قبيل النضج : الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الثاني: الوليمة
قبيل النضج : الجنون والجمال والأغذية في روما
تأليف: ديفيد ونر- ترجمة: أميمة قاسم
الفصل الثاني: الوليمة
----
"أنتم غرباء الأطوار. غرباء ومقرفون! لماذا تأكلون إن لم تكونوا جوعى؟ يا للسخف!"
---
غُرست بذرة أشد الأفلام التي صنعها الرومان عن الطعام جموحاً، وأكثرها إزعاجاً على الرغم مما فيه من جمال على نحو غريب في مطعم شاسع البعد. في أحد أيام الآحاد في بداية السبعينات، وجد صانع الأفلام الفوضوي- المشاكس العبقري والبدين الجريء-ماركو فيريري نفسه وكثيراً ما كان يفعل في مدينة باريس مع مجموعة من الأصدقاء من بينهم الممثل أوغو توغنازي؛فقرروا تناول وجبة الغداء في برونيير بالقرب من قوس النصر، واستمتعوا بوجبة سخية وافرة وأمضوا في رحابها وقتاً غير قليل. وعندما أزف أوان الانصراف كان معظم الرجال متخمين حتى إنّهم تمكنوا بالكاد من السير، ولكن أما فريري فقد كان قلقًا بشأن أمر آخر:" ماذا سنأكل الليلة؟" اقترح أحدهم المعكرونة، فوافق، فساروا جميعاً يترنحون إلى شقة أحد الأصدقاء حيث شرع توغنازي- وهو طاه مشهور، وفي الوقت ذاته أحد نجوم الكوميديا الرومانسية الأكثر شعبيةً في إيطاليا- في الطبخ فوراً. استأنفوا الأكل إلى وقت متأخر من الليل. وفي اليوم التالي استيقظ فيراري في حالة من الحماس، فألقى بسؤاله: " ما رأيكم في عمل فيلم عما فعلنا البارحة؟". " لقد كتبنا النص بالفعل!
حشر أربعة أشخاص أنفسهم في مكان ما ليأكلوا، فأتخموا حتى الموت! واسمه"الوليمة الباذخة!" وهرع إلى منتجه ظهر ذلك اليوم. وبحلول المساء كان قد أبرم عقد إنتاجه!
ومن بين جميع عباقرة السينما في روما ما بعد الحرب، كان فيريري المشاغب السوداوي قد قوبل بتجاهل كبير، بيد أنّه الأكثر إثارة للاهتمام في موضوع الطعام.
لم ينعم فيريري بالسعادة في طفولته. نشأ في مدينة ميلانو. وعمل في مصنع للشراب حيث كان مسموحاً له بصنع الأفلام الدعائية القصيرة. ثم انتقل إلى روما في أواخر الأربعينات بينما أخذت صناعة الفيلم في الازدهار، وأخذ يتسكع مع الكُتَّاب والممثلين والمخرجين الطامحين في مطعم اوتيلو على جادة الصليب (ما زال المطعم صامداً بقوة). والأصدقاء من تلك الحقبة يذكرونه كما كان فتىً ميلانيّاً ذا "قناع روماني قديم". وكان في الصور يجسّد مزيجاً غريباً: شخص امبراطور له حسن طفل بهي، وقوام تمثال غريب، وعينان ساحرتان في وجه منتفخ تحفه لحية تحاكي سولجينيتسين.
وقليلاً ما كان يتحدث عن طفولته عدا ما يخص العلاقة السيئة بأمه (والتي كانت بدينة هي الأخرى) وقد سلّى رفاقه بأكل كميات كبيرة من الاسباجيتي، واللحم والكعك متبعاً كل ذلك بكميات لا تقل من السلطات (" حتى لا يصبحوا بدناء"). وقد كانتله، كما يقول أحد معارفه، " عينان زرقاوان باكيتان وابتسامة مريرة على وشك التحول إلى تذمر حيال شريحة اللحم التي كادت أن تحترق، أو عدم جودة تتبيلة السلطة".
حاول فيريري التمثيل والإنتاج وصادق الكثيرين. ولكنه لم ينتم أبداً إلى عالم السينما الروماني الذي كان واقعاً تحت سيطرة روح الواقعية الجديدة. فالواقعية لم تك من اهتمامات فيريري؛ إذكان يميل إلى الأمثولات السوداوية والخيالية. وفي أواخر الخمسينات، عندما قام بتحرير مجلة في نظريات السينما لفترة وجيزة، كان اقتصاد روما ومزاجها في مرحلة تحول، ووقفت المدينة على حافة عصرها السينمائي الذهبي. كانت الأموال الأمريكية تتدفق بغزارة في فيلم" هوليود على ضفاف التيبر" في سينسيتا. وبدأت حقبة "السيف" و"الخف" ، وكانت تحفتا فيليني وانطونيوني الحياة حلوة والمغامرة في طريقهما إلى المجد. وكانت روما هي وجهته ليصبح صانع أفلام شابًا. وهكذا غادر فيريري البلدة. وكان انتقاله من مدينة "الحياة الحلوة" إلى إسبانيا فرانكو والفاشية سبباً في المزيد من التحرر على نحو مفاجيء. وتماهى خيال فيريري مع التقاليد الإسبانية القديمة للمسوخ والأساطير وجمعته مدينة برشلونة برافائيل ازكونا، وهو كاتب نصوص بونويلّيّ، أصبح فيما بعد صديق عمره. وعمل ازكونا وفيريري معاً في سبعة عشر فيلماً، بما فيها الوليمة الباذخة. وقد اشتركا في صناعة ثلاثة أفلام صغيرة معاً في إسبانيا قبل عودة فيريري إلى روما في 1961 لإخراج جزء "الزنا" من الفيلم المشترك بعنوان إيطاليان مغرمان(Italians in Love).
وربما كان فيريري الآن في طريقه. على مدى السنوات القليلة التالية صنع مجتمعاً برجوازياً كوميدياً مأساوياً وساخراً لا يفتقر للجموح، ومشيراً إلى ما به من هوس بدائي وفوضوي. دارت معظم أفلامه حول الطعام،والجنس والموت. ونظرته للعلاقات بين الرجال والنساء كانت جد كئيبة، وكان يعتقد أنَّ الحضارة على شفا الانهيار. وقد امتدحه أحد النقاد الإيطاليين على ما يتمتع به من "فكاهة، وشعرية، وقسوة، ومحبة".. وقد استهجن آخر ما فيه من "وقاحة، واشمئزاز، ومقت للنساء".
كثيراً ما تظهر الكلاب على سبيل المثال في أفلام فيريري، ممثلة الجانب الحيواني للإنساني، وكثيراً ما ارتبطت بالموت. كان شاطيء البحر مكانًا للقتل والهرب. ولطالما ما صور لنا فيريري أطلال قبة القديس بيتر في بعض الأحيان. كما لمّح لروما القديمة أيضاً، بشكل عامٍ كشعار على التفسّخ، والإسراف، والذاكرة الزائفة. وكما سوف نرى، تضمنت فكرة الإفراط في الأكل استحضاراً ضمنياً لروما الإمبريالية في فيلم الوليمة الباذخة. وقد جاء هذا الأمر أكثر صراحة في فيلم وداعاً أيها القرد، وقمة الرعب في الفيلم المبتذل "متحف تماثيل الشمع في روما القديمة"؛ حيث يدعي المالك بمكر أنّه يسعى لإنقاذ الحضارة من الانحلال والاندثار، فيستغل الصغير جنسياً بينما يتلو الخطب من مسرحية شكسبير يوليوس قيصر، ويضع نفسه في مكان الإمبراطور نيرون. وبعد مشهد مزعج تظهر فيه الجرذان والقرود الأليفة احترق الصرح عديم القيمة بالكامل فسوّي بالأرض.
كان لفيريري أيضاً عادة معارضة الأفلام ببعضها. ففي الوليمة الباذخة مثلاً، يموت أربعة رجال وتنجو امرأة. وفي فيلم الحريم الذي سبقه حدث العكس. كانت الشخصية الرئيسية مهندسة معمارية شابة تدعى مارغريتا (مثل ملكة نابولي والبيتزا البسيطة التي تحمل اسمها). وفي مارغريتا نموذج للمرأة الإيطالية المتحررة الجديدة في حقبة الستينات. جميلة وقوية، تتجنب الارتباط بأي من الرجال الأربعة في حياتها، ولكنهم في النهاية ينقلبون عليها، فيجبرونها أولاً على أن تصنع لهم وجبة، ثم يذمّون مهاراتها في الطبخ، ويرمون الاسباجيتي في وجهها. وفي نهاية المطاف يقتلونها بدفعها لتسقط من على الجرف. (بحسب كارول بيكر التي أدت الدور، فإنّ الخطة الأصلية كانت كوميدية، ولكن فيريري لم يتمالك نفسه، فجعلها مباشرة).
في هذه الأثناء، كان فيريري يطوّر علاقته بالممثلين العالميين الذي سيظهرون في فيلم الوليمة الباذخة. وكان دور البطولة لصاحب الصوت العذب أوغو توغنازي، صديق حميم عمل معه أول مرة عام 1963. وقد عرف توغنازي في السابق كنجم في الرومانسية الكوميدية الخفيفة بالإضافة إلى عدد من البرامج التلفزيونية التي تتسم باللطف والدفء. وقد أوكل إليه فيريري دور العازب في منتصف العمر في فيلم ملكة النحل، حيث يعمل بالقرب من الفاتيكان، ويتزوج فتاة تبدو عليها البراءة من عائلة محترمة. فتقدم على إخصائه، ثم قتله بالجنس في النهاية. في السنة التالية في فيلم المرأة القرد، يختار فيريري توغنازي مرة أخرى، هذه المرة في دور متنمر يستغل امرأة ذات شعر أكثف من المعتاد، بأن يقحمها في أحد العروض الخطِرة مما يؤدي إلى موتها، ثم يقع في حب جسدها. وفي فيلم الجمهور (1972) يلعب توغنازي دور رجل شرطة يساعد في تدمير ساذج بريء أراد أن يقابل البابا. ولا يسرق توغنازي زوجة الرجل فقط بل إنّه يحتل مطبخه أيضاً.
وفي منتصف الستينات انضم النجم مارشيلو ماستروياني إلى الفرقة.وقد كتب ماستروياني لاحقاً في سيرته الذاتية: إني أذكر، نعم أذكر:" أنَّ فيريري مخرج يترك المجال للفنان، وفي رأيي يتميز بخصلة رائعة : إنّه قليل الكلام. كانت علاقتي معه ثمرة لفترات طويلة جداّ من الصمت، والذي كان منعشاً بكل تأكيد. ولكنا فهمنا بعضنا البعض في فترات الصمت هذه. إنّي أحبّ نظرته البعيدة للعالم، والأشياء، والناس. لقد كان يتمتع بالأصالة. إنّي أحبّه جداً، وكصديق كان مفعماً بالعاطفة." وفي فيلم الرجل ذو الخمس كرات، أول أفلامهما الخمسة معاً، يلعب ماستروياني دور رجل أعمال به هوس غير معقول: محاولة معرفة النقطة التي تنفجر عندها البالون: وعندما تتخلى عنه زوجته، يتشارك وجبته مع كلبه من نوع سان بيرنارد. وفي إحدى الأمسيات أدرك أنّه سوف لن يتمكن من حل مسألة البالون أبدأ، وعليه يقفز من النافذة ليلقى حتفه ويقع صدفةً فوق سيارة أوغو توغنازي التي كانت تمر بالطريق. وينزعج توغنازي بشدة لهذا لأنّ سيارته تضررت. ينهي الكلب في الأعلى عشاء ماستروياني. وفي فيلم ليزا يعيش ماستروياني وحيداً في جزيرة مع كلب حتى تظهر كاثرين دينيوف على يخت. فتقتل دينيوف الكلب أولاً ثم تصبح كلبة. وترتدي ياقته، وتجلس على الزاوية تتوسل للحصول على بقايا الطعام. فلا يستطيع أيٌ من الرجل أو المرأة الفكاك من هذه العلاقة الرهيبة، فيموتان جوعاً. وفي المدينة الكبيرة، يهجر ماستروياني زوجته وابنته فيهدئان آلامهما بالتهام نفسيهما.
وفي عام 1969 حدثت طفرة مهمة في مسيرة فيريري تزامنت مع فيلم ديلنجر ميت، والفضل في بعض ذلك يعود إلى الأداء الحر المذهل لممثلٍ رائع آخر هو ميشيل بيكولي، في دور مالك مصنع لأقنعة غاز بضاحية إور التي بناها الفاشيون في روما، وهو مصاب بملل شديد. عاد بيكولي إلى المنزل ليجد زوجته- انيتا بالينبيرغ- طريحة الفراش جراء نوبة صداع نصفي؛ فناولها علاجها، وزجاجة ماء ساخن ثم أمضى ليلة عجيبة في أحداثها من طبخ وأكل ومشاهدة الأفلام وإغراء الخادمة ( بإطعامها شرائح من البطيخ بكل بساطة). ويجد في المطبخ مسدسه القديم، الذي ينظفه بزيت الزيتون، ويطليه باللون الأحمر المنقط بالأبيض على نسق بوهيمي ويستخدمه للإيماء إلى الانتحار. ويذهب في الفجر إلى غرفة النوم، يغطي بالينبيرغ بالوسائد، ويطلق النار على رأسها ثلاث مرات وبهدوء، ثم يقود سيارته من روما إلى البحر ويجد وظيفة في مجال الطبخ على يخت مسافر إلى تاهيتي. صنع الفلم في ظل "ثورة" 1968، فتسبب في فضيحة. وبحسب بيكولي والذي كان يظهر باستمرار على الشاشة، في ارتجال ودون حوار في الغالب، فلقد كان يدور حول استماتة رجل في عزلته "قام به" ولكنه "محاصر باليأس والانتحار والأرق والأحلام".
وكان بمقدور فيريري التمثيل إلى حد ما هو الآخر، وقد ظهر على نحو متكرر في أفلام أصدقائه والأفلام التي صنعها أيضاً ولكن في شيء من التحجيم. ففي مزرعة الخنازير، النموذج الفاشي شديد الغرابة لباسوليني، يظهر فيريري كأحد رجال الصناعة. وربما كان أكثر أدواره شذوذاً هو دور الجثة (ضحية طاعون عالمي غامض) في فيلمه الخاص بذرة الإنسان. ومثله مثل وداعاً أيها القرد، ويصور هذا الفيلم متحفاً لحضارة بائدة- ولكنها حضارتنا هذه المرة. فالمعروضات تتضمن ثلاجة، وتلفازاً، وقطعة من جبن البارميزان، وكومة من طماطم سيريو المعلبة. وهذا هو الفيلم الأول بالمناسبة، الذي تناول فيه أكل لحوم البشر. زوجة تأكل حبيبة زوجها على شاطيء ثم تقدم إحدى ساقيها مطبوخة لأمر نادر جداً. " هذا لحم طيب"، يقول الزوج متسائلاً: " ماهو؟" فتجيب الزوجة " استمتع"، وتنفحه بقبلة. ( وفي فيلم اللحم اللاحق، رجل في منزل ساحلي آخر يقتل حبيبته، ويضع لحمها في الثلاجة ويأكل منها شريحة في كل مرة، وفي فيلم كم طيبون هم البِيض، يأكل السكان المحليون مجموعةً من عمال الإغاثة الأوربيين الذين أتوا بالمساعدات إلى الساحل، غير أنّ ذلك يحدث بعد ليلة من الجنس العنيف.)
وبحلول أواسط السبعينات، وكما قال الكاتب السينمائي ر. ت. ويتكومبي، أصبح فيريري مهووساً بفكرة أنّ المجتمع الحديث كان "في سكرات الموت، يأكل أشلاءه حتى الانقراض". كانت هذه هي السمة الأساسية لفيلم الوليمة الباذخة. ولكن الفيلم يعكس أيضاً علاقة فيريري المعقدة بالطعام،فقد أمضى عدة أسابيع قبل بدء التصوير في عيادة سويسرية لعلاج نهم الطعام. كما زار أيضاً عيادة في بريتاني متخصصة في حميات التنحيف المفرطة التي تقوم على الخضروات والسوائل. بيد أنّها جميعاً لم تُجْدِ فتيلاً معه، لأنّ فيريري كان يحرص دائماً على تناول كميات كبيرة من الحلويات، والدسم والكريمة وكعك الشيكولاتة.
وهكذا وصلنا أخيراً إلى الوليمة الباذخة (والمعروف في اللغة الإيطالية ب La Grande Abuffata والإنجليزية (Blow out). يتعقب هذا الفيلم الفائق للعادة أربعة من الأصدقاء الناجحين في منتصف العمر بينما يجتمعون لأجل "مؤتمر هضمي" في قصر في ضواحي باريس. وكثيراً ما كان يعتبر فيلماً فرنسيًا ولكن جوهره ينتمي إلى روما القديمة بشكل خالص، فالقصر يبدو مثل ذلك القصر على التلة الذي يظهر في فيلم السيكوباتي "Psycho"، بيد أنّ الصدمة الأكبر تأتي من الجرأة التي أبداها ممثلو فيريري. إنّه لمن الصعب تصوير نجوم هذا العصر في هذه الحالة من عدم الخوف، وبالحرية التي تحلّى بها ماستروياني، وتوغنازي، وبيكولي، وفيلب نواريه (أول ظهور له في أفلام فيريري، وقد أصبح محبوباً لاحقاً لأدائه مع مخرجين آخرين مثل سينما براديسو وإل بوستينو) لعب كل رجل شخصية باسمه. مارشيلو قبطان ملاحة جوية، وأوغو طاهٍ، وميشيل مدير إحدى القنوات التلفزيونية، وفيلب قاضٍ مهووس بالأثداء ومريض بالسكر. وقد خططوا لأن يأكلوا حتى الموت، ولكنهم لم يفصحوا عن السبب.
وصلت في أول يوم لهم معاً كميات مرعبة من الطعام في سيارتين كبيرتين. وإحدى الثلاجات ملأى باللحم الصافي. بينما تكتظ الأخرى بالخضروات، والفواكه والمعلبات والأسماك. ونرى على الأقل نصف دستة من الخنازير الكاملة، ونسمع قائمة: عشر دزينات من دجاج غينيا " المغذى على الحبوب والعرعر"، والخنازير الرضيعة، وثلاث دزينات من الديوك الفتية، وعشرون دزينة من الدجاج، وعشرة من حملان سبخة الملح، " وخنزير بري ضارٍ جاهز للنقع في كافة أنواع التوابل"، " اثنان من غزلان الضاحية بعينين ناعمتين"، اللحم الفواح بأرج الغابة. وهنالك نعام أيضاً، وعصيدة دمٍ، ونقانق، وشيكولاتة ونبيذ فخم، وشمبانيا، وأجبان، والكثير غيرها.
وقد امتلأت بركة الحديقة والخزان الزجاجي في المطبخ كلاهما بالسمك الحي. طيور التدرج والأوز تتسكع حول المنزل، والحديقة الصدئة الزخارف. وسكرت الدجاجات في نبيذ ارماجناك الأبيض. هنالك الكثير من لحم البقر أيضاً. " سوف ترى كم هو من الممتع قطع التصوير"، يقول أوغو. ميشيل يؤدي نوعاً من الرقص البوهيمي، ممسكا برأس بقرة عالياً في الهواء ويتلو مناجاة النفس من هاملت. " بدأت الوليمة..." يقول مارشيلو الذي يبدو عليه التجهم.

وهذا ما يحدث. وسط روعة التعفن الخفيف للقصر المكتظ بشكل فني بالألوان والبهرجة الرخيصة، بدأ الرجال المضغ والقضم والامتصاص والشرب بلا توقف. في بعض الأحيان كانوا يجلسون على طاولة العشاء، أو في المطبخ. وفي أحيان أخرى كانوا يتكؤون على الوسائد الذهبية مثل أباطرة الرومان. وقد كان انطوى تقمص اوغو العجائبي لشخصية مارلون براندو في فيلم العرّاب بعض الراحة، فارتدى ميشيل ثوب الرقص ليؤدي تمارين الباليه عند البار، بيد أنّ هذا الأمر أضحى مستحيلاً بعدة بضعة أيام. كان هنالك الكثير من الجنس أيضاً والنساء العاريات يزينّ الطعام. ولكن سرعان ما تغادر المومسات الثلاث اللواتي استأجرهن الرجال اشمئزازاً، إذ هربن بعد أن تقيأن. " أنتم غرباء الأطوار،" قالت إحدى الفتيات. " غرباء ومقرفون! لِمَ تأكلون إن لم تكونوا جوعى؟ يا للسخف!"
كان معظم الطعام فرنسياً ولكن تعمد أوغو أن يصنع بيتزا، وتالياتيلي رائعة، وكان يتحدث بالإيطالية إلى أحد الخنازير التي كان يقوم بشيّها على العصا. كان مارشيلو يدخل حاملاً التورتيليني بكريمة عش الغراب.( وقد عكس هذا المشهد الصداقة التي جمعتهم خارج الشاشة: فيريرين وتوغنازي وماستروياني دائماً ما يلتقوا في باريس لتناول "الطعام الإيطالي"، الذي عادة ما يكون من طبخ توغنازي). وعندما انتفخ بطن ميشيل بالغازات، وأرقده على فراش المرض، خفق له اغو بوريه البندق"العلاجي"، وعنفه في تقليد ساخر لأمٍ خرِفة: " إن لم تأكل لن تموت." وفي الحقيقة كان ميشيل مهووساً جداً بالبندق- وهي إشارة على حسب افتراضي إلى "باليه كسارة البندق" الشهير (والمعروف أيضاً ب " نشوة بورجيا") والذي كان في الفاتيكان عام 1501. تضمن هذا بحثًا عن الكستناء تقوده المومسات العاريات وجوائز مالية للكرادلة الذين حظوا بأكبر قدر من المتعة الجنسية.
نعود إلى القصر حيث حالة الرجال البدنية تتدهور بسرعة. يذهب مارشيلو إلى الحمام "لينتعش" ويبعث ذلك على انفجار نافورة غائط من مقعد الحمام. وقد كان منظره وهو يصرخ في غطاء من القذارة على وجه التحديد صادماً لرواد السينما الإيطاليين. " إنه طوفان عام" كما يقول ميشيل. "الرائحة- سوف تلتصق بنا إلى الأبد،" يقول أوغو في أسى شديد. وكان من المقدر لشخص واحد فقط في المنزل، معلمة في مدرسة، بريئة الملامح اسمها اندريا (الممثلة الفرنسية اندريا فيريول)، أن تنجو من هذا الفسوق، فقد أتت للعشاء في اليوم الثاني ولم تغادر، كاشفةً عن شهواتها الخاصة الهائلة، وبكل هدوء انخرطت في ممارسة نهمها للطعام والجنس مع كل الرجال في المنزل. كانت فيريول لا تشعر بالراحة تجاه الدول لكنها وافقت لأنها لا تريد تضييع الفرصة للعمل مع بعض أشهر النجوم في أوروبا. وقد طلب إليها فيريري قبل التصوير أن تزيد وزنها من أجل أداء الدور، الشيء الذي كان مثار إزعاج بالنسبة لها. وكان فيريري يطلب منها المزيد في كل مرة كانت تظن فيها أنّها تناولت ما يكفي من الطعام. ولم يكتسب أيٌ من الممثلين الأربعة المزيد من الوزن.
وقد بدت أندريا في باديء الأمر كمومس مقدسة من النوع الذي كان شائعاً في السينما الإيطالية. ولكن لم يطل هذا قبل أن تكشف عن جانبها الأكثر إظلاماً. عندما ذهبت هي وفيليب لذبح بعض الديوك الرومية في الحديقة، لقد بدت عليها خيبة الأمل أن تعلم أنّه لم يرسل أي شخص إلى المقصلة من قبل بصفته قاضيًا.لقد التقطت سيفه وأصبحت ملاكاً للموت، تغوي، وتغري، وتستفز وتقود الرجال إلى النسيان.

الميتات، عندما حدثت أخيراً، كانت هي الأكثر شذوذاً في عالم السينما. كان مارشيلو الفيتشيّ، مهووساً بالجنس ذا عنّة، يتجمد في مقعد سيارته المحبوبة العتيقة من نوع البوجاتي، واحدة من الأماكن القليلة التي كان يتمكن فيها من الإنعاظ( نلحظ في النهاية كلبًا يأخذ مكانه في مقعد السيارة.) ميشيل، الذي يعاني بزيادة الآلام الناجمة عن الغازات التي تنتفخ منها أمعاؤه، فيدخل في حالة من الضراط المستمر حتى الوفاة. لم تكن هنالك جنائز، بيد أنّ فيليب وأوغو قاما بوضع جثتي صديقيهما في ثلاجة كبيرة وأوصداها. بدأت الكلاب الضالة تحتشد في الحديقة. أما مَنيَّة أوغو فقد كانت الأكثر شناعة. وبما أنّه طاهي الفريق، فقد قام بغالبية أعمال الطبخ. والآن يخرج تحفته النهائية: يأتيه الدجاج والبط العملاق على هيئة قبة سان بيتر. ويصرّ على أنّها عمل شعرّي. " إنّها شعر قذر" يقول فيليب، الذي يرفض أكلها. عليه يقوم أوغو بأكلها كلها وحده. وبحلول الظلام كان بالكاد يستطيع أن يجلس معتدلاً. يتصبب عرقاً ويتكيء على الوسادة الذهبية على طاولة المطبخ بينما يقوم فيليب بإطعامه آخر قطع القبّة وتمتليء عينا اندريا بالدموع، وهي تدلّك قضيبه حتى يصل إلى رعشته الأخيرة. وقد جاء حتف أوغو متزامناً مع وصوله إلى ذروة الانتشاء الجنسي. في اليوم التالي، جاء دور فيليب، المصاب بالسكر والولع المرضي بالأثداء، والذي كانت أندريا تصنع له مهلبية "شهية جداً وشديدة الحلاوة"على هيئة الحلمة. فيقضي نحبه بين ذراعي أندريا، بينما تصل شاحنة بيضاء أخرى حافلة باللحوم، فتزيح أندريا جسده بعيداً، وتخبر عمال التوصيل بأن يتركوا اللحم في الحديقة، والتي استولت عليها الكلاب النباحة الآن. وبما أنّ كل هذه المشاهد قد صورت بمزيد من البهرجة من قبل ارجينتو أو فيليني فربما كان فيلم الوليمة الباذخة أفظع إلى الحد الذي لا يشجع على مشاهدته. ولكن قام فيريري بالتقليل من شأن كل هذا. فقد كان أسلوبه في التصوير يتسم بالأناقة والاطمئنان، وقد ساعده كثيراً درجة الحزن الفاتن لفيليب ساردي، والتي يعبر عنّها ميشيل على البيانو. وقد قال ماستروياني لاحقاً إنَّ الجو في الاستديو كان أشبه بوليمة أو جنازة مبهجة". تذكر غوغنازي أنّه قد استمتع لأول وهلة برائحة الطعام، ولكن سرعان ما تحولت المتعة إلى شعور بالغصة. "جاءت اللحظة عندما تحولت جميع هذه العطور إلى محفزات للإزعاج ثم الغثيان." فيريري، قال شارحاً، " ترك الكعكة تتعفن من تلقاء نفسها، وتصوير قصته بتسلسل تأريخي، وقتل الشخصيات بترتيب ضرورة انصراف ممثليه إلى أعمالهم التالية، بيد أنَّ كل الميتات التأريخية تمخضت عن معاناة حقيقية. " لم يكن الأمر مجرد تمثيل؛ لقد شعرنا بالوحدة، وعندما أتى دوري، كان نواريه مصدوماً. لقد قال لي : "لا تمت، أنا خائف!" وذلك لأنّ تجربة بيكولي على أية حال كانت مبهجة: " كان فيريري في ذلك الوقت يعتبر خطراً سياسياً، وذهنياً وجنسياً. أنت لمتسمع أبداً عن أربعة رجال اجتمعوا ليقتلوا أنفسهم نهماً! استمتعنا بكوننا العرائس الغرائبية للحزن، حتى نموت في ذروة النشوة؛ وأن نموت في حيوانية وليس من اليأس الذهني...وبالطبع قرأنا النص، ولكن حالما بدأ التصوير لم ينظر إليه أحد مجدداً. لقد كنا نخترع على الدوام، وظللنا في ذات الوقت منتبهين بشدة إلى فيريري، ولكنه هو الآخر كان يتابع باهتمام مقالبنا. لفيريري مخيلة عميقة. لقد كان رجلاً يؤمن بحرية الإبداع، ويفهم أننا دخلنا في لعبته بكثير من المتعة."
كان الفيلم ضربة قاضية لدار الفنون على مستوى عالمي، ولكن النقاد لم يتفقوا في حكمهم عليه. هل كان يمثل إساءة مريضة للأدب العام، أم طرفة مضحكة، أم تهكمًا على البرجوازية؟ لم يفسر الفيلم أبداً لم كان الرجال يريدون الموت، ولم يفعل فيريريهو الآخر في المقابلات اللاحقة معه. كل ما كان يقوله إنّه كان فيلماً "فسيولوجيا" حول الحقيقة المأساوية الوحيدة، الجسد".
وبحسب رأي توغنازي فإنّه كان عن الاستنزاف، وفقد الإيمان والأزمة الوجودية الحديثة. ويفصح بيكولي عن ملاحظته: " برز اللحم والطعام والجنس في أفلام فريري دائماً؛ تحولت إلى طقوس لقتل الوقت."
كان فيلم الوليمة الباذخة هو قمة النجاح المهني لفيريري. وقد اعتبرت أفلامه اللاحقة حكايات الجنون العادي، ويوميات نائب، والبقية على أنّها مجرد محاولات لإحداث الصدمة. وأصبح النقاد أكثر هجومية، وظل الجمهور بعيداً، ومات فيريري بسبب أزمة قلبية عام 1996. كانت هنالك إعادة تقييم مؤخراً. فيلم وثائقي تقديري، ماركو فيريري: المخرج الذي رأى المستقبل، ظهر في إيطاليا عام 2007، وكذلك كتاب، ماركو فيريري: ميلانيّ في روما، والذي تضمن مقدمة لامعة من عمدة روما. تعقبه دراسة لأستاذ مناصرٍ للنساء في جامعة سابينزا ربما كان أقل إطراءً. بينما حصلناقد آخر، هو ماوريزو فيانو على اكتشاف مثير للاهتمام حول فيلم الوليمة الباذخة: إنّ التحف التي تبدو موزعة في القصر على نحو عشوائي، خاصة اللوحات على جدرانه، كانت في الحقيقة مفاتيح تشير من بين أشياء أخرى إلى صلة بالنظام "الخلطي" للطبيب العالم الروماني-الإغريقي القديم غالين، فقد عمل غالين في روما القرن الثاني، وقد كان لعمله أثر على الطب حتى عصر النهضة. يقول فيانو مفسراً:وظّف فيلم [الوليمة الباذخة] خصائص صورية تقرّها قرون من أعمال الحفر على الخشب، والنقوش والرسومات واللوحات.
تنشأ الأمزجة الأربعة من سوائل الجسم الأربعة التي يعتقد أنّها تنتشر في جسم الإنسان. وهي أيضاً توافق العناصر الأربعة: السوداوي، المرة السوداء، والأرض؛ المرة الصفراء ، صفراوي، المرة الصفراء، النار؛ دموي، الدم، الهواء؛ وبلغمي، البلغم، الماء[..] وفي اتساق كامل مع فكرة العصور الوسطى التقليدية، [يضع فيلم الوليمة الباذخة] رتبة الدموي في الأعلى، والسوداوي في الأسفل." ميشيل على سبيل المثال، يمثل الهواء: "انتفاخ بطنه ضرورة نصّية وليس استفزازاً لا مبرر له". مارشيلو يمثل النار (إنّه يحبّ المحركات) وهو مرتبط بالصفراء والبراز. وبالعودة إلى الوراء قليلاً، يبدو من الواضح أنّ الفيلم لا يشير فقط لفسوق روما الإمبريالية بل يعيد تجسيده.وبشكل أكثر تحديداً، إنّه يستحضر الحقبة التي كانت فيها روما- على حد تعبير مؤرخ الأطعمة باتريك فاس- بخلاف المجتمع الغربي المادي الذي مقته فيريري في السبعينات- أصبحت "معدة العالم".

لقد أتخمت روما الامبريالية نفسها على إنتاج إمبراطورية كاملة، وذبحت وأكلت الكثير على حساب الحياة البرية في شمال أفريقيا، إلى حدٍ انقرضت معه أنواع عديدة من الحيوانات. الوسائد الذهبية، والأغطية في الوليمة الباذخة تستدعي إمبراطور القرن الثالث إلاغابالوس (المعروف أيضاً باسم هيليوغابالوس) والذي "كان يستخدم لوسائده أغطية ذهبية" و" ترك نفسه نهباً لأفدح الملذات" [جيبون]. ويبرز إلاغابلوس في ميدان فسوق الرومان القدماء المزدحم، فعندما اعتلى العرش كان في الرابعة عشر من عمره، وأظهر شهية مذهلة للطعام والجنس. حتى في الوقت الذي يكون جميع من في المدينة متخمين، كان إيلاغابالوس يتناول البسكويت. لقد كان لا يرى غضاضة في إنفاق ثلاثة ملايين عملة فضية على وجبة واحدة، وكان يأكل اثنين وعشرين طبقاً من اللحم في الجلسة (يتبع كل طبق في العادة بفسحة سريعة من "اللهو" مع النساء). لأنّ الغرائبية تغلب على كل شيء، كان إلاغابلوس يأكل أخفاف الإبل، وألسنة البلابل، وأدمغة طيور النحام[الفلامنغو المائي]، ورؤوس طيور التدرج، وقدُمت له مرة رؤوس عدد من النعام. حتى حيواناته استمتعت بالرفاهية فيالطعام: فكانت الكلاب تطعم من أكباد الأوز، والخيول من الأعناب النادرة، وأسوده الأليفة من الببغاوات. مثل شخصية ماستروياني في فيلم الوليمة الباذخة، كانت شهية الامبراطور للطعام لا تنفصل عن جنسانيته الجنونية،لكنه كما يخبرنا جيبون، " لم يكن التطرف في سلوكياته كافياً لإرضاء العجز في عواطفه". وكان مارشيلو في الوليمة الباذخة يتنشق الملابس الداخلية، ويرتديها على رأسه قبل أن يتمكن من مضاجعة العاهرات؛كان إلاغابلوس يرتدي ملابس النساء ليحاضر مومسات روما" حول ضروب متعددة من الأوضاع ومختلف أنواع العهر". كان مارشيلو يستثار بسيارته البوجاتي الصغيرة الزرقاء. أما إلاغابلوس فقد كانت له عربات مطلية بالذهب تقودها الأسود، والنمور والأفيال، وكان يستقلها عارياً في عربة مدولبة تجرها فرقة من النساء الجميلات العاريات. وكان الامبراطور الفتيّ يسافر خارج روما في موكب من ستين عربة. (واحدة له والبقية للرفقة الشبِقة المحرومة".) وعلى ما يبدو، كما في فيلم الوليمة الباذخة، لا ينبغي دوام هذه الدرجة من المتعة. لقد اغتيل إلاغالابوس في أحد الحمامات على يد أحد حراسه، الذي قام بعدها بحشر الجثة في إحدى أنابيب الصرف، ورماها في نهر التيبر.
فاق إنفاق إلاغابلوس الجميع، لكنه لم يتمتع بذوق فريد على أية حال. فقد كانت توليفة الطعام والجنس والموت روتينية جداً. وقد تهكم جوفينال، في واحد من أعماله الساخرة على أولئك "الذين يقبع السبب الوحيد في حياتهم على أطباق موائدهم"، وينفقون على الأطعمة الفاخرة أكثر مما يستطيعون تحمله، حتى إنّ أحد الأباطرة ذوي الشعبية الكبيرة مثل كلوديوس (باني قنوات نقل المياه، وغازي بريطانيا، والبطل الخلوق، كلوديوس) الذي أقام الولائم لمئات الضيوف، وكان "جاهزاً للأكل والشرب في أي مكان وأي زمان". "لم يضع حدوداً للقاءاته الجنسية مع النساء" وكان يستمتع بمشاهدة عمليات التعذيب والإعدام.كان خلفه تيبريوس قد أصر مرة على أن تخدمه النادلات العاريات:وقد اشتهر كاليغولا، دومتيان ونيرون جميعهم، بالبذخ الذي تضمن الإفراط في الأكل، والجنس الشاذ، والموت في كثير من الأحيان. بلاتيانوس نديم الإمبراطور سيبتيميوس سيفيروس "أصبح الأكثر حسيّة بين الرجال؛ لأنّه كان يحشر نفسه في الموائد ويتقيأ أثناء تناوله الطعام". لقد كان مديره هو الآخر "يفخر بنفسه، وبسخائه على وجه الخصوص" لأنّه وفي زفاف ابنه كاراكالا، قدّم مائدة وضع فيها "أطعمة مطبوخة وغير مطبوخة، وعدة حيوانات ما زالت حية".
بل والأكثر إثارة للاهتمام هو "الخنزير البري الضاري" و"الخنازير الرضيعة" في فيلم الوليمة الباذخة التي تشير بشكل مباشر إلى "خنزير بري هائل الحجم" و"خنازير رضيعة صغيرة مصنوعة من المعجنات" للوليمة في كتاب ساتيريكون لبيترونيوس. هذه الرواية القديمة الساخرة، والمكتوبة في عهد نيرون، تسخر من ابتذال روما الإمبريالية- وكانت مفضلة لدى أوغو توغنازي. الجزء الأكثر شهرة من الكتاب كان يصف وليمة جنونية أقامها عبد سابق يدعى تريمالكو. وهي تشتمل على مختلف أنواع اللحوم والنقانق وعصيدة الدم، والخنازير الكاملة المشوية، والأوز والدجاج والسمك. وقد كانت وليمة تريمالكو هي الأخرى ثقيلة بنكهة الموت، لأنّه كان يجبّر ضيوفه على حضور [يتهكم] جنازته الخاصة. ويعلّق الراوي: " لقد اعترانا في هذه اللحظة شعور بالغثيان، وكنا على وشك التقيؤ." في عام 1968 عندما سمع توغنازي أنّ فيليني كان يخطط لصنع فيلم مستلهم من ساتيريكون، توسل إليه أن يسمح له بلعب دور تريمالكو. ولكن فيليني لم يوافق، ولعب توغنازي الدور على أية حال، وقد كان تنكره فظيعاً، مع شعر مستعار باللون البرتقالي وهرع ليكون أول من يصل إلى السينما قبل أن يفسد المفاجأة. كان الانتصار سلاحاً ذا حدين. أقام فيليني دعوى قضائية وأُدين صناع الفيلم بالسماح لصبي دون العمر القانوني بالظهور في مشاهد جنسية مصورة. وقد كان توغنازي الأشهر في العالم المتحدث باللغةالإنجليزية بسبب دوره كواحد من مالكي أندية المثليين في فيلم قفص المجانين، كان شخصية ثقافية مهمة في روما. يتمتع بجانب فكري قلق جداً، ولا يتورع عن الغزل الصريح في أحيان كثيرة. لقد قام أيضاً بإخراج خمسة أفلام صغيرة، بعضها مشحون بالجنس. وفي عام 1978، السنة التي تم فيها اختطاف آلدو مورو وقتله، وردت أخبار عن اعتقال توغنازي بصفته قائداً للكتيبة الحمراء الإرهابية. ونُشرت صوره التي انتزعتها الشرطة من منزله في كل مكان، واعتقد أنّه حقاً كذلك. في الحقيقة لقد كان الأمر حيلة لصالح مجلة الرجل الساخرة، ولم يتوان توغنازي عن تقديم العون.
في عام 1983، وربما بإدراك للمتعة التي حظي بها ميشيل بيكولي في فيلم الوليمة الباذخة، لعب( بحرية كما يقول) دور البطولة في فيلم البيتومان، وهي قصة حقيقية عن " الضّراط" الفرنسي جوزيف بوجول، الذي كان يسّلي الجمهور قبل الحرب العالمية الأولى بإطلاق الريح على نغمات موسيقية.
كان شغف توغنازي الحقيقي هو الطعام، كما كان يقول دائماً. وفي واحد من كتب السيرة الذاتية في الطبخ، (L'abbuffone) وهي كلمة مشتقة من الوليمة الباذخة Le Grande Abbuffata وتعني "محبّ الولائم" أو "المبذر"، ويزهو توغنازي بأنّه يعرف جميع طهاة أفضل مطاعم أوربا، وأنَّ الطبخ يجري في دمه. " بالطبع تجري في دمي الكريات الحمراء والبيضاء، ولكني أعتقد أيضاً أنَّ هنالك نسبة وافرة من صلصة الطماطم، فأنا مدمن على الموقد." وكثيراً ما كان يرفض الظهور في الأفلام ما لم يكن ذلك يتضمن مشهداً في المطبخ ليستعرض مهاراته في الطبخ. " أشعر بالحياة تتدفق فيّ عندما أكون أمام المقلاة. وصوت زيت القلي يستحيل في أذني إلى أعذب نغمات الموسيقى. وقد استخدمُ معطرًا من صلصة اللحم لما بعد الحلاقة.. يستدعي براوست الماضي بواسطة أي شيء كان. وبالطريقة ذاتها أتذكر الأيام الخوالي بالطعام. مثلاً يذكرني الدجاج المسلوق بجدتي."
وكما سوف نرى في الفصل التالي، فإنَّ الثقافة النهم المفرط في روما اندثرت في آخر المطاف بسبب الانهيار الاقتصادي للإمبراطورية، والدوافع القهمية للزهد المسيحي، بيد أنّ البندول تأرجح عائداً في النهاية. انقشعت العصور المظلمة، وأُعيد اكتشاف الكتب القديمة، ووجدت الحسيّة الجنسية طريقها من جديد إلى مراكز السلطة في روما. وقد ألمح توغنازي لجميع ذلك عام 1984 في كتاب مهم بعنوان أفروديت وفن الطبخ، الذي قام بتصميم الرسومات الإيضاحية لنصوصه رسام الكارتون الإيروسي جودو كريباكس، وهي مزيج بين الوصفات والحوار الإفلاطوني (استعار فيريري لاحقاً فكرة المأدبة، وهي إعادة تمثيل لندوة إفلاطون لقناة تلفزيونية فرنسية).
وقد طبخ توغنازي وجبة دسمة لكتابه، ودعا إليها مجموعة من المثقفين الرومان لمناقشة العلاقة بين الجنسانية والأكل. وقد وافق المثقفون على أن يساهموا ولكن بشرط عدم ذكر أسمائهم. وبالطبع كما يذكر توغنازي، فقد طُرح موضوع آل بورجيا. ففي الأسطورة الشعبية يعتبر رودريغو بورجيا، الذي أصبح في ما بعد البابا إلكسندر السادس، رجل شرير للغاية، وكذلك ابنه سيزاري وابنته الخطيرة لوكريزيا. بيد أنّ المؤرخين في منتدى توغنازي تحدثوا عن البابا بورجيا بإعجاب واضح، وليس فقط بسبب باليه كسارة البندق: " كانت هنالك خمسون محظية رائعة الحسن وعارية بالكامل، يجمعن الكستناء حبواً على أربعٍ. وقد كانت ثمار الكستناء ترمى إليهن من قبل الرجال في الحفل، وهكذا أصبح الحفل ماجناً، وفي النهاية قدمت الجوائز السخية للرجال الذين أظهروا الفحولة العظمى مع المحظيات الخمسين. لقد كانت من طقوس العربدة الأصيلة التي تشير بجلاء إلى سمة ذاك العصر!" وبعيداً عن كونها فضيحة، استطرد المؤرخون، إنّها واحدة من علامات عصر النهضة البارزة، عصر اشتهر بما فيه من "بحثٍ مضنٍ عن الجمال وإعادة اكتشاف القيم التقليدية". وبدلاً عن الاستهجان، أعلن، "البابا بورجيا" يجب أن يُمدح "لفضوله الشديد تجاه الأمورالجنسية". وقد "ولدت الإنسانية من جديد" خلال عصر النهضة، وقد تبارى تجار السلطة والبلاط في إيطاليا مع بعضهم البعض في صناعة الثروة والجمال. إنّه عهد العبقرية العالمية، والفن غير المسبوق والتسامح. وقد وجد العباقرة مثل ليوناردو، وفرانسسكو سفورزا وإيزابيلا غونزاغا، قبولاً تاماً في المجتمع، والذين تصادف أنّهم جميعاً أبناء غير شرعيين وربما تعرضوا للمقاطعة في العصور الأقل تسامحاً. وارتكزت كل هذه العبقرية على ذلك النوع من الحسيّة الذي يمثله البابا بورجيا، الذي شجع المؤرخين على الاستطراد في الإشادة بالفجور الذي تفشى في أرجاء اوربا أثناء عصر التنوير. " إنْ تابعنا مذكرات كازانوفا، سنجد صورة للعالم الواقع تحت سيطرة الهياج الجنسي. العلاقات الجنسية بين ثلاثة وأربعة أشخاص. اللهو بين الارستقراط والعمال، والراهبات والخدم!" وسرت عدوى حماسته لتعمّ معظم ضيوف الندوة. يخبرنا توغنازي: " إنَّ حرية الروح والعقل، بهجة هذا التحليل التجريبي، كله بدا وكأنه له صدىً حول المائدة، وقد فتح المؤرخ ذراعيه في إيماءة مسرحية، كما لو أنّه يشكر جمهوره." عادوا إلى الحوار العام، وبدأ المدعوون تناول الطعام مجدداً. ولكن عالم الاجتماع على ما يبدو كان الوحيد الذي لم يقتنع. لقد حكّ لحيته وتساءل: " أتقولون إنّ الأمر المهم عن عصر التنوير أنّه ...أدى إلى العربدة؟" كان لدى المؤرخ بلا شك إجابة رائعة إلى حد الكمال، ولكنّه لم يكن قادراً على الكلام. كان فمه مشغولاً بشيء آخر.

--------------------
قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روما
تأليف: ديفيد ونر- ترجمة: أميمة قاسم
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة منAl Dente قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روماتأليف: ديفيد ونر- وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قبيل النضج : الجنون والجمال والأغذية في روما
تأليف: ديفيد ونر- ترجمة: أميمة قاسم
الفصل الثاني: الوليمة
----
"أنتم غرباء الأطوار. غرباء ومقرفون! لماذا تأكلون إن لم تكونوا جوعى؟ يا للسخف!"
---
غُرست بذرة أشد الأفلام التي صنعها الرومان عن الطعام جموحاً، وأكثرها إزعاجاً على الرغم مما فيه من جمال على نحو غريب في مطعم شاسع البعد. في أحد أيام الآحاد في بداية السبعينات، وجد صانع الأفلام الفوضوي- المشاكس العبقري والبدين الجريء-ماركو فيريري نفسه وكثيراً ما كان يفعل في مدينة باريس مع مجموعة من الأصدقاء من بينهم الممثل أوغو توغنازي؛فقرروا تناول وجبة الغداء في برونيير بالقرب من قوس النصر، واستمتعوا بوجبة سخية وافرة وأمضوا في رحابها وقتاً غير قليل. وعندما أزف أوان الانصراف كان معظم الرجال متخمين حتى إنّهم تمكنوا بالكاد من السير، ولكن أما فريري فقد كان قلقًا بشأن أمر آخر:" ماذا سنأكل الليلة؟" اقترح أحدهم المعكرونة، فوافق، فساروا جميعاً يترنحون إلى شقة أحد الأصدقاء حيث شرع توغنازي- وهو طاه مشهور، وفي الوقت ذاته أحد نجوم الكوميديا الرومانسية الأكثر شعبيةً في إيطاليا- في الطبخ فوراً. استأنفوا الأكل إلى وقت متأخر من الليل. وفي اليوم التالي استيقظ فيراري في حالة من الحماس، فألقى بسؤاله: " ما رأيكم في عمل فيلم عما فعلنا البارحة؟". " لقد كتبنا النص بالفعل!
حشر أربعة أشخاص أنفسهم في مكان ما ليأكلوا، فأتخموا حتى الموت! واسمه"الوليمة الباذخة!" وهرع إلى منتجه ظهر ذلك اليوم. وبحلول المساء كان قد أبرم عقد إنتاجه!
ومن بين جميع عباقرة السينما في روما ما بعد الحرب، كان فيريري المشاغب السوداوي قد قوبل بتجاهل كبير، بيد أنّه الأكثر إثارة للاهتمام في موضوع الطعام.
لم ينعم فيريري بالسعادة في طفولته. نشأ في مدينة ميلانو. وعمل في مصنع للشراب حيث كان مسموحاً له بصنع الأفلام الدعائية القصيرة. ثم انتقل إلى روما في أواخر الأربعينات بينما أخذت صناعة الفيلم في الازدهار، وأخذ يتسكع مع الكُتَّاب والممثلين والمخرجين الطامحين في مطعم اوتيلو على جادة الصليب (ما زال المطعم صامداً بقوة). والأصدقاء من تلك الحقبة يذكرونه كما كان فتىً ميلانيّاً ذا "قناع روماني قديم". وكان في الصور يجسّد مزيجاً غريباً: شخص امبراطور له حسن طفل بهي، وقوام تمثال غريب، وعينان ساحرتان في وجه منتفخ تحفه لحية تحاكي سولجينيتسين.
وقليلاً ما كان يتحدث عن طفولته عدا ما يخص العلاقة السيئة بأمه (والتي كانت بدينة هي الأخرى) وقد سلّى رفاقه بأكل كميات كبيرة من الاسباجيتي، واللحم والكعك متبعاً كل ذلك بكميات لا تقل من السلطات (" حتى لا يصبحوا بدناء"). وقد كانتله، كما يقول أحد معارفه، " عينان زرقاوان باكيتان وابتسامة مريرة على وشك التحول إلى تذمر حيال شريحة اللحم التي كادت أن تحترق، أو عدم جودة تتبيلة السلطة".
حاول فيريري التمثيل والإنتاج وصادق الكثيرين. ولكنه لم ينتم أبداً إلى عالم السينما الروماني الذي كان واقعاً تحت سيطرة روح الواقعية الجديدة. فالواقعية لم تك من اهتمامات فيريري؛ إذكان يميل إلى الأمثولات السوداوية والخيالية. وفي أواخر الخمسينات، عندما قام بتحرير مجلة في نظريات السينما لفترة وجيزة، كان اقتصاد روما ومزاجها في مرحلة تحول، ووقفت المدينة على حافة عصرها السينمائي الذهبي. كانت الأموال الأمريكية تتدفق بغزارة في فيلم" هوليود على ضفاف التيبر" في سينسيتا. وبدأت حقبة "السيف" و"الخف" ، وكانت تحفتا فيليني وانطونيوني الحياة حلوة والمغامرة في طريقهما إلى المجد. وكانت روما هي وجهته ليصبح صانع أفلام شابًا. وهكذا غادر فيريري البلدة. وكان انتقاله من مدينة "الحياة الحلوة" إلى إسبانيا فرانكو والفاشية سبباً في المزيد من التحرر على نحو مفاجيء. وتماهى خيال فيريري مع التقاليد الإسبانية القديمة للمسوخ والأساطير وجمعته مدينة برشلونة برافائيل ازكونا، وهو كاتب نصوص بونويلّيّ، أصبح فيما بعد صديق عمره. وعمل ازكونا وفيريري معاً في سبعة عشر فيلماً، بما فيها الوليمة الباذخة. وقد اشتركا في صناعة ثلاثة أفلام صغيرة معاً في إسبانيا قبل عودة فيريري إلى روما في 1961 لإخراج جزء "الزنا" من الفيلم المشترك بعنوان إيطاليان مغرمان(Italians in Love).
وربما كان فيريري الآن في طريقه. على مدى السنوات القليلة التالية صنع مجتمعاً برجوازياً كوميدياً مأساوياً وساخراً لا يفتقر للجموح، ومشيراً إلى ما به من هوس بدائي وفوضوي. دارت معظم أفلامه حول الطعام،والجنس والموت. ونظرته للعلاقات بين الرجال والنساء كانت جد كئيبة، وكان يعتقد أنَّ الحضارة على شفا الانهيار. وقد امتدحه أحد النقاد الإيطاليين على ما يتمتع به من "فكاهة، وشعرية، وقسوة، ومحبة".. وقد استهجن آخر ما فيه من "وقاحة، واشمئزاز، ومقت للنساء".
كثيراً ما تظهر الكلاب على سبيل المثال في أفلام فيريري، ممثلة الجانب الحيواني للإنساني، وكثيراً ما ارتبطت بالموت. كان شاطيء البحر مكانًا للقتل والهرب. ولطالما ما صور لنا فيريري أطلال قبة القديس بيتر في بعض الأحيان. كما لمّح لروما القديمة أيضاً، بشكل عامٍ كشعار على التفسّخ، والإسراف، والذاكرة الزائفة. وكما سوف نرى، تضمنت فكرة الإفراط في الأكل استحضاراً ضمنياً لروما الإمبريالية في فيلم الوليمة الباذخة. وقد جاء هذا الأمر أكثر صراحة في فيلم وداعاً أيها القرد، وقمة الرعب في الفيلم المبتذل "متحف تماثيل الشمع في روما القديمة"؛ حيث يدعي المالك بمكر أنّه يسعى لإنقاذ الحضارة من الانحلال والاندثار، فيستغل الصغير جنسياً بينما يتلو الخطب من مسرحية شكسبير يوليوس قيصر، ويضع نفسه في مكان الإمبراطور نيرون. وبعد مشهد مزعج تظهر فيه الجرذان والقرود الأليفة احترق الصرح عديم القيمة بالكامل فسوّي بالأرض.
كان لفيريري أيضاً عادة معارضة الأفلام ببعضها. ففي الوليمة الباذخة مثلاً، يموت أربعة رجال وتنجو امرأة. وفي فيلم الحريم الذي سبقه حدث العكس. كانت الشخصية الرئيسية مهندسة معمارية شابة تدعى مارغريتا (مثل ملكة نابولي والبيتزا البسيطة التي تحمل اسمها). وفي مارغريتا نموذج للمرأة الإيطالية المتحررة الجديدة في حقبة الستينات. جميلة وقوية، تتجنب الارتباط بأي من الرجال الأربعة في حياتها، ولكنهم في النهاية ينقلبون عليها، فيجبرونها أولاً على أن تصنع لهم وجبة، ثم يذمّون مهاراتها في الطبخ، ويرمون الاسباجيتي في وجهها. وفي نهاية المطاف يقتلونها بدفعها لتسقط من على الجرف. (بحسب كارول بيكر التي أدت الدور، فإنّ الخطة الأصلية كانت كوميدية، ولكن فيريري لم يتمالك نفسه، فجعلها مباشرة).
في هذه الأثناء، كان فيريري يطوّر علاقته بالممثلين العالميين الذي سيظهرون في فيلم الوليمة الباذخة. وكان دور البطولة لصاحب الصوت العذب أوغو توغنازي، صديق حميم عمل معه أول مرة عام 1963. وقد عرف توغنازي في السابق كنجم في الرومانسية الكوميدية الخفيفة بالإضافة إلى عدد من البرامج التلفزيونية التي تتسم باللطف والدفء. وقد أوكل إليه فيريري دور العازب في منتصف العمر في فيلم ملكة النحل، حيث يعمل بالقرب من الفاتيكان، ويتزوج فتاة تبدو عليها البراءة من عائلة محترمة. فتقدم على إخصائه، ثم قتله بالجنس في النهاية. في السنة التالية في فيلم المرأة القرد، يختار فيريري توغنازي مرة أخرى، هذه المرة في دور متنمر يستغل امرأة ذات شعر أكثف من المعتاد، بأن يقحمها في أحد العروض الخطِرة مما يؤدي إلى موتها، ثم يقع في حب جسدها. وفي فيلم الجمهور (1972) يلعب توغنازي دور رجل شرطة يساعد في تدمير ساذج بريء أراد أن يقابل البابا. ولا يسرق توغنازي زوجة الرجل فقط بل إنّه يحتل مطبخه أيضاً.
وفي منتصف الستينات انضم النجم مارشيلو ماستروياني إلى الفرقة.وقد كتب ماستروياني لاحقاً في سيرته الذاتية: إني أذكر، نعم أذكر:" أنَّ فيريري مخرج يترك المجال للفنان، وفي رأيي يتميز بخصلة رائعة : إنّه قليل الكلام. كانت علاقتي معه ثمرة لفترات طويلة جداّ من الصمت، والذي كان منعشاً بكل تأكيد. ولكنا فهمنا بعضنا البعض في فترات الصمت هذه. إنّي أحبّ نظرته البعيدة للعالم، والأشياء، والناس. لقد كان يتمتع بالأصالة. إنّي أحبّه جداً، وكصديق كان مفعماً بالعاطفة." وفي فيلم الرجل ذو الخمس كرات، أول أفلامهما الخمسة معاً، يلعب ماستروياني دور رجل أعمال به هوس غير معقول: محاولة معرفة النقطة التي تنفجر عندها البالون: وعندما تتخلى عنه زوجته، يتشارك وجبته مع كلبه من نوع سان بيرنارد. وفي إحدى الأمسيات أدرك أنّه سوف لن يتمكن من حل مسألة البالون أبدأ، وعليه يقفز من النافذة ليلقى حتفه ويقع صدفةً فوق سيارة أوغو توغنازي التي كانت تمر بالطريق. وينزعج توغنازي بشدة لهذا لأنّ سيارته تضررت. ينهي الكلب في الأعلى عشاء ماستروياني. وفي فيلم ليزا يعيش ماستروياني وحيداً في جزيرة مع كلب حتى تظهر كاثرين دينيوف على يخت. فتقتل دينيوف الكلب أولاً ثم تصبح كلبة. وترتدي ياقته، وتجلس على الزاوية تتوسل للحصول على بقايا الطعام. فلا يستطيع أيٌ من الرجل أو المرأة الفكاك من هذه العلاقة الرهيبة، فيموتان جوعاً. وفي المدينة الكبيرة، يهجر ماستروياني زوجته وابنته فيهدئان آلامهما بالتهام نفسيهما.
وفي عام 1969 حدثت طفرة مهمة في مسيرة فيريري تزامنت مع فيلم ديلنجر ميت، والفضل في بعض ذلك يعود إلى الأداء الحر المذهل لممثلٍ رائع آخر هو ميشيل بيكولي، في دور مالك مصنع لأقنعة غاز بضاحية إور التي بناها الفاشيون في روما، وهو مصاب بملل شديد. عاد بيكولي إلى المنزل ليجد زوجته- انيتا بالينبيرغ- طريحة الفراش جراء نوبة صداع نصفي؛ فناولها علاجها، وزجاجة ماء ساخن ثم أمضى ليلة عجيبة في أحداثها من طبخ وأكل ومشاهدة الأفلام وإغراء الخادمة ( بإطعامها شرائح من البطيخ بكل بساطة). ويجد في المطبخ مسدسه القديم، الذي ينظفه بزيت الزيتون، ويطليه باللون الأحمر المنقط بالأبيض على نسق بوهيمي ويستخدمه للإيماء إلى الانتحار. ويذهب في الفجر إلى غرفة النوم، يغطي بالينبيرغ بالوسائد، ويطلق النار على رأسها ثلاث مرات وبهدوء، ثم يقود سيارته من روما إلى البحر ويجد وظيفة في مجال الطبخ على يخت مسافر إلى تاهيتي. صنع الفلم في ظل "ثورة" 1968، فتسبب في فضيحة. وبحسب بيكولي والذي كان يظهر باستمرار على الشاشة، في ارتجال ودون حوار في الغالب، فلقد كان يدور حول استماتة رجل في عزلته "قام به" ولكنه "محاصر باليأس والانتحار والأرق والأحلام".
وكان بمقدور فيريري التمثيل إلى حد ما هو الآخر، وقد ظهر على نحو متكرر في أفلام أصدقائه والأفلام التي صنعها أيضاً ولكن في شيء من التحجيم. ففي مزرعة الخنازير، النموذج الفاشي شديد الغرابة لباسوليني، يظهر فيريري كأحد رجال الصناعة. وربما كان أكثر أدواره شذوذاً هو دور الجثة (ضحية طاعون عالمي غامض) في فيلمه الخاص بذرة الإنسان. ومثله مثل وداعاً أيها القرد، ويصور هذا الفيلم متحفاً لحضارة بائدة- ولكنها حضارتنا هذه المرة. فالمعروضات تتضمن ثلاجة، وتلفازاً، وقطعة من جبن البارميزان، وكومة من طماطم سيريو المعلبة. وهذا هو الفيلم الأول بالمناسبة، الذي تناول فيه أكل لحوم البشر. زوجة تأكل حبيبة زوجها على شاطيء ثم تقدم إحدى ساقيها مطبوخة لأمر نادر جداً. " هذا لحم طيب"، يقول الزوج متسائلاً: " ماهو؟" فتجيب الزوجة " استمتع"، وتنفحه بقبلة. ( وفي فيلم اللحم اللاحق، رجل في منزل ساحلي آخر يقتل حبيبته، ويضع لحمها في الثلاجة ويأكل منها شريحة في كل مرة، وفي فيلم كم طيبون هم البِيض، يأكل السكان المحليون مجموعةً من عمال الإغاثة الأوربيين الذين أتوا بالمساعدات إلى الساحل، غير أنّ ذلك يحدث بعد ليلة من الجنس العنيف.)
وبحلول أواسط السبعينات، وكما قال الكاتب السينمائي ر. ت. ويتكومبي، أصبح فيريري مهووساً بفكرة أنّ المجتمع الحديث كان "في سكرات الموت، يأكل أشلاءه حتى الانقراض". كانت هذه هي السمة الأساسية لفيلم الوليمة الباذخة. ولكن الفيلم يعكس أيضاً علاقة فيريري المعقدة بالطعام،فقد أمضى عدة أسابيع قبل بدء التصوير في عيادة سويسرية لعلاج نهم الطعام. كما زار أيضاً عيادة في بريتاني متخصصة في حميات التنحيف المفرطة التي تقوم على الخضروات والسوائل. بيد أنّها جميعاً لم تُجْدِ فتيلاً معه، لأنّ فيريري كان يحرص دائماً على تناول كميات كبيرة من الحلويات، والدسم والكريمة وكعك الشيكولاتة.
وهكذا وصلنا أخيراً إلى الوليمة الباذخة (والمعروف في اللغة الإيطالية ب La Grande Abuffata والإنجليزية (Blow out). يتعقب هذا الفيلم الفائق للعادة أربعة من الأصدقاء الناجحين في منتصف العمر بينما يجتمعون لأجل "مؤتمر هضمي" في قصر في ضواحي باريس. وكثيراً ما كان يعتبر فيلماً فرنسيًا ولكن جوهره ينتمي إلى روما القديمة بشكل خالص، فالقصر يبدو مثل ذلك القصر على التلة الذي يظهر في فيلم السيكوباتي "Psycho"، بيد أنّ الصدمة الأكبر تأتي من الجرأة التي أبداها ممثلو فيريري. إنّه لمن الصعب تصوير نجوم هذا العصر في هذه الحالة من عدم الخوف، وبالحرية التي تحلّى بها ماستروياني، وتوغنازي، وبيكولي، وفيلب نواريه (أول ظهور له في أفلام فيريري، وقد أصبح محبوباً لاحقاً لأدائه مع مخرجين آخرين مثل سينما براديسو وإل بوستينو) لعب كل رجل شخصية باسمه. مارشيلو قبطان ملاحة جوية، وأوغو طاهٍ، وميشيل مدير إحدى القنوات التلفزيونية، وفيلب قاضٍ مهووس بالأثداء ومريض بالسكر. وقد خططوا لأن يأكلوا حتى الموت، ولكنهم لم يفصحوا عن السبب.
وصلت في أول يوم لهم معاً كميات مرعبة من الطعام في سيارتين كبيرتين. وإحدى الثلاجات ملأى باللحم الصافي. بينما تكتظ الأخرى بالخضروات، والفواكه والمعلبات والأسماك. ونرى على الأقل نصف دستة من الخنازير الكاملة، ونسمع قائمة: عشر دزينات من دجاج غينيا " المغذى على الحبوب والعرعر"، والخنازير الرضيعة، وثلاث دزينات من الديوك الفتية، وعشرون دزينة من الدجاج، وعشرة من حملان سبخة الملح، " وخنزير بري ضارٍ جاهز للنقع في كافة أنواع التوابل"، " اثنان من غزلان الضاحية بعينين ناعمتين"، اللحم الفواح بأرج الغابة. وهنالك نعام أيضاً، وعصيدة دمٍ، ونقانق، وشيكولاتة ونبيذ فخم، وشمبانيا، وأجبان، والكثير غيرها.
وقد امتلأت بركة الحديقة والخزان الزجاجي في المطبخ كلاهما بالسمك الحي. طيور التدرج والأوز تتسكع حول المنزل، والحديقة الصدئة الزخارف. وسكرت الدجاجات في نبيذ ارماجناك الأبيض. هنالك الكثير من لحم البقر أيضاً. " سوف ترى كم هو من الممتع قطع التصوير"، يقول أوغو. ميشيل يؤدي نوعاً من الرقص البوهيمي، ممسكا برأس بقرة عالياً في الهواء ويتلو مناجاة النفس من هاملت. " بدأت الوليمة..." يقول مارشيلو الذي يبدو عليه التجهم.
وهذا ما يحدث. وسط روعة التعفن الخفيف للقصر المكتظ بشكل فني بالألوان والبهرجة الرخيصة، بدأ الرجال المضغ والقضم والامتصاص والشرب بلا توقف. في بعض الأحيان كانوا يجلسون على طاولة العشاء، أو في المطبخ. وفي أحيان أخرى كانوا يتكؤون على الوسائد الذهبية مثل أباطرة الرومان. وقد كان انطوى تقمص اوغو العجائبي لشخصية مارلون براندو في فيلم العرّاب بعض الراحة، فارتدى ميشيل ثوب الرقص ليؤدي تمارين الباليه عند البار، بيد أنّ هذا الأمر أضحى مستحيلاً بعدة بضعة أيام. كان هنالك الكثير من الجنس أيضاً والنساء العاريات يزينّ الطعام. ولكن سرعان ما تغادر المومسات الثلاث اللواتي استأجرهن الرجال اشمئزازاً، إذ هربن بعد أن تقيأن. " أنتم غرباء الأطوار،" قالت إحدى الفتيات. " غرباء ومقرفون! لِمَ تأكلون إن لم تكونوا جوعى؟ يا للسخف!"
كان معظم الطعام فرنسياً ولكن تعمد أوغو أن يصنع بيتزا، وتالياتيلي رائعة، وكان يتحدث بالإيطالية إلى أحد الخنازير التي كان يقوم بشيّها على العصا. كان مارشيلو يدخل حاملاً التورتيليني بكريمة عش الغراب.( وقد عكس هذا المشهد الصداقة التي جمعتهم خارج الشاشة: فيريرين وتوغنازي وماستروياني دائماً ما يلتقوا في باريس لتناول "الطعام الإيطالي"، الذي عادة ما يكون من طبخ توغنازي). وعندما انتفخ بطن ميشيل بالغازات، وأرقده على فراش المرض، خفق له اغو بوريه البندق"العلاجي"، وعنفه في تقليد ساخر لأمٍ خرِفة: " إن لم تأكل لن تموت." وفي الحقيقة كان ميشيل مهووساً جداً بالبندق- وهي إشارة على حسب افتراضي إلى "باليه كسارة البندق" الشهير (والمعروف أيضاً ب " نشوة بورجيا") والذي كان في الفاتيكان عام 1501. تضمن هذا بحثًا عن الكستناء تقوده المومسات العاريات وجوائز مالية للكرادلة الذين حظوا بأكبر قدر من المتعة الجنسية.
نعود إلى القصر حيث حالة الرجال البدنية تتدهور بسرعة. يذهب مارشيلو إلى الحمام "لينتعش" ويبعث ذلك على انفجار نافورة غائط من مقعد الحمام. وقد كان منظره وهو يصرخ في غطاء من القذارة على وجه التحديد صادماً لرواد السينما الإيطاليين. " إنه طوفان عام" كما يقول ميشيل. "الرائحة- سوف تلتصق بنا إلى الأبد،" يقول أوغو في أسى شديد. وكان من المقدر لشخص واحد فقط في المنزل، معلمة في مدرسة، بريئة الملامح اسمها اندريا (الممثلة الفرنسية اندريا فيريول)، أن تنجو من هذا الفسوق، فقد أتت للعشاء في اليوم الثاني ولم تغادر، كاشفةً عن شهواتها الخاصة الهائلة، وبكل هدوء انخرطت في ممارسة نهمها للطعام والجنس مع كل الرجال في المنزل. كانت فيريول لا تشعر بالراحة تجاه الدول لكنها وافقت لأنها لا تريد تضييع الفرصة للعمل مع بعض أشهر النجوم في أوروبا. وقد طلب إليها فيريري قبل التصوير أن تزيد وزنها من أجل أداء الدور، الشيء الذي كان مثار إزعاج بالنسبة لها. وكان فيريري يطلب منها المزيد في كل مرة كانت تظن فيها أنّها تناولت ما يكفي من الطعام. ولم يكتسب أيٌ من الممثلين الأربعة المزيد من الوزن.
وقد بدت أندريا في باديء الأمر كمومس مقدسة من النوع الذي كان شائعاً في السينما الإيطالية. ولكن لم يطل هذا قبل أن تكشف عن جانبها الأكثر إظلاماً. عندما ذهبت هي وفيليب لذبح بعض الديوك الرومية في الحديقة، لقد بدت عليها خيبة الأمل أن تعلم أنّه لم يرسل أي شخص إلى المقصلة من قبل بصفته قاضيًا.لقد التقطت سيفه وأصبحت ملاكاً للموت، تغوي، وتغري، وتستفز وتقود الرجال إلى النسيان.
الميتات، عندما حدثت أخيراً، كانت هي الأكثر شذوذاً في عالم السينما. كان مارشيلو الفيتشيّ، مهووساً بالجنس ذا عنّة، يتجمد في مقعد سيارته المحبوبة العتيقة من نوع البوجاتي، واحدة من الأماكن القليلة التي كان يتمكن فيها من الإنعاظ( نلحظ في النهاية كلبًا يأخذ مكانه في مقعد السيارة.) ميشيل، الذي يعاني بزيادة الآلام الناجمة عن الغازات التي تنتفخ منها أمعاؤه، فيدخل في حالة من الضراط المستمر حتى الوفاة. لم تكن هنالك جنائز، بيد أنّ فيليب وأوغو قاما بوضع جثتي صديقيهما في ثلاجة كبيرة وأوصداها. بدأت الكلاب الضالة تحتشد في الحديقة. أما مَنيَّة أوغو فقد كانت الأكثر شناعة. وبما أنّه طاهي الفريق، فقد قام بغالبية أعمال الطبخ. والآن يخرج تحفته النهائية: يأتيه الدجاج والبط العملاق على هيئة قبة سان بيتر. ويصرّ على أنّها عمل شعرّي. " إنّها شعر قذر" يقول فيليب، الذي يرفض أكلها. عليه يقوم أوغو بأكلها كلها وحده. وبحلول الظلام كان بالكاد يستطيع أن يجلس معتدلاً. يتصبب عرقاً ويتكيء على الوسادة الذهبية على طاولة المطبخ بينما يقوم فيليب بإطعامه آخر قطع القبّة وتمتليء عينا اندريا بالدموع، وهي تدلّك قضيبه حتى يصل إلى رعشته الأخيرة. وقد جاء حتف أوغو متزامناً مع وصوله إلى ذروة الانتشاء الجنسي. في اليوم التالي، جاء دور فيليب، المصاب بالسكر والولع المرضي بالأثداء، والذي كانت أندريا تصنع له مهلبية "شهية جداً وشديدة الحلاوة"على هيئة الحلمة. فيقضي نحبه بين ذراعي أندريا، بينما تصل شاحنة بيضاء أخرى حافلة باللحوم، فتزيح أندريا جسده بعيداً، وتخبر عمال التوصيل بأن يتركوا اللحم في الحديقة، والتي استولت عليها الكلاب النباحة الآن. وبما أنّ كل هذه المشاهد قد صورت بمزيد من البهرجة من قبل ارجينتو أو فيليني فربما كان فيلم الوليمة الباذخة أفظع إلى الحد الذي لا يشجع على مشاهدته. ولكن قام فيريري بالتقليل من شأن كل هذا. فقد كان أسلوبه في التصوير يتسم بالأناقة والاطمئنان، وقد ساعده كثيراً درجة الحزن الفاتن لفيليب ساردي، والتي يعبر عنّها ميشيل على البيانو. وقد قال ماستروياني لاحقاً إنَّ الجو في الاستديو كان أشبه بوليمة أو جنازة مبهجة". تذكر غوغنازي أنّه قد استمتع لأول وهلة برائحة الطعام، ولكن سرعان ما تحولت المتعة إلى شعور بالغصة. "جاءت اللحظة عندما تحولت جميع هذه العطور إلى محفزات للإزعاج ثم الغثيان." فيريري، قال شارحاً، " ترك الكعكة تتعفن من تلقاء نفسها، وتصوير قصته بتسلسل تأريخي، وقتل الشخصيات بترتيب ضرورة انصراف ممثليه إلى أعمالهم التالية، بيد أنَّ كل الميتات التأريخية تمخضت عن معاناة حقيقية. " لم يكن الأمر مجرد تمثيل؛ لقد شعرنا بالوحدة، وعندما أتى دوري، كان نواريه مصدوماً. لقد قال لي : "لا تمت، أنا خائف!" وذلك لأنّ تجربة بيكولي على أية حال كانت مبهجة: " كان فيريري في ذلك الوقت يعتبر خطراً سياسياً، وذهنياً وجنسياً. أنت لمتسمع أبداً عن أربعة رجال اجتمعوا ليقتلوا أنفسهم نهماً! استمتعنا بكوننا العرائس الغرائبية للحزن، حتى نموت في ذروة النشوة؛ وأن نموت في حيوانية وليس من اليأس الذهني...وبالطبع قرأنا النص، ولكن حالما بدأ التصوير لم ينظر إليه أحد مجدداً. لقد كنا نخترع على الدوام، وظللنا في ذات الوقت منتبهين بشدة إلى فيريري، ولكنه هو الآخر كان يتابع باهتمام مقالبنا. لفيريري مخيلة عميقة. لقد كان رجلاً يؤمن بحرية الإبداع، ويفهم أننا دخلنا في لعبته بكثير من المتعة."
كان الفيلم ضربة قاضية لدار الفنون على مستوى عالمي، ولكن النقاد لم يتفقوا في حكمهم عليه. هل كان يمثل إساءة مريضة للأدب العام، أم طرفة مضحكة، أم تهكمًا على البرجوازية؟ لم يفسر الفيلم أبداً لم كان الرجال يريدون الموت، ولم يفعل فيريريهو الآخر في المقابلات اللاحقة معه. كل ما كان يقوله إنّه كان فيلماً "فسيولوجيا" حول الحقيقة المأساوية الوحيدة، الجسد".
وبحسب رأي توغنازي فإنّه كان عن الاستنزاف، وفقد الإيمان والأزمة الوجودية الحديثة. ويفصح بيكولي عن ملاحظته: " برز اللحم والطعام والجنس في أفلام فريري دائماً؛ تحولت إلى طقوس لقتل الوقت."
كان فيلم الوليمة الباذخة هو قمة النجاح المهني لفيريري. وقد اعتبرت أفلامه اللاحقة حكايات الجنون العادي، ويوميات نائب، والبقية على أنّها مجرد محاولات لإحداث الصدمة. وأصبح النقاد أكثر هجومية، وظل الجمهور بعيداً، ومات فيريري بسبب أزمة قلبية عام 1996. كانت هنالك إعادة تقييم مؤخراً. فيلم وثائقي تقديري، ماركو فيريري: المخرج الذي رأى المستقبل، ظهر في إيطاليا عام 2007، وكذلك كتاب، ماركو فيريري: ميلانيّ في روما، والذي تضمن مقدمة لامعة من عمدة روما. تعقبه دراسة لأستاذ مناصرٍ للنساء في جامعة سابينزا ربما كان أقل إطراءً. بينما حصلناقد آخر، هو ماوريزو فيانو على اكتشاف مثير للاهتمام حول فيلم الوليمة الباذخة: إنّ التحف التي تبدو موزعة في القصر على نحو عشوائي، خاصة اللوحات على جدرانه، كانت في الحقيقة مفاتيح تشير من بين أشياء أخرى إلى صلة بالنظام "الخلطي" للطبيب العالم الروماني-الإغريقي القديم غالين، فقد عمل غالين في روما القرن الثاني، وقد كان لعمله أثر على الطب حتى عصر النهضة. يقول فيانو مفسراً:وظّف فيلم [الوليمة الباذخة] خصائص صورية تقرّها قرون من أعمال الحفر على الخشب، والنقوش والرسومات واللوحات.
تنشأ الأمزجة الأربعة من سوائل الجسم الأربعة التي يعتقد أنّها تنتشر في جسم الإنسان. وهي أيضاً توافق العناصر الأربعة: السوداوي، المرة السوداء، والأرض؛ المرة الصفراء ، صفراوي، المرة الصفراء، النار؛ دموي، الدم، الهواء؛ وبلغمي، البلغم، الماء[..] وفي اتساق كامل مع فكرة العصور الوسطى التقليدية، [يضع فيلم الوليمة الباذخة] رتبة الدموي في الأعلى، والسوداوي في الأسفل." ميشيل على سبيل المثال، يمثل الهواء: "انتفاخ بطنه ضرورة نصّية وليس استفزازاً لا مبرر له". مارشيلو يمثل النار (إنّه يحبّ المحركات) وهو مرتبط بالصفراء والبراز. وبالعودة إلى الوراء قليلاً، يبدو من الواضح أنّ الفيلم لا يشير فقط لفسوق روما الإمبريالية بل يعيد تجسيده.وبشكل أكثر تحديداً، إنّه يستحضر الحقبة التي كانت فيها روما- على حد تعبير مؤرخ الأطعمة باتريك فاس- بخلاف المجتمع الغربي المادي الذي مقته فيريري في السبعينات- أصبحت "معدة العالم".
لقد أتخمت روما الامبريالية نفسها على إنتاج إمبراطورية كاملة، وذبحت وأكلت الكثير على حساب الحياة البرية في شمال أفريقيا، إلى حدٍ انقرضت معه أنواع عديدة من الحيوانات. الوسائد الذهبية، والأغطية في الوليمة الباذخة تستدعي إمبراطور القرن الثالث إلاغابالوس (المعروف أيضاً باسم هيليوغابالوس) والذي "كان يستخدم لوسائده أغطية ذهبية" و" ترك نفسه نهباً لأفدح الملذات" [جيبون]. ويبرز إلاغابلوس في ميدان فسوق الرومان القدماء المزدحم، فعندما اعتلى العرش كان في الرابعة عشر من عمره، وأظهر شهية مذهلة للطعام والجنس. حتى في الوقت الذي يكون جميع من في المدينة متخمين، كان إيلاغابالوس يتناول البسكويت. لقد كان لا يرى غضاضة في إنفاق ثلاثة ملايين عملة فضية على وجبة واحدة، وكان يأكل اثنين وعشرين طبقاً من اللحم في الجلسة (يتبع كل طبق في العادة بفسحة سريعة من "اللهو" مع النساء). لأنّ الغرائبية تغلب على كل شيء، كان إلاغابلوس يأكل أخفاف الإبل، وألسنة البلابل، وأدمغة طيور النحام[الفلامنغو المائي]، ورؤوس طيور التدرج، وقدُمت له مرة رؤوس عدد من النعام. حتى حيواناته استمتعت بالرفاهية فيالطعام: فكانت الكلاب تطعم من أكباد الأوز، والخيول من الأعناب النادرة، وأسوده الأليفة من الببغاوات. مثل شخصية ماستروياني في فيلم الوليمة الباذخة، كانت شهية الامبراطور للطعام لا تنفصل عن جنسانيته الجنونية،لكنه كما يخبرنا جيبون، " لم يكن التطرف في سلوكياته كافياً لإرضاء العجز في عواطفه". وكان مارشيلو في الوليمة الباذخة يتنشق الملابس الداخلية، ويرتديها على رأسه قبل أن يتمكن من مضاجعة العاهرات؛كان إلاغابلوس يرتدي ملابس النساء ليحاضر مومسات روما" حول ضروب متعددة من الأوضاع ومختلف أنواع العهر". كان مارشيلو يستثار بسيارته البوجاتي الصغيرة الزرقاء. أما إلاغابلوس فقد كانت له عربات مطلية بالذهب تقودها الأسود، والنمور والأفيال، وكان يستقلها عارياً في عربة مدولبة تجرها فرقة من النساء الجميلات العاريات. وكان الامبراطور الفتيّ يسافر خارج روما في موكب من ستين عربة. (واحدة له والبقية للرفقة الشبِقة المحرومة".) وعلى ما يبدو، كما في فيلم الوليمة الباذخة، لا ينبغي دوام هذه الدرجة من المتعة. لقد اغتيل إلاغالابوس في أحد الحمامات على يد أحد حراسه، الذي قام بعدها بحشر الجثة في إحدى أنابيب الصرف، ورماها في نهر التيبر.
فاق إنفاق إلاغابلوس الجميع، لكنه لم يتمتع بذوق فريد على أية حال. فقد كانت توليفة الطعام والجنس والموت روتينية جداً. وقد تهكم جوفينال، في واحد من أعماله الساخرة على أولئك "الذين يقبع السبب الوحيد في حياتهم على أطباق موائدهم"، وينفقون على الأطعمة الفاخرة أكثر مما يستطيعون تحمله، حتى إنّ أحد الأباطرة ذوي الشعبية الكبيرة مثل كلوديوس (باني قنوات نقل المياه، وغازي بريطانيا، والبطل الخلوق، كلوديوس) الذي أقام الولائم لمئات الضيوف، وكان "جاهزاً للأكل والشرب في أي مكان وأي زمان". "لم يضع حدوداً للقاءاته الجنسية مع النساء" وكان يستمتع بمشاهدة عمليات التعذيب والإعدام.كان خلفه تيبريوس قد أصر مرة على أن تخدمه النادلات العاريات:وقد اشتهر كاليغولا، دومتيان ونيرون جميعهم، بالبذخ الذي تضمن الإفراط في الأكل، والجنس الشاذ، والموت في كثير من الأحيان. بلاتيانوس نديم الإمبراطور سيبتيميوس سيفيروس "أصبح الأكثر حسيّة بين الرجال؛ لأنّه كان يحشر نفسه في الموائد ويتقيأ أثناء تناوله الطعام". لقد كان مديره هو الآخر "يفخر بنفسه، وبسخائه على وجه الخصوص" لأنّه وفي زفاف ابنه كاراكالا، قدّم مائدة وضع فيها "أطعمة مطبوخة وغير مطبوخة، وعدة حيوانات ما زالت حية".
بل والأكثر إثارة للاهتمام هو "الخنزير البري الضاري" و"الخنازير الرضيعة" في فيلم الوليمة الباذخة التي تشير بشكل مباشر إلى "خنزير بري هائل الحجم" و"خنازير رضيعة صغيرة مصنوعة من المعجنات" للوليمة في كتاب ساتيريكون لبيترونيوس. هذه الرواية القديمة الساخرة، والمكتوبة في عهد نيرون، تسخر من ابتذال روما الإمبريالية- وكانت مفضلة لدى أوغو توغنازي. الجزء الأكثر شهرة من الكتاب كان يصف وليمة جنونية أقامها عبد سابق يدعى تريمالكو. وهي تشتمل على مختلف أنواع اللحوم والنقانق وعصيدة الدم، والخنازير الكاملة المشوية، والأوز والدجاج والسمك. وقد كانت وليمة تريمالكو هي الأخرى ثقيلة بنكهة الموت، لأنّه كان يجبّر ضيوفه على حضور [يتهكم] جنازته الخاصة. ويعلّق الراوي: " لقد اعترانا في هذه اللحظة شعور بالغثيان، وكنا على وشك التقيؤ." في عام 1968 عندما سمع توغنازي أنّ فيليني كان يخطط لصنع فيلم مستلهم من ساتيريكون، توسل إليه أن يسمح له بلعب دور تريمالكو. ولكن فيليني لم يوافق، ولعب توغنازي الدور على أية حال، وقد كان تنكره فظيعاً، مع شعر مستعار باللون البرتقالي وهرع ليكون أول من يصل إلى السينما قبل أن يفسد المفاجأة. كان الانتصار سلاحاً ذا حدين. أقام فيليني دعوى قضائية وأُدين صناع الفيلم بالسماح لصبي دون العمر القانوني بالظهور في مشاهد جنسية مصورة. وقد كان توغنازي الأشهر في العالم المتحدث باللغةالإنجليزية بسبب دوره كواحد من مالكي أندية المثليين في فيلم قفص المجانين، كان شخصية ثقافية مهمة في روما. يتمتع بجانب فكري قلق جداً، ولا يتورع عن الغزل الصريح في أحيان كثيرة. لقد قام أيضاً بإخراج خمسة أفلام صغيرة، بعضها مشحون بالجنس. وفي عام 1978، السنة التي تم فيها اختطاف آلدو مورو وقتله، وردت أخبار عن اعتقال توغنازي بصفته قائداً للكتيبة الحمراء الإرهابية. ونُشرت صوره التي انتزعتها الشرطة من منزله في كل مكان، واعتقد أنّه حقاً كذلك. في الحقيقة لقد كان الأمر حيلة لصالح مجلة الرجل الساخرة، ولم يتوان توغنازي عن تقديم العون.
في عام 1983، وربما بإدراك للمتعة التي حظي بها ميشيل بيكولي في فيلم الوليمة الباذخة، لعب( بحرية كما يقول) دور البطولة في فيلم البيتومان، وهي قصة حقيقية عن " الضّراط" الفرنسي جوزيف بوجول، الذي كان يسّلي الجمهور قبل الحرب العالمية الأولى بإطلاق الريح على نغمات موسيقية.
كان شغف توغنازي الحقيقي هو الطعام، كما كان يقول دائماً. وفي واحد من كتب السيرة الذاتية في الطبخ، (L'abbuffone) وهي كلمة مشتقة من الوليمة الباذخة Le Grande Abbuffata وتعني "محبّ الولائم" أو "المبذر"، ويزهو توغنازي بأنّه يعرف جميع طهاة أفضل مطاعم أوربا، وأنَّ الطبخ يجري في دمه. " بالطبع تجري في دمي الكريات الحمراء والبيضاء، ولكني أعتقد أيضاً أنَّ هنالك نسبة وافرة من صلصة الطماطم، فأنا مدمن على الموقد." وكثيراً ما كان يرفض الظهور في الأفلام ما لم يكن ذلك يتضمن مشهداً في المطبخ ليستعرض مهاراته في الطبخ. " أشعر بالحياة تتدفق فيّ عندما أكون أمام المقلاة. وصوت زيت القلي يستحيل في أذني إلى أعذب نغمات الموسيقى. وقد استخدمُ معطرًا من صلصة اللحم لما بعد الحلاقة.. يستدعي براوست الماضي بواسطة أي شيء كان. وبالطريقة ذاتها أتذكر الأيام الخوالي بالطعام. مثلاً يذكرني الدجاج المسلوق بجدتي."
وكما سوف نرى في الفصل التالي، فإنَّ الثقافة النهم المفرط في روما اندثرت في آخر المطاف بسبب الانهيار الاقتصادي للإمبراطورية، والدوافع القهمية للزهد المسيحي، بيد أنّ البندول تأرجح عائداً في النهاية. انقشعت العصور المظلمة، وأُعيد اكتشاف الكتب القديمة، ووجدت الحسيّة الجنسية طريقها من جديد إلى مراكز السلطة في روما. وقد ألمح توغنازي لجميع ذلك عام 1984 في كتاب مهم بعنوان أفروديت وفن الطبخ، الذي قام بتصميم الرسومات الإيضاحية لنصوصه رسام الكارتون الإيروسي جودو كريباكس، وهي مزيج بين الوصفات والحوار الإفلاطوني (استعار فيريري لاحقاً فكرة المأدبة، وهي إعادة تمثيل لندوة إفلاطون لقناة تلفزيونية فرنسية).
وقد طبخ توغنازي وجبة دسمة لكتابه، ودعا إليها مجموعة من المثقفين الرومان لمناقشة العلاقة بين الجنسانية والأكل. وقد وافق المثقفون على أن يساهموا ولكن بشرط عدم ذكر أسمائهم. وبالطبع كما يذكر توغنازي، فقد طُرح موضوع آل بورجيا. ففي الأسطورة الشعبية يعتبر رودريغو بورجيا، الذي أصبح في ما بعد البابا إلكسندر السادس، رجل شرير للغاية، وكذلك ابنه سيزاري وابنته الخطيرة لوكريزيا. بيد أنّ المؤرخين في منتدى توغنازي تحدثوا عن البابا بورجيا بإعجاب واضح، وليس فقط بسبب باليه كسارة البندق: " كانت هنالك خمسون محظية رائعة الحسن وعارية بالكامل، يجمعن الكستناء حبواً على أربعٍ. وقد كانت ثمار الكستناء ترمى إليهن من قبل الرجال في الحفل، وهكذا أصبح الحفل ماجناً، وفي النهاية قدمت الجوائز السخية للرجال الذين أظهروا الفحولة العظمى مع المحظيات الخمسين. لقد كانت من طقوس العربدة الأصيلة التي تشير بجلاء إلى سمة ذاك العصر!" وبعيداً عن كونها فضيحة، استطرد المؤرخون، إنّها واحدة من علامات عصر النهضة البارزة، عصر اشتهر بما فيه من "بحثٍ مضنٍ عن الجمال وإعادة اكتشاف القيم التقليدية". وبدلاً عن الاستهجان، أعلن، "البابا بورجيا" يجب أن يُمدح "لفضوله الشديد تجاه الأمورالجنسية". وقد "ولدت الإنسانية من جديد" خلال عصر النهضة، وقد تبارى تجار السلطة والبلاط في إيطاليا مع بعضهم البعض في صناعة الثروة والجمال. إنّه عهد العبقرية العالمية، والفن غير المسبوق والتسامح. وقد وجد العباقرة مثل ليوناردو، وفرانسسكو سفورزا وإيزابيلا غونزاغا، قبولاً تاماً في المجتمع، والذين تصادف أنّهم جميعاً أبناء غير شرعيين وربما تعرضوا للمقاطعة في العصور الأقل تسامحاً. وارتكزت كل هذه العبقرية على ذلك النوع من الحسيّة الذي يمثله البابا بورجيا، الذي شجع المؤرخين على الاستطراد في الإشادة بالفجور الذي تفشى في أرجاء اوربا أثناء عصر التنوير. " إنْ تابعنا مذكرات كازانوفا، سنجد صورة للعالم الواقع تحت سيطرة الهياج الجنسي. العلاقات الجنسية بين ثلاثة وأربعة أشخاص. اللهو بين الارستقراط والعمال، والراهبات والخدم!" وسرت عدوى حماسته لتعمّ معظم ضيوف الندوة. يخبرنا توغنازي: " إنَّ حرية الروح والعقل، بهجة هذا التحليل التجريبي، كله بدا وكأنه له صدىً حول المائدة، وقد فتح المؤرخ ذراعيه في إيماءة مسرحية، كما لو أنّه يشكر جمهوره." عادوا إلى الحوار العام، وبدأ المدعوون تناول الطعام مجدداً. ولكن عالم الاجتماع على ما يبدو كان الوحيد الذي لم يقتنع. لقد حكّ لحيته وتساءل: " أتقولون إنّ الأمر المهم عن عصر التنوير أنّه ...أدى إلى العربدة؟" كان لدى المؤرخ بلا شك إجابة رائعة إلى حد الكمال، ولكنّه لم يكن قادراً على الكلام. كان فمه مشغولاً بشيء آخر.
--------------------
قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روما
تأليف: ديفيد ونر- ترجمة: أميمة قاسم
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة منAl Dente قبيل النضج: الجنون والجمال والأغذية في روماتأليف: ديفيد ونر- وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles