ومضطرباً. فقط بعد زيارات متكررة- فقط بعد سنوات، عندما زرتُ هذه الجبال لمجرَّد دراسة معادنها- تمكَّنتُ من الشعور بالراحة فيها".   نظرنا بعد ذلك، في سلسلة طويلة من الصفائح النحاسية، للوحات فنانين حديثين في واحدة من صالات العرض الفرنسية. كانت الابتكارات التي تطرحها هذه اللوحات تشترك تقريباً في أنها ركيكة، ومن بين الأربعين قطعة، وجدنا بالكاد أربعة أو خمسة جيدة. مثل فتاة تُملي رسالة حُبّ؛ امرأة في منزل إيجار، لن يتخذه أحد للسكنى. "اصطياد سمك"؛ "وموسيقيين يقفون قبالة لوحة مادونا. لم تكن المناظر الطبيعية المرسومة بأسلوب نيكولا بوسان سيئة: وعند تمعُّنه في هذه المناظر، قال غوته " لقد أخذ هؤلاء الفنانون فكرة عامة عن مناظر بوسان الطبيعية، واشتغلوا عليها".   لا يمكننا وسم صورهم بالجيدة أو السيئة: فهي ليست سيئة، حيث، من خلال النظر لكل جزء، يمكنك التقاط لمحات من نموذج ممتاز. ولكن، لا يمكنك الجزم بجودتها، لأنَّ الفنانين يريدون عادة الميزة الشخصية الكبيرة من فنّ بوسان. وهذا يشابه ما يحدث بين الشعراء، حيث، على سبيل المثال، يوجد أولئك الذين من شأنهم خلق بنية غاية السوء على نمط شكسبير الجليل".    انتهينا، بعد الدراسة والتحدُّث لفترة طويلة، بتمثال روخ لغوته، الذي صنعه لأجل مدينة فرانكفورت.   الثلاثاء، 24 فبراير، 1824   ذهبتُ إلى غوته في تمام الساعة الواحدة من نهار هذا اليوم. حيث أراني بعض المخطوطات التي كان قد كتبها للعدد الأول من المجلد الخامس من "عن الفن والعصور القديمة". ووجدتُ أنه كتب تذييلاً لكتابتي النقدية عن "باريا الألمانية"، في إشارة إلى كل من المأساة الفرنسية وثلاثيته الغنائية، وبهذا كان الموضوع، إلى حد ما، مُكتملًا.   "لقد كنتَ على حق تماماً"، قال غوته: "للاستفادة من فرصة كتاباتك النقدية، في التعرّف على المسائل الهندية، طالما، في النهاية، نحن نحتفظ من دراستنا فقط بتلك التي نعمل على تطبيقها عملياً".   وافقتُه الرأي، وقلتُ إنني قد خضتُ هذه التجربة في الجامعة، حيث بين كُلّ ما قيل في المحاضرات، كنتُ قد احتفظتُ فقط، بقدر استطاعتي، من خلال ميل طبيعتي، بما يملك تطبيق عملي. وعلى العكس من ذلك، كنتُ قد نسيتُ تماماً كل ما كنتُ غير قادر على اخضاعه للممارسة. ''سمعتُ محاضرات هيرين حول التاريخ القديم والحديث، وحالياً أجهل كلّ ما له علاقة بخصوص هذه المسألة. ولكن إذا قمتُ بدراسة فترة من التاريخ من أجل علاجها درامياً، فما أتعلمه سيبقى محفوظاً في أمان إلى الأبد".   قال غوته: "إنَّ الأكاديميات تُقدِّم الكثير من الأشياء، والكثير جداً منها لا جدوى منه. ثم يطيل الأساتذة، كُلّ من ناحيته، كثيراً في موضوعه- إلى ما هو أبعد من رغبة سامعيهم. في السابق، كانت محاضرات الكيمياء وعلم النبات تنتمي إلى دراسة الطب، بحيث كان بإمكان الطبيب الاحاطة بها. أما الآن، أصبح كلاهما شديد الاتساع، إذ يتطلب كُلّ واحد منهما حياة؛ ولكن لازالت معرفتهما متوقعة من قبل الطبيب. لا شيء يمكن أن يُثمر من هذا؛ يجب إهمال شيء واحد ونسيانه من أجل الآخر. والحكيم هو من يضع جانباً كل الادعاءات التي قد تُبدِّد انتباهه، ويقتصر على فرع واحد، ويتفوق فيه".   ثم عرض لي غوته نقداً قصيراً، كان قد كتبه لمسرحية اللورد بايرون "قابيل"، قرأتُه باهتمام كبير.   قال غوته: "نحن نرى، كيف أثَّرت عقائد الكنيسة غير الملائمة على عقل حرَّ مثل بايرون، وكيف كافح خلال هذا المسرحية للتخلُّص من المذهب الذي أجبر عليه. لن يقوم رجال الدين الإنجليز بشكره، ولكنني سأفاجأ إذا لم يمضِ في معالجة موضوعات توجد في الكتاب المقدس وتملك أهمية مماثلة، وما إذا لم يتناول موضوعاً مثل تدمير سدوم وعمورة".   بعد هذه الملاحظات الأدبية، وجَّه غوته انتباهي إلى الفن التشكيلي، من خلال عرض جوهرة عتيقة، كان قد أعرب بالفعل عن إعجابه بها في اليوم السابق. كنتُ مسحوراً بمراقبة سذاجة التصميم. رأيتُ رجلاً يتناول وعاءً ثقيلاً من كتفه ليُقدّم شراباً لصبي. ولكن الصبي وجد أنَّ الوعاء يميل بزاوية غير مريحة بالنسبة له؛ وبالتالي الشراب لا ينسكب؛ وبينما هو يضع كلتا يديه على الوعاء، كان يتوجه بنظره صوب الرجل، في ما يبدو أنه يطلب منه إمالة الوعاء قليلاً أكثر نحوه.    "الآن، ما رأيك؟"، قال غوته، "نحن الحديثون نشعر بما فيه الكفاية بجمال مثل هذا الدافع الطبيعي تماماً، الساذج تماماً؛ لدينا المعرفة والفكرة التي تُمكنَّنا من أداء هذا الأمر، لكننا لا نستطيع القيام بذلك؛ الفهم هو دائماً أمرٌ سامي، وهذه النعمة الساحرة مرغوبة دائماً".    من ثمّ، أمعنّا النظر في ميدالية براندت برلين، التي تُمثِّل الشاب ثيسيوس وهو يلتقط أسلحة والده من أسفل الحجر. كان للموقف الكثير مما يستحق الثناء، ولكننا راينا أنَّ أطراف الجسد لا تُبرز الجهد الكافي الذي يُمكنها من رفع هذا الثقل. كما يبدو من الخطأ أن يحمل الشاب السلاح بإحدى يديه بينما يرفع الحجر بالأخرى؛ فوفقاً لطبيعة الأشياء، سيقوم بدءاً بدحرجة الحجر الثقيل جانباً، ومن ثم يلتقط الأسلحة. "على النقيض من ذلك"، قال غوته، "سأريك جوهرة عتيقة، حيث عالج القدماء الموضوع نفسه بطريقة مُغايرة".   نادى على ستادلمان لجلب صندوق يحتوي على مئات الجواهر العتيقة، التي أحضرها معه من روما، أثناء سفره لإيطاليا. حيث نظرتُ كيف عُولج الموضوع ذاته من قبل اليونانيين القدماء، وكيف كان مختلفاً! كان الشاب يضع جُلَّ قوته على الحجر، أيّ بما يساوي المهمة التي يرغب في القيام بها، وكذلك الوزن الذي كان بالفعل قد تمَّ التغلب عليه بوضوح، فقد أزيح الحجر عن موضعه، بحيث سيُلقى به في القريب على إحدى جوانبه. وكانت كُلّ القوى الجسدية للبطل الشاب مُوجَّهة إزاء الكتلة الثقيلة؛ عدا نظرته التي كانت مُثبَّتة على الأسلحة التي تقبع أسفل الحجر.   سُرِرنا بالحقيقة الطبيعية العظيمة لهذه المُعالجة.   قال غوته ضاحكاً، "يقول ماير دائماً ’ماذا لو لم يكن التفكير بهذه الصعوبة الشديدة‘، والأسوأ من ذلك هو أنَّ جميع سُبُل التفكير الموجودة في العالم لا تحملنا صوب الفِكر؛ يجب أن نكون على وفاق مع الطبيعة، بحيث تأتي الأفكار الجيّدة صوبنا مثل أطفال الله الأحرار، وهي تهتف، ’ها أنا ذي‘".    الأربعاء، 25 فبراير، 1824.   في هذا اليوم، أراني غوته قصيدتين شديدتي الروعة، ذاتيْ بعد أخلاقي كبير في توجههما، ولكن في دوافعهما العديدة تبدوان طبيعيتين وحقيقيتين دون تحفُّظ، وهي من النوع الذي يرتسم فيه العالم بصورة غير أخلاقية. ولهذا السبب، قال إنه سيحتفظ بهما لنفسه، ولا ينوي نشرهما.   قال غوته: "هل بإمكان الفكر والثقافة العالية أن يصبحا ملكاً للجميع، وهل يستطيع الشاعر اللعب بنزاهة؛ نعم يمكنه أن يكون دائماً على صواب تام، وإن لن يضطر إلى الخوف في إطلاق أفضل أفكاره. ولكن، مثلما هو الأمر دائماً، يجب أن يبقى دائمًا ضمن مستوى معين؛ يجب أن يتذكر أنَّ أعماله سوف تقع في أيدي مجتمع مختلط، وبالتالي يجب أن يأخذ الحيطة خشية الانفتاح الكبير الذي قد يسيء لغالبية الناس الطيبين. الوقت شيء غريب؛ هو طاغية غريب الأطوار، وفي كل قرن له وجهٌ مختلفٌ في كلّ ما يقوله ويفعله. حيث ليس بمقدورنا أن نتحدث، بالقدر الملائم، عن أشياء كان يسمح بها الإغريق القدماء؛ كما لا يستطيع إنجليز عام ( 1820) تحمُّل ما يناسب معاصري شكسبير المُفعمين بالحيوية؛ لذا، كان من الضرورة اللازمة أن نجد في الوقت الحاضر شيئاً على شاكلة كتاب "مسرحيات شكسبير للعائلات".    "بالتالي"، قلتُ، "هناك الكثير أيضاً بخصوص الشكل. إحدى هاتين القصيدتين مكتوبة في أسلوب ونظم شعر القدماء، لذا ستكون أقل هجومية بكثير من الأخرى. نعم ستثير أجزاء معزولة منها الاستياء، ولكن سيكون بمقدور المُعالجة طرح الكثير من العظمة والكرامة على مُجمل العمل. بحيث يبدو وكأننا نسمع صوتاً عتيقاً شديد القوّة، وأننا نقفل عائدين إلى عصر الأبطال اليونانيين. أما القصيدة الأخرى، فهي تجري في أسلوب ونظم ميسر أريوستو، لذا هي أشدّ خطورة بكثير، فهي تتعلَّق بحدث يخصُّ حاضرنا، ومكتوبة بلغة حاضرنا، ولأنها تأتي فعلياً لتميط اللثام عن حاضرنا، فإنَّ السمات الخاصة بالجرأة تبدو أمضى جسارة بكثير".    "أنت على حق"، قال غوته. "فالآثار الغامضة والكبيرة تنتجها أشكال شعرية مختلفة. إذا تم وضع مضمون مرثيات روميش في قياس مع أسلوب بايرون في 'دون خوان'، سوف يكون الأمر في مجمله شائنًا".   جاءتنا الصحف الفرنسية. كان غوته عظيم الاهتمام بحملة الفرنسيين العسكرية في إسبانيا تحت قيادة دوق بانجولم، والتي انتهت لتوها. "لا بد من أن أشيد بالبوربون على هذا التدبير"، قال غوته، "حيث لم يستولوا على العرش إلا بعد أن كسبوا الجيش، وهو الأمر الذي أنجز الآن. لذا يدين الجندي بولائه إلى ملكه؛ وذلك لأنه بسبب انتصارات الملك، وخيبة أمله في الحشد الإسباني الذي يرأسه عديدون، تعلَّم الفرق بين طاعة الواحد والكثرة. لقد حافظ الجيش على سمعته القديمة، وأظهر أنه يمتلك الشجاعة، ويمكنه القيام بالغزو دون نابليون".   ثم عاد غوته بأفكاره إلى الوراء صوب التاريخ، وتحدث بإسهاب عن الجيش البروسي أثناء حرب السنوات السبع، الذي اعتاد مع قائده فريدريك الكبير على النصر الدائم، ما أدى لأن يصير مستهتراً، لدرجة أن خسر، فيما بعد، الكثير من المعارك بسبب الزهو والثقة الزائدة. كانت كل التفاصيل الدقيقة حاضرة في ذهنه، فلم أملك سوى الإعجاب بذاكرته الممتازة.   "لقد كان لي أفضلية كبيرة بسبب أنني وُلِدتُ في وقت وقعت فيه أهم الأحداث التي أربكت العالم، والتي استمرت تحدث خلال حياتي الطويلة؛ فقد عاصرت أثناء حياتي حرب السنوات السبع، وانفصال أمريكا عن إنكلترا، والثورة الفرنسية، وجُلّ عصر نابليون، ثم سقوط ذلك البطل، والأحداث التي تلت ذلك. وبالتالي حصدتُ ثمرات وبصيرة تستحيل على الذين وُلدوا الآن وهم ملزمون بتعلُّم جميع هذه الأشياء من الكُتُب، التي لن يستوعبوها.   "لا أستطيع التنبؤ بما ستحمله لنا مُقبل السنوات؛ ولكن أخشى أننا لن نحصل على الراحة في القريب؛ إذ ليس مُقدَّراً لهذا العالم بلوغ الرضا؛ ليست العظمة شيئاً نحصده من سوء استخدام السلطة؛ الجماهير ليست على هذا النحو؛ فعلى أمل التحسُّن التدريجي، سوف ترضى بالحالة المُعتدلة. ولحين يعود بمقدورنا تجويد الطبيعة البشرية، علينا أيضاً توقُّع حالة مثالية للأشياء؛ ولكن، والحال كما هو عليه، سيكون هناك تذبذُب دائم هنا وهناك؛ إذ يجب على جزء أن يعاني في حين يحصل الآخر على السكينة، وستواصل الحسد والأنانية أداء واجبهما مثل شياطين سيئة، وسيستمر النزاع الحزبي بلا نهاية.   "الطريقة الأكثر معقولية هي أن يتبع كل شخص مهنته الخاصة التي وُلِدَ لأجلها، والتي تعلَّمها، وتجنُّب إعاقة الآخرين عن اتباع مهنتهم. دع صانع الأحذية يلتزم بقوالبه، والفلاح بمحراثه، واسمحوا للملك أن يعرف كيف يحكم؛ فهذا أيضاً من الأعمال التي يجب تعلُّمها، والتي لا يجب على من لا يفقه فيها حشر أنفه".   قال غوته في معرض عودته إلى الصحف الفرنسية: "يمكن للليبراليين أن يتكلموا، فعندما يكونون منطقيين، نودُّ سماعهم؛ أما الملكيون الذين في يدهم السلطة التنفيذية- فيجب عليهم القيام بشيء. قد يكون بمقدورهم تسيير الجيوش، وقطع الرؤوس وشنق الناس- كل هذا لا بأس به؛ أما مهاجمة الآراء، وتبرير تدابيرهم الخاصة بقمع المطبوعات العامة، فلا يحقُّ لهم. فإذا كان للملوك شعبية، ربما عليهم أن يدلوا بدلوهم في الكلام.   استمر قائلاً: "بالنسبة لي، كنتُ دائماً ذا نزعة ملكية. تركتُ للآخرين الثرثرة، وفعلتُ ما رأيتُه مناسباً. لقد فهمتُ سبيلي، وعرفتُ هدفي. وإذا ارتكبتُ خطأ باعتباري فردًا، يمكنني إصلاحه بصورة جيدة؛ ولكن في حال اشتركتُ في الخطأ مع ثلاثة أو أربعة آخرين، سيكون من المستحيل النجاح في إصلاحه، فحيث يوجد كثيرون توجد العديد من الآراء".   كان غوته في حالة ممتازة في هذا اليوم. وأراني مجموعة السيدة شبيجل الأدبية، التي نشر ضمنها بعض الأشعار فائقة الجمال. حيث تُرِكت له مساحة خالية في المختارات لفترة استمرت سنتين، وكان فرحاً في قدرته على الإيفاء بهذا الوعد القديم. بعد أن قرأتُ "قصيدة للسيدة شبيجل". تصفحَّتً أوراق الكتاب، الذي ضمَّ العديد من الأسماء المُميّزة. في الصفحة التالية كانت قصيدة للشاعر تيدجه، كتبها بنفس روح وأسلوب عمله "أورانيا". وقال غوته: "أثناء نوبة حماسية، كنتُ على وشك كتابة بعض الأبيات أسفل تلك؛ ولكنني سعيد لعدم القيام بذلك. لم تكن هذه المرة الأولى التي استخدمتُ فيها عبارات طائشة، نفَّرتْ أناساً طيبين، وأفسدتُ تأثير أفضل أعمالي.   "ومع ذلك"، واصل غوته، "اضطررتُ إلى تحمُّل الكثير من قصيدة تيدجه 'أورانيا'؛ ففي تلك الفترة، لم يكن من شيء يتمُّ التغنيّ به أو التلفُّظ به أكثر من قصيدة ’أورانيا’. أينما ذهبتْ، ستجد 'أورانيا' على الطاولة. كانت 'أورانيا' والخلود موضوعا جميع المحادثات. بأي حال من الأحوال، أودّ الاستغناء عن سعادة الاعتقاد في وجود مستقبل مُشرق؛ في الواقع، سأشارك لورينزو دي ميديسي، في قوله، إنَّ من ماتوا في هذه الحياة لا يأملون في أي حياة أخرى. ولكن هذه الأمور غير المفهومة تكمن في مكان بعيد جداً من أن تكون موضوعاً للتدبُّر اليومي، والتأمل الذي يُشتِّت الفكر. اسمحوا لمن يؤمن بالخلود أن يستمتع بسعادته في صمت، فهو لا يملك مُبرراً لإعطاء نفسه مكانة أسمى من الآخرين. قادتني ’أورانيا‘ تيدجه إلى ملاحظة أنَّ التقوى، مثل النبالة، لها أرستقراطيوها. فقد قابلتُ نساء غبيبات، ممَّن طمأنَّ أنفسهن بالاعتقاد، مع تيدجه، في الخلود، واضطررتُ لأن أكون موضع كثير من الاستجواب الكئيب حول هذه النقطة. فقد كانوا محبطين من قولي إنني سأكون غاية السرور، بعد انتهاء هذه الحياة، إذا كنا مُباركين بحياة أخرى، فقط أتمنى ألَّا اضطرَّ في ما يلي ملاقاة واحدٍ من أولئك الذين كانوا يعتقدون في الخلود في حياتنا هذي. حيث سيتوجَّبُ عليّ أن أكون معذباً! إذ من شأن الورعين الاحتشاد من حولي، والقول: "ألم نكن على حق؟ ألم نتوقع ذلك؟ ألم يحدث الأمر مثلما أخبرنا؟". وهكذا، سيكون هنالك ملل لا متناهٍ حتى في العالم الآخر.   "هذا الانشغال بأفكار الخلود"، استمر غوته في الحديث، "هو من نصيب علِّية القوم، وخاصة السيّدات، اللائي ليس لديهنَّ ما يفعلنه. أمّا الرجل القادر، الذي يملك شيئاً منتظماً للقيام به في هذه الحياة، والذي ينبغي عليه الكدّ والكفاح والإنتاج يوماً بعد يوم، فهو يترك مستقبلاً في هذا العالم ذاته، ويكون نشطاً ومفيداً في هذا العالم. هذه الخواطر عن الخلود هي جيّدة لمن لم يحققوا نجاحاً كبيراً في هذه الحياة الدنيا؛ وأودُّ المراهنة أنه إذا كان تيدجه الصالح قد تمتَّع بمصير أفضل، لكان امتلكَ أفكاراً أفضل بالطريقة نفسها".   الخميس 26 فبراير 1824.   تناولتُ وجبة الغداء مع غوته. وبعد إزاحة غطاء المائدة، طلب من ستدلمان إحضار بعض محافظ النحاس ذات الحجم الكبير. كانت طبقة من الغبار قد تجمَّعت على الأغطية، وحيث لم تكن هناك قطعة قماش مناسبة في متناول اليد لإزالتها، استاء غوته كثيراً، ووبَّخ ستدلمان. "للمرة الأخيرة سأخبرك، إذا لم تذهب خلال هذا اليوم لشراء القماش الذي طلبتُه منك مراراً، سأذهب بنفسي في الغد. وسترى أنني سأفي بوعدي". ذهب ستدلمان.   قال غوته: "لقد تكررت الحادثة نفسها مع بيكر، الممثل". وأخبرني في لهجة حية، "عندما رفض تمثيل دور الفارس في مسرحية ’فالنشتاين‘/ حذَّرتُه أنه في حال لم يقم بلعب الدور، سأقوم بنفسي بتمثيله. هذا العمل كان فعَّالاً؛ لأنَّ أهل المسرح يعرفونني جيداً بما فيه الكفاية، ويعلمون أنني لا أسمح بالتهريج في مثل هذه الأمور، وأنني مجنونٌ بما يكفي للوفاء بكلمتي في أي مسالة".    ''وهل قمتَ حقاً بلعب ذاك الدور؟". سألتُه.   "نعم"، قال غوته، "قمتُ بتمثيل دور الفارس، وتفوَّقتُ على السيَّد بيكر أيضاً، لأنني أعرف الدور أفضل منه".   ثم قمنا بفتح المحافظ، وشرعنا في فحص الرسومات والنقوش. في مثل هذه الأمور، يبذل غوته جهداً كبيراً تجاهي، بحيث أرى نيّته في منحي قدراً عالياً من الذكاء في مراقبة أعمال الفنّ. لذا تراه يُظهر لي فقط ما يبلغ الكمال في نوعه، ويسعى لجعلي أتمكَّن من قصد وجدارة الفنان، بحيث أتعلم متابعة الأفضل مما يوجد في الفكر، والشعور بالأفضل. "هذا"، قال غوته، ''هو السبيل لصقل ما نُطلِق عليه الذوق". الذوق هو شيء يمكن الحصول عليه فقط من خلال التأمل، ليس ذاك الجيّد المُحتَمل، بل المُتَفوِّق بصدق. لذلك، أنا أعرض عليك فقط أفضل الأعمال. وعندما تتحصَّل على معرفة تامة بها، سيكون لديك معيار للبقية، وسوف تعرف كيفية تقييمها، دون المُبالغة في تقديرها. وسأريك الأفضل في كل فئة، حتى تدرك أنه لا وجود لفئة يجب تحقيرها، ولكن كُلٌّ واحد منها يمنح البهجة عندما يُحقِّق رجلٌ نابغة درجة سامية في هذه الفئة. على سبيل المثال، هذه القطعة التي تعود لفنان فرنسي، هي من الروعة، لدرجة لن تراها في مكان آخر، وبالتالي هي نموذج في أسلوبها".   قدَّم لي غوته نقشاً، تطلَّعت فيه بفرح. رأيتُ غرفةً جميلة في منزلٍ صيفي، مع أبواب مفتوحة ونوافذ مشرعة على حديقة، يمكن للمرء أن يرى فيها أكثر الأجساد رشاقة. سيّدة مليحة، تبلغ من العمر حوالي الثلاثين، كانت تجلس وهي تحمل في يدها نوتة موسيقية، يبدو أنها كانت تتغني منها توَّاً. بجوارها، قليلاً إلى الوراء، كانت هناك فتاة صغيرة تقريباً في الخامسة عشر من عمرها. خلف النافذة المفتوحة وقفت سيدة شابة أخرى، تحتضن آلة العود، ويبدو من ملامحها أنها لا تزال تعزف عليها. في هذه اللحظة، يدخل شابٌّ مهذب، فتوجّهت نحوه عيون السيدات. ويبدو أنَّ دخوله قد أوقف سريان الموسيقى؛ منحت انحناءته الطفيفة فكرة أنه كان يُبدي اعتذاره، الذي كانت السيدات راضيات بسماعه.    قال غوته: "أظنُّ أنَّ هذه روعة تشبه أعمال كالديرون؛ والآن بعدما رأيتَ الأفضل في هذا النوع، ما رأيك في هذه؟".    مع هذه الكلمات، قدَّم لي بعض نقوش روس، الرسَّام الذي اشتهر بلوحاته عن الحيوانات. كانت جميع النقوش تضُمُّ رسوماً لخِراف، في مواقف ووضعيات متنوعة. تم تمثيل بساطة محياها، وصوفها البشع الأشعث بأقصى قدر من الإخلاص، كما لو كانت الطبيعة نفسها.   قال غوته: "أشعر دائماً بعدم الارتياح، عندما أنظر إلى هذه الوحوش. فهي محدودة جداً في أفقها، بليدة، تُحدِّق ببلاهة، وحالمة، وتثير فيّ هذا النوع من التعاطف، بحيث أخشى أن أكون خروفاً، وعلى ما أعتقد أنَّ الفنان كان عليه أن يكون واحداً منها. ففي جميع هذه النقوش، يبدو أكثر من رائع كيف أنَّ روس كان قادراً على التفكير والشعور بالروح الصميمة لهذه المخلوقات، وذلك بجعل الخصيصة الداخلية تتبدى للعيان بهذه القوة عبر الحجاب الخارجي. هنا سترى ما تستطيع المواهب العظيمة فعله عندما تبقى ثابتة على المواضيع التي تتجانس مع طبيعتها.   فقلتُ: "هذا الفنان، الذي رسم كلاباً وقططاً ووحوشاً ضارية بحقيقة مماثلة؛ ألا يمكنه، مع هذه الهبة العظيمة التي تُمكّنه من افتراض حالة ذهنية أجنبية لنفسه، أن يكون قادراً على وصف الخصيصة الإنسانية بدقة وإخلاص مماثلين؟".   "لا"، قال غوته، "بالنسبة لكل ما يخرج عن مجاله، عدا الحيوانات الأليفة، آكلة الأعشاب، الخراف والماعز والأبقار، وما شابها، لن يكون مرتاحاً أبداً في تكرار رسمها؛ فقد كان هذا ميداناً مخصوصاً لموهبته، لم يغادره خلال مُجمل حياته. وفي هذا الميدان أنجز بجودة. لقد ولد وهو يحمل تعاطفاً مع هذه الحيوانات، ومُنِح هبة معرفة حالتها السيكولوجيّة، ومن ثمّ كانت لديه نظرة حسَّاسة لتكوينها الجسماني. أما المخلوقات الأخرى، فهي ليست مُكتملة الوضوح بالنسبة له، وبالتالي فهو لا يشعر بالنداء ولا الدافع لرسمها".   أحيتْ ملاحظة غوته هذه الكثير مما كان متماثلاً في دواخلي، وطرحتها بحيويتها الكاملة في ذهني. وكان قد قال لي، قبل وقت ليس ببعيد، إنَّ معرفة العالم هي فطرية بالنسبة للشاعر الحقيقي، وهو لا يحتاج إلى كثير خبرة أو مراقبة متنوعة لتمثيلها بشكل مُلائم. "لقد كتبتُ ’غوتز فون بيرليشينغن’، قال غوته: "وأنا شابٌ في الثانية والعشرين؛ وكنتُ مندهشاً، بعد عشر سنوات، من حقيقة تخطيطي. من المعلوم أنني لم أكن قد اختبرتُ أو رأيتُ أي شيء من هذا النوع، وبالتالي كان عليَّ اكتساب معرفة الظروف الإنسانية المتنوعة عن طريق الحدس.   "عموماً، قبل تعرُّفي على العالم الخارجي لم أستغرق سوى في رسم عالمي الداخلي. ولكن عندما وجدتُ، في الحياة الفعلية، أنَّ العالم كان يتطابق في الواقع مع ما كنتُ أحتضنه في خيالي، أصابني هذا بالغيظ، ولم أعد أشعر بالبهجة في تمثيله بالرسم. في الواقع، بإمكاني القول إنني لو كنتُ قد انتظرتُ لحين تعرُّفي على العالم قبل أن أقوم بتمثيله، لكان تمثيلي قد جاء على هيئة ساخرة.   "هناك في كلّ خصيصة"، قال لي في وقت آخر، "ضرورة ما وتسلسل، والذي، جنباً إلى جنب مع هذه الميزة الأساسية أو تلك، يتسبب في ميزات ثانوية. الملاحظة تُعلِّمنا هذه بصورة كافية؛ ولكن لدى بعض الأشخاص ربما تكون هذه المعرفة فطرية. أما إذا كانت الخبرة والفطرة قد اتحدتا داخلي، فهو أمر لن استفسر بشأنه؛ ولكن ما أعرفه، أنه إذا تحدثتُ مع أي رجل لمدة ربع ساعة، سأجعله يتحدث لساعتين".    تحدَّث غوته بصورة مماثلة عن اللورد بايرون، من حيث أنَّ العالم كان شفافاً بالنسبة له، وأنَّ بإمكانه الرسم مُستَخدماً الحدس. عبّرتُ عن بعض الشكوك حول ما إذا كان بايرون - على سبيل المثال- سوف ينجح في رسم جوهر حيوان من مرتبة أدنى، لأنَّ شخصيته تبدو لي من القوة بحيث يصعب عليه أن يمنحها، بأيّ من درجات الميل، لمثل هكذا موضوع. اعترف غوته بذلك، وأجاب قائلاً، إنَّ ملاحظتنا للاشياء تمضي فقط إلى حيث الأشياء تُماثل للموهبة؛ واتفقنا على أنه بقدر ما يتقيَّد الحدس أو يتمدد، يكون نطاق الموهبة التي تقوم بالتمثيل أكبر أو أصغر.     قلتُ: "إذا كنتَ يا صاحب السعادة قد أكَّدتً على أنَّ العالم فطري بالنسبة للشاعر، فإنك تقصد بالطبع العالم الداخلي فقط، وليس العالم التجريبي للمظاهر والأعراف؛ وإذا كان بمقدور الشاعر تقديم تمثيلٍ ناجحٍ لهذا أيضاً، فإنَّ التحقيق بخصوص الواقعي سيكون بالتأكيد مطلباً أساسياً".      "بالتأكيد"، أجاب غوته، "وهو كذلك؛ إنَّ منطقة الحبّ والكراهية والأمل واليأس، أو أيَّاً ما تطلقه على طبائع وعواطف الروح، هي فطرية في نفس الشاعر، وهو ينجح في تمثيلها. إلا أنه لا يُولد وهو يعرف بالغريزة كيف تُعقد المحاكم أو كيف يدار البرلمان أو مراسم التتويج؛ وإذا لم يسيء إلى الحقيقة، في الوقت الذي يُعالج فيه مثل هذه المواضيع، وجب عليه أن يلجأ إلى الخبرة أو التقاليد. وهكذا، استطعتُ في مسرحية "فاوست"، باستخدام الحدس، معرفة كيف يمكنني وصف ضجر بطلي الكالح من الحياة، والعواطف التي يثيرها الحبّ في قلب غريتشن؛ ولكن الأبيات التالية تتطلَّب بعض الملاحظات حول الطبيعة".   يالها من كآبة، تلك التي يصنعها القرص الناقص   للقمر الأخير مع التوهج الرطب الناشيء.   "ومع ذلك"، قلتُ، "كل سطر من ’فاوست‘ يحمل علامات، إن لم أكن على خطأ، على دراسة متأنية للحياة والعالم؛ بحيث ليس بمُستطاع أحد أن يفترض، ولو للحظة، بخلاف أنَّ مُجمل العمل هو نتيجة تجربة واسعة".    "ربما الأمر كذلك"، أجاب غوته؛ "ومع ذلك، ما لم يكن العالم موجوداً بالفعل في روحي من خلال الحدس، كان سيُفتَرَض عليَّ البقاء أعمى حتى مع عيني المُبصرة، وكان على جميع الخبرات والمُلاحظات أن تكون بمثابة عملٍ ميَّتٍ، وغير مُنتج. الضوء يوجد في الخارج، والألوان تُحيط بنا، ولكن ما لم يكن لدينا ضوء أو ألوان داخل أعيننا، لن يكون بمقدورنا إدراك الظواهر الخارجية".   السبت، 28 فبراير 1824.   قال غوته إنَّ هناك رجالاً على درجة عالية من الامتياز، لا يستطيعون القيام بأي شيء مُرتجل، أو سطحي، لأنَّ طبيعتهم تتطلب منهم التغلغل بهدوء وعمق في كل موضوع يؤخذ بمتناول يدهم. تجعلنا مثل هذه العقول، في كثير من الأحيان، نافذي الصبر، لأننا نادراً ما نحصل منهم على ما نريده في اللحظة التي نريد؛ ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يتم بها إنجاز أنبل المهام".      أدرتُ دفة الحديث إلى رامبرغ. حيث قال غوته: "إنه فنان من طابع مختلف تماماً، وهو من أكثر المواهبة حيوية، وإنْ كان لا مثيل لقدرته على الارتجال. لقد طلب مني في درسدن أن أمنحه موضوعاً، فحدَّثته عن أغا ممنون لحظة عودته من طروادة، حين يترجَّل من عربته الحربية ويلمس عتبة منزله، مصاباً بشعورٍ كئيب. وستوافق معي أنَّ هذا الموضوع ذو طبيعة صعبة، ومع فنان آخر، لكان قد طالب بتداول أكثر تفصيلاً، ولكن قبل أن أكمل حديثي، كان رامبرغ قد شرع في الرسم. وبالفعل، شعرتُ بالإعجاب من أنه التقط على الفور موضوعه بشكل صحيح. ولا أستطيع إنكار أننى أرغب فى امتلاك بعض رسومات رامبرغ".    تحدثنا بعد ذلك عن فنانين آخرين، ممن شرعوا يعملون بطريقة سطحية، وبالتالي تحوّلت أعمالهم إلى نزعة أسلوبية.    قال غوته إنَّ "الأسلوبية في حالة توق دائم لإنجاز العمل، بحيث لا تتمتع بالصدقية أثناء إنجاز العمل. ومن ناحية أخرى، تجد الموهبة الحقيقية العظيمة أعظم سعادتها في التنفيذ. عمل روس بصورة دؤوبة في رسم شعر وصوف ماعزه وأغنامه، وترى من خلال تفاصيله اللانهائية أنه يتمتع بسعادة كبيرة في أداء عمله، وأنه لا يرغب في وضع حدٍّ له.   "المواهب الرديئة لا تستمتع بالفن من أجل ذاته: بحيث لا تضع نصب أعينها أثناء إنجازها العمل شيئًا سوى الربح الذي يأملون في تحصيله من العمل. مع مثل هذه الآراء والميول الدنيوية، لم يُنتَج شيء عظيم في أيّ من الأزمنة السابقة".   الأحد، فبراير 29، 1824.   ذهبتُ إلى منزل غوته، حوالي الثانية عشرة، وكان قد دعاني إلى التنزُّه قبل تناول وجبة الغداء. وجدتُه يتناول وجبة الإفطار عندما دخلتُ، فاتَّخذتُ مقعدي قبالته، وحولت المحادثة نحو تلك الآثار التي تشغل تفكير كِلينا بخصوص الطبعة الجديدة لأعماله. وكنتُ قد نصحته بإدراج كل من "آلهة، أبطال، وويلاند" و"رسائل القسّ" في هذه الطبعة الجديدة.   قال غوته: "لا أستطيع حسب وجهة نظري الحالية أن أحكم بشكل سليم على جدارة إنتاجات الشباب. ربما إذا رغبتم بإمكانكم أن تقرروا. لكنني لا ألوم تلك البدايات؛ في الواقع، كنت أحيا في الظلام، أكافح، بلا وعي من أجل ما كنتُ أسعى إليه بجدية؛ ولكن كان لي حِسٌّ بالصواب، صولجان إلهي، دلَّني على حيث يمكنني العثور على الذهب".    لاحظتُ أنَّ هذا ما يجب أن يكون عليه الحال مع جميع المواهب العظيمة، وإلا، وعلى خلاف ذلك، حينما تستيقظ في عالم مختلط، لن تتمكَّن من إدراك الحق وتجنُّب الخطأ.   في هذا الوقت، تم سرج الخيول، وانطلقنا متجهين صوب يينا. تحدثنا حول مواضيع مختلفة، وذكر غوته آخر ما تقوله الصحف الفرنسية. حيث قال: "ينتمي دستور فرنسا إلى شعب يحتضن في داخله الكثير من عناصر الفساد، وهو يقوم على أسس مختلفة تماماً عن الدستور الإنجليزي. كل ما يحدث في فرنسا يتم عن طريق الرشوة، بل إنَّ مجمل الثورة الفرنسية كانت موجهة بهذه الوسائل".   ثم تحدث عن وفاة يوجين نابليون (دوق ليوشتنبرغ)، الذي وصلت أخباره ذلك الصباح، حيث بدا بالغ الحزن. "كان واحداً من تلك الشخصيات العظيمة"، قال غوته، "التي أصبحت أكثر وأكثر ندرة؛ لقد أصبح العالم مرةً ثانية أكثراً فقراً بسبب غياب رجل مهم. كنتُ أعرفه بصورة شخصية؛ ففي الصيف الماضي كنتُ معه في مارينباد. كان رجلًا وسيم الطلعة، في حوالي الثانية والأربعين، على الرغم من أنه يبدو أكبر سناً، وهو أمر لا يبدو مُدهشاً عندما نستدعي إلى الذهن كلّ ما مر به خلال مسيرة حياته، وكيف كانت الحملات والاتفاقيات ضاغطة باستمرار على حياته. أخبرني في مارينباد بإسهاب عن خطة لربط نهر الراين مع نهر الدانوب، عن طريق قناة- وهو مشروع عملاق، عندما نمعن النظر في العقبات التي تطرحها جغرافيا المنطقة. ولكن مع رجل خدم تحت إمرة نابليون، وشاركه في هزّ ثوابت العالم، لا شيء يبدو مستحيلاً. كان لدى تشارلمان نفس الخطة، حتى أنه شرع في التنفيذ، لكنه سرعان ما وصل إلى طريق مسدود. حيث لم تستطيع الرمال الصمود، وكان الركام يسقط باستمرار على كلا الجانبين".   الاثنين، 22 مارس، 1824.   هذا اليوم، قبل موعد الغداء، ذهبت مع غوته إلى الحديقة.   تقع هذه الحديقة على الجانب الآخر من نهر إيلم، بالقرب من المنتزه، على المُنحدر الغربي من التلَّة، الشيء الذي يعطيها مظهراً شديد الجاذبية. الحديقة محمية من الرياح الشمالية والشرقية، لكنها مفتوحة على التأثيرات المُبهِجة للجنوب والغرب، ما يجعلها مسكناً شديد المُتعة، وخاصة في الربيع والخريف.   أمَّا المدينة، التي تقع على الشمال الغربي، فهي قريبة بحيث يمكن للمرء بلوغها في بضع دقائق، ومع ذلك إذا تلفَّت المرء حوله، فلن يرى في أيّ مكان سقوف مباني، أو حتى أبراج، تُذكّره بهذا القرب؛ لأنَّ أشجار الحديقة الطويلة والمزروعة بكثافة تُغطّي كل ما يقع على الجانب الآخر. تمتد الحديقة التي تحمل اسم "النجمة"، يساراً، ناحية الشمال الجغرافي، على مقربة من طريق المركبات، الذي يبتديء من الحديقة مباشرة.    نحو الغرب والجنوب الغربي، ينفتح المشهد على مرج واسع، من خلاله، على مسافة إطلاق قوس من سهمه، تعبر الرياح نهر إيلم بصمت. ترتفع حافة النهر على الجانب الآخر مثل تلة؛ على القمة والجانبين يمتدُّ متنزَّهٌ فسيح، تكسوه أوراق مُختلطة لأشجار النغت والمُران والحور والبتولا، التي تُحيط بالأفق على مسافة معقولة ناحية الجنوب والغرب.   يمنح منظر الحديقة أعلى المرج، وخاصة في الصيف، شعوراً وكأن المرء قرب أجمة تمتد ملتوية لمسافة فراسخ. ويعتقد أنَّه مع كل لحظة تمضي ستلوح للعين ظبية تقفز على المروج. وهنا يشعر المرء وكأنه مغروسٌ بسلام في وحشة الطبيعة القاتمة، بسبب الصمت غير المنقطع في الغالب، إلا من نغمات الشحرور المنفردة، أو أغنية معلقة في كثير من الأحيان لطائر السمَّان.     وبينما نحن في حلم العزلة العميقة، أيقظنا قرع ساعة البرج، وصراخ طواويس الحديقة، أو طبول وأبواق الجيش في الثكنات. لم يكن هذا بالأمر المزعج. فمثل هذه النغمات تُذكِّر المرء بمدينة حميمة في الجوار، يتوهم المرء أنه بعيد عنها أميال كثيرة.   في بعض المواسم، تنقلب هذه المروج نقيضاً للوحدة. حيث يشاهد المرء في بعض الأحيان القرويين يذهبون إلى فايمار للتسوُّق، أو العمل، ثم يقفلون عائدين؛ وأحياناً ترى متسكعين من جميع الأنواع يتمشّون على طول انحناءات نهر إيلم، وخاصة في الاتجاه الصاعد نحو فايمار العليا، التي تزدحم بالزوار في أيام معينة من السنة. كذلك، يقوم موسم الحشائش بنفخ الروح في المشهد بشكل متناغم. في الأرض الخلفية، يرى المرء قطعان من الخِراف ترعي، وأحياناً تتحرك بفخامة؛ كما نشاهد البقر السويسري للمزرعة المجاورة.   ومع ذلك، لم يكن هناك أيّ أثر لهذه الظواهر الصيفية، التي تنعش الحواس. على المروج، يمكنك مشاهدة بعض البقع الخضراء؛ لكن ليس لدى أشجار الحديقة ما تتباهى به سوى الأغصان ذات اللون البُنّي والبراعم. ومع ذلك فإنَّ أصوات عصفور الدوري، وأغنيات الشحرور والسمَّان المتقطعة، كانت تصدح مُعلنة مجيء الربيع.    كان الجو لطيفاً وصيفياً؛ والرياح الجنوبية الغربية المعتدلة تهبّ. وكانت هناك سُحب رعدية صغيرة ومعزولة تعبر على طول السماء الصافية. وهناك في الأعلى قد يلاحظ المرء خيوطاً متناثرة من السحب البضاء. راقبنا السحب بدقة، ورأينا أنَّ الغيوم الضخمة للمنطقة السفلى كانت مُتفرَّقة كذلك؛ ومن ذلك استنتج غوته أنَّ مقياس الضغط الجوي سيرتفع.     ثم تحدث غوته بإسهاب عن ارتفاع وهبوط البارومتر، الذي وصفه مُستخدماً الزيادة في المياه ونقصانها. وتحدث عن عمليات استنشاق وزفير الأرض، وفقاً للقوانين الأبدية؛ وعن الطوفان المحتمل، في حال استمرت "زيادة المياه". بجانب ذلك، تحدث قائلاً، إنه رغم امتلاك كل مكان لمناخه الخاص، فإنَّ مقياس الضغط الجوي في جميع أنحاء أوروبا متّحد بصورة كبيرة. كذلك تحدَّث عن أنَّ الطبيعة غير قابلة للقياس، وبسبب شذوذها الكبير هذا، كثيراً ما صعب على الناس معرفة قوانينها.     في أثناء تثقيفه إيّاي بهذه المواضيع الهامة، كنا نسير صعوداً وهبوطاً في الحديقة على ممشى واسع مفروش بالحصى. وعند اقترابنا من المنزل، نادى الخادم لفتح البوابة، حيث أراد أن يريني البيت من الداخل. كانت الجدران البيضاء مُغطاة بشجيرات الورد، التي نمت على تعريشات وصلت حتى السطح. درتُ حول المنزل، وشاهدتُ باستمتاع عدداً كبيراً من أعشاش الطيور، من مختلف الأنواع، موجودة على فروع شجيرات الورد الموجودة في مكانها هناك منذ الصيف السابق، والآن بسبب أنَّ الشجيرات عارية من الأوراق، أصبحت مبذولة لتراها العين. كم كان استثنائياً مُشاهدة كيف أنَّ أعشاش طائر حسُّون التفاح وأنواعًا مختلفة من عصفور الشوك، قد بُنيت عالية أو منخفضة وفقاً لعادات الطيور.     بعدها، أخذني غوته داخل المنزل، الذي لم أره منذ الصيف الماضي. في الطابق الأدنى، وجدتُ غرفة واحدة فقط قابلة للسكن، عُلَّقت على جدرانها خرائط ونقوش، إلى جانب بورتريه لغوته، في حجم كبير بعظمة الحياة، رسمه ماير بعد وقت قصير من عودة الصديقين من إيطاليا. يظهر غوته في اللوحة وهو في قمَّة قوَّته ورجولته، شديد السُمرة، وبالأحرى شجاعًا. لم يكن التعبير المرسوم على محياه شديد الحيوية، لكنه شديد الجدِّية؛ ويبدو وكأنَّ المرء يتطلَّع نحو رجل يكمن في عقله ثِقل مآثر المستقبل.    صعدنا الدرج إلى الغُرف العليا. حيث توجد ثلاث غُرف، إحداها صغيرة الحجم. ولكن في العموم، كانت كلها صغيرة جداً، وغير مريحة. قال غوته إنه أمضى في السنوات السابقة جزءاً كبيراً من وقته بسرور في هذا المكان، حيث كان يعمل بهدوء شديد.   كانت هذه الغرف باردة نوعاً ما، لذا عدنا إلى الهواء الطلق، الذي كان معتدلاً. وبينما نسير صعوداً وهبوطاً على الطريق الرئيسي، تحت شمس الظهيرة، تحوَّل مدار حديثنا إلى الأدب الحديث، وشيلينغ، وبعض مسرحيات الكونت بلاتن الجديدة.   سرعان ما عدنا إلى الحديث عن المواضيع الطبيعية. كانت أزهار تاج القيصر والزنابق قد نمت بالفعل، كما كانت الخبيزة على جانبي الحديقة شديدة الاخضرار.   الجزء العلوي من الحديقة، عند مُنحدر التل، كان مفروشاً بالعشب، ويوجد هنا وهناك عدد قليل من أشجار الفاكهة. امتدَّت المسارات على طول القمّة، ثم استدارت عائدة نحو الأسفل؛ الشيء الذي أيقظ فيّ الرغبة في الصعود والبحث عن نفسي. غوته، الذي صعد هذه المسارات من قبل، سبقني مُتقدماً، وكنتُ فرحا لرؤيته بهذا النشاط.   في الأعلى وجدنا سياجاً يضمُّ إناث الطاووس، التي يبدو أنها آتية من حديقة الأمير. وأشار غوته إلى أنه كان مُعتاداً في فصل الصيف المجيء وجذب الطواويس بأن يقدم لها الطعام الذي تحبه.   وأثناء نزولنا على مسار متعرج على الجانب الآخر من التلّ، وجدتُ حجراً، تحيط به الشجيرات، نُقشت على سطحه أبيات هذه القصيدة المعروفة:   "هنا في الصمت فكَّر الحبيب مليَّاً في محبوبه".   وشعرت كما لو كنتُ أقف على أرضٍ كلاسيكية.   هناك بالقرب دغل كثيف لأشجار نصف نامية تتكون من السنديان، والتنوب، والبتولا، وأشجار الزان. أسفل التنوب، وجدت علامات تشير لوجود طيور جارحة. وبعدما أريتها لغوته، قال إنه كثيراً ما رأى مثلها في هذا المكان. من هذا استنتجتُ أنَّ هذه التنوب كانت مسكناً مُفضَّلاً لبعض أنواع البوم، التي كثيراً ما شُوهِدت في هذا المكان.    اجتزنا الدغل، لنجد أنفسنا مرة أخرى على الطريق الرئيسي بالقرب من المنزل. كانت أشجار السنديان، والتنوب، والبتولا، والزان، التي اجتزناها للتوّ، متشابكة معاً، وتُشكِّل نصف دائرة في هذا المكان، أو قوساً يشبه مغارةً في هذا الفضاء الداخلي، حيث جلسنا على كراسي صغيرة، وُضِعت حول طاولة مستديرة. كانت الشمس شديدة السطوع، ورغم ذلك كان ظلُّ هذه الأشجار عديمة الورق مُناسباً. "أنا أعرف"، قال غوته، "لا ملجأ أفضل، من سخونة الصيف، من هذه البقعة. فقبل أربعين عاماً زرعتُ كل هذه الأشجار بيدي. وكان من دواعي سروري مشاهدتها تنمو، حيث أستمتع منذ فترة طويلة بظلها المُنعش. ولأنَّ أوراق شجر هذه السنديان والزان منيعة من أشعة الشمس القوية، أحبُّ في أيام الصيف الحارة الجلوس هنا بعد الغداء؛ حيث في كثير من الأحيان يسودُ نوعٌ من السكون في هذه المروج ومجمل الحديقة، يماثل ما أطلق عليه القدماء "سُبات الإله بان".    سمعنا أجراس ساعة المدينة تعلن عن الساعة الثانية، فعدنا إلى المنزل.   الثلاثاء، 30 مارس، 1824   هذا المساء، كنتُ وغوته وحيديْن في منزله. تحدثنا حول مواضيع مختلفة، وشربنا قنينة من النبيذ. تحدثنا عن الدراما الفرنسية، وكيف أنها تقف على النقيض من نظيرتها الألمانية.   وقال غوته: "سيصعب جداً على الجمهور الألماني أن يصل لنوع من الحكم الصحيح، مثلما يفعل الجمهور في إيطاليا وفرنسا، فهناك عقبة ظرفية تخصنا، حيث تقوم خشبة المسرح عندنا بعرض مزيج من كل الأنواع. ففي المجالس نفسها، حيث شاهدنا هاملت بالأمس، سنشاهد ستابيرل (شخصية مسرحية هزلية) في اليوم التالي، وإذا عُدنا غداً سنسعد بأوبرا ’الناي السحري‘، وفي اليوم التالي سوف نكون مسحورين مع غرائب مخلوق محظوظ آخر. بالتالي، يصبح الجمهور مشوشاً في حكمه، حيث يجمع بين مختلف الأنواع التي لن يتعلم حقيقتها بطريقة تسمح له بتقديرها وفهمها. علاوة على ذلك، لدى كلّ واحد مطالبه الفردية ورغباته الشخصية، وبالتالي يعود إلى المكان حيث يجدها مُشخَّصة. فإلى الشجرة التي قطف منها ثمرة التين اليوم، سيعود مرة أخرى في الغد، وسيعلو الإحباط وجهه إذا وجد برقوقة نمت بدلاً عنها خلال ساعات الليل. أما الشخص الذي يحب البرقوق، فسيذهب إلى الأشجار الشوكية.   "كان لدى شيلر هذه الفكرة الجذلة الخاصة ببناء مكان مُخصَّص للتراجيديا فقط، وإعطاء قطعة أرض في كل أسبوع للذكور فقط. لكن هذا المفهوم يفترض مسبقاً مدينة كبيرة جداً، ولا يمكن تحقيقها بوسائلنا المتواضعة".   تحدثنا عن مسرحيات إيفلاند وكوتزيبو، التي أثنى غوته على أسلوبها. "بسبب هذا الخطأ الفادح، لا يستطيع الناس التمييز بإتقان بين ضروب الفنون، أما أعمال هؤلاء الرجال، فهي تتعرَّض في كثير من الأحيان للرقابة ظُلماً. وقد ننتظر وقتاً طويلاً قبل أن يأتي اثنان يملكان مثل هذه المواهب الشعبية مرة أخرى".   أشدتُ بمسرحية إيفلاند "العجوز الأعزب"، والتي سعدتُ للغاية بمشاهدتها على المسرح. وقال غوته: "إنها بلا شك أفضل أعمال إيفلاند. "الوحيدة التي تجاوزت النثر إلى الخيال".   أخبرني بعدها عن عملٍ، انتوى هو وشيلر أن يكون بمثابة استمرار لمسرحية إيفلاند "العجوز الأعزب"؛ وذلك في أثناء محادثة ضمّتهما، لكن دون أن يقوما بتدوين ذلك على الورق. كما حدثني غوته عن التقدم في عملهما هذا منتقلاً مشهداً تلو مشهد؛ كان أمراً بالغ اللطف والبهجة، ومنحني فرحة كبيرة.   ثم تحدث غوته عن بعض مسرحيات أوغست بلاتين الجديدة. "في هذه الأعمال"، قال: "نرى تأثير كالديرون. فهي شديدة الذكاء، وبمعنى ما، كاملة؛ لكن ينقصها الثقل النوعي، ثقل وجود مغزى ما. كما أنها ليست من النوع الذي يثير في ذهن القارئ اهتماماً عميقاً دائمًا؛ وعلى العكس من ذلك، تلمس شغاف الروح ولكن بخفة عابرة. مثل قطعة الفلين التي، عندما تسبح في الماء، لا تترك انطباعًا، ولكن من السهل الحفاظ عليها تسبح على السطح.   "تتطلَّب الألمانية جديّة ما، وعظمة معينة للفكر، وامتلاء من نوع ما للمشاعر. وعلى هذا الأساس نجد شيلر مُبجلاً جداً من قبل الجميع. لا أشكك في قدرات بلاتين؛ ولكن، ربما بسبب وجهات نظر خاطئة للفن، لم تستطيع أن تتجلى في المانيا. فهو يظهر ثقافة متميزة، وفكراً، وذكاءً نفاذاً، وكمالاً فنيّاً؛ ولكن هذه، لا سيما في ألمانيا، ليست كافية.   "وفي العموم، تؤثِّر السمات الشخصية للكاتب على الجمهور أكثر من مواهبه كفنان. فقد قال نابليون عن بيير كورني، "لو كان حيَّاً، لقلَّدته منصب الأمير"، هذا رغم أنه لم يقرأ له قط. في حين أنه قرأ راسين، دون أن يمنحه مثل هذا الحديث. لافونتين أيضاً، ينظرُ إليه الفرنسيون بدرجة عالية من التقدير، ليس بسبب مزاياه الشعرية، ولكن لعظمة الشخصية التي أظهرها في كتاباته".   ثم تحدثنا عن روايته "التجاذب الاختياري". حيث أخبرني غوته عن رجل إنجليزي مُتجوّل، كان يفترض أن يكون مُنفصلاً عن زوجته عندما يعود إلى إنجلترا. ضحك على مثل هذه الحماقة، وأعطاني عدة أمثلة عن أشخاص منفصلين، لكن بعد ذلك لم يستطيعوا ترك أحدهما الآخر.   وأردف قائلاً: "كثيراً ما سألني الراحل راينهارد متعجباً، كيف أملكُ مثل هذه المبادئ الصارمة بخصوص الزواج، بينما كنتُ متسامحاً جداً في كل شيء آخر".   تعبير غوته هذا كان لافتاً للنظر بالنسبة لي، لأنه أظهر بوضوح ما قصده حقاً من قبل عنما تحدث كثيراً عن إساءة فهم عمله (''التجاذب الاختياري").   ثم تحدثنا عن لودفيغ تيك، وعلاقته الشخصية مع غوته.   وقال غوته: "أكنُّ مشاعر عظيمة ناحية تيك"؛ وأعتقد أنه، على وجه العموم، حسُن النية تجاهي. ولكن، هناك شيء ليس كما يُرام في علاقته بي. هذا الخطأ لا يأتي من ناحيتي أو ناحيته، ولكنه يعود لأسباب دخيلة تماماً.   ''عندما بدأ الأخوة شليجل في صنع مكانة لأنفسهم، كنتُ في موضع قوي جداً بالنسبة لهم. ولتحقيق ترجيح معي، اضطروا للبحث عن رجلٍ ذي موهبة يضعونه في تعارض معي. ووجدوا هذه الموهبة لدى تيك. وبالتالي، عندما وضعوه على النقيض منّي، بدا ذا أهمية كبيرة في نظر الجمهور، وأضطروا حينها لإعطائه أكثر مما يملك. أدى ذلك إلى إنزال الضرر بعلاقتنا المتبادلة؛ فبالنسبة لتيك، دون أن يكون على وعي صائب بنفسه، وُضِع في موقف كاذب في ما يتعلق بي.   "تيك هو رجل يمتلك موهبة فائقة الأهمية، ولا يمكن لأحد أن يكون أكثر حساسية منّي بخصوص مزاياه الاستثنائية؛ فقط عندما يرفعونه لمكانة تفوقه، ويضعونه في مستوى واحد معي، سيكونون على خطأ. يمكنني الحديث بصراحة حول هذا الأمر، لا يهمني، لأنني لم أصنع نفسي. قد أقارن نفسى فقط مع شكسبير، الذي لم يصنع نفسه بنفسه أيضاً، وهو مع ذلك كائن من رتبة أعلى، يجب أن يكون هو من أطمح نحوه بخشوع".   هذا المساء، كان غوته ممتلئاً بالطاقة والمرح. جلب بعضاً من مخطوطات قصائده وقرأها بصوتٍ عالٍ. جلب لي سماعه سروراً من نوع خاص، إذ ليست فقط قوة القصيدة الأصلية ونضارتها هي ما أثارت حماستي بدرجة عالية، ولكن غوته نفسه، بأسلوبه في قراءتها،  قدَّم لي جانباً عن نفسه غير معروف حتى الآن، رغم أهميته الشديدة. يا لها من تنويعة وقوة تلك الموجودة في صوته! يا لها من حياة وتعبير في محياه النبيل، كامل التجاعيد! ويا لها من عيون!   الأربعاء، 14 أبريل، 1824.   خرجنا للتمشَّي غوته وأنا. وناقشنا خلال ذلك أساليب كُتَّاب مختلفين.   "في العموم"، قال غوته، "التأملات الفلسفية أصابت الألمان في مقتل، لأنها تميل إلى جعل أسلوبهم غامضًا وصعبًا، ومبهمًا. كل ما قوي ارتباطهم ببعض المدارس الفلسفية، ساءت كتابتهم. أما أولئك الألمان، المهتمون بشؤون الأعمال والحياة الفعلية، فقد حجزوا لأنفسهم كتابة عملية وذات جودة. بحيث يكون أسلوب شيلر أكثر نبلاً وإثارة للإعجاب كلما نأى عن التفلسُف، وهو الأمر الذي ألاحظه يومياً في رسائله شديدة المتعة، التي أنا مُنشغل بها حالياً.   "هناك أيضاً بين النساء الألمانيات، كائنات تكتب بأسلوب ممتاز حقاً، وفي الواقع، في هذا الصدد يتجاوزن العديد من كتابنا الذكور المشهورين.   "الإنجليز دائماً ما يكتبون بصورة جيدة؛ لأنهم وُلِدوا عمليين ومُفوَّهين، مع ميل نحو الحقيقي.   "الفرنسيون، بدورهم، لا يزالون على صواب في طابعهم العام، وهم ذوو طبيعة اجتماعية، وبالتالي لا ينسون أبداً الجمهور الذي يخاطبونه، بل يسعون جاهدين ليكونوا واضحين، بحيث يقنعون القارئ- ولطيفين، حتى يُعجب بهم.   "إجمالا، فإنَّ أسلوب الكاتب هو تمثيل مُخلص لعقله، لذا، متى رغب رجلٌ في الكتابة بأسلوب واضح، عليه في البدء أن يكون واضحاً في أفكاره؛ وإذا أراد أن يكتب بأسلوب نبيل، عليه أولاً امتلاك روحٍ نبيلة".   من ثمّ تحدَّث غوته عن خصومه كسُلالة لن تنقرض أبداً. حيث قال إنَّ"عددهم بمثابة فيلق، ولكنهم يقعون ضمن درجة من التصنيف: أولاً، هناك خصومي من الأغبياء،- أولئك الذين لم يفهموا شخصيتي، وعثروا مع ذلك على عيوب فيّ دون معرفتي. هذه الجماعة كبيرة العدد أرهقتني كثيراً خلال مسيرة حياتي، ولكن يجب أن يُغفر لهم، لأنهم لا يدركون ما قاموا به.   "تتألف الفئة الثانية الكبيرة من أولئك الذين يحسدونني. وهذا الحقد سببه حظوظي وحالتي الجليلة التي حققتها بسبب مواهبي. تراهم ينتفون شهرتي، ويرغبون في تدميري. لكن في حال كنتُ فقيراً وبائساً، فسوف يهاجمونني لا أكثر.   "هناك العديد ممّن أصبحوا خصومي، فقط لأنهم انهزموا في أنفسهم. ضمن هذه الفئة هناك رجال من أصحاب الموهبة الرائعة، لكن لا يمكنهم غفران أنني ألقيتُ بهم في الظلال.   رابعاً، هناك خصومي ممّن هم على صواب. أنا إنسان، وبهذه الصفة لديَّ أخطاء وعيوب بشرية، بالتالي لن تخلو كتابتي من وجود هذه الأخطاء. ومع ذلك، لأنني عازم باستمرار على تحسين نفسي، والسعي الدائم لرفع نفسي إلى مرتبة النبلاء، كنتُ في حالة من التقدم المستمر، وكثيرا ما حدث أنهم ألقوا باللوم عليَّ بسبب الأخطاء التي تركتها ورائي منذ فترة طويلة. لقد أصابني هؤلاء الناس أقلّ من غيرهم، لأنهم أطلقوا النار عليّ، بينما أنا على بعد أميال بعيدة. عموماً، عندما أنتهي من عملٍ ما، يصبح غير مهماً بالنسبة لي؛ لن يعود يشغل بالي، بل أشغل نفسي بخطة جديدة.   ''فئة كبيرة أخرى تضم أولئك الذين يأتي خصامهم بسبب اختلافهم عني في وجهات النظر وطرق التفكير. يُقال بخصوص أوراق الشجرة، أنك لن تجد اثنتين متشابهتين تماماً، بالتالي، بين ألف رجل، من النادر أن تجد اثنين، ينسجمان تماماً في وجهات نظرهم وطرق التفكير. بوضع هذا في الاعتبار، فإنَّ وجود الكثير من المعارضين سيكون أقلّ إدهاشاً من امتلاكي لكثير من الأصدقاء والأتباع. كانت ميولي تتعارض مع ميول من عاصرتهم، التي كانت ذاتية تماماً؛ بينما في جهودي الموضوعية، وقفتُ وحيداً إزاء عوائقي.   "كان شيلر، في هذا الصدد، ذا فائدة كبيرة بالنسبة لي، وبالتالي، قدَّمت لي بعض المفاهيم العامة ذات النوايا الحسنة وضوحاً كيما أفهم أنه يجب عليّ أن أكتب مثل شيلر. استجبتُ وقمتُ بتحليل مزايا شيلر، لأنني أعرفها أفضل منه. مضيتُ بهدوء قُدماً على طريقتي الخاصة، ولم أقلق نفسي بالنجاح، وأخذتُ بأقل قدر ممكن من ملاحظات خصومي".   عدنا، وقضينا وقتاً لطيفاً على مائدة الغداء. تحدثت فراو فون غوته عن برلين، حيث كانت هناك مؤخراً. وتحدثت بحميمية خاصة عن دوقة كمبرلاند، التي أظهرت لها الكثير من اللطف. تذكَّر غوته هذه الأميرة باهتمام خاص، حيث قضت جزءاً من سنوات صباها مع والدته.   في المساء، حظيتُ بمتعة موسيقى رفيعة المستوى في منزل غوته، حيث قام بعض المُغنين، تحت إشراف إبيروين، بأداء جزء من مقطوعة "المسيح" لهاندل. انضمت الكونتيسة كارولين فون إغلوفستين وفراولين فون فرويب مع مدام فون بوغويش ومدام فون غوته إلى المطربات الإناث، ومن ثم أشبعن بلطف التمنيات التي كان غوته قد أسرَّاها منذ فترة طويلة.   جلس غوته على مسافة، مُستغرقاً بالكامل في الاستماع، وممتلئاً في هذه الأمسية السعيدة بالإعجاب بهذا العمل النبيل.   الاثنين، 19 أبريل، 1824.   زارنا اليوم، أعظم فقيه لغة في عصرنا، فريدريش أوغست وولف، من أهالي برلين، وهو في طريقه نحو جنوب فرنسا. وعلى شرفه، قدم غوته دعوة غداء لأصدقائه في فايمار، حيث حضرها المشرف العام رور، المستشار فون مولر، مدير البنية الفوقية كودراي، البروفيسور ريمر، وهوفراث رحبين، وشخصي. كانت المحادثة شديدة الحيوية. كان وولف ممتلئاً بالملاحظات البارعة، في حين أخذ غوته دور الخصم الدائم بطريقة دمثة. لاحقاً، أخبرني غوته: "لا أستطيع، في كل مرة التقي فيها وولف، ألّا افترض فيه شخصية ميفيستوفيلس (الشيطان الذي أغرى فاوست)، لا شيء يبرز كنوزه الخفية أكثر من ذلك".   كانت المُلاحظات البارعة في المائدة سريعة الزوال، ووليدة اللحظة، بحيث أنتجت تكرارات. كان وولف شديد العظمة في التفاتاته البارعة وبديهته الحاضرة، ولكن مع ذلك بدا لي أنَّ غوته حافظ دائماً على تفوق ما عليه.    طارت الساعات على المائدة كما لو كانت تملك أجنحة، وجاءت الساعة السادسة دون أن نلحظ ذلك. ذهبتُ مع غوته الابن إلى المسرح، حيث شاهدنا أوبرا "الناي السحري". بعدئذٍ رأيتُ وولف في المقصورة مع الدوق الكبير كارل أغسطس.   ظلَّ وولف في فايمار حتى يوم 25 من الشهر، حيث سافر متجهاً صوب جنوب فرنسا. لم تكن حالته الصحية على ما يُرام، حيث لم يخف غوته قلقه الكبير عليه.   ================   محادثات مع غوته تأليف: يوهان بيتر إيكرمان ترجمة من الألمانية للإنجليزية:  جون اوكسنفورد ترجمة من الإنجليزية: سماح جعفر   تقوم «القرية الإلكترونية» بتكليف من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، بترجمة يوميات من حياة "جوته"، المعنونة بـــ «محادثات مع غوته»، من تأليف: «يوهان بيتر إيكرمان*»، وهي عبارة عن يوميّات كتبها "إيكرمان" عن السنوات الأخيرة من حياة شاعر ألمانيا الكبير «غوته Goethe»، وتمت ترجمتها من الألمانية للإنجليزية بواسطة «جون أوكسنفورد»، وترجمها من الإنجليزية إلى العربية: «طارق زياد شعار»، وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في الصفحة نأمل أن تحوز إعجابكم. *«يوهان بيتر إيكرمان» Johann Peter Eckermann 1792-1854: عمل كأمين خاص لجوته في الفترة الأخيرة من حياة الأخير. وسرعان ما أصبح كتابه محادثات مع غوته، ذو شعبية تخطت الحدود الألمانية، ولعب دوراً مهما في إحياء الاهتمام والتقدير لأعمال جوته في وقت لاحق.   #محمد_أحمد_السويدي_ترجمة_محادثات_مع_غوته , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

محادثات مع غوته - الافتتاحية
محادثات مع غوته - الجزء الأول
محادثات مع غوته - الجزء الثاني
محادثات مع غوته - الجزء الثالث
محادثات مع غوته - الجزء الرابع
محادثات مع غوته - الجزء الخامس
محادثات مع غوته - الجزء السادس