Arabic    

قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الأول: الماء


2019-07-05 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قبيل النضج

 
 
 
 
قبيل النضج  (1): الجنون والجمال والأغذية في روما
 
الفصل الأول: الماء
 
تأليف: ديفيد ونر
 
ترجمة: أميمة قاسم
 
---
 
 
 
"المحار أو الحمائم، أعتقد أنه بإمكاني المساعدة!"
 
ما تلا ذلك كان سلسلة من الاكتشافات حول الأطعمة الرومانية، الجوع، والتأريخ والثقافة. تحول الامتصاص إلى إسهاب، وتقاربت المسافات بين التغذية والإمساك إلى درجة لم تخطر لي على بال. أصبح الغذاء هو مساري، والممر الذي أعبره إلى روما. على أمل أن تجد فيه ما يُستساغ.
 
ديفيد وينر
 
روما، أغسطس 2011
 
 
1: الماء
 
تهرع شمس نوفمبر الرقيقة إلى مغيبها بينما نشق طريقنا وسط الحشود أمام نافورة تريفي. يتجمع السياح من مختلف بقاع الأرض هنا يومياً ليمارسوا أحد الطقوس الهامة والنمطية لديهم: أخذ الصور السخيفة لبعضهم البعض. لأنّ هذا هو يوم الأحد، حيث تصبح حتى أعداد قطع البتزا المعبأة أعلى من المعتاد.
 
" يا إلهي!" أحيط الميدان بجدار مصمت من الرخام الكريمي المجعد. ومن تحت الأعمدة، ومنحوتات الآلهة، والخيول، تتناثر كميات هائلة من المياه المتراقصة في البركة الواسعة المقوسة. الطريقة المثلى للزيارة بالطبع، هي أن تأتي وحدك، ليلاً، كما فعلت أنيتا إيكبيرج في فيلم الحياة حلوة، مارشيلو! تعال إلى هنا...!" بيد ميشله ديل ري، أستاذ القانون الجنائي، يعطينا بالكاد لمحة عن النوافير المبهرجة أو أحد معالم الفيلم. لقد اتجه إلى كنز دفين: فهنالك عين نضاحة عذبة تكاد تكون مخبأة بالكامل في كهف إلى اليمين من خلف النافورة. ومن بين إنجازاته العديدة، ديل ري صاحب العينين السوداوين، خبرته بالبوذية، وحياة الكازانوفا، الروابط بين الجريمة والشيطانية.. ومياه روما.
 
لأنّ هذه المياه تختلف عن غيرها في أي مكان آخر. فهي أولاً تنبثق من عين فوارة تأخذ اسم بتول وثنية، كانت قد جلبت إلى هنا من قبل أحد مساعدي الإمبراطور أغسطس ويده اليمنى. في الحقيقة قد تكون هذه المياه هي الأكثر أهمية على وجه الكوكب. وفيها يسكن عبق روح المدينة، والعتيق من قوانينها وثقافتها وفلسفتها. واحتساء هذا الشيء سيكون بمثابة تذوق روح الحضارة الغربية نفسها.
 
وقد أحضرت معي أيضاً كوباً بلاستيكياً.
 
أحد الباعة المتجولين البنغال وسط الزحام؛ يصوب نحونا مسدساً، ويطلق فقاقيع ملونة من الصابون والهواء المحبوس. وبوسعنا اقتناء هذا الجهاز مقابل حفنة أو بضع قطع من عملات اليورو! إررر كلا، لا أعتقد أننا بحاجة إلى واحد مثله. لقد سدت مجموعة من السيدات اليابانيات الطريق أمامنا الآن،  ليأخذن دورهن في الوقوف أمام نبتون، إله البحر. المراهقون الرومان يضحكون، ويديرون ظهورهم لحافة الماء، يلقون بالعملات النقدية من وراء ظهورهم جلباً للحظ السعيد.
 
وأخيراً وصلت والبروفيسور إلى وجهتنا، النافورة العذبة الصغيرة التي تجاهلها الجميع سوانا.أخرجت من حقيبتي الكوب الذي أحضرته من أجل هذه المناسبة من مطعم سبيزيكو للبتزا. وانحنيت محاولاً التقاط الماء من  تياري النافورة العجيبين. كان التدفق قوياً جداً، فتطاير الماء من الكوب وتناثر على جسمي كله. أخيراً استطعت جمع ما يكفي وناولت الكوب بحذر إلى البروفيسور. إنّه  نحيل الجسم، داكن البشرة، ويرتدي سترة صيد ذات ياقة مخملية. وفي عينيه الكبيرتين المعبرتين وميض. اعتدل في وقفته، أخذ جرعة من الماء بقدر ما يفعل متذوق النبيذ من قنينة موتون-روثتشايلد. ارتسمت على وجهه ابتسامته الغامضة التي طالما رأيتها على وجه ابنته.
 
وأسأله أنا" حسناً؟"
 
يقول: " حسناً ماذا"؟
 
" ماهو مذاقها؟"
 
" أها. إنّه.... مذاق الكون!"
 
 
 
أول ما أتيت للعيش في روما، وجدتها مكاناً كئيباً وومقفراً. وقد عشت في امستردام لأربع سنوات وكان للانتقال وقع الصدمة. كانت العاصمة الهولندية لا تخلو من الماء، المياه في كل مكان ومئات القنوات والهواء رطب والضوء في كل مكان. أما روما فيبدو أنّها كانت تغرق في بحر من الحرارة والضجيج والزحام. وقد لاحظت، حقاً، ما بها من كميات كبيرة من الرخام والذهب والمباني الغبراء التي زادتها جمالاً، بيد أنّها في الغالب أصابتني بحالة من القلق.
 
كانت المشكلة فيّ أنا؛ فأنا أعاني من أحد أنواع حبّ المياه النفسانية، وهو هوس يجعلني أحتاج إلى رؤية الماء أو الشعور به، ويا حبذا لو كان في كميات كبيرة. تتألم روحي في غيابه، ولا تهدأ نفسي. في لندن يسوء شعوري حتى أنني لأقود سيارتي في منتصف الليل إلى ليتل فينيس أو بركة وايتستون فقط للجلوس والبحلقة في انعكاس أضواء الشوارع على الأمواج الصغيرة. وحتى في شقتي القديمة بامستردام، اعتدت على الالتصاق بالنافذة فقط لرؤية جزء مجهري من القناة في نهاية الشارع.
 
ليس هنالك قنوات في روما. المساحة المائية الكبيرة العامة الوحيدة بها، هي نهر التيبر،  قد يكون مقززا بصراحة. في أول اسبوع لي وبخلاف ما نصحت به، زرت ضفة النهر في اوستينس، متوقعاً أن أجد واحدًا أو اثنين من المقاهي، ومنظر النهر الناعس، والأشجار، والسكان المحليين المبتهجين على دراجاتهم الهوائية. ما وجدته هو الكتابة على الجدران، القمامة، ورائحة البول...والكلاب الغريبة المظهر بسيقانها القصيرة، وأذيالها الطويلة تجري نحوي على الممر: جرذ بجسم طوله قدم.
 
كان التيبر أحد أشهر الأنهار في العالم. ولكن شكراً للتأريخ الذي يربطه بالفيضان والأمراض، والرومان يحتقرونه ويعاملونه كما لو كان مجرماً، فهو حبيس جدران الاحتواء داخل المدينة، التيبر محصور إلى ثلاثين متر تحت مستوى الشارع ويتمتع بوضع وسحر دوامات الصرف الصحي.
 
عليه فقد استغرقت بعض الوقت للتأقلم عليها، وأقدر حقيقة أنَّ روما في كل جزء منها لا تقل عن امستردام كمدينة مائية- ربما حتى أكثر منها. إنّها تلك الروح المائية لروما تكشف عن نفسها بطرق غير متوقعة. فماؤها لا يجري في قنوات عظيمة أو يتجول في المكان قاتم اللون وفاتراً؛ بل إنّه يظهر على شكل دفعات متفجرة قوية صغيرة. تستمد روما بهجتها من أشكال للماء من صنع البشر: النافورة.
 
في الساحات الصغيرة في أرجاء المدينة تقفز المياه، وتنفجر متدفقة من أفواه الوحوش الحجرية. وتتقطر، وتنساب وتتفرع من وإلى أحواض الرخام، وقواقع البحر الجرانيتية المصقولة. حتى كنائس المدينة وكاتدرائياتها متلاطمة الأمواج: فهنالك "ماء مقدس" في جرن المعمودية، وأجران الماء المقدس على جميع المداخل. 
 
في المسيحية، كما جرت العادة، يُزينُّ كلُّ مهدٍ رومانيٍ بالماء الجاري. وبكل شارع في المدينة صنبورُ ماءٍ عذبٍ باردٍ على طول السنة ، ومدار الساعة، مجاناً. يصرّ أهل روما على أنّ الماء من هذه الناسوني (كما يسمونه لأنّ الصنبور يشبه الأنف الكبير)، هو الأفضل للشرب في العالم. وفي ميادين وسط المدينة تنتصب المئات من النوافير الرخامية الباروكية، وكل منها عبارة عن " قصيدة في ثوب من الماء والحجر".
 
ولِمَ هذا الأبهة؟ بالطبع بسبب الرومان القدماء. نعتقد أنَّ البانثيين أو الكولزيوم هي أفضل رموز روما القديمة. ولكنها ليست كذلك. روح روما القديمة، وقلبها النابض، وخفقان جهازها الليمفاوي، كان هو شبكتها المذهلة للقنوات المائية.  
 
في الحقيقة كانت المدينة القديمة أكثر مائية من روما العصرية؛ فقد كانت حضارتها وثقافتها مصبوغة بتقديس الأشياء. اعتبر الرومان الماء هو الأساس لجميع الأشياء. وله الحكم على التراب والنار، " ملكية سماوية "، ويستقر في جوهر القوانين والمعتقدات والهوية الرومانية. وقد اكتسبت فكرة أنّ المياه مشاعٌ يتم تشاركها بحرية أهميةً خاصةً. وفي الجمهورية الأولى، لم يكن الموت هو عقاب القاتل، بل أسوأ منه: كان يحرّم على المجرم الحصول على الماء.
 
روما، بالطبع، لم تكن هي أولى الحضارات القديمة التي تتعامل مع الماء باحترام وفهم. 
 
فقد عرف المينويون المراحيض الدافقة منذ عام 1700 قبل الميلاد. وقد بنى الآشوريون أول قناة لنقل الماء سابقين ظهور الفكرة في روما بأربعمائة عام. ولكن قام الرومان بتطوير تقنية المياه إلى مستوى غير مسبوق، فبنوا قنوات النقل، وغيرها من المرافق المائية في أنحاء الإمبراطورية وبرؤية لا نظير لها حتى القرن التاسع عشر. وفي قلب هذه الإمبراطورية، داخل روما نفسها، صنعوا للمياه ثقافة لا شبيه لها في التأريخ، يمزجون فيها بترف بين المقدس والدنس، جامعين بين الخيلاء والنقاء.
 
فهنالك المئات من النوافير المزينة بالتمثايل والأعمدة التي يتدفق منها الماء للشرب والغسل والطبخ، متاحة للحثالة والعوام في روما. ويستخدم الماء في أغراض دينية، ويهب حدائق المدينة نضارتها، ويغسل مراحيضها ويملأ "مسارح الماء" الواسعة التي أعاد أباطرتها الدمويون مشاهد المعارك البحرية التي يتقاتل فيها آلاف الرجال حتى الموت. ونظام الحمامات العامة كان أهمها على الإطلاق. أماكن المتعة الحية الصاخبة، المزدانة بالذهب والرخام والفسيفساء، والتي يخدم فيها جيوش من العبيد، وهي مُعدَّة بأفران دائمة الاشتعال، فتضفي المزيد من السلاسة على حياة المدينة الاجتماعية والنفسية والطبية والجنسية.
 
ينظم الناس حيواتهم في الحمامات، يتقاتلون فيها، حيث يبعث بهم الاطباء لتلقي العلاج هناك، ويقابلون المومسات في رحابها، كما يتعرضون للسرقات أيضاً في الحمامات. وفي بعض الأحيان يستحمون فقط فيها. كان جميع الساكنة مدمنين. وبحلول مطلع القرن الثالث، عندما شيّد الإمبراطور كاراكالا  مجمعه المدهش في فخامة (ما يزال قائماً) جنوب المدينة، ابتلعت الحمامات شبكة واسعة من الأنابيب، وكانت تمتص معظم إمدادات القنوات الناقلة.
 
حفظت قنوات المياه الناقلة عالم المياه هذا منساباً، لتقدم ماءً نميراً ينبع بشكل أساسي دون انقطاع من البحيرات والعيون، ونقلته بطول خمسين كيلومتراً لجميع أجزاء المدينة. كانت مياه الأنابيب الناقلة تمر في الغالب تحت الأرض في قنوات شقت يدوياً في الصخر الحي. في بعض الأحيان كانت تحمل عالياً على ممرات منحنية رائعة المظهر، وما يزال بعضها في حديقة قنوات المياه قرب استديوهات سينيسيتا. 
 
وقد ذُهل المعاصرون القدماء بكل ذلك. " كانت كمية المياه المجلوبة بالقنوات الناقلة عظيمة للغاية، تلك الأنهار الحقيقية التي تجري عبر المدينة،" قال الكاتب الإغريقي ستاربو. وفرونتينوس، حاكم بريطانيا لمرة واحدة، ورئيس أنظمة مياه روما وكاتب السفر الأهم حول الموضوع، قنوات مياه مدينة روما، والذي أعلن أنّ قنوات مياه روما أعظم من إهرامات مصر.
 
وجملة ما شيّد منها إحدى عشرة قناة، ساهم في بنائها عدد من القناصل والأباطرة على مدى 500عام، مثلها مثل عشرات القنوات الأصغر. (تعيش المدينة الحديثة على سِتٍ). وفي آخر الأمر أخفق النظام في الصمود أمام انهيار السلطة الرومانية. أثناء حصار في عام 537 كسر ملك قوطي يدعى فيتيجيز القناة الرئيسية. وبالتالي تراجعت الكثافة السكانية في روما، وماتت الحمامات، ونمت مدينة جديدة على طراز العصور الوسطى لاحقاً على ثنية نهر التيبر، والريف الجنوبي من روما انجرف مع المياه المتدفقة من القنوات المضروبة، التي أصبحت مصدراً لعدوى الملاريا. وأخيراً، وعلى الرغم من عودة مياه روما، ظهر كتاب فرونتينوس في أحد الأديرة عام 1429، وألهم البابوبات لإعادة بناء روح النظام الروماني إن لم يك ذلك بعثاً لكل تفاصيله. قام سيكستوس الخامس بتفكيك بعض القنوات القديمة لصناعة قنواته الجديدة، المياه السعيدة أو مياه فيليس  Acqua Felice. حتى اكتمال مياه بحيرة السمك في 1980، كان نظام المياه في روما في معظمه يتبع مسارات ومباديء القياصرة. ولكن كان هنالك فرق كبير. حيث رسّخ الأباطرة لسلطاتهم وإسعاد الناس ببناء الحمامات، وقام البابوات باستخدام الحيلة ذاتها مستعينين بالفنانين مثل بيرنيني لإنشاء نوافير رائعة.
 
كانت المياه تعني الكثير لدى الرومان، ولكنها لم تكن أبداً أمراً دنيوياً. ووصف الكاتب بليني الأكبر- المتوفي في الثورة البركانية التي دمرت مدينة بومبي، في كتابه التأريخ الطبيعي المياه بصفات ظواهرية: المياه لمعالجة العقم، أو الجنون، للقتل والحرق، ولمساعدة الذاكرة، أو التسبب في النسيان. كانت هناك مياه تتسبب في حالة من الضحك، أو البكاء، ومياه للتنبوء بالمستقبل، بل حتى تبريء من العشق.
 
ربما كان هذا هو السبب لوجودي هنا اليوم. قبل سنوات كنت متحمساً لابنة البروفيسور. لقد تحدثت مراراً عن والدها العجيب، ولكني لم أتمكن من مقابلته سوى الصيف الماضي على مائدة عشاء صيف قائظ  بمنزله العامر بالكتب، على سفح جبل مونتي ماريو. تناولنا العشاء في الحديقة، تلطخت الأيدي والوجوه بزيت السترونيلا لطرد البعوض. كان معنا قسيس، وصحافي سياسي، وحوالي ألف من حشرات الزيز في رفقتنا. ولاحقاً في المساء، بدأ ميشله في مشاركتنا بعض الأفكار حول بحثه الأخير في النواحي السرية لنظام المياه في روما.
 
لماذا، كان يتساءل، آمنت العديد من الحضارات القديمة بأنَّ المياه تحمل روح "العنصر الأنثوي"؟ كيف كان لهذه الفكرة أن تتسرب إلى كل ما ترتب عليها من فكر ولغة؟ بينما كان يتحدث، كان يسحب سلسلة من الخطابات، والرسومات التخطيطية، والرموز من مختلف اللغات، بما فيها الصينية، والمصرية القديمة، وحتى النصوص الغامضة باللغة الإترورية البائدة. لقد  أرانا كيف أنَّ كل حرف كان موجة رمزية، والتسلسل اكتسب أسلوباً خاصاً حتى إنّه شكّل الحرف اللاتيني "M". 
 
" انظر كيف تتشابه هذه الأحرف؟ يمثل هذا الشكل الماء في كل لغة، وفي كل حالة هو أيضاً جزء من أكثر الكلمات أهمية في اللغة "الأم"، في اللاتينية لدينا mater. وفي الإيطالية mamma. انظر لهذه الكلمات في الإنجليزية..." ويكتب في ورقته المزيد من الكلمات: Memory و Mummy. " انظر كم موجة هنا. كما لو أنّ  هذه الكلمات نبعت من الماء"! تحدثنا حتى وقت متأخر من الليل تلك الأمسية، وعرض أن يدلني إلى قلب أسرار مياه روما. وتمخض ذلك عن خطة كما اتضح ذلك بعد أسابيع قليلة، قرر ميشله أن يأخذني إلى أكبر العذراوات سناً في المدينة.
 
وعليه، وجدت نفسي، في وقت مبكر هذا الصباح، واقفاً وإياه على إحدى شرفات عصر النهضة نتجه بأنظارنا إلى الأسفل تجاه أحد معالم روما الرفيعة التي لا يعرفها إلا القليل: الحديقة الغارقة لفيلا جوليا، غاية في الجمال وهادئة، إنّها المكان الذي تلتف فيها التيارات المتقاطعة للماضي فجأة للتحول إلى الاتجاه الآخر وتسحبك برقة خارج أعماق ذاتك. على طول القرن الماضي احتضنت الفيلا أعظم المجموعات الإترورية الأثرية في العالم. وبالنسبة للمبتدئين، فهذه ذكريات مئات السنين قبل التأريخ. ولكن هنالك ما هو أكثر، إنّه التقاء العتيق بالحديث وامتزاجهما في وسط  أحاسيس لا تحتمل.
 
شيدت الفيلا على يد البابا يوليوس الثالث، آخر جيل من بابوات عصر النهضة. وكان ذوّاقة أسطورياً وراعياً للفنون، لقد وصم المدينة بتنصيبه عشيقاً في السابعة عشرة من العمر كاردينالاً. في عام 1550 ورغبة منه في تقديم شيء جميل لبيته الجديد؛ طلب يوليوس حفر فتحة صغيرة في المياه العذراء الأسطورية التي أُعيد اكتشافها حديثاً، والتي كانت تعرف حينها باسمها الإيطالي Acqua Virgo، ولقد كانت مثل فتح كوة في الزمن نفسه.
 
عندما بنيت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، كانت فيرغو هي القناة الرابعة والأحدث في روما. بنيت على نفقة ماركوس اغريبي، ثاني أقوى رجل في العالم بعد صديقه الإمبراطور اغسطينوس وسميت تيمناً بفتاة صغيرة كشفت عن مصدر المياه لبعض الجنود العطشى. وقد لاقت المياه العذراء احتفاءً لا نهائياً بسبب عذوبتها، ولكن أراد أغريبا الماء لمجمع حمّاماته الجديدة الفخمة في بستان المريخ (أو كامبو مارزيو)، وبناها بالقرب واحد من مشاريعه الجديدة، وهو معبد كبير يدعى البانثيون. وحتى آنذاك كانت العذراء رائعة هندسية، لأنَّ الجزء الأكبر من كيلومتراتها الواحدة والعشرين تجري تحت الأرض بفعل الجاذبية. كانت المياه في القناة تسحب بدقة بنسبة اثنين وثلاثين سنتيمتراً في كل كيلومتر- وهو بالضبط ما يكفي لإبقائها جارية بسرعة مثالية. كان المقصود من البناء أن تكون هي القناة الوحيدة في المدينة التي تصمد أمام كل ما قد يلقي به التأريخ في وجه المدينة من رزايا. فخرجت سالمة فعلياً من الانهيار والتدمير الذي تعرضت له روما خلال العصور المظلمة، بل صمدت حتى من النهب المنظم الذي استهدف المواقع الكلاسيكية في العصور الوسطى للحصول على مواد البناء.
 
...والآن تستعد الفتاة العجوز لعودة أخرى. قرر البابا يوليوس الترحيب بها على حد روما بضريح حورٍ، ضريح مائي على الطريقة القديمة، ولكنه أكثر روعة من أي تحفة رأتها عين من قبل.
 
تم تكليف المعماري الفلورنسي بارتولوميو اماناتي بذلك وقد صنع كما هو مطلوب تماماً تحفة رائعة ومثيرة للحواس: نافورة مياه العذراء. تنحشر المياه العتيقة الآن خلال الكهوف الرخامية لتصل إلى البركة التي تعج بأزهار الليلاك والأسماك الذهبية التي تحرسها الحوريات عاريات الصدور. أمضى البابا هنا أيام الصيف الطويلة يتناول طعامه في نزهات على عين نبتون وآلهة النهر.
 
يبدو الضريح الآن مذهلاً، ولكن الرمزية تصيب رأسي بالدوران. لماذا وفي أوج حركة الإصلاح المناهضة، والحرب قد مزقت جميع أرجاء أوربا بسبب التنافس على تفسير المسيحية...، لماذا في سياق كذاك، يود أحد البابوات- حتى أنّه يميل إلى الغلمان المراهقين- أن يهتم بصورة مخزية بوثنية من العصور القديمة؟ كان لدى ميشله إجابة: أثناء عصر النهضة، اكتسبت المعرفة بالقديم أهمية ثقافية. ولم يك يوليوس سوى أحد البابوات الذين تحلوا بقدر عال من الثقافة، " هذا المكان هو أحد المواقع المهمة حيث ينبعث الإغريقي القديم والتقليد الروماني من جديد. وبدأوا إعادة استخدام الآلهة القديمة." ومع ذلك، فإنّه تدغدغ بالبهجة الوثنية المحضة للمكان: " انظر لكل ما يتعلق بنبتون! وانظر إلى أناقة هذا المكان! تذكر: ضريح الحور هو موطن الحوريات! وهذا يضفي عليه المزيد من الوثنية حتى!"
 
كانت هذه مجرد وقفة أولى في جولة ميشله الغامضة الطموحة. إنّه يخطط لكشف أسرار مياه روما بأن يريني جميع النوافير البديعة التي تغذيها مياه العذراء. وسوف ننتهي حيث تنتهي قناة المياه( وحيث يبدأ هذا الباب) في التريفي- أشهرها جميعاً.
 
قد تكون الكتب الأكاديمية حول مياه روما جامدة ومغطاة بالتفاصيل المبهمة حول تقنيات البناء وشق القنوات، والكميات المكعبة، وأختام كاستيلا وفيستولا. وكما يليق برجل يجوب العالم دارساً الطقوس الدينية، يتمتع ميشله بحماسة لا تكلّ، وصحبته لا تُمّل، وتتحول أفكاره بسهولة إلى أسئلة روحانية وإيمانية عامة. يقول: " لكل حجر في روما حكاية،" ويبدو أنّه يعرف أكثرها.
 
يشرح قائلاً: " الفكرة الرئيسية للرومان كانت " Aquas disjunco, populous conjunct" – قسّمْ الماء، تجمعْ الناس". وكانت رائعة جداً، وهي تفسر فعلاً لم كان أعداء روما عاجزين دوماً عن المقاومة لفترة أطول مما فعلوا. فكل امبراطور روماني يلتزم بهذا المبدأ. وعندما يحلون ببلدة صغيرة لنقل في أفريقيا، فأول شيء يفعلونه يبنون قناة للمياه للمدينة. كانت المياه للصالح العام، شيء للجميع. حتى العبيد لهم الحق في الهواء والماء. إنّه مبدأ عصري للغاية. والآن فقط نقول مرة أخرى إنَّ الماء مصلحة عامة." 
 
نتجه صوب القصر البورجي Villa Borghese، ذهبية اللون، تتساقط منها الأوراق الصفراء والحصى الخشن، لنمتع أنظارنا بنوافير ميدان ديل بوبولو التي تستمد حياتها من مياه العذراء (" أجمل ميادين العالم، مثل إحدى سيمفونيات بيتهوفن!). كل شيء هنا مكرّس لنبتون- النوافير، التماثيل، وحتى الشوارع الثلاثية التي تتفرع من الميدان بين الكنيستين التوأمتين الأسطوريتين-، وتقليدياً ليس لأهل روما صلات طيبة بنبتون. " " نعم وهنالك، تحت شجرة الجوز تلك، حيث يعيش الشيطان،) ماذا؟ " أي نعم! إنّه مسجون تحت جذور الشجرة..كما تقول الأسطورة!). 
 
وبينا نسير نحو الكنوز الأخرى، يذكرني ميشله بأنَّ روما أُسست على الهضاب قرب نهرها وليس عليه. وتدفق الكثير من هذا. على الرغم من أنّ مياه التيبر كانت صالحة للشرب، زخر المشهد البركاني المحلي بالكثير من العيون الطبيعية والآبار وقد آثر الرومان الأوائل شرب المياه من هذه المصادر. لقد استحكمت العادة، مثلها مثل الوشائج الأولى بين الروحانية والصحة. ففي عقل الرومان ولغتهم، كانت الأنهار والبحار مذكرة، أما العيون والينابيع فانفرد كل منها بشخصيته الخاصة، لقد كانت أنثوية ومصدراً للرعاية. وكان أن تغتسل في مياهها كأن تتطهر وهذه الطهارة انطوت دائماً على رمزية الولادة من جديد (التحمت الفكرة لاحقاً مع طقوس التطهير اليهودية لتولد المعمودية المسيحية).
 
نواصل المسير عبر نافورة القذيفة المدفعية الجافة (على ما يبدو أُطلقتها ملكة السويد "كريستينا" في لحظة غريبة) ونصل نافورة براكاكيا، نافورة بيرنيني الفاتنة على شكل القارب في المدرج الأسباني. وهي تقع بالضبط تحت شباك الغرفة التي جاء الشاعر جون كيتس ليموت فيها من السل، ظنّاً منه أنّ روما هي مدينة صحية للغاية.
 
والآن يتحمس ميشله كثيراً ليريني نوافير على ذات القدر من الأهمية في ميدان كولونا، وميدان نوفونا، وجادة ديل بابوينو، الساحة الواقعة بجانب البانثيون.. ولكني عارضت ذلك، فأنا أعرف بالفعل جميع هذه النوافير. وأعرف أنّ جميعها لا تنقصه الروعة! والآن أعرف من أين تأتي مياهها أيضاً..عليه لم لا يدعنا نذهب فعلاً لنحظى بشيء للشرب؟ وبدت عليه الخيبة، ولكن لوهلة فقط.  فقال" سوف لن أخذلك، مياه العذراء مذهلة حقاً!"
 
كان هذا اعتقاداً جوهرياً بين الرومان لقرون. وقد فضل الإمبراطور نيرون أن يتم غلي مياهه أولاً، ثم تُصب في كأس زجاجية وتبرد في الثلج، ولكنه كان مجنوناً. يحب معظم الرومان الماء جارياً. وسادت هذه الفكرة. وعلى مدى القرن العشرين كانت ربات المنازل الرومانيات يفضلن الماء الذي يصب من صنابير المياه في مطابخهن، كما لو أنّ شيئاً جللاً سيحدث في قلب بيوتهن إن توقف ماء الصنبور عن التدفق. بينما ما يزال فخر الرومان بمياههم العتيقة خالداً. وهنالك القليل عدا الاسم يربط بين العلامة التجارية الحديثة للمياه المعبأة كلوديا(" مياه الآلهة)، والقنوات المائية القديمة، كلوديا بناها الإمبراطور كلوديوس. وهي تجلب مياه الشرق؛ وتأتي المياه المعبأة من الشمال. ولكن من يعبأ؟ فبحسب الديباجة، لاقت هذه المياه استحسان كل من يعرف كيف يستمتع بالحياة. ومذاقها يدغدغ بشكل حصيف أفواه وأرواح الرومان لقرون عديدة". ثم هنالك إيغيريا، والمسماة تيمناً بحورية الماء التي تعيش بالقرب من النبع جنوبي المدينة وتعطي روما رمزها الشرعي الأول. إذ تقول الأسطورة إنّ نوما بومبيليوس، ثاني ملوك روما، قد وقع في هواها. فعلمته الحكمة وكانت مرشدته في جميع تفاصيل حكمه. مات الملك، فهو بَشرٌ فانٍ، ولكن إيغيريا عاشت، تتكيف مع كل عهد جديد. في روما الجمهورية كانت تختص بالخصوبة وولادة الأطفال، ولاحقاً بينا وقعت روما تحت تأثير الثقافة الإغريقية، أصبحت ملهمة. ويوجد ضريح عتيق باسمها في حديقة كافاريلا، وهي تسكن الآن في زجاجات بلاستيكية خضراء، تستعلن في كلا المظهرين الطبيعي (الثابت) والغازي(الفوار). وهي على ما يبدو مفيدة للهضم.
 
بالنسبة للذوق الروماني القديم، كانت أفضل مياه الشرب هي "الباردة والكاملة": الشفافة، النظيفة، عديمة الرائحة والنكهة. وقد تناظر الكُتَّاب اللاتينيون حول المزايا والفوائد والقدرات الصحية للماء "الخفيف". 
 
الماء الجوفي، من الينابيع، أو الذي يستخرج عبر القنوات المائية؛ كان يؤثر على ماء الأنهار. وكان يعرف عن المياه المخزونة في المستودعات فسادها، أما الماء السطحي الراكد فيقابل بالازدراء على أقل تقدير.
 
وقد اعتبر بليني أنَّ أفضل المياه تأتي من قناتين هما أكوا مارشا، التي اكتملت عام 140 قبل الميلاد، والعذراء. والمياه من قناة العذراء كانت باردة، سلسة ونقية. وصفها بليني بأنّها " المياه الأعظم قدراً في العالم أكمله، وهي التي تعترف لها مدينتنا بالفضل على البرودة  والصحّية". وقد تم ترميمها في القرن التاسع عشر وأصبحت مياه طريق مارشا القديمة. إنّها الآن تتدفق إلى المدينة في قناتين تجريان جنباً إلى جنب، القناة القديمة والحديثة. وقد سماها الرومان منذ القرن السادس عشر بمياه تريفي، وقد شرب منها أفضل الناس. وفي أيام الجولة الكبرى صمم الزوار الإنجليز على صنع الشاي بماء تريفي؛ واحتفظ مايكل آنجلو بخمس جرار من الماء في قبوه.
 
و.... ها نحن هنا، على الأقل، بجانب نافورة تريفي تماماً. والطقس يتحول إلى البرودة، ولكن الماء ما يزال بطعم الكون.
 
والآن دوري لأتذوقه. أغلقت عينيّ، ووضعت الكوب على شفاهي. وإنّها...حسناً، إنّها، أممم ...باردة قليلاً، وبشكل واضح- ولكنها عذبة جداً، و، إر، ناعمة، ليست فوارة. وأنّها – قليلاً- بلا طعم حقاً. لست متأكداً كيف يمكنني التعبير عن هذا. " عندما تقول " كونيّ" هل تعني الشيء الكبير ذا الكواكب، أم فريق كرة القدم النيويوركي من سبعينات القرن العشرين؟"  فحدجني ميشله بنظرة ماكرة، ليست غاضبة بل مفعمة بالخيبة ثم ابتسم: " عندما نشرب الماء، يوحدنا هذا الشيء دائماً مع الوجود الكوني للماء. إنّها تعطينا معرفة مختلفة ولكنها ضرورية، ليس فقط بعقلنا بل بأجسادنا أيضاً. فشرب الماء هو المعرفة مرة أخرى من ذاتنا إلى العالم. فنحن لا نتصل فقط بل نشارك. نحن نلج إلى العالم، وإلى الكون. والذي هو مولود من الماء."
 
فلا الرومان استطاعوا- ولا ماركوس اغريبا، ولا أي من البابوات، أو مايكل آنجلو، ولا حتى الإمبراطور كلوديوس نفسه- التعبير عن الفكرة بهذا الجمال.
 
 
 
-------------------------
قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روما
تأليف: ديفيد ونر-  ترجمة: أميمة قاسم
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة منAl Dente قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روماتأليف: ديفيد ونر-  وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك : 
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
 
----------------------
(1) أصل العنوان:Al Dente: Madness, Beauty and the Foods in Rome حيث المقصود بعبارة Al Dente  طريقة طهي المعكرونة الإيطالية دون مرحلة النضج فلا تصبح طرية بل تكون ذات قوام أكثر صلابة عنها في درجة تمام الاستواء. وتعني حرفياً " حتى السن" أو إلى الأسنان. (المترجمة)
 

        قبيل النضج  (1): الجنون والجمال والأغذية في روما   الفصل الأول: الماء   تأليف: ديفيد ونر   ترجمة: أميمة قاسم   ---       "المحار أو الحمائم، أعتقد أنه بإمكاني المساعدة!"   ما تلا ذلك كان سلسلة من الاكتشافات حول الأطعمة الرومانية، الجوع، والتأريخ والثقافة. تحول الامتصاص إلى إسهاب، وتقاربت المسافات بين التغذية والإمساك إلى درجة لم تخطر لي على بال. أصبح الغذاء هو مساري، والممر الذي أعبره إلى روما. على أمل أن تجد فيه ما يُستساغ.   ديفيد وينر   روما، أغسطس 2011       1: الماء   تهرع شمس نوفمبر الرقيقة إلى مغيبها بينما نشق طريقنا وسط الحشود أمام نافورة تريفي. يتجمع السياح من مختلف بقاع الأرض هنا يومياً ليمارسوا أحد الطقوس الهامة والنمطية لديهم: أخذ الصور السخيفة لبعضهم البعض. لأنّ هذا هو يوم الأحد، حيث تصبح حتى أعداد قطع البتزا المعبأة أعلى من المعتاد.   " يا إلهي!" أحيط الميدان بجدار مصمت من الرخام الكريمي المجعد. ومن تحت الأعمدة، ومنحوتات الآلهة، والخيول، تتناثر كميات هائلة من المياه المتراقصة في البركة الواسعة المقوسة. الطريقة المثلى للزيارة بالطبع، هي أن تأتي وحدك، ليلاً، كما فعلت أنيتا إيكبيرج في فيلم الحياة حلوة، مارشيلو! تعال إلى هنا...!" بيد ميشله ديل ري، أستاذ القانون الجنائي، يعطينا بالكاد لمحة عن النوافير المبهرجة أو أحد معالم الفيلم. لقد اتجه إلى كنز دفين: فهنالك عين نضاحة عذبة تكاد تكون مخبأة بالكامل في كهف إلى اليمين من خلف النافورة. ومن بين إنجازاته العديدة، ديل ري صاحب العينين السوداوين، خبرته بالبوذية، وحياة الكازانوفا، الروابط بين الجريمة والشيطانية.. ومياه روما.   لأنّ هذه المياه تختلف عن غيرها في أي مكان آخر. فهي أولاً تنبثق من عين فوارة تأخذ اسم بتول وثنية، كانت قد جلبت إلى هنا من قبل أحد مساعدي الإمبراطور أغسطس ويده اليمنى. في الحقيقة قد تكون هذه المياه هي الأكثر أهمية على وجه الكوكب. وفيها يسكن عبق روح المدينة، والعتيق من قوانينها وثقافتها وفلسفتها. واحتساء هذا الشيء سيكون بمثابة تذوق روح الحضارة الغربية نفسها.   وقد أحضرت معي أيضاً كوباً بلاستيكياً.   أحد الباعة المتجولين البنغال وسط الزحام؛ يصوب نحونا مسدساً، ويطلق فقاقيع ملونة من الصابون والهواء المحبوس. وبوسعنا اقتناء هذا الجهاز مقابل حفنة أو بضع قطع من عملات اليورو! إررر كلا، لا أعتقد أننا بحاجة إلى واحد مثله. لقد سدت مجموعة من السيدات اليابانيات الطريق أمامنا الآن،  ليأخذن دورهن في الوقوف أمام نبتون، إله البحر. المراهقون الرومان يضحكون، ويديرون ظهورهم لحافة الماء، يلقون بالعملات النقدية من وراء ظهورهم جلباً للحظ السعيد.   وأخيراً وصلت والبروفيسور إلى وجهتنا، النافورة العذبة الصغيرة التي تجاهلها الجميع سوانا.أخرجت من حقيبتي الكوب الذي أحضرته من أجل هذه المناسبة من مطعم سبيزيكو للبتزا. وانحنيت محاولاً التقاط الماء من  تياري النافورة العجيبين. كان التدفق قوياً جداً، فتطاير الماء من الكوب وتناثر على جسمي كله. أخيراً استطعت جمع ما يكفي وناولت الكوب بحذر إلى البروفيسور. إنّه  نحيل الجسم، داكن البشرة، ويرتدي سترة صيد ذات ياقة مخملية. وفي عينيه الكبيرتين المعبرتين وميض. اعتدل في وقفته، أخذ جرعة من الماء بقدر ما يفعل متذوق النبيذ من قنينة موتون-روثتشايلد. ارتسمت على وجهه ابتسامته الغامضة التي طالما رأيتها على وجه ابنته.   وأسأله أنا" حسناً؟"   يقول: " حسناً ماذا"؟   " ماهو مذاقها؟"   " أها. إنّه.... مذاق الكون!"       أول ما أتيت للعيش في روما، وجدتها مكاناً كئيباً وومقفراً. وقد عشت في امستردام لأربع سنوات وكان للانتقال وقع الصدمة. كانت العاصمة الهولندية لا تخلو من الماء، المياه في كل مكان ومئات القنوات والهواء رطب والضوء في كل مكان. أما روما فيبدو أنّها كانت تغرق في بحر من الحرارة والضجيج والزحام. وقد لاحظت، حقاً، ما بها من كميات كبيرة من الرخام والذهب والمباني الغبراء التي زادتها جمالاً، بيد أنّها في الغالب أصابتني بحالة من القلق.   كانت المشكلة فيّ أنا؛ فأنا أعاني من أحد أنواع حبّ المياه النفسانية، وهو هوس يجعلني أحتاج إلى رؤية الماء أو الشعور به، ويا حبذا لو كان في كميات كبيرة. تتألم روحي في غيابه، ولا تهدأ نفسي. في لندن يسوء شعوري حتى أنني لأقود سيارتي في منتصف الليل إلى ليتل فينيس أو بركة وايتستون فقط للجلوس والبحلقة في انعكاس أضواء الشوارع على الأمواج الصغيرة. وحتى في شقتي القديمة بامستردام، اعتدت على الالتصاق بالنافذة فقط لرؤية جزء مجهري من القناة في نهاية الشارع.   ليس هنالك قنوات في روما. المساحة المائية الكبيرة العامة الوحيدة بها، هي نهر التيبر،  قد يكون مقززا بصراحة. في أول اسبوع لي وبخلاف ما نصحت به، زرت ضفة النهر في اوستينس، متوقعاً أن أجد واحدًا أو اثنين من المقاهي، ومنظر النهر الناعس، والأشجار، والسكان المحليين المبتهجين على دراجاتهم الهوائية. ما وجدته هو الكتابة على الجدران، القمامة، ورائحة البول...والكلاب الغريبة المظهر بسيقانها القصيرة، وأذيالها الطويلة تجري نحوي على الممر: جرذ بجسم طوله قدم.   كان التيبر أحد أشهر الأنهار في العالم. ولكن شكراً للتأريخ الذي يربطه بالفيضان والأمراض، والرومان يحتقرونه ويعاملونه كما لو كان مجرماً، فهو حبيس جدران الاحتواء داخل المدينة، التيبر محصور إلى ثلاثين متر تحت مستوى الشارع ويتمتع بوضع وسحر دوامات الصرف الصحي.   عليه فقد استغرقت بعض الوقت للتأقلم عليها، وأقدر حقيقة أنَّ روما في كل جزء منها لا تقل عن امستردام كمدينة مائية- ربما حتى أكثر منها. إنّها تلك الروح المائية لروما تكشف عن نفسها بطرق غير متوقعة. فماؤها لا يجري في قنوات عظيمة أو يتجول في المكان قاتم اللون وفاتراً؛ بل إنّه يظهر على شكل دفعات متفجرة قوية صغيرة. تستمد روما بهجتها من أشكال للماء من صنع البشر: النافورة.   في الساحات الصغيرة في أرجاء المدينة تقفز المياه، وتنفجر متدفقة من أفواه الوحوش الحجرية. وتتقطر، وتنساب وتتفرع من وإلى أحواض الرخام، وقواقع البحر الجرانيتية المصقولة. حتى كنائس المدينة وكاتدرائياتها متلاطمة الأمواج: فهنالك "ماء مقدس" في جرن المعمودية، وأجران الماء المقدس على جميع المداخل.    في المسيحية، كما جرت العادة، يُزينُّ كلُّ مهدٍ رومانيٍ بالماء الجاري. وبكل شارع في المدينة صنبورُ ماءٍ عذبٍ باردٍ على طول السنة ، ومدار الساعة، مجاناً. يصرّ أهل روما على أنّ الماء من هذه الناسوني (كما يسمونه لأنّ الصنبور يشبه الأنف الكبير)، هو الأفضل للشرب في العالم. وفي ميادين وسط المدينة تنتصب المئات من النوافير الرخامية الباروكية، وكل منها عبارة عن " قصيدة في ثوب من الماء والحجر".   ولِمَ هذا الأبهة؟ بالطبع بسبب الرومان القدماء. نعتقد أنَّ البانثيين أو الكولزيوم هي أفضل رموز روما القديمة. ولكنها ليست كذلك. روح روما القديمة، وقلبها النابض، وخفقان جهازها الليمفاوي، كان هو شبكتها المذهلة للقنوات المائية.     في الحقيقة كانت المدينة القديمة أكثر مائية من روما العصرية؛ فقد كانت حضارتها وثقافتها مصبوغة بتقديس الأشياء. اعتبر الرومان الماء هو الأساس لجميع الأشياء. وله الحكم على التراب والنار، " ملكية سماوية "، ويستقر في جوهر القوانين والمعتقدات والهوية الرومانية. وقد اكتسبت فكرة أنّ المياه مشاعٌ يتم تشاركها بحرية أهميةً خاصةً. وفي الجمهورية الأولى، لم يكن الموت هو عقاب القاتل، بل أسوأ منه: كان يحرّم على المجرم الحصول على الماء.   روما، بالطبع، لم تكن هي أولى الحضارات القديمة التي تتعامل مع الماء باحترام وفهم.    فقد عرف المينويون المراحيض الدافقة منذ عام 1700 قبل الميلاد. وقد بنى الآشوريون أول قناة لنقل الماء سابقين ظهور الفكرة في روما بأربعمائة عام. ولكن قام الرومان بتطوير تقنية المياه إلى مستوى غير مسبوق، فبنوا قنوات النقل، وغيرها من المرافق المائية في أنحاء الإمبراطورية وبرؤية لا نظير لها حتى القرن التاسع عشر. وفي قلب هذه الإمبراطورية، داخل روما نفسها، صنعوا للمياه ثقافة لا شبيه لها في التأريخ، يمزجون فيها بترف بين المقدس والدنس، جامعين بين الخيلاء والنقاء.   فهنالك المئات من النوافير المزينة بالتمثايل والأعمدة التي يتدفق منها الماء للشرب والغسل والطبخ، متاحة للحثالة والعوام في روما. ويستخدم الماء في أغراض دينية، ويهب حدائق المدينة نضارتها، ويغسل مراحيضها ويملأ "مسارح الماء" الواسعة التي أعاد أباطرتها الدمويون مشاهد المعارك البحرية التي يتقاتل فيها آلاف الرجال حتى الموت. ونظام الحمامات العامة كان أهمها على الإطلاق. أماكن المتعة الحية الصاخبة، المزدانة بالذهب والرخام والفسيفساء، والتي يخدم فيها جيوش من العبيد، وهي مُعدَّة بأفران دائمة الاشتعال، فتضفي المزيد من السلاسة على حياة المدينة الاجتماعية والنفسية والطبية والجنسية.   ينظم الناس حيواتهم في الحمامات، يتقاتلون فيها، حيث يبعث بهم الاطباء لتلقي العلاج هناك، ويقابلون المومسات في رحابها، كما يتعرضون للسرقات أيضاً في الحمامات. وفي بعض الأحيان يستحمون فقط فيها. كان جميع الساكنة مدمنين. وبحلول مطلع القرن الثالث، عندما شيّد الإمبراطور كاراكالا  مجمعه المدهش في فخامة (ما يزال قائماً) جنوب المدينة، ابتلعت الحمامات شبكة واسعة من الأنابيب، وكانت تمتص معظم إمدادات القنوات الناقلة.   حفظت قنوات المياه الناقلة عالم المياه هذا منساباً، لتقدم ماءً نميراً ينبع بشكل أساسي دون انقطاع من البحيرات والعيون، ونقلته بطول خمسين كيلومتراً لجميع أجزاء المدينة. كانت مياه الأنابيب الناقلة تمر في الغالب تحت الأرض في قنوات شقت يدوياً في الصخر الحي. في بعض الأحيان كانت تحمل عالياً على ممرات منحنية رائعة المظهر، وما يزال بعضها في حديقة قنوات المياه قرب استديوهات سينيسيتا.    وقد ذُهل المعاصرون القدماء بكل ذلك. " كانت كمية المياه المجلوبة بالقنوات الناقلة عظيمة للغاية، تلك الأنهار الحقيقية التي تجري عبر المدينة،" قال الكاتب الإغريقي ستاربو. وفرونتينوس، حاكم بريطانيا لمرة واحدة، ورئيس أنظمة مياه روما وكاتب السفر الأهم حول الموضوع، قنوات مياه مدينة روما، والذي أعلن أنّ قنوات مياه روما أعظم من إهرامات مصر.   وجملة ما شيّد منها إحدى عشرة قناة، ساهم في بنائها عدد من القناصل والأباطرة على مدى 500عام، مثلها مثل عشرات القنوات الأصغر. (تعيش المدينة الحديثة على سِتٍ). وفي آخر الأمر أخفق النظام في الصمود أمام انهيار السلطة الرومانية. أثناء حصار في عام 537 كسر ملك قوطي يدعى فيتيجيز القناة الرئيسية. وبالتالي تراجعت الكثافة السكانية في روما، وماتت الحمامات، ونمت مدينة جديدة على طراز العصور الوسطى لاحقاً على ثنية نهر التيبر، والريف الجنوبي من روما انجرف مع المياه المتدفقة من القنوات المضروبة، التي أصبحت مصدراً لعدوى الملاريا. وأخيراً، وعلى الرغم من عودة مياه روما، ظهر كتاب فرونتينوس في أحد الأديرة عام 1429، وألهم البابوبات لإعادة بناء روح النظام الروماني إن لم يك ذلك بعثاً لكل تفاصيله. قام سيكستوس الخامس بتفكيك بعض القنوات القديمة لصناعة قنواته الجديدة، المياه السعيدة أو مياه فيليس  Acqua Felice. حتى اكتمال مياه بحيرة السمك في 1980، كان نظام المياه في روما في معظمه يتبع مسارات ومباديء القياصرة. ولكن كان هنالك فرق كبير. حيث رسّخ الأباطرة لسلطاتهم وإسعاد الناس ببناء الحمامات، وقام البابوات باستخدام الحيلة ذاتها مستعينين بالفنانين مثل بيرنيني لإنشاء نوافير رائعة.   كانت المياه تعني الكثير لدى الرومان، ولكنها لم تكن أبداً أمراً دنيوياً. ووصف الكاتب بليني الأكبر- المتوفي في الثورة البركانية التي دمرت مدينة بومبي، في كتابه التأريخ الطبيعي المياه بصفات ظواهرية: المياه لمعالجة العقم، أو الجنون، للقتل والحرق، ولمساعدة الذاكرة، أو التسبب في النسيان. كانت هناك مياه تتسبب في حالة من الضحك، أو البكاء، ومياه للتنبوء بالمستقبل، بل حتى تبريء من العشق.   ربما كان هذا هو السبب لوجودي هنا اليوم. قبل سنوات كنت متحمساً لابنة البروفيسور. لقد تحدثت مراراً عن والدها العجيب، ولكني لم أتمكن من مقابلته سوى الصيف الماضي على مائدة عشاء صيف قائظ  بمنزله العامر بالكتب، على سفح جبل مونتي ماريو. تناولنا العشاء في الحديقة، تلطخت الأيدي والوجوه بزيت السترونيلا لطرد البعوض. كان معنا قسيس، وصحافي سياسي، وحوالي ألف من حشرات الزيز في رفقتنا. ولاحقاً في المساء، بدأ ميشله في مشاركتنا بعض الأفكار حول بحثه الأخير في النواحي السرية لنظام المياه في روما.   لماذا، كان يتساءل، آمنت العديد من الحضارات القديمة بأنَّ المياه تحمل روح "العنصر الأنثوي"؟ كيف كان لهذه الفكرة أن تتسرب إلى كل ما ترتب عليها من فكر ولغة؟ بينما كان يتحدث، كان يسحب سلسلة من الخطابات، والرسومات التخطيطية، والرموز من مختلف اللغات، بما فيها الصينية، والمصرية القديمة، وحتى النصوص الغامضة باللغة الإترورية البائدة. لقد  أرانا كيف أنَّ كل حرف كان موجة رمزية، والتسلسل اكتسب أسلوباً خاصاً حتى إنّه شكّل الحرف اللاتيني "M".    " انظر كيف تتشابه هذه الأحرف؟ يمثل هذا الشكل الماء في كل لغة، وفي كل حالة هو أيضاً جزء من أكثر الكلمات أهمية في اللغة "الأم"، في اللاتينية لدينا mater. وفي الإيطالية mamma. انظر لهذه الكلمات في الإنجليزية..." ويكتب في ورقته المزيد من الكلمات: Memory و Mummy. " انظر كم موجة هنا. كما لو أنّ  هذه الكلمات نبعت من الماء"! تحدثنا حتى وقت متأخر من الليل تلك الأمسية، وعرض أن يدلني إلى قلب أسرار مياه روما. وتمخض ذلك عن خطة كما اتضح ذلك بعد أسابيع قليلة، قرر ميشله أن يأخذني إلى أكبر العذراوات سناً في المدينة.   وعليه، وجدت نفسي، في وقت مبكر هذا الصباح، واقفاً وإياه على إحدى شرفات عصر النهضة نتجه بأنظارنا إلى الأسفل تجاه أحد معالم روما الرفيعة التي لا يعرفها إلا القليل: الحديقة الغارقة لفيلا جوليا، غاية في الجمال وهادئة، إنّها المكان الذي تلتف فيها التيارات المتقاطعة للماضي فجأة للتحول إلى الاتجاه الآخر وتسحبك برقة خارج أعماق ذاتك. على طول القرن الماضي احتضنت الفيلا أعظم المجموعات الإترورية الأثرية في العالم. وبالنسبة للمبتدئين، فهذه ذكريات مئات السنين قبل التأريخ. ولكن هنالك ما هو أكثر، إنّه التقاء العتيق بالحديث وامتزاجهما في وسط  أحاسيس لا تحتمل.   شيدت الفيلا على يد البابا يوليوس الثالث، آخر جيل من بابوات عصر النهضة. وكان ذوّاقة أسطورياً وراعياً للفنون، لقد وصم المدينة بتنصيبه عشيقاً في السابعة عشرة من العمر كاردينالاً. في عام 1550 ورغبة منه في تقديم شيء جميل لبيته الجديد؛ طلب يوليوس حفر فتحة صغيرة في المياه العذراء الأسطورية التي أُعيد اكتشافها حديثاً، والتي كانت تعرف حينها باسمها الإيطالي Acqua Virgo، ولقد كانت مثل فتح كوة في الزمن نفسه.   عندما بنيت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، كانت فيرغو هي القناة الرابعة والأحدث في روما. بنيت على نفقة ماركوس اغريبي، ثاني أقوى رجل في العالم بعد صديقه الإمبراطور اغسطينوس وسميت تيمناً بفتاة صغيرة كشفت عن مصدر المياه لبعض الجنود العطشى. وقد لاقت المياه العذراء احتفاءً لا نهائياً بسبب عذوبتها، ولكن أراد أغريبا الماء لمجمع حمّاماته الجديدة الفخمة في بستان المريخ (أو كامبو مارزيو)، وبناها بالقرب واحد من مشاريعه الجديدة، وهو معبد كبير يدعى البانثيون. وحتى آنذاك كانت العذراء رائعة هندسية، لأنَّ الجزء الأكبر من كيلومتراتها الواحدة والعشرين تجري تحت الأرض بفعل الجاذبية. كانت المياه في القناة تسحب بدقة بنسبة اثنين وثلاثين سنتيمتراً في كل كيلومتر- وهو بالضبط ما يكفي لإبقائها جارية بسرعة مثالية. كان المقصود من البناء أن تكون هي القناة الوحيدة في المدينة التي تصمد أمام كل ما قد يلقي به التأريخ في وجه المدينة من رزايا. فخرجت سالمة فعلياً من الانهيار والتدمير الذي تعرضت له روما خلال العصور المظلمة، بل صمدت حتى من النهب المنظم الذي استهدف المواقع الكلاسيكية في العصور الوسطى للحصول على مواد البناء.   ...والآن تستعد الفتاة العجوز لعودة أخرى. قرر البابا يوليوس الترحيب بها على حد روما بضريح حورٍ، ضريح مائي على الطريقة القديمة، ولكنه أكثر روعة من أي تحفة رأتها عين من قبل.   تم تكليف المعماري الفلورنسي بارتولوميو اماناتي بذلك وقد صنع كما هو مطلوب تماماً تحفة رائعة ومثيرة للحواس: نافورة مياه العذراء. تنحشر المياه العتيقة الآن خلال الكهوف الرخامية لتصل إلى البركة التي تعج بأزهار الليلاك والأسماك الذهبية التي تحرسها الحوريات عاريات الصدور. أمضى البابا هنا أيام الصيف الطويلة يتناول طعامه في نزهات على عين نبتون وآلهة النهر.   يبدو الضريح الآن مذهلاً، ولكن الرمزية تصيب رأسي بالدوران. لماذا وفي أوج حركة الإصلاح المناهضة، والحرب قد مزقت جميع أرجاء أوربا بسبب التنافس على تفسير المسيحية...، لماذا في سياق كذاك، يود أحد البابوات- حتى أنّه يميل إلى الغلمان المراهقين- أن يهتم بصورة مخزية بوثنية من العصور القديمة؟ كان لدى ميشله إجابة: أثناء عصر النهضة، اكتسبت المعرفة بالقديم أهمية ثقافية. ولم يك يوليوس سوى أحد البابوات الذين تحلوا بقدر عال من الثقافة، " هذا المكان هو أحد المواقع المهمة حيث ينبعث الإغريقي القديم والتقليد الروماني من جديد. وبدأوا إعادة استخدام الآلهة القديمة." ومع ذلك، فإنّه تدغدغ بالبهجة الوثنية المحضة للمكان: " انظر لكل ما يتعلق بنبتون! وانظر إلى أناقة هذا المكان! تذكر: ضريح الحور هو موطن الحوريات! وهذا يضفي عليه المزيد من الوثنية حتى!"   كانت هذه مجرد وقفة أولى في جولة ميشله الغامضة الطموحة. إنّه يخطط لكشف أسرار مياه روما بأن يريني جميع النوافير البديعة التي تغذيها مياه العذراء. وسوف ننتهي حيث تنتهي قناة المياه( وحيث يبدأ هذا الباب) في التريفي- أشهرها جميعاً.   قد تكون الكتب الأكاديمية حول مياه روما جامدة ومغطاة بالتفاصيل المبهمة حول تقنيات البناء وشق القنوات، والكميات المكعبة، وأختام كاستيلا وفيستولا. وكما يليق برجل يجوب العالم دارساً الطقوس الدينية، يتمتع ميشله بحماسة لا تكلّ، وصحبته لا تُمّل، وتتحول أفكاره بسهولة إلى أسئلة روحانية وإيمانية عامة. يقول: " لكل حجر في روما حكاية،" ويبدو أنّه يعرف أكثرها.   يشرح قائلاً: " الفكرة الرئيسية للرومان كانت " Aquas disjunco, populous conjunct" – قسّمْ الماء، تجمعْ الناس". وكانت رائعة جداً، وهي تفسر فعلاً لم كان أعداء روما عاجزين دوماً عن المقاومة لفترة أطول مما فعلوا. فكل امبراطور روماني يلتزم بهذا المبدأ. وعندما يحلون ببلدة صغيرة لنقل في أفريقيا، فأول شيء يفعلونه يبنون قناة للمياه للمدينة. كانت المياه للصالح العام، شيء للجميع. حتى العبيد لهم الحق في الهواء والماء. إنّه مبدأ عصري للغاية. والآن فقط نقول مرة أخرى إنَّ الماء مصلحة عامة."    نتجه صوب القصر البورجي Villa Borghese، ذهبية اللون، تتساقط منها الأوراق الصفراء والحصى الخشن، لنمتع أنظارنا بنوافير ميدان ديل بوبولو التي تستمد حياتها من مياه العذراء (" أجمل ميادين العالم، مثل إحدى سيمفونيات بيتهوفن!). كل شيء هنا مكرّس لنبتون- النوافير، التماثيل، وحتى الشوارع الثلاثية التي تتفرع من الميدان بين الكنيستين التوأمتين الأسطوريتين-، وتقليدياً ليس لأهل روما صلات طيبة بنبتون. " " نعم وهنالك، تحت شجرة الجوز تلك، حيث يعيش الشيطان،) ماذا؟ " أي نعم! إنّه مسجون تحت جذور الشجرة..كما تقول الأسطورة!).    وبينا نسير نحو الكنوز الأخرى، يذكرني ميشله بأنَّ روما أُسست على الهضاب قرب نهرها وليس عليه. وتدفق الكثير من هذا. على الرغم من أنّ مياه التيبر كانت صالحة للشرب، زخر المشهد البركاني المحلي بالكثير من العيون الطبيعية والآبار وقد آثر الرومان الأوائل شرب المياه من هذه المصادر. لقد استحكمت العادة، مثلها مثل الوشائج الأولى بين الروحانية والصحة. ففي عقل الرومان ولغتهم، كانت الأنهار والبحار مذكرة، أما العيون والينابيع فانفرد كل منها بشخصيته الخاصة، لقد كانت أنثوية ومصدراً للرعاية. وكان أن تغتسل في مياهها كأن تتطهر وهذه الطهارة انطوت دائماً على رمزية الولادة من جديد (التحمت الفكرة لاحقاً مع طقوس التطهير اليهودية لتولد المعمودية المسيحية).   نواصل المسير عبر نافورة القذيفة المدفعية الجافة (على ما يبدو أُطلقتها ملكة السويد "كريستينا" في لحظة غريبة) ونصل نافورة براكاكيا، نافورة بيرنيني الفاتنة على شكل القارب في المدرج الأسباني. وهي تقع بالضبط تحت شباك الغرفة التي جاء الشاعر جون كيتس ليموت فيها من السل، ظنّاً منه أنّ روما هي مدينة صحية للغاية.   والآن يتحمس ميشله كثيراً ليريني نوافير على ذات القدر من الأهمية في ميدان كولونا، وميدان نوفونا، وجادة ديل بابوينو، الساحة الواقعة بجانب البانثيون.. ولكني عارضت ذلك، فأنا أعرف بالفعل جميع هذه النوافير. وأعرف أنّ جميعها لا تنقصه الروعة! والآن أعرف من أين تأتي مياهها أيضاً..عليه لم لا يدعنا نذهب فعلاً لنحظى بشيء للشرب؟ وبدت عليه الخيبة، ولكن لوهلة فقط.  فقال" سوف لن أخذلك، مياه العذراء مذهلة حقاً!"   كان هذا اعتقاداً جوهرياً بين الرومان لقرون. وقد فضل الإمبراطور نيرون أن يتم غلي مياهه أولاً، ثم تُصب في كأس زجاجية وتبرد في الثلج، ولكنه كان مجنوناً. يحب معظم الرومان الماء جارياً. وسادت هذه الفكرة. وعلى مدى القرن العشرين كانت ربات المنازل الرومانيات يفضلن الماء الذي يصب من صنابير المياه في مطابخهن، كما لو أنّ شيئاً جللاً سيحدث في قلب بيوتهن إن توقف ماء الصنبور عن التدفق. بينما ما يزال فخر الرومان بمياههم العتيقة خالداً. وهنالك القليل عدا الاسم يربط بين العلامة التجارية الحديثة للمياه المعبأة كلوديا(" مياه الآلهة)، والقنوات المائية القديمة، كلوديا بناها الإمبراطور كلوديوس. وهي تجلب مياه الشرق؛ وتأتي المياه المعبأة من الشمال. ولكن من يعبأ؟ فبحسب الديباجة، لاقت هذه المياه استحسان كل من يعرف كيف يستمتع بالحياة. ومذاقها يدغدغ بشكل حصيف أفواه وأرواح الرومان لقرون عديدة". ثم هنالك إيغيريا، والمسماة تيمناً بحورية الماء التي تعيش بالقرب من النبع جنوبي المدينة وتعطي روما رمزها الشرعي الأول. إذ تقول الأسطورة إنّ نوما بومبيليوس، ثاني ملوك روما، قد وقع في هواها. فعلمته الحكمة وكانت مرشدته في جميع تفاصيل حكمه. مات الملك، فهو بَشرٌ فانٍ، ولكن إيغيريا عاشت، تتكيف مع كل عهد جديد. في روما الجمهورية كانت تختص بالخصوبة وولادة الأطفال، ولاحقاً بينا وقعت روما تحت تأثير الثقافة الإغريقية، أصبحت ملهمة. ويوجد ضريح عتيق باسمها في حديقة كافاريلا، وهي تسكن الآن في زجاجات بلاستيكية خضراء، تستعلن في كلا المظهرين الطبيعي (الثابت) والغازي(الفوار). وهي على ما يبدو مفيدة للهضم.   بالنسبة للذوق الروماني القديم، كانت أفضل مياه الشرب هي "الباردة والكاملة": الشفافة، النظيفة، عديمة الرائحة والنكهة. وقد تناظر الكُتَّاب اللاتينيون حول المزايا والفوائد والقدرات الصحية للماء "الخفيف".    الماء الجوفي، من الينابيع، أو الذي يستخرج عبر القنوات المائية؛ كان يؤثر على ماء الأنهار. وكان يعرف عن المياه المخزونة في المستودعات فسادها، أما الماء السطحي الراكد فيقابل بالازدراء على أقل تقدير.   وقد اعتبر بليني أنَّ أفضل المياه تأتي من قناتين هما أكوا مارشا، التي اكتملت عام 140 قبل الميلاد، والعذراء. والمياه من قناة العذراء كانت باردة، سلسة ونقية. وصفها بليني بأنّها " المياه الأعظم قدراً في العالم أكمله، وهي التي تعترف لها مدينتنا بالفضل على البرودة  والصحّية". وقد تم ترميمها في القرن التاسع عشر وأصبحت مياه طريق مارشا القديمة. إنّها الآن تتدفق إلى المدينة في قناتين تجريان جنباً إلى جنب، القناة القديمة والحديثة. وقد سماها الرومان منذ القرن السادس عشر بمياه تريفي، وقد شرب منها أفضل الناس. وفي أيام الجولة الكبرى صمم الزوار الإنجليز على صنع الشاي بماء تريفي؛ واحتفظ مايكل آنجلو بخمس جرار من الماء في قبوه.   و.... ها نحن هنا، على الأقل، بجانب نافورة تريفي تماماً. والطقس يتحول إلى البرودة، ولكن الماء ما يزال بطعم الكون.   والآن دوري لأتذوقه. أغلقت عينيّ، ووضعت الكوب على شفاهي. وإنّها...حسناً، إنّها، أممم ...باردة قليلاً، وبشكل واضح- ولكنها عذبة جداً، و، إر، ناعمة، ليست فوارة. وأنّها – قليلاً- بلا طعم حقاً. لست متأكداً كيف يمكنني التعبير عن هذا. " عندما تقول " كونيّ" هل تعني الشيء الكبير ذا الكواكب، أم فريق كرة القدم النيويوركي من سبعينات القرن العشرين؟"  فحدجني ميشله بنظرة ماكرة، ليست غاضبة بل مفعمة بالخيبة ثم ابتسم: " عندما نشرب الماء، يوحدنا هذا الشيء دائماً مع الوجود الكوني للماء. إنّها تعطينا معرفة مختلفة ولكنها ضرورية، ليس فقط بعقلنا بل بأجسادنا أيضاً. فشرب الماء هو المعرفة مرة أخرى من ذاتنا إلى العالم. فنحن لا نتصل فقط بل نشارك. نحن نلج إلى العالم، وإلى الكون. والذي هو مولود من الماء."   فلا الرومان استطاعوا- ولا ماركوس اغريبا، ولا أي من البابوات، أو مايكل آنجلو، ولا حتى الإمبراطور كلوديوس نفسه- التعبير عن الفكرة بهذا الجمال.       ------------------------- قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روما تأليف: ديفيد ونر-  ترجمة: أميمة قاسم بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة منAl Dente قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روماتأليف: ديفيد ونر-  وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة صفحتنا الرسمية في فيس بوك :  https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا  https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar (جميع الحقوق محفوظة)   ---------------------- (1) أصل العنوان:Al Dente: Madness, Beauty and the Foods in Rome حيث المقصود بعبارة Al Dente  طريقة طهي المعكرونة الإيطالية دون مرحلة النضج فلا تصبح طرية بل تكون ذات قوام أكثر صلابة عنها في درجة تمام الاستواء. وتعني حرفياً " حتى السن" أو إلى الأسنان. (المترجمة)   , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الأول: الماء
قبيل النضج : الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الثاني: الوليمة
قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الثالث: الصوم
قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الرابع: القواقع
قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الخامس: عصارة السمك
قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل السادس: الخوخ