قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما - الفصل الثالث: الصوم

قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما
الجزء الثالث- الصوم || تأليف: ديفيد ونر | ترجمة: أميمة قاسم
----
"ليستحيل- أبداً- شبعها جوعاً، ولقمتها مسغبة"
القديس جيروم
القديس جيروم هو أحد عمالقة عهد تكوين المسيحية، ومؤرخ وكاتب سيرة، ومترجم، وصديق للبابا. وفي عام385 كان الرجل المعروف بالقديس جيروم قد غادر روما إثر فضيحة لحقت به ثغرتي البطن والفرج.
وقد تلقى جيروم في شبابه العلم في المدينة، ولكنه ابتعد عنها ليطور نفسه في البحث واللاهوت. لقد اشتهر كرائد الزهد، كما عرف عنه أيضاً أنّه كان رجلاً سفيهاً وكثير القدح في الناس، وكثيراً ما كنت لصداقاته نهايات مريرة. (عندما توفي صديقه الحميم فجأة أثناء مجادلة كتابية في اللاهوت، دعاه جيروم " الأفعى متعددة الرؤوس التي توقفت عن الفحيح".) وبعد أيام دراسته في روما، سافر جيروم إلى مناطق كثيرة، وكتب سيرة بولس طِيبة، الناسك الذي عاش في الصحراء لا قوت له سوى التمر ونصف رغيف من الخبز يحضره له غراب أسود. كما ترجم جيروم أعمال أوريجانوس (عالم اللاهوت الذي يحكى أنّه قد أخصى نفسه مكرساً إياها لخدمة الرب على الرغم من أنّه لم يفعل على الأرجح). وقد جرّب جيروم الرهبنة لثلاث سنوات أيضاً، حارقاً بشرته في شمس سورية، صائماً حتى أصبح بدنه جلداً على عظم، ولم ينج تماماً من عذابات الشهوة. ولدى عودته إلى أنطاكية تم ترسيمه أسقفاً. ودرس على يد جريجوري الناصرة في القطسنطينية. وعندما عاد جيروم أخيراً إلى روما في عام 381 عينه البابا داماسوس سكرتيراً له، وأقنعه ببدء عمله العظيم في ترجمة النصوص العبرية والإغريقية إلى اللاتينية. فكانت الفولجاتا ، أكثر كتب أوربا في العصور الوسطى أهميةً. فقد قدّم البابا جيروم إلى مجتمع السيدات الارستقراطيات اللواتي أصبح لهن كنسخة عكسية من راسبوتين . حيث هيمن راهب القرن العشرين على إمبراطورية جميع الجمهوريات الروسية حتى ينغمس في شهواته الهائلة للطعام والجنس، وقد سيطر جيروم نفسياً على دائرته بهدف الدعوة إلى الزهد الشديد. ولقد مرت الآن سبعون سنة منذ أن جعل قسطنطين العبادة المسيحية التي كانت مضطهدة ديناً رسمياً للدولة. ونقل العاصمة الامبراطورية إلى بيزنطة، تاركاً روما في حال لا تحسد عليه؛ ففقدت المدينة الكثير من بهائها، وأخذت بقايا ارستقراطيتيها تكتسب صبغة مسيحية. وقد تحدث جيروم عن التغيير الذي تسلل إلى المدينة في شيء من الرضى: "تعاني العاصمة المذّهبة من الخراب، ويعتلي الغبار وشباك العناكب جميع كنائس روما[...] تهتز المدينة فوق أساساتها، ويهرع البشر أفواجاً، مروراً بالمعابد المتهالكة، إلى أضرحة الشهداء". بيد أنّه حتى أعيان المسيحيين قابلوا تعصبّ جيروم بالارتياب. وقد أطلق عليهم بالمقابل لقب المسيحيين "الكذبة"، منددا برجال دين المدينة وعلق أكثر في دائرة معجبيه، التي ضمت بولا، وهي أرملة مسيحية غنية وأم لخمسة أطفال. وقد ازدادت التزاماتها الدينية صرامة فوق ما بها؛ فتركت أطيب الطعام إلى أبسطه، وصلَّت أبداً، وافترشت الأرض في قصرها. وبدأ جيروم يوجه اهتمامه الشديد بالسلامة الروحية لبناتها أيضاً. كانت روما تستعد لاختبار إحدى لحظات التحول الفاصلة عن حضارتها القديمة التي أوشكت القوى الجديدة على طمسها. كان جيروم ذا دور أساسي في هذه العملية، وساعد في بلورة السلوكيات الجديدة تجاه الطعام والجسد التي كانت على نقيض ما تعارفت عليه المدينة وألفته. وبينما وضع التفكير الرومانوغريقي الإنسان في مركز العالم، وقدسوا الجسد، صدَّر رواد المفكرين المسيحين مفهوماً جديداَ: كان الجسد البشري دنساً بالوراثة، وغرضاً لمن تعيّن كبت حاجاتهم والخوف منها. أما الوظيفة الطبيعية للجسد فقد أُعيد تصنيفها كجريمة أخلاقية. وكانت آراء جيروم واضحة في معظم خطاباته الشهيرة، إلى البنت الكبرى لبولا، المراهقة يوستاشيوم. وقال لها إنّه ينبغي تجنب الدسم من الطعام، لأنّه يزيد من الشهوة. لقد تسبب الطعام في سقوط القمر، لأن " آدم أطاع بطنه وليس الرب". ويجب الابتعاد عن الخمر أيضاً لأنّه كان "مثل السم" أول سلاح استخدمته الشياطين ضد الشباب". وقد ساعد الكثير من رجال الدين الآخرين على تشكيل الزهد المسيحي الجديد المرهق في ذلك العصر بممارسة الصوم والدعوة إليه كجزء من التلمذة الروحية الكبرى. بيد أنّ جيروم اعتبره – حصراً- ترياقاً لما كان يخافه أكثر من أي شيء آخر: الجنس. لقد اعتبر البتولية هي الحالة الإنسانية النموذجية، واعتبر الزواج مقبولاً فقط لأنّ من خلاله يأتي المزيد من العذارى والأبكار. (لقد كان كذلك واحداً من مؤسسي فكرة أنّ مريم، والدة المسيح، كانت عذراء على الدوام، إذ صمم على أنّها ويوسف لم يكونا زوجين، وأنَّ ليوسف أبناء عمومة وخؤولة وليس أشقاء. ولتعزيز هذه الآراء، كما اتضح، لابد أن نثبتها في الثقافة المسيحية، فقد قام بالعبث بترجمة النبوءة في أشعياء (أشعياء 7:14) "انظر لعذراء[الما في العبرية] ستحمل وتنجب ابناً". كما تشرح ميري روبن في كتاب والدة الرب، لا تعني كلمة "الما" "عذراء" بل "امرأة شابة".)
كان جيروم يؤمن بضرورة تقليل الكميات المتناولة من الطعام قدر الإمكان، لأنّ هذه هي الطريقة المثلى لكبح الدافع الجنسي. وفي خطابه، ليثير الفزع في قلب يوستاشيوم وإلهامها، وصف جيروم تجربته كراهب بالتفصيل عندما " كانت الدموع والأنّات هي حصتي اليومية". لقد قال: "لا أقول شيئاً عن الطعام والشراب: لأنني حتى في وقت المرض، لم يكن في الصومعة سوى الماء البارد، والأكل من طبخ يدي كان رفاهية ودلالاً[..] لم يكن لي رفاق سوى العقارب والوحوش البرية، وكثيراً ما وجدت نفسي وسط جماعات من الفتيات. كان وجهي شاحباً ويرتعد جسدي من وهن الصيام؛ بيد أنّ عقلي كان يشتعل رغبةً، ونيران الشهوة ما فتئت تلتهب أمام عينيّ بينما لم يكن لحمي بأفضل من لحم الموتى." إن كانت أخطار الشهوة مؤذية له، فإلى أي مدىً من السوء قد تضرّ بصبية فتية مثل يوستاشيوم؟ وإنْ كانت غوايات الرجال أقوياء البنية قد كبحت بالصوم، حتى لا يضطرون إلا لاحتمال الأفكار الشريرة، فكيف يكون وقع ذلك على فتاة تتشبث بمتعة العيش الرغد؟ فحثّ جيروم يوستاشيوم على المحافظة على عفتها، والمداومة على الصلاة، وأن لا تصادق سوى غيرها من العذارى طاويات البطون جوعاً.
وفي خطاب آخر، لزوجة ابن بولا، لايتا، التي طلبت النصيحة حول كيفية تربية ابنتها، يحضّها جيروم: " ليكن غذاؤها من الأعشاب وخبز القمح وواحدة أو اثنتين من السمك الصغير بين الفينة والأخرى. ودائماً لا تطعميها حتى الشبع، ولتبدأ في تلك اللحظة القراءة أو الغناء [..] دعيها تشعر بالخوف عندما تترك وحدها [...] ولا تدعيها تتحدث مع العالم.". كان جيروم يعارض أفكار الصحة الوثنية القديمة بشدة: " من يغتسل في المسيح لا يحتاج إلى إعادة الغسل." أما بالنسبة للعذراء البالغة، فقد كان " تعمد القذارة " مستحباً، والاستحمام مكروهاً بشدة. يجب أن " تحمرّ خدود العذراء وتشعر بالذل حيال رؤية جسدها العاري. وتقتل جسدها بالسهر والصوم حتى يخضع تماماً. وبالعفة الباردة تسعى لإطفاء الشهوة المشتعلة، وقمع رغبات الملتهبة. وبالقذارة المتعمدة تفسد جمال مظهرها الطبيعي. فلم عليها إذن أن توقد النار النائمة باستحمامها؟ أو كما تقول تلميذته بولا لاحقاً: " الجسد النظيف والملابس الطاهرة دليلان على دنس الفكر".
وقد أدت وفاة أخت يوستاشيوم الكبرى بليسيلا إلى إنهاء إقامته في روما. بليسيلا التي كانت امرأة شابة متزوجة نابضة بالحياة في العشرين من عمرها، سعيدة وعادية؛ أقنعها جيروم بعد الوفاة المفاجأة لزوجها بأنّ تصبح مسيحية مكرّسة. كفى حداداً على زوجك، قال لها، واحزني على ضياع عذريتك بدلاً عن ذلك. لقد ألهمها الصلاة والصيام، واتخاذ الخطوة الأهم نحو نبذ فكرة الزواج مرة أخرى.
سقطت عندها بليسيلا مريضة بنوع خطير من الحمى "الشديدة"، والتي اعتبرها جيروم أمرًا صالحًا، لأنّه سوف يساعدها على الابتعاد عن " الاهتمام الزائد بذلك الجسد الذي سرعان ما ستلتهمه الديدان". لقد كانت الحمى من الشدة بحيث منعت بليسيلا الأكل لفترة مؤقتة. وعندما تعافت نصحها جيروم بمواصلة الصوم حتى " لا تحفز الرغبة من خلال عنايتها بالجسد". لم يتم تحفيز الرغبة في الحقيقة؛ فبليسيلا الآن "تترنح وهناً، وكان وجهها شاحباً، ومرتجفاً، فعنقها النحيل يتماسك بالكاد أمام ثقل رأسها". كانت في اقترابها من الموت "تلهث وترتعد" وأخيراً " "رفعها" المسيح. في أقل من أربعة أشهر قضتها تحت رعاية جيروم؛ تحولت بليسيلا من سيدة شابة معافاة إلى راهبة ميتة. وعندما أغمى على والدتها من الحزن أثناء مراسم الدفن، وبخها جيروم، قائلاً إنَّ ابنتها الآن " حية في المسيح" وعلى أي مسيحي أن " يبتهج لذلك".
لقد كانت بليسيلا في حياتها " تستمتع بشيء من اللامبالاة"؛ أما في الموت فقد جلست " بشحمها ولحمها مع الرب". وبدا أن بولا قد تقبلت منطق هذا التعبير.
وفي عام 384 توفي البابا داماسوس حامي وراعي جيروم، فأمر مجلس رجال الدين الرومان بمغادرة جيروم المدينة، وقد فزع المجلس من سلوكه في قضية بليسيلا، ولديه شكوك بأنَّ علاقته ببولا كانت ذات طبيعة جنسية. ولحقت به بولا ويوستاشيوم. وبعد جولة على الأماكن المقدسة في القدس التقوا جميعاً في بيت لحم. وهناك وعلى نفقة بولا، أسسوا لحركة الرهبنة الناشئة، وذلك بإعداد أديرة للنساء، وواحد للرجال. كان جيروم قد أنهى ترجمة الإنجيل، وعاش حتى عام 420. ويعتبر الثلاثة جميعهم من القديسين جنباً إلى جنب: أوغسطين، وامبروزيه، والبابا جريجوري الأول، وظل جيروم موقراً بين الكاثوليك باعتباره واحداً من أطباء الكنيسة الأصليين.
وقد جاء فيلم بشارة المطر وهو يحمل رؤيا خيالية لعلاقة جيروم الغريبة ببولا، وهي ""رواية شعرية"" صدرت عام 2010 للشاعرة والناشطة النسوية " والزميلة لمرة واحدة في (الأكاديمية الأمريكية بروما) ماريا سيمون. لقد كرّمت جيروم باعتباره "أب الترقيم"، ولكنها رأت فيه شخصية تراجيدية " في حرب مع ذاتها" إذ كانت كتاباته وشخصيته العامة ليست في تصالح مع رغباته الخاصة. وفي قصائدها جاء اهتمامه ببولا جنسياً صريحاً وروحياً معاً؛ فقد لاحظ وجودها أول مرة بين " أرامل الأثرياء والدبلوماسيين" وقد جذبته شفتاها "الحمراوان مثل حبات الرمان، والمتغضنتان قليلاً عند النطق بالحروف المتحركة والثابتة في الطقوس الدينية". وقد عانى لاحقاً من الاحتلام بها، وتخيلها عارية في حمامها. لقد كانت هذه الرؤيا مزعجة للغاية حتى إنَّ إحدى أولى أفكاره بعد الاسيتقاظ كانت تقضى بضرورة منع الاستحمام. وتمضي القصيدة، غفواته المشحونة بالرؤى المثيرة لبولا دفعت جيروم إلى حافة الجنون؛ فمزق صدره، وغرس الصليب في جسده. وعشقت بولا في هذه الأثناء جيروم كمرشدها الأخلاقي، بالإضافة إلى أنّه رجل يتمتع بصوت جهوري غني. بينما كانت بولا تشعر بأنها "متدثرة بحلل الإيمان" كانت صديقاتها "يعربدن في نهم". قدمت سيمون بكل عناية رأياً متوازناً حول قناعات جيروم عن الطعام. ونراه- عندما كان طالباً في روما- في مائدة حافلة بأطيب الأطعمة:
لحم السمان الطري والكركي
وقلب دولفين منقوع في العسل
مطبوخ بالأفيون حتى يُتخِم الحواس
وأطباق من سمك الحفش الساخن والأرز البري
مرصعة بالزيتون ومتدفقة من القرع
بذخ وافر ينعكس على الكؤوس الذهبية
ولكن لا يقدم أيٌّ منها تغذية روحية: " لقد أكلت، وما زلت خاوي الجوف جوعاً." لقد كانت جنسانيته المكبوتة المعقدة مرتبطة بشكل عميق بعذاباته الروحية لفترة طويلة قبل أن يتجه إلى الصحراء (كل يوم/ يختبر العالم جسدي-/ وأُخضعه كل ليلة) ويفكر في الجنس باستمرار، في ما يتعلق بالطعام. لقد كانت هنالك جميلات نوبيات " تنتفخ فروجهن مثل ثمار الجوافة" ومومسات عبريات " نهودهن نضرة مثل الشمام الفارسي". إنّه في سجن ولكنه لا يريد الخروج منه. لقد كبحت الرغبة بالرغبة. والشاعرة تتعاطف كثيرا مع بولا ويوستوشيوم. ولكن الأبيات التي تضعها على لسان ابنة بولا الأصغر روفينا، تتحدث بحسية مختلفة. فالصغيرة تستهجن جيروم باعتباره شخصاً "فاسداً"، ومسؤولاً عن وفاة بليسيلا، وزواج يوستوشيوم بالمسيح" و التضحية الفارغة لبولا بنفسها ومالها في سبيل "الصراخ المتعصب. تؤثر روفينا الشك على الإيمان، وقد تفضل التضحية بنفسها من أجل المتعة. تقول لجيروم: " سوف لن أنضم أبداً إلى عذراواتك."لقد كانت فلسفة جيروم ترتبط على نحو حميم بمصير روما والثورات الدينية والسياسية الخطيرة التي شهدها في حياته. مالت الصورة الشائعة للمسيحية في عهد سقوط روما إلى صورة الكنيسة التي تضطلع بدور خيّر وإنقاذيّ. لقد كانت المدينة والإمبراطورية الغربية تخضع لجيوش البرابرة نتيجة للضعف الموروث. بينما كانت القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية للإمبراطورية تتقلص، كانت الثقافة الوثنية القديمة تفقد قوتها وصفاءها وتجانسها. وفي وقت العنف المرعب والانحطاط الأخلاقي هذا، أصبحت المسيحية هي ما يجمع شتات الإمبراطورية ويملأ خواءها بالمحبة والتلاحم. وأخيراً تنقذ الكنيسة برؤيتها الواثقة والمفعمة بالحياة مدنية روما. وقد فعلت الشيء نفسه لأوربا بكاملها. وفي العقد الأخير أو نحوه، اقترح المؤرخون المسيحيون القدماء تفسيراً مغايراً. ويقول أكثرهم تحدياً، تشارلز فريمان، أنّ الثقافة الإغريقورمانية لم تسقط في القرنين الرابع والخامس، بل حوربت.
نهاية العقل الغربي: صعود الإيمان وانهيار المنطق (2002)، يتتبع فريمان الثورة الفلسفية والسياسية التي شهدت انتقال المسيحية من الاضطهاد إلى القبول ومن ثم إلى الهيمنة. وقد كاد الإمبراطور قسطنين المبدئي أن يعقد حلفاً مع الكنيسة ليقويّ إمبراطوريته؛ فكان مرسوم التسامح الذي أصدره في 313 يعد "بعدم حرمان أي شخص كائناً من كان من الحرية لتكريس نفسه إما لمذهب المسيحيين أو أي دين يراه أفضل لنفسه". وعليه فقد انتهى به الأمر بفرض سياسات جديدة- سياسات اللاهوت المسيحي الامبريالي. بدأت الكنائس تزداد ثراءً وصورة المسيح أصبحت صورة ملك إمبريالي مقاتل. كان قسطنين يأمل أن يصل إلى الوحدة بإعلانه المسيحية ديناً للإمبراطورية. ولكن المشكلة كانت تكمن في أنّه لم تكن هنالك مسيحية واحدة ذات نظام إيماني محدد، ولكن عدد من الطوائف المتنافسة، والتي تناصب بعضها البعض العداء مثل الآريين، والغنوصيين، والمانوية، والابيونيين وغيرهم من ذوي المذاهب المختلفة، إذ أنّ هنالك ما لا يحصى عدده من الاختلافات المحلية والإقليمية. ولتخفيف التوتر وتوضيح الرؤية نظّم قنسطنطين مجمعاً في نيقية عام425، في محاولة لتقديم إجابة محددة لسؤال طبيعة الرب الذي لم تكن له إجابة معلومة في الأساس. هل كان يسوع مخلوقاً من مادة تكوين الرب، أم جاء خلقه متأخراً وبالتالي أصبح أقل درجة؟ هذا ما اعتقده آريوس ومعظم المسيحيين القدماء، ولكنهم هُزموا في نيقية شر هزيمة. ووصم آريوس بتهمة الهرطقة، ووصفت النصوص كثيرًا من المسيحيين المعارضين للصيغة الجديدة بأنّهم :" خَرِفون ومهرطقون مجانين". وعلى الرغم من ذلك قوبلت أحكام المجمع بالتجاهل على نطاق واسع، وعلى مدى العقود التالية صمد جزء كبير من الثقافة القديمة بينما تعاقبت سلسلة من المجالس التي كانت تتناول القضية بالشد والجذب. وقد جاءت نقطة التحول مع الإمبراطور تيودوسيوس ومجمع القسطنطينية- وهو مناسبة يحقق فريمان في مدى أهميتها في كتابه 381 ميلادية. إنّه ثيودوسيوس- يقول فريمان- الذي خرق عادات التسامح القديمة بمكر، وطرح مفهوم الشمولية الدينية الجديد. كان ثيودوسيوس جندياً عنيداً يعمل باستماتة على وقف تمزق الإمبراطورية وتقسيمها. وقد كان يؤمن، قدرياً، بأنّ تحقيق ذلك الهدف يتأتى من خلال الالتزام بصيغة دينية واحدة.
دعا إلى انعقاد مجمع للأساقفة في القسطنطينية (ليسوا من روما، ولا يتحدثون اللاتينية) وأصدر تعليماته لهم بتأييد سياسته الجديدة. وسرعان ما بدأت الدولة في تفعيل قوانين جديدة تمنع الانشقاق، فقضت أولاً بحظر المانوية. وبحلول عام390 تم تجريم جميع أشكال المعتقدات الوثنية، وقُمعت الهرطقة، وهُدمت المعابد الوثنية. وتوسعت قائمة البدع المسيحية المحظورة. كان هذا يحدث في ذات الوقت الذي يتم فيه سحق الفلسفة القديمة. قال القديس بولس،"سوف أدمر حكمة الحكماء"، وهذا ما حدث بالفعل. أُغلقت مدارس الفلسفة، وحُرقت المكتبات الكبيرة. لقد كان الأمر"استئصالاً لثمار للتفكير العلمي والرياضي الجاد في أوروبا لآلاف السنوات". ومع نشوء مبدأ قدرة الدولة على السيطرة على المعتقدات الدينية، طالت يد القانون إلى ما هو أبعد من المسيحية. ففي عام 385 أعدمت الإمبراطورية أول هراطقتها. وبحلول ثلاثينات القرن الخامس أصبح حرق الهراطقة أمراً عادياً. وفي القرن الخامس كان البقاء على قيد الحياة يعتمد على القناعات المسيحية التي تحملها. وكانت آخر الألعاب الأوليمبية في عام393. وقد قُطعت واحدة من أعظم الفلاسفة الوثنيين، عالمة الرياضيات هيباتيا إلى أجزاء، ثم حُرق جسدها على يد جماعة من الرهبان بالإنابة عن واحد من أعتى المدافعين عن العقيدة الجديدة، القديسة سيريل، قديسة الاسكندرية. " تعرضت التقاليد الفكرية الرومانية للقمع، ولم تندثر ببساطة،" يقول فريمان. كانت آخر الملاحظات الفلكية المدونة في العالم الإغريقي القديم كتبت بيد بروكلوس عام 475 بعد الميلاد؛ وقد تطلب الأمر ألف عام لتظهر الأفكار مرة أخرى في كتاب كوبرنيكوس عن الثورات[De revolutionibis]- وتستأنف هذه الدراسات طريقها من جديد. يقول فريمان عندما سقطت الإمبراطورية في الغرب، تمت إعادة كتابة تأريخ الكنيسة، ومواراة الدور الخطير لثيودوسيوس: "ولم يدرك سوى القليل جداً من المسيحيين أنَّ إمبراطوراً رومانياً قد سلبهم حريتهم في مناقشة عقيدتهم. [....] وأنّ التأريخ الأوربي كان سيختلف كثيراً إن كانت [الصيغة] الغربية تسمح بالتعدد في الطرق التي يتعبد بها البشر بعد سقوط الإمبراطورية.".
وقد هاجم النقاد نظرية فريمان- فاتهموه على سبيل المثال بتقليل درجة تدهور الثقافة الرومانية والإغريقية قبل المسيحية، وافتقارها للمنطقية. وفي كتابه الأخير تأريخ جديد للمسيحية الأولى يقرّ فريمان بأنّ للمسيحية الكثير من المناقب. لقد أوفت باحتياجات الكثير من البشر، وأراحتهم، كما وفرت إطاراً يمكّن المجتمع من الصمود عند الأزمات، كما أنّها طورت نظاماً أخلاقياً، وكانت مصدر إلهام للحركات الاجتماعية المهمة، والفنون العظيمة. ولكنه يعيد ما قال: " بينما كانت المسيحية في بعض جوانبها واسعة المنظور، فقد كانت ذات أفق ضيق في نواحٍ أخرى [...] لقد خلقت المسيحية الإمبريالية روحاً تصبح معها حرية النقاش ضرباً من المستحيل. فقد سارت فكرة إخضاع الفلسفة جنباً إلى جنب مع تدنيس العالم الطبيعي".
وقد وصف بترارك ما تلا ذلك بالعصور المظلمة، فقد تدنت معدلات التعليم، ودخلت أوربا ألف عام من الغباء الذي لم يهدأ إلا عندما صمم توماس اكيناس في القرن الثالث عشر على أنّ العقل هدية من الله ودمج أرسطوطاليس في الكاثوليكية. والآن أصبح الإيمان والعقل شيئاً واحداً لدرجة ما. ويقول أكيناس إنّ كليهما يدعم الآخر. وبعد قرن من الزمان أو نحوه، أصيب طالب القانون التوسكاني(بترارك نفسه)، أصيب بالملل إلى درجة تفوق الاحتمال بسبب الافتقار إلى الحوار الذكي مع معاصريه، فبحث عن الكتابات الكلاسيكية الرومانية والإغريقية التي اختفت لفترة طويلة، فطفق يخالل من راق له من الكتّاب القدماء، مبشراً بحقبة الإنسانوية وعصر النهضة.
في هذه الأثناء، وفي القرن الرابع، ثمة ظاهرة مسيحية أخرى بزغت، والتي كانت ستغير وجه روما إلى الأبد: الأسقف السياسي. شبّه الباحث المسيحي الأمريكي فيليب جينكنز تعصب هؤلاء الرجال بذلك الذي يتسم به رجال العصابات الإسلامية الحديثة. " كانت درجة العنف المسيحي في تلك الحقبة المبكرة مثيرة للدهشة. لقد كان هنالك أساقفة وبطاركة يقودون جيوشاً من رجال الدين والرهبان المسلحين، الذين يواجهون بهم المنافسين، مثل الملا المسلم أو آية الله في العراق أولبنان اليوم. كانوا يصدرون أحكاماً ترمي بالمنافسين خارج المجتمع المؤمن، مثل الفتاوى الحديثة. ويغتال المسلحون المنافسين بسبب الاختلاف الديني، يقطعون رؤوسهم ويطوفون بها في الشوارع." كان بعض الأساقفة أقل تطرفاً. وقد ساعد أمبروزيه ميلانو في عملية تدمير المعابد القديمة وأصدر إعلاناً يفيد بأنّ:" جميع الآلهة الوثنية شياطين". وفي عام388 فتح الطريق اللاهوتي أمام العنف المسيحي ضد اليهود، فأضرم مجموعة من الغوغاء النار في كنيس يهودي بتحريض من أسقف في ميزوبوتاميا، وأمر الإمبراطور بمعاقبة الجناة، وإعادة بناء الكنيس. ولكن الامبروزيه كان مصرّا على أنّ" مجد الرب" هو المعنيّ وعلى القانون أن يتنحى جانباً. لا أحد سُيعاقب لأنَّ الكنيس كان "بيت الكفر، ومقر العقوق، ووعاء السفه الذي نهى عنْه الرب بنفسه".
وكان البابا داماسوس، حامي القديس جيروم، يدين بمنصبه كأسقف في روما للعنف. عندما توفي سلفه، طالب مرشح آخر هو أورسينوس نفسه بالبابوية. ونشب الصراع بين مؤيدي أورسينوس الذين احتموا بكاتدرائية ليبيريان(سانتا ماريا ماجوري الآن)، فقام مقاتلو داماسوس بالتسلق إلى السقف عندما لم يتمكنوا من فتح الباب، وأحدثوا ثقباً وصاروا يرشقون من بداخل الكنيسة بقطع الرخام الثقيلة، فقتلوا 137 نفساً. كان لهذه المعركة أكبر الأثر في تأمين منصب داماسوس، بيد أنّه حرص- احتياطاً- على تعيين مصارعين أشداء حرساً له. يشبّه جنكينز الأساقفة الأسكندرانيين بعائلة السوبرانو الإجرامية، فقد تزامن أوج نفوذهم مع الانعقاد الثاني لمجمع إفسوس في 449 عندما ضرب رهبانهم بطريرك القسطنطينية حتى الموت وكسروا أصابع كل من حاول الكتابة إلى العالم الخارجي.
كانت المناسبة متخمة بالفساد والعنف حتى إنّها عرفت باسم " مجمع العصابة". وفي وصف جيبون،"الرهبان، الذين هرعوا بغضبٍ مضطرب من البرية، يميزون أنفسهم بما فيهم من حماسة واجتهاد [...] في كل مقاطعة من العالم الروماني تقريباً، جيش من المتعصبين، بدون سلطة، ولا انضباط، هاجموا السكان المسالمين، وحطام أجمل المباني العتيقة ما يزال ينبيء بالخراب الذي أحدثه هؤلاء البرابرة، وليس هنالك من يرغب غيرهم في اقتراف مثل هذا الدمار الفادح."
تحسّنت مكانة روما باعتبارها مركزاً للمسيحية في عهد داماسوس، الذي دفع بالباوية تجاه الشكل الذي نعرف اليوم. وسابقاً، في التقاليد المسيحية، كانت روما في ظل أورشليم، وأنطاكية، والاسكندرية، والقسطنطينية. ولكن ابتدر داماسوس عملية تجديد كبرى وذلك بتمسكه بمفارقة تأريخية وعلى أساس دليل ضعيف، وهو أنّ القديس بيتر كان أول بابا، وأنَّ روما بالتالي هي "الأبرشية الرسولية" وبما أنّ جميع البابوات مرتبطون ببيتر بمبدأ "الخلافة البابوية". وقد روّج داماسوس أيضاً على عبادة الشهداء، واضطهد الآريين، وأقنع الإمبراطور الجديد بإعفاء جميع البابوات من التزاماتهم تجاه القانون المدني، وبالتالي الإفلات من حبل المشنقة الذي يتأرجح فوق رأسه منذ عملية أورسينوس.
ويبين لنا جينكينز في كتابه حروب المسيح: كيف قرر أربعة بطاركة، وثلاث ملكات، واثنان من الأباطرة ماعلى المسيحيين الإيمان به للسنوات ال1500 القادمة، وكيف أنّ المسائل اللاهوتية المستعصية قد نوقشت على أسس من الطموح السياسي والنفعية. وفي القرن الخامس نشأت مسألة جديدة: إلى أي درجة كان المسيح إنساناً وإلهاً؟ ففي جانب واحد من الحجة آمن الوحدانيون بأنّ المسيح ذو طبيعة واحدة (ناسوته متحد بلاهوته)؛ وقد وضعهم هذا في خلاف ساخن مع النساطرة الذين قالوا بأنّ المسيح ذو طبيعتين(ناسوتية ولا هوتية). وتأرجحت المعركة ما بين هذا وذاك. وفرض الوحدانيون رأيهم في مجمع إفسوس الثاني. بعد ذلك بعامين، قام مجمع خلقيدونية بدعم الرأي المعاكس. والآن أصبحت للمسيح-رسمياً- طبيعتان وأي شخص يرى غير ذلك هو في ورطة كبيرة. وفي كل مرحلة كانت الأمور ستمضي بشكل مختلف. المانوية السياسية أو ضربة الحظ كثيراً ما حددت ما سيصبح أرثوذكسياً. ففي إحدى الحالات، يقول جينكينز، تحول العالم على كبوة فرس، والذي رمى وقتل بطل الوحدانيين، الإمبراطور ثيودوسيوس. وقد مهد موته الطريق لأخته إيليا بولخاريا لفرض آرائها. ونظّم زوجها مارقيان مجمع خلقدونية لتدمير نفوذ الوحدانيين في الغرب، وبالتالي المحافظة على مايسمى الآن الكاثوليكانية. بدون ذلك الجواد، لظلت روما على هوامش المسيحية، ولأصبحت الإسكندرية عاصمة للمسيحية، وربما أدى ذلك لتوحيد المسيحية الشرقية، وعدم ارتباطها العدائي بروما الكاثوليكية، في مقاومة للاجتياح الإسلامي في القرنين السابع والثامن وما بعدهما. وبدون ذلك الجواد لكان العالم الآن مكاناً مختلفاً جداً.
وحتى نعود إلى العالم الفعلي لجيروم وآرائه حول الجنس والطعام؛ هل كانت هنالك صلة بين الكنيسة السلطوية النافذة حديثاً، والمفكرين المسيحيين من الطراز المتقدم الذين أصبحوا عدائيين تجاه الجسد؟ كيف أصبح عذاب التجويع المفروض ذاتياً يُرى "كمالاً" روحياً؟ لماذا، كما تعبّر عنه فيرونيكا غريم الأكاديمية في هارفارد، رفضت البروباجندا المسيحية في ذلك العصر وبشكل عنيف الجسد الإنساني السليم باحتياجاته الحيوية الأساسية؟ وفوق كل ذلك، كيف انتهى البحث عن النقاء بخوفٍ عامٍ من الطعام؟
سوف يكون من الصعب إلقاء اللوم على المسيح، ولا مجتمعه ولا أولئك الذين اتبعوه مباشرة على أي من هذا. لقد كان القديس بولس معذباً وقلقاً، ولم يكن لديه أي شيء ضد الطعام- بيد أنّ الزاهدين الذين يعانون من رهاب الطعام قد أساءوا الاستشهاد به مؤخراً ليدعوا بأنّه كان كذلك. لقد كانت السطور التي كتبها حول أعداء المسيح الذين " كانت بطونهم هي آلهتهم" [...] ورؤوسهم مشغولة بالأمور الدنيوية" ليست تجريماً للطعام في حد ذاته بل للإسراف فيه. فبالنسبة لبولس، كانت مشاركة الخبز والنبيذ أحد الجوانب الضرورية في حياة المسيحي. إنَّ الافخارستيا[ سر المناولة] كان في الأصل جزءًا من المناولة الكاملة التي شملت الجسد والروح. ترك بولس إرثاً للمسيحية: إضطراب عصبي جنسي، مثله مثل فكرة أنّ الجسد "هيكل" مدنس به. ولكنّه قبله في إطار الزواج:" إنّ الزواج أفضل من الحرق".
وفي كتابها من (الولائم إلى الصيام: تطور الخطيئة) تستشعر غريم إشارة في حقيقة أنّ التقدم نحو الزهد المتطرف جاءت بعد انتصار المسيحية كدين رسمي. ولفريمان رأيّ مشابه: أصبحت المسيحية أكثر تشاؤماً عندما دخلت من البارد. وقد كانت هذه هي أيضاً حقبة لبناء أولى الكنائس الفخمة(ابتداع صادم لبعض المسيحيين مشتق من الوثنية وكثيراً ما كان يستخدم مباني الآلهة القديمة). عرض لثروة الكنيسة الجديدة والوضع الذي قد يستصدر استجابة. تقول غريم بأنّ التقشف الصارم ربما اشتق من أحد أشكال المزايدة الروحية. وبما أنّ الخط الفاصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية لم يكن واضحاً، فقد سعى القادة المسيحيون إلى الحفاظ على حدودهم الأخلاقية، ومهد القديس بولس الطريق برؤية الجنس كشيء مثير للريبة. وأصبح نبذ الجنس الآن ممارسة "للقدسية". وقد حوّل الساسة المسيحية إلى دين جماهيري للجميع. وقد كان هذا الشيء خطيراً بالنسبة للمتشددين. الاجتياج المفاجيء من قبل "غير المستحقين"، أو بصريح العبارة العناصر السامة، شكّل خطراً على نقاء المجتمع المسيحي المثالي.
وقد جاءت الآراء الجديدة لكتّاب المسيحية حول الجنس والطعام بعد القرن الأول. كليمنت الاسكندراني، ولد بحوالي ثمانية أعوام بعد وفاة بولس، وقال إنّ الأكل، والشرب والزواج كانت مباحة تماماً- ولكن طالما لم تجلب متعة. كان النبيذ " عقار الجنون" والذي يحفّز " الدوافع الجامحة، والشهوات المتقيحة" في الشاب. لأنّ الأجساد الغضّة كانت تبدو أكثر عرضة للشهوة، فقد كان كليمنت، في حر الأسكندرية، ينصح الكبار بعدم شرب أي شيء أثناء الغداء. حتى الماء قد يكون ضارًا روحياً. والابتكار الآخر الذي قد نشكر عليه كليمنت هو فكرة أنّه حتى المناحي الحميمة من الحياة الخاصة تدخل تحت سيطرة المسيح. كل شيء يتعلق بالجسد كان قابلاً للتحقيق. تقول غريم، من الآن فصاعداً، "أكدّت الكنيسة بشكل متزايد على حقها في السيطرة على جوهر الحياة الخاصة للفرد، وذلك بما يترتب على تلك السيطرة من تبعات اجتماعية واقتصادية وسيكولوجية".
وقد كانت الشخصية الرئيسية الأخرى هي تيرتليان، والمدعو "أب المسيحية اللاتينية"، الذي عاش أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث. كاره النساء والمهووس، تيرتليان كان مندداً متحمساً بالهراطقة، وهو من اخترع مصطلح"الثالوث"، وكان ذا خط فريد في البراهين. إنّه مشهور بقوله:" ومات ابن الله: إنّه أمر معقول تماماً لأنّه سخيف. ودفن، وقام، مرة أخرى: إنّه مؤكد لأنّه مستحيل." كان ترتيليان يرى في الصوم طريقة للتكفير عن الذنوب، وحض التائبين على "تغذية الصلوات بالصوم، والأنين، والبكاء، والجأر ليل نهار". جاءت أكبر إسهاماته في رهاب الطعام في أطروحة تدعى الاعتذارية يدعي فيها أنّ المسيحيين يلمسون الرب بكونهم "عطشى صائمين، ذائقين لذة كل تقشف، ممتنعين من جميع الأطعمة التي تحفظ الحياة، متمرغين في مسوحهم والرماد". لقد تهكم تيرتليان على طائفة مسيحية منافسة: معكم، يظهر اتقاد "الحب" في المقالي،"ودفء "الإيمان" في المطابخ، ومرافيء الأمل في النُدل"؛ وأطروحته "حول الصيام" هي أول معالجة مسيحية كثيفة للموضوع. الصيام، يقول مؤكداً، يسرُّ الرب كعلامة ممتازة على تواضع الذات. مع وضع معيار مسيحي مثالي جديد في عقاب الذات مع كتاب أثناسيوس حول راهب الصحراء القديس أنطوني بعد ذلك بقرن. مثل الزهد وممارساته مازالت قيد التشكل، بيد أنّها أقل تناولاً بالحديث، وفي عام 2009 كشف عنها على يد واحدة من الراهبات البولنديات التي كانت تعتني به، حتى إنّ البابا جون بول الثاني كان يجلد نفسه باستمرار بينما كان في روما."كنا في الغرفة المجاورة، وكنا لنسمع فرقعة السياط" كما أخبرت الأخت توبيانا سوبودكا لجنةَ تحقيقٍ فاتيكانية في أهلية البابا الراحل بالقدسية.)
وقد ألهم الرجال أمثال أثناسيوس وجيروم حركة الرهبنة، ولكن الأصوات الأخيرة مثل باسيل كيزاريا وأوغستين خففت من حدة المناداة بالتجويع وتعذيب الذات. لقد شعروا بضرورة عدم تناول المسيحيين للطعام والشراب بكميات تزيد عما هو ضروري للحفاظ على الصحة. قال أوغسطين بضرورة معاملة الجسد كالعبد: يجب إشباع حاجاته الأساسية فقط. وحض باسيل على " نبذ الملذات". وبالفعل اتبع الرهبان أنظمة حمية تحافظ على صحتهم وقوتهم. في الشرق كان جون كريسوستوم يدعم تقشف الرهبان، لكنّه يتحدث بواقعية للأشخاص العاديين: استمتعوا بحمامكم، ومائدتكم الطيبة، واللحوم، والنبيذ في اعتدال- استمتعوا بكل شيء، في الحقيقة، ولكن إياكم والخطايا." على الرغم من أنّ الخضوع ونبذ الملذات الحسية واصلت تغلغلها في الفكر المسيحي جنباً إلى جنب شهية الطعام. وقد كان أوغسطين- أهم اللاهوتيين الكاثوليك جميعاً- يعاني من قلق دائم حيال الشهوة، ويستنكر متعة الأكل"المنحوسة". وقد كان أوغسطين مهووساً بالجنس ولكن بشكل أقل تكراراً ومرضيةً مما كان عليه تيرتليان وجيروم. لقد اخترع مفردة الخطيئة الأصلية المشتقة من هبوط آدم، ومفهوم الليمبوس القاسي(حيث يذهب الأطفال غير المعمدين بعد الموت، الذين هم أبرياء ولكنهم موسومون "بالخطيئة الأصلية". كان أوغسطين مهموماً بالخطيئة، خاصة خطيئته، ومفهوم الرب ككيان يعبّر عن الحب بالعقاب. نظرة أوغسطين سوداوية: الإنسان ملعون لأنَّ الخطيئة تنتقل عبر الجنس. والمعمودية أو الأعمال الصالحة لا تكفي لإنقاذ أكثر من جزء ضئيل من الإنسانية. والوجود الأرضي لشيء ينبغي النظر إليه بعين الازدراء: ينبغي تدريب العين المسيحية على الحياة الأبدية دائماً. وكلما زاد حبه لما هو فانٍ، اشتدت كراهيته لما هو عابر." لغة أوغسطين أقل عنفاً من لغة صديقه جيروم، ولكنه – بحسب عبارة عالم اللاهوت الألماني أوتا رانكي- هاينمان:"الرجل الذي دمج المسيحية مع الجنس المكروه، والمتعة في وحدة منهجية".
في الاعترافات يصرّح أوغسطين بأنّه وبينما يكون الأكل ضرورة، ستحول متعة الأكل عقل الإنسان من الأمور العليا. وفي الحقيقة ربما يؤخذ الطعام كعلاج "لحمى" الجوع والعطش:"إني أنظر للأكل على أنّه دواء، أي، العمليات الطبيعية للجسد تختل. وفي فوائد الصيام يتقدم أوغسطين لمرحلة أخرى أبعد: " لحمك أدنى منك منزلة؛ وإلهك فوقك." الشخصية منقسمة، يغدو الجسد غرضاً خارجياً للترويض والعبادة. ومثل هذا التفكيك للشخصية البشرية- تقول غريم- يلقي بظل طويل على الذهنية الغربية." سجلات الطب النفسي حتى يومنا هذا تشهد بالجهود التي بذلت محاولة لوضع هذه القطع معاً مجدداً."
قبيل النضج - الجنون والجمال والأغذية في روما
الجزء الثالث- الصوم || تأليف: ديفيد ونر | ترجمة: أميمة قاسم
----
"ليستحيل- أبداً- شبعها جوعاً، ولقمتها مسغبة"
القديس جيروم
القديس جيروم هو أحد عمالقة عهد تكوين المسيحية، ومؤرخ وكاتب سيرة، ومترجم، وصديق للبابا. وفي عام385 كان الرجل المعروف بالقديس جيروم قد غادر روما إثر فضيحة لحقت به ثغرتي البطن والفرج.
وقد تلقى جيروم في شبابه العلم في المدينة، ولكنه ابتعد عنها ليطور نفسه في البحث واللاهوت. لقد اشتهر كرائد الزهد، كما عرف عنه أيضاً أنّه كان رجلاً سفيهاً وكثير القدح في الناس، وكثيراً ما كنت لصداقاته نهايات مريرة. (عندما توفي صديقه الحميم فجأة أثناء مجادلة كتابية في اللاهوت، دعاه جيروم " الأفعى متعددة الرؤوس التي توقفت عن الفحيح".) وبعد أيام دراسته في روما، سافر جيروم إلى مناطق كثيرة، وكتب سيرة بولس طِيبة، الناسك الذي عاش في الصحراء لا قوت له سوى التمر ونصف رغيف من الخبز يحضره له غراب أسود. كما ترجم جيروم أعمال أوريجانوس (عالم اللاهوت الذي يحكى أنّه قد أخصى نفسه مكرساً إياها لخدمة الرب على الرغم من أنّه لم يفعل على الأرجح). وقد جرّب جيروم الرهبنة لثلاث سنوات أيضاً، حارقاً بشرته في شمس سورية، صائماً حتى أصبح بدنه جلداً على عظم، ولم ينج تماماً من عذابات الشهوة. ولدى عودته إلى أنطاكية تم ترسيمه أسقفاً. ودرس على يد جريجوري الناصرة في القطسنطينية. وعندما عاد جيروم أخيراً إلى روما في عام 381 عينه البابا داماسوس سكرتيراً له، وأقنعه ببدء عمله العظيم في ترجمة النصوص العبرية والإغريقية إلى اللاتينية. فكانت الفولجاتا ، أكثر كتب أوربا في العصور الوسطى أهميةً. فقد قدّم البابا جيروم إلى مجتمع السيدات الارستقراطيات اللواتي أصبح لهن كنسخة عكسية من راسبوتين . حيث هيمن راهب القرن العشرين على إمبراطورية جميع الجمهوريات الروسية حتى ينغمس في شهواته الهائلة للطعام والجنس، وقد سيطر جيروم نفسياً على دائرته بهدف الدعوة إلى الزهد الشديد. ولقد مرت الآن سبعون سنة منذ أن جعل قسطنطين العبادة المسيحية التي كانت مضطهدة ديناً رسمياً للدولة. ونقل العاصمة الامبراطورية إلى بيزنطة، تاركاً روما في حال لا تحسد عليه؛ ففقدت المدينة الكثير من بهائها، وأخذت بقايا ارستقراطيتيها تكتسب صبغة مسيحية. وقد تحدث جيروم عن التغيير الذي تسلل إلى المدينة في شيء من الرضى: "تعاني العاصمة المذّهبة من الخراب، ويعتلي الغبار وشباك العناكب جميع كنائس روما[...] تهتز المدينة فوق أساساتها، ويهرع البشر أفواجاً، مروراً بالمعابد المتهالكة، إلى أضرحة الشهداء". بيد أنّه حتى أعيان المسيحيين قابلوا تعصبّ جيروم بالارتياب. وقد أطلق عليهم بالمقابل لقب المسيحيين "الكذبة"، منددا برجال دين المدينة وعلق أكثر في دائرة معجبيه، التي ضمت بولا، وهي أرملة مسيحية غنية وأم لخمسة أطفال. وقد ازدادت التزاماتها الدينية صرامة فوق ما بها؛ فتركت أطيب الطعام إلى أبسطه، وصلَّت أبداً، وافترشت الأرض في قصرها. وبدأ جيروم يوجه اهتمامه الشديد بالسلامة الروحية لبناتها أيضاً. كانت روما تستعد لاختبار إحدى لحظات التحول الفاصلة عن حضارتها القديمة التي أوشكت القوى الجديدة على طمسها. كان جيروم ذا دور أساسي في هذه العملية، وساعد في بلورة السلوكيات الجديدة تجاه الطعام والجسد التي كانت على نقيض ما تعارفت عليه المدينة وألفته. وبينما وضع التفكير الرومانوغريقي الإنسان في مركز العالم، وقدسوا الجسد، صدَّر رواد المفكرين المسيحين مفهوماً جديداَ: كان الجسد البشري دنساً بالوراثة، وغرضاً لمن تعيّن كبت حاجاتهم والخوف منها. أما الوظيفة الطبيعية للجسد فقد أُعيد تصنيفها كجريمة أخلاقية. وكانت آراء جيروم واضحة في معظم خطاباته الشهيرة، إلى البنت الكبرى لبولا، المراهقة يوستاشيوم. وقال لها إنّه ينبغي تجنب الدسم من الطعام، لأنّه يزيد من الشهوة. لقد تسبب الطعام في سقوط القمر، لأن " آدم أطاع بطنه وليس الرب". ويجب الابتعاد عن الخمر أيضاً لأنّه كان "مثل السم" أول سلاح استخدمته الشياطين ضد الشباب". وقد ساعد الكثير من رجال الدين الآخرين على تشكيل الزهد المسيحي الجديد المرهق في ذلك العصر بممارسة الصوم والدعوة إليه كجزء من التلمذة الروحية الكبرى. بيد أنّ جيروم اعتبره – حصراً- ترياقاً لما كان يخافه أكثر من أي شيء آخر: الجنس. لقد اعتبر البتولية هي الحالة الإنسانية النموذجية، واعتبر الزواج مقبولاً فقط لأنّ من خلاله يأتي المزيد من العذارى والأبكار. (لقد كان كذلك واحداً من مؤسسي فكرة أنّ مريم، والدة المسيح، كانت عذراء على الدوام، إذ صمم على أنّها ويوسف لم يكونا زوجين، وأنَّ ليوسف أبناء عمومة وخؤولة وليس أشقاء. ولتعزيز هذه الآراء، كما اتضح، لابد أن نثبتها في الثقافة المسيحية، فقد قام بالعبث بترجمة النبوءة في أشعياء (أشعياء 7:14) "انظر لعذراء[الما في العبرية] ستحمل وتنجب ابناً". كما تشرح ميري روبن في كتاب والدة الرب، لا تعني كلمة "الما" "عذراء" بل "امرأة شابة".)
كان جيروم يؤمن بضرورة تقليل الكميات المتناولة من الطعام قدر الإمكان، لأنّ هذه هي الطريقة المثلى لكبح الدافع الجنسي. وفي خطابه، ليثير الفزع في قلب يوستاشيوم وإلهامها، وصف جيروم تجربته كراهب بالتفصيل عندما " كانت الدموع والأنّات هي حصتي اليومية". لقد قال: "لا أقول شيئاً عن الطعام والشراب: لأنني حتى في وقت المرض، لم يكن في الصومعة سوى الماء البارد، والأكل من طبخ يدي كان رفاهية ودلالاً[..] لم يكن لي رفاق سوى العقارب والوحوش البرية، وكثيراً ما وجدت نفسي وسط جماعات من الفتيات. كان وجهي شاحباً ويرتعد جسدي من وهن الصيام؛ بيد أنّ عقلي كان يشتعل رغبةً، ونيران الشهوة ما فتئت تلتهب أمام عينيّ بينما لم يكن لحمي بأفضل من لحم الموتى." إن كانت أخطار الشهوة مؤذية له، فإلى أي مدىً من السوء قد تضرّ بصبية فتية مثل يوستاشيوم؟ وإنْ كانت غوايات الرجال أقوياء البنية قد كبحت بالصوم، حتى لا يضطرون إلا لاحتمال الأفكار الشريرة، فكيف يكون وقع ذلك على فتاة تتشبث بمتعة العيش الرغد؟ فحثّ جيروم يوستاشيوم على المحافظة على عفتها، والمداومة على الصلاة، وأن لا تصادق سوى غيرها من العذارى طاويات البطون جوعاً.
وفي خطاب آخر، لزوجة ابن بولا، لايتا، التي طلبت النصيحة حول كيفية تربية ابنتها، يحضّها جيروم: " ليكن غذاؤها من الأعشاب وخبز القمح وواحدة أو اثنتين من السمك الصغير بين الفينة والأخرى. ودائماً لا تطعميها حتى الشبع، ولتبدأ في تلك اللحظة القراءة أو الغناء [..] دعيها تشعر بالخوف عندما تترك وحدها [...] ولا تدعيها تتحدث مع العالم.". كان جيروم يعارض أفكار الصحة الوثنية القديمة بشدة: " من يغتسل في المسيح لا يحتاج إلى إعادة الغسل." أما بالنسبة للعذراء البالغة، فقد كان " تعمد القذارة " مستحباً، والاستحمام مكروهاً بشدة. يجب أن " تحمرّ خدود العذراء وتشعر بالذل حيال رؤية جسدها العاري. وتقتل جسدها بالسهر والصوم حتى يخضع تماماً. وبالعفة الباردة تسعى لإطفاء الشهوة المشتعلة، وقمع رغبات الملتهبة. وبالقذارة المتعمدة تفسد جمال مظهرها الطبيعي. فلم عليها إذن أن توقد النار النائمة باستحمامها؟ أو كما تقول تلميذته بولا لاحقاً: " الجسد النظيف والملابس الطاهرة دليلان على دنس الفكر".
وقد أدت وفاة أخت يوستاشيوم الكبرى بليسيلا إلى إنهاء إقامته في روما. بليسيلا التي كانت امرأة شابة متزوجة نابضة بالحياة في العشرين من عمرها، سعيدة وعادية؛ أقنعها جيروم بعد الوفاة المفاجأة لزوجها بأنّ تصبح مسيحية مكرّسة. كفى حداداً على زوجك، قال لها، واحزني على ضياع عذريتك بدلاً عن ذلك. لقد ألهمها الصلاة والصيام، واتخاذ الخطوة الأهم نحو نبذ فكرة الزواج مرة أخرى.
سقطت عندها بليسيلا مريضة بنوع خطير من الحمى "الشديدة"، والتي اعتبرها جيروم أمرًا صالحًا، لأنّه سوف يساعدها على الابتعاد عن " الاهتمام الزائد بذلك الجسد الذي سرعان ما ستلتهمه الديدان". لقد كانت الحمى من الشدة بحيث منعت بليسيلا الأكل لفترة مؤقتة. وعندما تعافت نصحها جيروم بمواصلة الصوم حتى " لا تحفز الرغبة من خلال عنايتها بالجسد". لم يتم تحفيز الرغبة في الحقيقة؛ فبليسيلا الآن "تترنح وهناً، وكان وجهها شاحباً، ومرتجفاً، فعنقها النحيل يتماسك بالكاد أمام ثقل رأسها". كانت في اقترابها من الموت "تلهث وترتعد" وأخيراً " "رفعها" المسيح. في أقل من أربعة أشهر قضتها تحت رعاية جيروم؛ تحولت بليسيلا من سيدة شابة معافاة إلى راهبة ميتة. وعندما أغمى على والدتها من الحزن أثناء مراسم الدفن، وبخها جيروم، قائلاً إنَّ ابنتها الآن " حية في المسيح" وعلى أي مسيحي أن " يبتهج لذلك".
لقد كانت بليسيلا في حياتها " تستمتع بشيء من اللامبالاة"؛ أما في الموت فقد جلست " بشحمها ولحمها مع الرب". وبدا أن بولا قد تقبلت منطق هذا التعبير.
وفي عام 384 توفي البابا داماسوس حامي وراعي جيروم، فأمر مجلس رجال الدين الرومان بمغادرة جيروم المدينة، وقد فزع المجلس من سلوكه في قضية بليسيلا، ولديه شكوك بأنَّ علاقته ببولا كانت ذات طبيعة جنسية. ولحقت به بولا ويوستاشيوم. وبعد جولة على الأماكن المقدسة في القدس التقوا جميعاً في بيت لحم. وهناك وعلى نفقة بولا، أسسوا لحركة الرهبنة الناشئة، وذلك بإعداد أديرة للنساء، وواحد للرجال. كان جيروم قد أنهى ترجمة الإنجيل، وعاش حتى عام 420. ويعتبر الثلاثة جميعهم من القديسين جنباً إلى جنب: أوغسطين، وامبروزيه، والبابا جريجوري الأول، وظل جيروم موقراً بين الكاثوليك باعتباره واحداً من أطباء الكنيسة الأصليين.
وقد جاء فيلم بشارة المطر وهو يحمل رؤيا خيالية لعلاقة جيروم الغريبة ببولا، وهي ""رواية شعرية"" صدرت عام 2010 للشاعرة والناشطة النسوية " والزميلة لمرة واحدة في (الأكاديمية الأمريكية بروما) ماريا سيمون. لقد كرّمت جيروم باعتباره "أب الترقيم"، ولكنها رأت فيه شخصية تراجيدية " في حرب مع ذاتها" إذ كانت كتاباته وشخصيته العامة ليست في تصالح مع رغباته الخاصة. وفي قصائدها جاء اهتمامه ببولا جنسياً صريحاً وروحياً معاً؛ فقد لاحظ وجودها أول مرة بين " أرامل الأثرياء والدبلوماسيين" وقد جذبته شفتاها "الحمراوان مثل حبات الرمان، والمتغضنتان قليلاً عند النطق بالحروف المتحركة والثابتة في الطقوس الدينية". وقد عانى لاحقاً من الاحتلام بها، وتخيلها عارية في حمامها. لقد كانت هذه الرؤيا مزعجة للغاية حتى إنَّ إحدى أولى أفكاره بعد الاسيتقاظ كانت تقضى بضرورة منع الاستحمام. وتمضي القصيدة، غفواته المشحونة بالرؤى المثيرة لبولا دفعت جيروم إلى حافة الجنون؛ فمزق صدره، وغرس الصليب في جسده. وعشقت بولا في هذه الأثناء جيروم كمرشدها الأخلاقي، بالإضافة إلى أنّه رجل يتمتع بصوت جهوري غني. بينما كانت بولا تشعر بأنها "متدثرة بحلل الإيمان" كانت صديقاتها "يعربدن في نهم". قدمت سيمون بكل عناية رأياً متوازناً حول قناعات جيروم عن الطعام. ونراه- عندما كان طالباً في روما- في مائدة حافلة بأطيب الأطعمة:
لحم السمان الطري والكركي
وقلب دولفين منقوع في العسل
مطبوخ بالأفيون حتى يُتخِم الحواس
وأطباق من سمك الحفش الساخن والأرز البري
مرصعة بالزيتون ومتدفقة من القرع
بذخ وافر ينعكس على الكؤوس الذهبية
ولكن لا يقدم أيٌّ منها تغذية روحية: " لقد أكلت، وما زلت خاوي الجوف جوعاً." لقد كانت جنسانيته المكبوتة المعقدة مرتبطة بشكل عميق بعذاباته الروحية لفترة طويلة قبل أن يتجه إلى الصحراء (كل يوم/ يختبر العالم جسدي-/ وأُخضعه كل ليلة) ويفكر في الجنس باستمرار، في ما يتعلق بالطعام. لقد كانت هنالك جميلات نوبيات " تنتفخ فروجهن مثل ثمار الجوافة" ومومسات عبريات " نهودهن نضرة مثل الشمام الفارسي". إنّه في سجن ولكنه لا يريد الخروج منه. لقد كبحت الرغبة بالرغبة. والشاعرة تتعاطف كثيرا مع بولا ويوستوشيوم. ولكن الأبيات التي تضعها على لسان ابنة بولا الأصغر روفينا، تتحدث بحسية مختلفة. فالصغيرة تستهجن جيروم باعتباره شخصاً "فاسداً"، ومسؤولاً عن وفاة بليسيلا، وزواج يوستوشيوم بالمسيح" و التضحية الفارغة لبولا بنفسها ومالها في سبيل "الصراخ المتعصب. تؤثر روفينا الشك على الإيمان، وقد تفضل التضحية بنفسها من أجل المتعة. تقول لجيروم: " سوف لن أنضم أبداً إلى عذراواتك."لقد كانت فلسفة جيروم ترتبط على نحو حميم بمصير روما والثورات الدينية والسياسية الخطيرة التي شهدها في حياته. مالت الصورة الشائعة للمسيحية في عهد سقوط روما إلى صورة الكنيسة التي تضطلع بدور خيّر وإنقاذيّ. لقد كانت المدينة والإمبراطورية الغربية تخضع لجيوش البرابرة نتيجة للضعف الموروث. بينما كانت القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية للإمبراطورية تتقلص، كانت الثقافة الوثنية القديمة تفقد قوتها وصفاءها وتجانسها. وفي وقت العنف المرعب والانحطاط الأخلاقي هذا، أصبحت المسيحية هي ما يجمع شتات الإمبراطورية ويملأ خواءها بالمحبة والتلاحم. وأخيراً تنقذ الكنيسة برؤيتها الواثقة والمفعمة بالحياة مدنية روما. وقد فعلت الشيء نفسه لأوربا بكاملها. وفي العقد الأخير أو نحوه، اقترح المؤرخون المسيحيون القدماء تفسيراً مغايراً. ويقول أكثرهم تحدياً، تشارلز فريمان، أنّ الثقافة الإغريقورمانية لم تسقط في القرنين الرابع والخامس، بل حوربت.
نهاية العقل الغربي: صعود الإيمان وانهيار المنطق (2002)، يتتبع فريمان الثورة الفلسفية والسياسية التي شهدت انتقال المسيحية من الاضطهاد إلى القبول ومن ثم إلى الهيمنة. وقد كاد الإمبراطور قسطنين المبدئي أن يعقد حلفاً مع الكنيسة ليقويّ إمبراطوريته؛ فكان مرسوم التسامح الذي أصدره في 313 يعد "بعدم حرمان أي شخص كائناً من كان من الحرية لتكريس نفسه إما لمذهب المسيحيين أو أي دين يراه أفضل لنفسه". وعليه فقد انتهى به الأمر بفرض سياسات جديدة- سياسات اللاهوت المسيحي الامبريالي. بدأت الكنائس تزداد ثراءً وصورة المسيح أصبحت صورة ملك إمبريالي مقاتل. كان قسطنين يأمل أن يصل إلى الوحدة بإعلانه المسيحية ديناً للإمبراطورية. ولكن المشكلة كانت تكمن في أنّه لم تكن هنالك مسيحية واحدة ذات نظام إيماني محدد، ولكن عدد من الطوائف المتنافسة، والتي تناصب بعضها البعض العداء مثل الآريين، والغنوصيين، والمانوية، والابيونيين وغيرهم من ذوي المذاهب المختلفة، إذ أنّ هنالك ما لا يحصى عدده من الاختلافات المحلية والإقليمية. ولتخفيف التوتر وتوضيح الرؤية نظّم قنسطنطين مجمعاً في نيقية عام425، في محاولة لتقديم إجابة محددة لسؤال طبيعة الرب الذي لم تكن له إجابة معلومة في الأساس. هل كان يسوع مخلوقاً من مادة تكوين الرب، أم جاء خلقه متأخراً وبالتالي أصبح أقل درجة؟ هذا ما اعتقده آريوس ومعظم المسيحيين القدماء، ولكنهم هُزموا في نيقية شر هزيمة. ووصم آريوس بتهمة الهرطقة، ووصفت النصوص كثيرًا من المسيحيين المعارضين للصيغة الجديدة بأنّهم :" خَرِفون ومهرطقون مجانين". وعلى الرغم من ذلك قوبلت أحكام المجمع بالتجاهل على نطاق واسع، وعلى مدى العقود التالية صمد جزء كبير من الثقافة القديمة بينما تعاقبت سلسلة من المجالس التي كانت تتناول القضية بالشد والجذب. وقد جاءت نقطة التحول مع الإمبراطور تيودوسيوس ومجمع القسطنطينية- وهو مناسبة يحقق فريمان في مدى أهميتها في كتابه 381 ميلادية. إنّه ثيودوسيوس- يقول فريمان- الذي خرق عادات التسامح القديمة بمكر، وطرح مفهوم الشمولية الدينية الجديد. كان ثيودوسيوس جندياً عنيداً يعمل باستماتة على وقف تمزق الإمبراطورية وتقسيمها. وقد كان يؤمن، قدرياً، بأنّ تحقيق ذلك الهدف يتأتى من خلال الالتزام بصيغة دينية واحدة.
دعا إلى انعقاد مجمع للأساقفة في القسطنطينية (ليسوا من روما، ولا يتحدثون اللاتينية) وأصدر تعليماته لهم بتأييد سياسته الجديدة. وسرعان ما بدأت الدولة في تفعيل قوانين جديدة تمنع الانشقاق، فقضت أولاً بحظر المانوية. وبحلول عام390 تم تجريم جميع أشكال المعتقدات الوثنية، وقُمعت الهرطقة، وهُدمت المعابد الوثنية. وتوسعت قائمة البدع المسيحية المحظورة. كان هذا يحدث في ذات الوقت الذي يتم فيه سحق الفلسفة القديمة. قال القديس بولس،"سوف أدمر حكمة الحكماء"، وهذا ما حدث بالفعل. أُغلقت مدارس الفلسفة، وحُرقت المكتبات الكبيرة. لقد كان الأمر"استئصالاً لثمار للتفكير العلمي والرياضي الجاد في أوروبا لآلاف السنوات". ومع نشوء مبدأ قدرة الدولة على السيطرة على المعتقدات الدينية، طالت يد القانون إلى ما هو أبعد من المسيحية. ففي عام 385 أعدمت الإمبراطورية أول هراطقتها. وبحلول ثلاثينات القرن الخامس أصبح حرق الهراطقة أمراً عادياً. وفي القرن الخامس كان البقاء على قيد الحياة يعتمد على القناعات المسيحية التي تحملها. وكانت آخر الألعاب الأوليمبية في عام393. وقد قُطعت واحدة من أعظم الفلاسفة الوثنيين، عالمة الرياضيات هيباتيا إلى أجزاء، ثم حُرق جسدها على يد جماعة من الرهبان بالإنابة عن واحد من أعتى المدافعين عن العقيدة الجديدة، القديسة سيريل، قديسة الاسكندرية. " تعرضت التقاليد الفكرية الرومانية للقمع، ولم تندثر ببساطة،" يقول فريمان. كانت آخر الملاحظات الفلكية المدونة في العالم الإغريقي القديم كتبت بيد بروكلوس عام 475 بعد الميلاد؛ وقد تطلب الأمر ألف عام لتظهر الأفكار مرة أخرى في كتاب كوبرنيكوس عن الثورات[De revolutionibis]- وتستأنف هذه الدراسات طريقها من جديد. يقول فريمان عندما سقطت الإمبراطورية في الغرب، تمت إعادة كتابة تأريخ الكنيسة، ومواراة الدور الخطير لثيودوسيوس: "ولم يدرك سوى القليل جداً من المسيحيين أنَّ إمبراطوراً رومانياً قد سلبهم حريتهم في مناقشة عقيدتهم. [....] وأنّ التأريخ الأوربي كان سيختلف كثيراً إن كانت [الصيغة] الغربية تسمح بالتعدد في الطرق التي يتعبد بها البشر بعد سقوط الإمبراطورية.".
وقد هاجم النقاد نظرية فريمان- فاتهموه على سبيل المثال بتقليل درجة تدهور الثقافة الرومانية والإغريقية قبل المسيحية، وافتقارها للمنطقية. وفي كتابه الأخير تأريخ جديد للمسيحية الأولى يقرّ فريمان بأنّ للمسيحية الكثير من المناقب. لقد أوفت باحتياجات الكثير من البشر، وأراحتهم، كما وفرت إطاراً يمكّن المجتمع من الصمود عند الأزمات، كما أنّها طورت نظاماً أخلاقياً، وكانت مصدر إلهام للحركات الاجتماعية المهمة، والفنون العظيمة. ولكنه يعيد ما قال: " بينما كانت المسيحية في بعض جوانبها واسعة المنظور، فقد كانت ذات أفق ضيق في نواحٍ أخرى [...] لقد خلقت المسيحية الإمبريالية روحاً تصبح معها حرية النقاش ضرباً من المستحيل. فقد سارت فكرة إخضاع الفلسفة جنباً إلى جنب مع تدنيس العالم الطبيعي".
وقد وصف بترارك ما تلا ذلك بالعصور المظلمة، فقد تدنت معدلات التعليم، ودخلت أوربا ألف عام من الغباء الذي لم يهدأ إلا عندما صمم توماس اكيناس في القرن الثالث عشر على أنّ العقل هدية من الله ودمج أرسطوطاليس في الكاثوليكية. والآن أصبح الإيمان والعقل شيئاً واحداً لدرجة ما. ويقول أكيناس إنّ كليهما يدعم الآخر. وبعد قرن من الزمان أو نحوه، أصيب طالب القانون التوسكاني(بترارك نفسه)، أصيب بالملل إلى درجة تفوق الاحتمال بسبب الافتقار إلى الحوار الذكي مع معاصريه، فبحث عن الكتابات الكلاسيكية الرومانية والإغريقية التي اختفت لفترة طويلة، فطفق يخالل من راق له من الكتّاب القدماء، مبشراً بحقبة الإنسانوية وعصر النهضة.
في هذه الأثناء، وفي القرن الرابع، ثمة ظاهرة مسيحية أخرى بزغت، والتي كانت ستغير وجه روما إلى الأبد: الأسقف السياسي. شبّه الباحث المسيحي الأمريكي فيليب جينكنز تعصب هؤلاء الرجال بذلك الذي يتسم به رجال العصابات الإسلامية الحديثة. " كانت درجة العنف المسيحي في تلك الحقبة المبكرة مثيرة للدهشة. لقد كان هنالك أساقفة وبطاركة يقودون جيوشاً من رجال الدين والرهبان المسلحين، الذين يواجهون بهم المنافسين، مثل الملا المسلم أو آية الله في العراق أولبنان اليوم. كانوا يصدرون أحكاماً ترمي بالمنافسين خارج المجتمع المؤمن، مثل الفتاوى الحديثة. ويغتال المسلحون المنافسين بسبب الاختلاف الديني، يقطعون رؤوسهم ويطوفون بها في الشوارع." كان بعض الأساقفة أقل تطرفاً. وقد ساعد أمبروزيه ميلانو في عملية تدمير المعابد القديمة وأصدر إعلاناً يفيد بأنّ:" جميع الآلهة الوثنية شياطين". وفي عام388 فتح الطريق اللاهوتي أمام العنف المسيحي ضد اليهود، فأضرم مجموعة من الغوغاء النار في كنيس يهودي بتحريض من أسقف في ميزوبوتاميا، وأمر الإمبراطور بمعاقبة الجناة، وإعادة بناء الكنيس. ولكن الامبروزيه كان مصرّا على أنّ" مجد الرب" هو المعنيّ وعلى القانون أن يتنحى جانباً. لا أحد سُيعاقب لأنَّ الكنيس كان "بيت الكفر، ومقر العقوق، ووعاء السفه الذي نهى عنْه الرب بنفسه".
وكان البابا داماسوس، حامي القديس جيروم، يدين بمنصبه كأسقف في روما للعنف. عندما توفي سلفه، طالب مرشح آخر هو أورسينوس نفسه بالبابوية. ونشب الصراع بين مؤيدي أورسينوس الذين احتموا بكاتدرائية ليبيريان(سانتا ماريا ماجوري الآن)، فقام مقاتلو داماسوس بالتسلق إلى السقف عندما لم يتمكنوا من فتح الباب، وأحدثوا ثقباً وصاروا يرشقون من بداخل الكنيسة بقطع الرخام الثقيلة، فقتلوا 137 نفساً. كان لهذه المعركة أكبر الأثر في تأمين منصب داماسوس، بيد أنّه حرص- احتياطاً- على تعيين مصارعين أشداء حرساً له. يشبّه جنكينز الأساقفة الأسكندرانيين بعائلة السوبرانو الإجرامية، فقد تزامن أوج نفوذهم مع الانعقاد الثاني لمجمع إفسوس في 449 عندما ضرب رهبانهم بطريرك القسطنطينية حتى الموت وكسروا أصابع كل من حاول الكتابة إلى العالم الخارجي.
كانت المناسبة متخمة بالفساد والعنف حتى إنّها عرفت باسم " مجمع العصابة". وفي وصف جيبون،"الرهبان، الذين هرعوا بغضبٍ مضطرب من البرية، يميزون أنفسهم بما فيهم من حماسة واجتهاد [...] في كل مقاطعة من العالم الروماني تقريباً، جيش من المتعصبين، بدون سلطة، ولا انضباط، هاجموا السكان المسالمين، وحطام أجمل المباني العتيقة ما يزال ينبيء بالخراب الذي أحدثه هؤلاء البرابرة، وليس هنالك من يرغب غيرهم في اقتراف مثل هذا الدمار الفادح."
تحسّنت مكانة روما باعتبارها مركزاً للمسيحية في عهد داماسوس، الذي دفع بالباوية تجاه الشكل الذي نعرف اليوم. وسابقاً، في التقاليد المسيحية، كانت روما في ظل أورشليم، وأنطاكية، والاسكندرية، والقسطنطينية. ولكن ابتدر داماسوس عملية تجديد كبرى وذلك بتمسكه بمفارقة تأريخية وعلى أساس دليل ضعيف، وهو أنّ القديس بيتر كان أول بابا، وأنَّ روما بالتالي هي "الأبرشية الرسولية" وبما أنّ جميع البابوات مرتبطون ببيتر بمبدأ "الخلافة البابوية". وقد روّج داماسوس أيضاً على عبادة الشهداء، واضطهد الآريين، وأقنع الإمبراطور الجديد بإعفاء جميع البابوات من التزاماتهم تجاه القانون المدني، وبالتالي الإفلات من حبل المشنقة الذي يتأرجح فوق رأسه منذ عملية أورسينوس.
ويبين لنا جينكينز في كتابه حروب المسيح: كيف قرر أربعة بطاركة، وثلاث ملكات، واثنان من الأباطرة ماعلى المسيحيين الإيمان به للسنوات ال1500 القادمة، وكيف أنّ المسائل اللاهوتية المستعصية قد نوقشت على أسس من الطموح السياسي والنفعية. وفي القرن الخامس نشأت مسألة جديدة: إلى أي درجة كان المسيح إنساناً وإلهاً؟ ففي جانب واحد من الحجة آمن الوحدانيون بأنّ المسيح ذو طبيعة واحدة (ناسوته متحد بلاهوته)؛ وقد وضعهم هذا في خلاف ساخن مع النساطرة الذين قالوا بأنّ المسيح ذو طبيعتين(ناسوتية ولا هوتية). وتأرجحت المعركة ما بين هذا وذاك. وفرض الوحدانيون رأيهم في مجمع إفسوس الثاني. بعد ذلك بعامين، قام مجمع خلقيدونية بدعم الرأي المعاكس. والآن أصبحت للمسيح-رسمياً- طبيعتان وأي شخص يرى غير ذلك هو في ورطة كبيرة. وفي كل مرحلة كانت الأمور ستمضي بشكل مختلف. المانوية السياسية أو ضربة الحظ كثيراً ما حددت ما سيصبح أرثوذكسياً. ففي إحدى الحالات، يقول جينكينز، تحول العالم على كبوة فرس، والذي رمى وقتل بطل الوحدانيين، الإمبراطور ثيودوسيوس. وقد مهد موته الطريق لأخته إيليا بولخاريا لفرض آرائها. ونظّم زوجها مارقيان مجمع خلقدونية لتدمير نفوذ الوحدانيين في الغرب، وبالتالي المحافظة على مايسمى الآن الكاثوليكانية. بدون ذلك الجواد، لظلت روما على هوامش المسيحية، ولأصبحت الإسكندرية عاصمة للمسيحية، وربما أدى ذلك لتوحيد المسيحية الشرقية، وعدم ارتباطها العدائي بروما الكاثوليكية، في مقاومة للاجتياح الإسلامي في القرنين السابع والثامن وما بعدهما. وبدون ذلك الجواد لكان العالم الآن مكاناً مختلفاً جداً.
وحتى نعود إلى العالم الفعلي لجيروم وآرائه حول الجنس والطعام؛ هل كانت هنالك صلة بين الكنيسة السلطوية النافذة حديثاً، والمفكرين المسيحيين من الطراز المتقدم الذين أصبحوا عدائيين تجاه الجسد؟ كيف أصبح عذاب التجويع المفروض ذاتياً يُرى "كمالاً" روحياً؟ لماذا، كما تعبّر عنه فيرونيكا غريم الأكاديمية في هارفارد، رفضت البروباجندا المسيحية في ذلك العصر وبشكل عنيف الجسد الإنساني السليم باحتياجاته الحيوية الأساسية؟ وفوق كل ذلك، كيف انتهى البحث عن النقاء بخوفٍ عامٍ من الطعام؟
سوف يكون من الصعب إلقاء اللوم على المسيح، ولا مجتمعه ولا أولئك الذين اتبعوه مباشرة على أي من هذا. لقد كان القديس بولس معذباً وقلقاً، ولم يكن لديه أي شيء ضد الطعام- بيد أنّ الزاهدين الذين يعانون من رهاب الطعام قد أساءوا الاستشهاد به مؤخراً ليدعوا بأنّه كان كذلك. لقد كانت السطور التي كتبها حول أعداء المسيح الذين " كانت بطونهم هي آلهتهم" [...] ورؤوسهم مشغولة بالأمور الدنيوية" ليست تجريماً للطعام في حد ذاته بل للإسراف فيه. فبالنسبة لبولس، كانت مشاركة الخبز والنبيذ أحد الجوانب الضرورية في حياة المسيحي. إنَّ الافخارستيا[ سر المناولة] كان في الأصل جزءًا من المناولة الكاملة التي شملت الجسد والروح. ترك بولس إرثاً للمسيحية: إضطراب عصبي جنسي، مثله مثل فكرة أنّ الجسد "هيكل" مدنس به. ولكنّه قبله في إطار الزواج:" إنّ الزواج أفضل من الحرق".
وفي كتابها من (الولائم إلى الصيام: تطور الخطيئة) تستشعر غريم إشارة في حقيقة أنّ التقدم نحو الزهد المتطرف جاءت بعد انتصار المسيحية كدين رسمي. ولفريمان رأيّ مشابه: أصبحت المسيحية أكثر تشاؤماً عندما دخلت من البارد. وقد كانت هذه هي أيضاً حقبة لبناء أولى الكنائس الفخمة(ابتداع صادم لبعض المسيحيين مشتق من الوثنية وكثيراً ما كان يستخدم مباني الآلهة القديمة). عرض لثروة الكنيسة الجديدة والوضع الذي قد يستصدر استجابة. تقول غريم بأنّ التقشف الصارم ربما اشتق من أحد أشكال المزايدة الروحية. وبما أنّ الخط الفاصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية لم يكن واضحاً، فقد سعى القادة المسيحيون إلى الحفاظ على حدودهم الأخلاقية، ومهد القديس بولس الطريق برؤية الجنس كشيء مثير للريبة. وأصبح نبذ الجنس الآن ممارسة "للقدسية". وقد حوّل الساسة المسيحية إلى دين جماهيري للجميع. وقد كان هذا الشيء خطيراً بالنسبة للمتشددين. الاجتياج المفاجيء من قبل "غير المستحقين"، أو بصريح العبارة العناصر السامة، شكّل خطراً على نقاء المجتمع المسيحي المثالي.
وقد جاءت الآراء الجديدة لكتّاب المسيحية حول الجنس والطعام بعد القرن الأول. كليمنت الاسكندراني، ولد بحوالي ثمانية أعوام بعد وفاة بولس، وقال إنّ الأكل، والشرب والزواج كانت مباحة تماماً- ولكن طالما لم تجلب متعة. كان النبيذ " عقار الجنون" والذي يحفّز " الدوافع الجامحة، والشهوات المتقيحة" في الشاب. لأنّ الأجساد الغضّة كانت تبدو أكثر عرضة للشهوة، فقد كان كليمنت، في حر الأسكندرية، ينصح الكبار بعدم شرب أي شيء أثناء الغداء. حتى الماء قد يكون ضارًا روحياً. والابتكار الآخر الذي قد نشكر عليه كليمنت هو فكرة أنّه حتى المناحي الحميمة من الحياة الخاصة تدخل تحت سيطرة المسيح. كل شيء يتعلق بالجسد كان قابلاً للتحقيق. تقول غريم، من الآن فصاعداً، "أكدّت الكنيسة بشكل متزايد على حقها في السيطرة على جوهر الحياة الخاصة للفرد، وذلك بما يترتب على تلك السيطرة من تبعات اجتماعية واقتصادية وسيكولوجية".
وقد كانت الشخصية الرئيسية الأخرى هي تيرتليان، والمدعو "أب المسيحية اللاتينية"، الذي عاش أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث. كاره النساء والمهووس، تيرتليان كان مندداً متحمساً بالهراطقة، وهو من اخترع مصطلح"الثالوث"، وكان ذا خط فريد في البراهين. إنّه مشهور بقوله:" ومات ابن الله: إنّه أمر معقول تماماً لأنّه سخيف. ودفن، وقام، مرة أخرى: إنّه مؤكد لأنّه مستحيل." كان ترتيليان يرى في الصوم طريقة للتكفير عن الذنوب، وحض التائبين على "تغذية الصلوات بالصوم، والأنين، والبكاء، والجأر ليل نهار". جاءت أكبر إسهاماته في رهاب الطعام في أطروحة تدعى الاعتذارية يدعي فيها أنّ المسيحيين يلمسون الرب بكونهم "عطشى صائمين، ذائقين لذة كل تقشف، ممتنعين من جميع الأطعمة التي تحفظ الحياة، متمرغين في مسوحهم والرماد". لقد تهكم تيرتليان على طائفة مسيحية منافسة: معكم، يظهر اتقاد "الحب" في المقالي،"ودفء "الإيمان" في المطابخ، ومرافيء الأمل في النُدل"؛ وأطروحته "حول الصيام" هي أول معالجة مسيحية كثيفة للموضوع. الصيام، يقول مؤكداً، يسرُّ الرب كعلامة ممتازة على تواضع الذات. مع وضع معيار مسيحي مثالي جديد في عقاب الذات مع كتاب أثناسيوس حول راهب الصحراء القديس أنطوني بعد ذلك بقرن. مثل الزهد وممارساته مازالت قيد التشكل، بيد أنّها أقل تناولاً بالحديث، وفي عام 2009 كشف عنها على يد واحدة من الراهبات البولنديات التي كانت تعتني به، حتى إنّ البابا جون بول الثاني كان يجلد نفسه باستمرار بينما كان في روما."كنا في الغرفة المجاورة، وكنا لنسمع فرقعة السياط" كما أخبرت الأخت توبيانا سوبودكا لجنةَ تحقيقٍ فاتيكانية في أهلية البابا الراحل بالقدسية.)
وقد ألهم الرجال أمثال أثناسيوس وجيروم حركة الرهبنة، ولكن الأصوات الأخيرة مثل باسيل كيزاريا وأوغستين خففت من حدة المناداة بالتجويع وتعذيب الذات. لقد شعروا بضرورة عدم تناول المسيحيين للطعام والشراب بكميات تزيد عما هو ضروري للحفاظ على الصحة. قال أوغسطين بضرورة معاملة الجسد كالعبد: يجب إشباع حاجاته الأساسية فقط. وحض باسيل على " نبذ الملذات". وبالفعل اتبع الرهبان أنظمة حمية تحافظ على صحتهم وقوتهم. في الشرق كان جون كريسوستوم يدعم تقشف الرهبان، لكنّه يتحدث بواقعية للأشخاص العاديين: استمتعوا بحمامكم، ومائدتكم الطيبة، واللحوم، والنبيذ في اعتدال- استمتعوا بكل شيء، في الحقيقة، ولكن إياكم والخطايا." على الرغم من أنّ الخضوع ونبذ الملذات الحسية واصلت تغلغلها في الفكر المسيحي جنباً إلى جنب شهية الطعام. وقد كان أوغسطين- أهم اللاهوتيين الكاثوليك جميعاً- يعاني من قلق دائم حيال الشهوة، ويستنكر متعة الأكل"المنحوسة". وقد كان أوغسطين مهووساً بالجنس ولكن بشكل أقل تكراراً ومرضيةً مما كان عليه تيرتليان وجيروم. لقد اخترع مفردة الخطيئة الأصلية المشتقة من هبوط آدم، ومفهوم الليمبوس القاسي(حيث يذهب الأطفال غير المعمدين بعد الموت، الذين هم أبرياء ولكنهم موسومون "بالخطيئة الأصلية". كان أوغسطين مهموماً بالخطيئة، خاصة خطيئته، ومفهوم الرب ككيان يعبّر عن الحب بالعقاب. نظرة أوغسطين سوداوية: الإنسان ملعون لأنَّ الخطيئة تنتقل عبر الجنس. والمعمودية أو الأعمال الصالحة لا تكفي لإنقاذ أكثر من جزء ضئيل من الإنسانية. والوجود الأرضي لشيء ينبغي النظر إليه بعين الازدراء: ينبغي تدريب العين المسيحية على الحياة الأبدية دائماً. وكلما زاد حبه لما هو فانٍ، اشتدت كراهيته لما هو عابر." لغة أوغسطين أقل عنفاً من لغة صديقه جيروم، ولكنه – بحسب عبارة عالم اللاهوت الألماني أوتا رانكي- هاينمان:"الرجل الذي دمج المسيحية مع الجنس المكروه، والمتعة في وحدة منهجية".
في الاعترافات يصرّح أوغسطين بأنّه وبينما يكون الأكل ضرورة، ستحول متعة الأكل عقل الإنسان من الأمور العليا. وفي الحقيقة ربما يؤخذ الطعام كعلاج "لحمى" الجوع والعطش:"إني أنظر للأكل على أنّه دواء، أي، العمليات الطبيعية للجسد تختل. وفي فوائد الصيام يتقدم أوغسطين لمرحلة أخرى أبعد: " لحمك أدنى منك منزلة؛ وإلهك فوقك." الشخصية منقسمة، يغدو الجسد غرضاً خارجياً للترويض والعبادة. ومثل هذا التفكيك للشخصية البشرية- تقول غريم- يلقي بظل طويل على الذهنية الغربية." سجلات الطب النفسي حتى يومنا هذا تشهد بالجهود التي بذلت محاولة لوضع هذه القطع معاً مجدداً."
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles