قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الأول - من جبل جينيروسو إلى مدينة البندقية

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الأول : من جبل جينيروسو إلى مدينة البندقية
تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم
---
خريف في شمال إيطاليا، شتاء في روما، ذروة المدّ في سورينتو أعادت الصيف من جديد، مرة أخرى، صيفٌ إيطالي سخيٌ، بثروته من الفواكه، والأزهار، حره القائظ، وسطوعه الذي يغشي العيون. منذ زمن سحيق انطلق المد البربري باتجاه الشمال، وتوغل في سويسرا. حتى من بقوا لفترة أطول ابتهجوا عندما أداروا وجوههم ناحية الهضاب؛ وهكذا تصادف أن وجدت الكاتبة وصديقها الذي انضم إليها مؤخراً في نابولي، نفسيهما حوالي منتصف شهر يونيو من عام 1872، يتنفسان نسائم مونتي جينيروسو الأقل حرارة.
وثمة نُزُل هنا، مزدحم حد الفيضان، وتكثر بين ضيوفه أعداد الأصدقاء الرومان منذ الموسم السابق. هنا أيضاً الكثير من المدرجات الخضراء، والغابات الظليلة، والمروج المزدانة بأنواع الزهور البرية التي لم يسبق لأيٍّ منا رؤية مثلها في أي مكان آخر. البحيرات التي يتصاعد منها البخار والتي قد فررنا منها للتو- كومو، لوغانو، وماجوري- ما تزال في مكانها، مثل ملاءات تلمع على بعد ثلاثة آلاف قدم تحتنا.
يمتد سهل اللومباردي على أحد الجانبين يتلظى طوال اليوم في السحب المشتعلة إلى حد الأفق. مناطق الثلج الواسعة تربط سويسرا وتيرول من الجهة الأخرى، تتوهج مع طلوع فجر كل يوم، وتمسي قرمزية عندما تغيب الشمس خلفها في بهاء كل ليلة.
وبدوام حضور هذا المشهد البديع أمام أعيننا، بتعاقب أضوائه وظلاله، وتأثيره السحري على إكليل السحاب والزخات- نختطف الآن لمحة مباغتة لفيستراهورن ومنطقة بيرن- الآن رؤيا شبحية لجبل روزا، أو ماترهورن، أو حتى ( في صباحٍ صافٍ من القمة التي تقع خلف الفندق) لأورتلر سبيتز على حدود تيرول القصيّة- بدأنا نفكر ونتحدث أقل عن جولتنا المقترحة في إنجادين؛ للنظر أكثر بشيء غير قليل من الحنين تجاه الأفق الشمالي الشرقي؛ وأن نحلم بشسوع هذه الجبال التقية إلى ما وراء فيرونا التي نعرف عنها- إلى حد ما- كما يفعل الدولمن.
الدولمن! لقد انقضت خمس عشرة سنة منذ أن رأيت رسوماتهم بيد الفنان العظيم الذي لم يمض طويل وقت على وفاته، وما اتسمت به من خطوط غريبة، والألوان الغريبة ما زالت تسكنني مذاك. لقد كنت أخالها مثل أي صيف أتى؛ ندمت عليها كل خريف؛ احتفيت بالأمل الواهِي فيها كل ربيع. رسم مدينة البندقية في جندول قبل سنة من وقت كتابتي، اعتدت دائماً النظر إلى القمم الزرقاء الخافتة وراء مورانو.
باختصار، لقد كان شوقاً قديماً: والآن عالياً على جانب الجبل، مع زيرمات وإنجادين قريبة في متناول الخطى، وقمم الألب الكثيرة تمتد حتى منتصف الأفق، تعود فيّ بتلك القوة التي تجعل كل ما ينبغي أن نراه في هذه الجبال والطرق يبدو مقهوراً ومرفوضاً.
لحسن الحظ، قرأ صديقي (الذي سوف أدعوه ل. لدواعي الخصوصية) وحلم بالدولمن، وقد كان تواقاً لمعرفة الكثير عنهم مثلي؛ ولذلك سرعان ما بلغنا تلك المرحلة من تأريخ كل بعثة عندما تذوب الاحتمالات الواسعة في المؤكد المخطط له، ودراسة الخرائط والمسارات تضحي هي الشغل الشاغل الممتع يوماً بعد يوم.
كان يتعين علينا بالطبع اجتياز بعض العقبات؛ ليس فقط تلك الصعوبات المتعلقة بالسكن والمرور التي تجعل ضاحية الدولمن أصعب في الوصول إليها عن كثير من المناطق النائية، ولكن الصعوبات الخاصة التي تنشأ من محيطنا الراهن. كانت صوفيا على سبيل المثال (خادمة ل.)، وهي- كونها رقيقة- كانت أقل منا قدرة على تحمل العمل في الجبل. وكانت هنالك عقبة المرافق الكبرى- وهو سيد ذو ذوق عالٍ وغالٍ، والذي كان يبغض ما يفهم بشكل عام على أنّه "تصعيب للأمور"، مزدرياً البساطة البدائية، وقال بالضبط إنَّ على مخدميه أن يقصروا إلى حدٍ صارم حبهم للمناظر الطبيعية الرائعة على المناطق التي تتوفر على طرق القطارات والفنادق من الدرجة الأولى.
حتى إنَّ الحصول على دعم هذا الرجل الشهير لمشروعنا الجديد أصبح- بجلاء- أمراً ميؤوساً منه، عليه ناقشنا الأمر سراً "بأنفاس متسارعة"، وافترضت الإجراءات في الحال تلك الروح المبهجة للمؤامرة.
لقد كان القس جون آر متواطئاً من البداية، وهو الذي كان يمثل لبضعة أسابيع دور قسيس إنجليزي في ستريزا. لقد قام بالسير عبر مسار الدولمن خاصتنا قبل سنوات قليلة، وعليه قدم لنا ذلك النوع من النصائح العملية الأكثر قيمة في حال السفر وأجلّ قائدة.
ولهذا ولأجل عدم اكتراثه الشجاع للغيظ الشديد من المرافق؛ والطريقة المفعمة بالطاقة التي قبل فيها بمواعيدنا في المنازل الصيفية، وشهد اجتماعاتنا المختلسة خلف الأبواب الموصدة عندما كان الخدم يتناولون وجباتهم، (وبتجاهل نبيل للمظاهر لا نستطيع أبداً أن نوفيه حقه من العرفان)؛ أقدم له هنا امتناننا القلبي المخلص.
أخيراً وبعد أن تم التخطيط لكل شيء، أصبح من الضروري إعلان تغيير مسارنا. وتم استدعاء الرجل العظيم بمقتضى ذلك؛ الكاتب، لم يكن مشهوراً بالشجاعة الأخلاقية، فتراجع على نحو مخزٍ؛ وانبرى ل. المقدام للمهمة الخطرة. ولم تتسرب أية تفاصيل من تلك المقابلة الهائلة. ويكفي أنّ ل خرج منها رابط الجأش لكنه منتصر؛ وهكذا هو الرجل العظيم، أعظم شيءٍ عند الهزيمة، ومنذ ذلك الحين فصاعداً ضبط نفسه على هدوء لطيف كما الشهداء، بينا يفوق اعتزازه بنفسه الوصف.
والآن، هنالك ثلاثة طرق يمكن عبرها الدخول إلى منطقة الدولمن. بالاسم: بوتزن، برونيكن، أو البندقية؛ وكان البدء بالبندقية يتاسب مع خطتنا البعدية. عليه وفي يوم الخميس السابع عشر من يونيو، ودعنا أصدقاءنا على جبل جينيروسو وانطلقنا في جمال الصبح الباكر ونسائمه المنعشة. كان يوماً موعوداً بالنسبة لبداية رحلة كهذه.
أرعدت السماء بشدة في الليلة السابقة، وما زالت آخر الأكوام تتدحرج في حاجز طويل الأمواج عند التقاء الأرض بالسماء. فالتمعت سهول اللومباردي شاسعة ونائية؛ تألقت ميلانو، قطعة من الرخام في وسط المدى، وعلى نقطة هي أبعد ما يكون، كمسلة من الثلج الناصع، باهتة اللون، وعند النظر إليها والجو صحو نجد جبل فيزو وقد انتصب على بعد مائة وعشرين ميلاً.
الطريق يأخذ في الانحدار بسرعة شديدة، وتسد الغابات الكثيفة مد البصر، وفي أقل من ساعتين من الزمان كنا مرة أخرى نهبط إلى ميندريزو، وهي بلدة صغيرة نظيفة بها فندق ممتاز، حيث ينطلق المسافرون إلى الجبل، أما القادمون إلى السهول فقد خلدوا للراحة. نترك هنا أمتعتنا الثقيلة، محتفظين بحقائب صغيرة فقط لاستخدامها أثناء الجولة. وننضم هنا أيضاً إلى إحدى العربات لتأخذنا إلى كومو حيث وصلنا قبل أن ينتصف النهار، وبعد رحلة مثيرة للملل والغبار لأكثر من ساعتين أو نحو ذلك.
ولقد كنا ننوي أن نبلغ في تلك الظهيرة بيلاجيو، وفي الصباح نأخذ الباخرة إلىليكو، حيث نأمل أن نلحق بقطار الساعة 9:25 الذي يصل إلى مدينة البندقية في الرابعة والنصف. وبما أننا كنا على تلك الدرجة من التعب فقد تلقينا خبر تأخر وقت مغادرة الباخرة إلى الثالثة بمزيد من السرور. بالإضافة إلى أنه بمقدرونا الخلود إلى الراحة لساعتين في فندق فولتا- ليس فقط الأفضل في كومو بل واحد من أفضل الفنادق في إيطاليا. وهنا استرحنا وتناولنا غداءنا، وعلى الرغم من حرارة الظهيرة الشديدة في الخارج اتفقنا على أن نبتعد وصولاً لتلك المنمنمة الرخامية الصغيرة الرائعة، الكاتدرائية. ونظل هناك حتى آخر لحظة، متفحصين النحت الغائر الشبيه بالحجر الكريم للجهة، الوحوش الغريبة من عصور مجهولة، والتي ترتكز عليها أحواض الماء المقدس بالقرب من المدخل، والتصميم القوطي الرقيق لصحن الكنيسة والممرات، وركضنا عائدين في الوقت تماماً لنرى أمتعنا وهي تنقل على العجلات الى الرصيف البحري، ووجدنا أنَّ الباخرة لا تكتظ فقط بالركاب، ولكن سطحها مكدس إلى علو كبير ببالات الحرير الخام، والسلال الفارغة، والبضائع من كل صنف.
كنا الانجليزيين الوحيدين على متن السفينة، كما كنا الانجليزيين الوحيدين في الشوارع، وفي الفندق، وفي بلدة كومو بكاملها على ما يبدو. وقد كانت إحدى رفيقاتنا الركاب من الطبقة البرجوازية- رئيسة شجاعة في إحدى المستشفيات، ذات كفين بنيتين مملوءتين، ويلفهما قفاز شبكي ويعجّان بالخواتم؛ وعمداء الأسر يعتمرون قبعات القش؛ والسيدات الشابات ذوات العينين السوداوين، والأوشحة المخنثة، وأحذية أطفالية ملونة من جلد الغزال، ومجموعة صغيرة من القسس. وربما كان هذا هو يوم السوق في كومو؛ لأنّ مقدمة سطح السفينة اكتظت بالريفيين الثرثارين، وبشكل خاص النساء في قباقيبهن الخشبية، وبعضهن ارتدين فوق شعورهن المضفرة غطاء للرأس على شكل مروحة من دبابيس الفضة، التي كانت إحدى سمات إقليم تشينو، على الحدود السويسرية في الجوار، ويشيع لبسه في منطقة البحيرات.
وهكذا انطلق الزورق خارج الميناء الصغير وعلى طول البحيرة الزجاجية، يُنزل عدداً من الركاب في كل محطة، وتحتسي الممرضات جعة الشيافينّا المثلجة؛ بينما يتحدث القسس إلى بعضهم في جمع صغير، في بهجة. كانوا ثلاثة أحدهم يميل إلى الحمرة، وبه مرح، ومهلهل الثياب إلى حدٍ ما. أما الثاني فكان محدودب جداً، وأدرد الفم ومتواضع، ورثّ المظهر إلى حدٍ ملحوظ؛ بينما كان الثالث يرتدي ملابس واسعة ولامعة، وسترة قصيرة من قماش الساتان الأسود، ويعامل نفسه كسيد، ورجل الأناقة والمعرفة والخبرة، وكان يبدو عليه التحرر بعلبة نشوقه الفضية، وكان عليه أن يفتح فمه فقط ليثير ضحكة غامضة. وأنزلنا الاثنين أولاً في مجموعة قرى صغيرة على الطريق الموازي للمياه، ونزل الأخير على الشاطيء في كادينابيا، في قارب أنيق بمجدافين. تمر في الأثناء مسرعة مناظر رائعة متجددة للهضاب كثيفة الأشجار، والكروم، والقرى، والحدائق المدرجة، والقصور اللامعة مغروسة في حقول البرتقال. سرعان ما انتهت الرحلة الجميلة، وما زالت الشمس في أوج السماء عندما وصلنا بيلاجيو؛ وهي منتجع للراحة الشهية، إن كان ذلك لساعات قليلة فقط.
وعلى أية حال، في الصباح التالي، الساعة السابعة والربع، ركبنا مرة أخرى وانطلقنا ولكن ببطء شديد هذه المرة صوب ليكو، حيث وصلنا بالضبط مع صافرة انطلاق قطار الساعة 9:25. والآن، وبما أنّ هنالك رحلتين فقط في اليوم من هذا المكان، والقطار التالي لن يتحرك قبل سبع ساعات، لنصل إلى البندقية حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً، فقد بدا وضعناً خطيراً. قدنا السيارة إلى الفندق، الذي بدا أفضل ما يكون؛ ومالكة الفندق، التي كانت سيدة لمّاحة ومفعمة بالحيوية، اقترحت علينا أن نركب عربة تأخذنا إلى بيرغامو عبر الريف حتى نستطيع اللحاق بالقطار السريع القادم من ميلانو في الساعة 11:13 دقيقة. وقد كانت العربة واقفة بالفعل في الفناء؛ واثنان من الخيول جاهزان في الإسطبل، وأيضاً كان حفيدها على استعداد للقيادة، أخف عربة، وأفضل جياد، و السوط الأكثر حنكةً في ليكو!
إنّها سيدة صغيرة لا نظير لها في النشاط. لقد منحتنا الوقت للتشاور؛ وساعدتنا على وضع الأحصنة بأيديها، وشجعتنا على الذهاب بحماسة كأنما ازدهار فندقها يتوقف على التخلص من نزلائها بأسرع ما يمكن. وهكذا انطلقنا نعد الأميال والدقائق على طول الرحلة، فندخل منتصرين إلى محطة بيرغامو قبل وصول القطار السريع بخمس وعشرين دقيقة.
ثم وصل ذلك القطار المشهور، حافلاً للغاية بالجمال والغنى في رومانسية عتيقة، حتى إنّ أسماء المحطات وحدها على طول الخط تجعل من قراءة كلمة برادشو كصفحة من الشعر-بريشيا، فيرونا، فيسينزا، بادوا، البندقية. أما المسافر الذي سبق له المرور بجميع هذه الأمكنة في رحلاته، وتربطه الإلفة بكل من الأماكن الرائعة التي تسرع إلى الوراء، فأنا لا أعرف متعة أعظم من المرور بها هكذا في عرض خاطف، بينما تطوى المسافة بين ميلانو إلى البندقية في نهار صيفي مشرق.. يا لها من روائع تترى الواحدة بعد الأخرى! سلسلة من الذكريات يجر بعضها بعضاً! يا لها من حلم جميل طويل بالمدن العتيقة ذات المتاريس المتشعبة؛ وأديرة بيضاء تطفو على الهضاب المزروعة بأشجار السرو؛ والقرى التي تشبه عناقيد الكرم، لكل منها برج رشيق للجرس؛ وقلاع مبنية بالحجر، وأطلال بلدات من العصور الوسطى؛ أنهار برّاقة، وغابات زيتون، وكروم مترامية مد البصر؛ ووراء كل هذا خلفية من البال الزرقاء تتفاوت خطوطها، وتتغير في ألوانها، مثل السحب التي تبحر فوقها ويطير من فوقها القطار!
كنا قد وصلنا البندقية بحلول الساعة الخامسة. ولم أظن عندما اتجهت جنوباً في الخريف الماضي أنني سأجد نفسي سرعان ما سأمخر عباب أمواهه الحميمة مرة أخرى. وإني أكاد لا أصدق أنّ القناة الكبرى كانت هنا، وهناك جسر ريالتو، وتلك القباب البيضاء التي بدأت تظهر الآن على الأفق، هي قباب القديسة مريم سيدة السلام. ويبدو الأمر كله مثل الأحلام. بيد أنّه، على نحوٍ ما، لم يكن كالأحلام بقدر ماهو كحقيقة متغيرة. لقد كانت هي مدينة البندقية، ولكنها ليست تماما كما كانت. لقد كانت البندقية أكثر خنوثة، وامتلاءً وصخباً؛ خالية من الإنجليز، والأمريكان، والسياح، تعجّ بالإيطاليين الذين يتدفقون في كل نوع وضرب من أزياء الصيف؛ تزدحم بالفنانين من جميع الجنسيات يرسمون في القوارب، أو تحفهم الحشود المحدقة في الزوايا والأورقة الظليلة؛ البندقية التي أضحت مياهها الوامضة الآن تمزقها آلاف الزوارق السريعة، بمظلاتها المخططة الأنيقة المختلفة ألوانها؛ حيث اختفت تماماً تلك الزوارق المعقودة – مثل نعوش الموتى- معبأة بالغموض والشعر. البندقية التي احتشد جانب كل قناة فيها بالصبية الصغار الذين يتعلمون الغوص، والسباحين من كل الأعمار؛ حيث العشرات من البواخر( مقارنة مع قوارب قرش الهنغرفورد التي تبدو مثل القصور العائمة) التي كانت تسرع في الاتجاهين كل ربع ساعة بين شط شيافوني وأماكن السباحة على ليدو، البندقية التي بزغت فيها فجأة بين كل منزل وآخر في كل ميادينها؛ المقاهي التي تعزف فيها الفرق النحاسية، وينادى فيها على حلوى الكراميل والمشروبات المثلجة التي تحتسى منذ السابعة صباحاً إلى ساعات متأخرة بعد منتصف الليل؛ إنّها البندقية- باختصار- تلك التي كانت تتشمس في اغتباط موسم السباحة، عندما يحتشد أهالي سائر إيطاليا الواقعة شمال نهر التيبر، ونسبة كبيرة من الغرباء القادمين من فيينا، وسان بترسبرغ، وشواطيء البلطيق، ليتنشقوا نسمات البحر الإدرياتيكي العليلة.
مكثنا ثلاثة أيام في دانيلي بما في ذلك يوم الأحد، وفي اعتبارنا أننا كنا نتجه إلى منطقة حيث الطرق كانت قليلة، والقرى متباعدة، والنُزُل نادراً ما تشتمل على الضروريات العامة، فقصدنا أحد المتاجر العامرة للتزود بما يعيننا على مشاق الرحلة..
وكنا قد أمضينا يومي السبت والاثنين في متاهات الخردوات. واشترينا هنا سلتين مناسبتين من الخوص، وما يكفي لتعبئتهما بالشاي، والسكر، وبسكويت ريدنغ المعلب، وألواح الشوكولاتة، وخلاصة لحم تحمل العلامة التجارية ليبيج، وقارورتين من الكونياك، وأربع من المارسالا، وفلفلًا، وملحًا، وآروروت، وقارورة معدنية لأرواح النبيذ ونبيذ إتنا.
وهكذا، استطعنا الاعتماد في كل الأحوال على مواردنا الخاصة، وكنا نعتقد أنّه بإمكاننا الحصول على الخبز والحليب والبيض في أي مكان. وقد ثبت لنا بمرور الوقت أننا قد بالغنا في تقدير ثراء البلاد عندما بنينا تلك الأمال البسيطة حتى، لأننا لم نستطع في أحيان كثيرة أن نحصل على الحليب(نسبة لتحول الأبقار إلى المراعي العليا)، كما أننا لم نستطع في إحدى القرى التي يبلغ عدد سكانها على الأقل ثلاث أو أربع مئات من الأنفس الحصول على قطعة خبز واحدة. وهنالك نقطة أخرى كانت بالنسبة لنا بمثابة "الاختبار" الأشد، وهي مسألة السروج الجانبية، والتي كان السيد ر. على جبل جينيروسو قد أشار علينا بشرائها، وأخذها معاً، إذ كان يشك أننا لا نستطيع الحصول عليها بين كورتينا وبوتزن. وهنالك صديق آخر طمأننا على أية حال بوجودها في كابريلي، و كان هنالك واحدٌ أمَّلنا أننا ربما نجد اثنين أو أكثر، ولكننا على أية حال لم نكن نريد زيادة الأشياء وتحمل عبء ثلاثة من السروج الجانبية (آخر اثنين في المقاطعة بأكملها) قسراً طوال الرحلة؛ ولكن كان هذا نصراً جريئاً لا ينبغي تكراره. وينبغي علينا في المرة القادمة أن نوفر لأنفسنا السروج الجانبية إما من بادوا، أو فيسينزا من جهة، أو من بوتزن من الجهة الأخرى.
بحلول مساء الاثنين الأول من شهر يوليو، اكتملت تجهيزاتنا؛ وحزمنا سلال مؤونتنا، ووضعنا فيها مخزوننا من مواد الكتابة والرسم، وكان كل شيء على أتم الاستعداد لبداية باكرة في الصباح التالي.
_______________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الأول : من جبل جينيروسو إلى مدينة البندقية
تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم
---
خريف في شمال إيطاليا، شتاء في روما، ذروة المدّ في سورينتو أعادت الصيف من جديد، مرة أخرى، صيفٌ إيطالي سخيٌ، بثروته من الفواكه، والأزهار، حره القائظ، وسطوعه الذي يغشي العيون. منذ زمن سحيق انطلق المد البربري باتجاه الشمال، وتوغل في سويسرا. حتى من بقوا لفترة أطول ابتهجوا عندما أداروا وجوههم ناحية الهضاب؛ وهكذا تصادف أن وجدت الكاتبة وصديقها الذي انضم إليها مؤخراً في نابولي، نفسيهما حوالي منتصف شهر يونيو من عام 1872، يتنفسان نسائم مونتي جينيروسو الأقل حرارة.
وثمة نُزُل هنا، مزدحم حد الفيضان، وتكثر بين ضيوفه أعداد الأصدقاء الرومان منذ الموسم السابق. هنا أيضاً الكثير من المدرجات الخضراء، والغابات الظليلة، والمروج المزدانة بأنواع الزهور البرية التي لم يسبق لأيٍّ منا رؤية مثلها في أي مكان آخر. البحيرات التي يتصاعد منها البخار والتي قد فررنا منها للتو- كومو، لوغانو، وماجوري- ما تزال في مكانها، مثل ملاءات تلمع على بعد ثلاثة آلاف قدم تحتنا.
يمتد سهل اللومباردي على أحد الجانبين يتلظى طوال اليوم في السحب المشتعلة إلى حد الأفق. مناطق الثلج الواسعة تربط سويسرا وتيرول من الجهة الأخرى، تتوهج مع طلوع فجر كل يوم، وتمسي قرمزية عندما تغيب الشمس خلفها في بهاء كل ليلة.
وبدوام حضور هذا المشهد البديع أمام أعيننا، بتعاقب أضوائه وظلاله، وتأثيره السحري على إكليل السحاب والزخات- نختطف الآن لمحة مباغتة لفيستراهورن ومنطقة بيرن- الآن رؤيا شبحية لجبل روزا، أو ماترهورن، أو حتى ( في صباحٍ صافٍ من القمة التي تقع خلف الفندق) لأورتلر سبيتز على حدود تيرول القصيّة- بدأنا نفكر ونتحدث أقل عن جولتنا المقترحة في إنجادين؛ للنظر أكثر بشيء غير قليل من الحنين تجاه الأفق الشمالي الشرقي؛ وأن نحلم بشسوع هذه الجبال التقية إلى ما وراء فيرونا التي نعرف عنها- إلى حد ما- كما يفعل الدولمن.
الدولمن! لقد انقضت خمس عشرة سنة منذ أن رأيت رسوماتهم بيد الفنان العظيم الذي لم يمض طويل وقت على وفاته، وما اتسمت به من خطوط غريبة، والألوان الغريبة ما زالت تسكنني مذاك. لقد كنت أخالها مثل أي صيف أتى؛ ندمت عليها كل خريف؛ احتفيت بالأمل الواهِي فيها كل ربيع. رسم مدينة البندقية في جندول قبل سنة من وقت كتابتي، اعتدت دائماً النظر إلى القمم الزرقاء الخافتة وراء مورانو.
باختصار، لقد كان شوقاً قديماً: والآن عالياً على جانب الجبل، مع زيرمات وإنجادين قريبة في متناول الخطى، وقمم الألب الكثيرة تمتد حتى منتصف الأفق، تعود فيّ بتلك القوة التي تجعل كل ما ينبغي أن نراه في هذه الجبال والطرق يبدو مقهوراً ومرفوضاً.
لحسن الحظ، قرأ صديقي (الذي سوف أدعوه ل. لدواعي الخصوصية) وحلم بالدولمن، وقد كان تواقاً لمعرفة الكثير عنهم مثلي؛ ولذلك سرعان ما بلغنا تلك المرحلة من تأريخ كل بعثة عندما تذوب الاحتمالات الواسعة في المؤكد المخطط له، ودراسة الخرائط والمسارات تضحي هي الشغل الشاغل الممتع يوماً بعد يوم.
كان يتعين علينا بالطبع اجتياز بعض العقبات؛ ليس فقط تلك الصعوبات المتعلقة بالسكن والمرور التي تجعل ضاحية الدولمن أصعب في الوصول إليها عن كثير من المناطق النائية، ولكن الصعوبات الخاصة التي تنشأ من محيطنا الراهن. كانت صوفيا على سبيل المثال (خادمة ل.)، وهي- كونها رقيقة- كانت أقل منا قدرة على تحمل العمل في الجبل. وكانت هنالك عقبة المرافق الكبرى- وهو سيد ذو ذوق عالٍ وغالٍ، والذي كان يبغض ما يفهم بشكل عام على أنّه "تصعيب للأمور"، مزدرياً البساطة البدائية، وقال بالضبط إنَّ على مخدميه أن يقصروا إلى حدٍ صارم حبهم للمناظر الطبيعية الرائعة على المناطق التي تتوفر على طرق القطارات والفنادق من الدرجة الأولى.
حتى إنَّ الحصول على دعم هذا الرجل الشهير لمشروعنا الجديد أصبح- بجلاء- أمراً ميؤوساً منه، عليه ناقشنا الأمر سراً "بأنفاس متسارعة"، وافترضت الإجراءات في الحال تلك الروح المبهجة للمؤامرة.
لقد كان القس جون آر متواطئاً من البداية، وهو الذي كان يمثل لبضعة أسابيع دور قسيس إنجليزي في ستريزا. لقد قام بالسير عبر مسار الدولمن خاصتنا قبل سنوات قليلة، وعليه قدم لنا ذلك النوع من النصائح العملية الأكثر قيمة في حال السفر وأجلّ قائدة.
ولهذا ولأجل عدم اكتراثه الشجاع للغيظ الشديد من المرافق؛ والطريقة المفعمة بالطاقة التي قبل فيها بمواعيدنا في المنازل الصيفية، وشهد اجتماعاتنا المختلسة خلف الأبواب الموصدة عندما كان الخدم يتناولون وجباتهم، (وبتجاهل نبيل للمظاهر لا نستطيع أبداً أن نوفيه حقه من العرفان)؛ أقدم له هنا امتناننا القلبي المخلص.
أخيراً وبعد أن تم التخطيط لكل شيء، أصبح من الضروري إعلان تغيير مسارنا. وتم استدعاء الرجل العظيم بمقتضى ذلك؛ الكاتب، لم يكن مشهوراً بالشجاعة الأخلاقية، فتراجع على نحو مخزٍ؛ وانبرى ل. المقدام للمهمة الخطرة. ولم تتسرب أية تفاصيل من تلك المقابلة الهائلة. ويكفي أنّ ل خرج منها رابط الجأش لكنه منتصر؛ وهكذا هو الرجل العظيم، أعظم شيءٍ عند الهزيمة، ومنذ ذلك الحين فصاعداً ضبط نفسه على هدوء لطيف كما الشهداء، بينا يفوق اعتزازه بنفسه الوصف.
والآن، هنالك ثلاثة طرق يمكن عبرها الدخول إلى منطقة الدولمن. بالاسم: بوتزن، برونيكن، أو البندقية؛ وكان البدء بالبندقية يتاسب مع خطتنا البعدية. عليه وفي يوم الخميس السابع عشر من يونيو، ودعنا أصدقاءنا على جبل جينيروسو وانطلقنا في جمال الصبح الباكر ونسائمه المنعشة. كان يوماً موعوداً بالنسبة لبداية رحلة كهذه.
أرعدت السماء بشدة في الليلة السابقة، وما زالت آخر الأكوام تتدحرج في حاجز طويل الأمواج عند التقاء الأرض بالسماء. فالتمعت سهول اللومباردي شاسعة ونائية؛ تألقت ميلانو، قطعة من الرخام في وسط المدى، وعلى نقطة هي أبعد ما يكون، كمسلة من الثلج الناصع، باهتة اللون، وعند النظر إليها والجو صحو نجد جبل فيزو وقد انتصب على بعد مائة وعشرين ميلاً.
الطريق يأخذ في الانحدار بسرعة شديدة، وتسد الغابات الكثيفة مد البصر، وفي أقل من ساعتين من الزمان كنا مرة أخرى نهبط إلى ميندريزو، وهي بلدة صغيرة نظيفة بها فندق ممتاز، حيث ينطلق المسافرون إلى الجبل، أما القادمون إلى السهول فقد خلدوا للراحة. نترك هنا أمتعتنا الثقيلة، محتفظين بحقائب صغيرة فقط لاستخدامها أثناء الجولة. وننضم هنا أيضاً إلى إحدى العربات لتأخذنا إلى كومو حيث وصلنا قبل أن ينتصف النهار، وبعد رحلة مثيرة للملل والغبار لأكثر من ساعتين أو نحو ذلك.
ولقد كنا ننوي أن نبلغ في تلك الظهيرة بيلاجيو، وفي الصباح نأخذ الباخرة إلىليكو، حيث نأمل أن نلحق بقطار الساعة 9:25 الذي يصل إلى مدينة البندقية في الرابعة والنصف. وبما أننا كنا على تلك الدرجة من التعب فقد تلقينا خبر تأخر وقت مغادرة الباخرة إلى الثالثة بمزيد من السرور. بالإضافة إلى أنه بمقدرونا الخلود إلى الراحة لساعتين في فندق فولتا- ليس فقط الأفضل في كومو بل واحد من أفضل الفنادق في إيطاليا. وهنا استرحنا وتناولنا غداءنا، وعلى الرغم من حرارة الظهيرة الشديدة في الخارج اتفقنا على أن نبتعد وصولاً لتلك المنمنمة الرخامية الصغيرة الرائعة، الكاتدرائية. ونظل هناك حتى آخر لحظة، متفحصين النحت الغائر الشبيه بالحجر الكريم للجهة، الوحوش الغريبة من عصور مجهولة، والتي ترتكز عليها أحواض الماء المقدس بالقرب من المدخل، والتصميم القوطي الرقيق لصحن الكنيسة والممرات، وركضنا عائدين في الوقت تماماً لنرى أمتعنا وهي تنقل على العجلات الى الرصيف البحري، ووجدنا أنَّ الباخرة لا تكتظ فقط بالركاب، ولكن سطحها مكدس إلى علو كبير ببالات الحرير الخام، والسلال الفارغة، والبضائع من كل صنف.
كنا الانجليزيين الوحيدين على متن السفينة، كما كنا الانجليزيين الوحيدين في الشوارع، وفي الفندق، وفي بلدة كومو بكاملها على ما يبدو. وقد كانت إحدى رفيقاتنا الركاب من الطبقة البرجوازية- رئيسة شجاعة في إحدى المستشفيات، ذات كفين بنيتين مملوءتين، ويلفهما قفاز شبكي ويعجّان بالخواتم؛ وعمداء الأسر يعتمرون قبعات القش؛ والسيدات الشابات ذوات العينين السوداوين، والأوشحة المخنثة، وأحذية أطفالية ملونة من جلد الغزال، ومجموعة صغيرة من القسس. وربما كان هذا هو يوم السوق في كومو؛ لأنّ مقدمة سطح السفينة اكتظت بالريفيين الثرثارين، وبشكل خاص النساء في قباقيبهن الخشبية، وبعضهن ارتدين فوق شعورهن المضفرة غطاء للرأس على شكل مروحة من دبابيس الفضة، التي كانت إحدى سمات إقليم تشينو، على الحدود السويسرية في الجوار، ويشيع لبسه في منطقة البحيرات.
وهكذا انطلق الزورق خارج الميناء الصغير وعلى طول البحيرة الزجاجية، يُنزل عدداً من الركاب في كل محطة، وتحتسي الممرضات جعة الشيافينّا المثلجة؛ بينما يتحدث القسس إلى بعضهم في جمع صغير، في بهجة. كانوا ثلاثة أحدهم يميل إلى الحمرة، وبه مرح، ومهلهل الثياب إلى حدٍ ما. أما الثاني فكان محدودب جداً، وأدرد الفم ومتواضع، ورثّ المظهر إلى حدٍ ملحوظ؛ بينما كان الثالث يرتدي ملابس واسعة ولامعة، وسترة قصيرة من قماش الساتان الأسود، ويعامل نفسه كسيد، ورجل الأناقة والمعرفة والخبرة، وكان يبدو عليه التحرر بعلبة نشوقه الفضية، وكان عليه أن يفتح فمه فقط ليثير ضحكة غامضة. وأنزلنا الاثنين أولاً في مجموعة قرى صغيرة على الطريق الموازي للمياه، ونزل الأخير على الشاطيء في كادينابيا، في قارب أنيق بمجدافين. تمر في الأثناء مسرعة مناظر رائعة متجددة للهضاب كثيفة الأشجار، والكروم، والقرى، والحدائق المدرجة، والقصور اللامعة مغروسة في حقول البرتقال. سرعان ما انتهت الرحلة الجميلة، وما زالت الشمس في أوج السماء عندما وصلنا بيلاجيو؛ وهي منتجع للراحة الشهية، إن كان ذلك لساعات قليلة فقط.
وعلى أية حال، في الصباح التالي، الساعة السابعة والربع، ركبنا مرة أخرى وانطلقنا ولكن ببطء شديد هذه المرة صوب ليكو، حيث وصلنا بالضبط مع صافرة انطلاق قطار الساعة 9:25. والآن، وبما أنّ هنالك رحلتين فقط في اليوم من هذا المكان، والقطار التالي لن يتحرك قبل سبع ساعات، لنصل إلى البندقية حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً، فقد بدا وضعناً خطيراً. قدنا السيارة إلى الفندق، الذي بدا أفضل ما يكون؛ ومالكة الفندق، التي كانت سيدة لمّاحة ومفعمة بالحيوية، اقترحت علينا أن نركب عربة تأخذنا إلى بيرغامو عبر الريف حتى نستطيع اللحاق بالقطار السريع القادم من ميلانو في الساعة 11:13 دقيقة. وقد كانت العربة واقفة بالفعل في الفناء؛ واثنان من الخيول جاهزان في الإسطبل، وأيضاً كان حفيدها على استعداد للقيادة، أخف عربة، وأفضل جياد، و السوط الأكثر حنكةً في ليكو!
إنّها سيدة صغيرة لا نظير لها في النشاط. لقد منحتنا الوقت للتشاور؛ وساعدتنا على وضع الأحصنة بأيديها، وشجعتنا على الذهاب بحماسة كأنما ازدهار فندقها يتوقف على التخلص من نزلائها بأسرع ما يمكن. وهكذا انطلقنا نعد الأميال والدقائق على طول الرحلة، فندخل منتصرين إلى محطة بيرغامو قبل وصول القطار السريع بخمس وعشرين دقيقة.
ثم وصل ذلك القطار المشهور، حافلاً للغاية بالجمال والغنى في رومانسية عتيقة، حتى إنّ أسماء المحطات وحدها على طول الخط تجعل من قراءة كلمة برادشو كصفحة من الشعر-بريشيا، فيرونا، فيسينزا، بادوا، البندقية. أما المسافر الذي سبق له المرور بجميع هذه الأمكنة في رحلاته، وتربطه الإلفة بكل من الأماكن الرائعة التي تسرع إلى الوراء، فأنا لا أعرف متعة أعظم من المرور بها هكذا في عرض خاطف، بينما تطوى المسافة بين ميلانو إلى البندقية في نهار صيفي مشرق.. يا لها من روائع تترى الواحدة بعد الأخرى! سلسلة من الذكريات يجر بعضها بعضاً! يا لها من حلم جميل طويل بالمدن العتيقة ذات المتاريس المتشعبة؛ وأديرة بيضاء تطفو على الهضاب المزروعة بأشجار السرو؛ والقرى التي تشبه عناقيد الكرم، لكل منها برج رشيق للجرس؛ وقلاع مبنية بالحجر، وأطلال بلدات من العصور الوسطى؛ أنهار برّاقة، وغابات زيتون، وكروم مترامية مد البصر؛ ووراء كل هذا خلفية من البال الزرقاء تتفاوت خطوطها، وتتغير في ألوانها، مثل السحب التي تبحر فوقها ويطير من فوقها القطار!
كنا قد وصلنا البندقية بحلول الساعة الخامسة. ولم أظن عندما اتجهت جنوباً في الخريف الماضي أنني سأجد نفسي سرعان ما سأمخر عباب أمواهه الحميمة مرة أخرى. وإني أكاد لا أصدق أنّ القناة الكبرى كانت هنا، وهناك جسر ريالتو، وتلك القباب البيضاء التي بدأت تظهر الآن على الأفق، هي قباب القديسة مريم سيدة السلام. ويبدو الأمر كله مثل الأحلام. بيد أنّه، على نحوٍ ما، لم يكن كالأحلام بقدر ماهو كحقيقة متغيرة. لقد كانت هي مدينة البندقية، ولكنها ليست تماما كما كانت. لقد كانت البندقية أكثر خنوثة، وامتلاءً وصخباً؛ خالية من الإنجليز، والأمريكان، والسياح، تعجّ بالإيطاليين الذين يتدفقون في كل نوع وضرب من أزياء الصيف؛ تزدحم بالفنانين من جميع الجنسيات يرسمون في القوارب، أو تحفهم الحشود المحدقة في الزوايا والأورقة الظليلة؛ البندقية التي أضحت مياهها الوامضة الآن تمزقها آلاف الزوارق السريعة، بمظلاتها المخططة الأنيقة المختلفة ألوانها؛ حيث اختفت تماماً تلك الزوارق المعقودة – مثل نعوش الموتى- معبأة بالغموض والشعر. البندقية التي احتشد جانب كل قناة فيها بالصبية الصغار الذين يتعلمون الغوص، والسباحين من كل الأعمار؛ حيث العشرات من البواخر( مقارنة مع قوارب قرش الهنغرفورد التي تبدو مثل القصور العائمة) التي كانت تسرع في الاتجاهين كل ربع ساعة بين شط شيافوني وأماكن السباحة على ليدو، البندقية التي بزغت فيها فجأة بين كل منزل وآخر في كل ميادينها؛ المقاهي التي تعزف فيها الفرق النحاسية، وينادى فيها على حلوى الكراميل والمشروبات المثلجة التي تحتسى منذ السابعة صباحاً إلى ساعات متأخرة بعد منتصف الليل؛ إنّها البندقية- باختصار- تلك التي كانت تتشمس في اغتباط موسم السباحة، عندما يحتشد أهالي سائر إيطاليا الواقعة شمال نهر التيبر، ونسبة كبيرة من الغرباء القادمين من فيينا، وسان بترسبرغ، وشواطيء البلطيق، ليتنشقوا نسمات البحر الإدرياتيكي العليلة.
مكثنا ثلاثة أيام في دانيلي بما في ذلك يوم الأحد، وفي اعتبارنا أننا كنا نتجه إلى منطقة حيث الطرق كانت قليلة، والقرى متباعدة، والنُزُل نادراً ما تشتمل على الضروريات العامة، فقصدنا أحد المتاجر العامرة للتزود بما يعيننا على مشاق الرحلة..
وكنا قد أمضينا يومي السبت والاثنين في متاهات الخردوات. واشترينا هنا سلتين مناسبتين من الخوص، وما يكفي لتعبئتهما بالشاي، والسكر، وبسكويت ريدنغ المعلب، وألواح الشوكولاتة، وخلاصة لحم تحمل العلامة التجارية ليبيج، وقارورتين من الكونياك، وأربع من المارسالا، وفلفلًا، وملحًا، وآروروت، وقارورة معدنية لأرواح النبيذ ونبيذ إتنا.
وهكذا، استطعنا الاعتماد في كل الأحوال على مواردنا الخاصة، وكنا نعتقد أنّه بإمكاننا الحصول على الخبز والحليب والبيض في أي مكان. وقد ثبت لنا بمرور الوقت أننا قد بالغنا في تقدير ثراء البلاد عندما بنينا تلك الأمال البسيطة حتى، لأننا لم نستطع في أحيان كثيرة أن نحصل على الحليب(نسبة لتحول الأبقار إلى المراعي العليا)، كما أننا لم نستطع في إحدى القرى التي يبلغ عدد سكانها على الأقل ثلاث أو أربع مئات من الأنفس الحصول على قطعة خبز واحدة. وهنالك نقطة أخرى كانت بالنسبة لنا بمثابة "الاختبار" الأشد، وهي مسألة السروج الجانبية، والتي كان السيد ر. على جبل جينيروسو قد أشار علينا بشرائها، وأخذها معاً، إذ كان يشك أننا لا نستطيع الحصول عليها بين كورتينا وبوتزن. وهنالك صديق آخر طمأننا على أية حال بوجودها في كابريلي، و كان هنالك واحدٌ أمَّلنا أننا ربما نجد اثنين أو أكثر، ولكننا على أية حال لم نكن نريد زيادة الأشياء وتحمل عبء ثلاثة من السروج الجانبية (آخر اثنين في المقاطعة بأكملها) قسراً طوال الرحلة؛ ولكن كان هذا نصراً جريئاً لا ينبغي تكراره. وينبغي علينا في المرة القادمة أن نوفر لأنفسنا السروج الجانبية إما من بادوا، أو فيسينزا من جهة، أو من بوتزن من الجهة الأخرى.
بحلول مساء الاثنين الأول من شهر يوليو، اكتملت تجهيزاتنا؛ وحزمنا سلال مؤونتنا، ووضعنا فيها مخزوننا من مواد الكتابة والرسم، وكان كل شيء على أتم الاستعداد لبداية باكرة في الصباح التالي.
_______________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles