قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثاني - من البندقية إلى لونغاروني

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثاني : من البندقية إلى لونغاروني
تأليف:إيمليا إدواردز || ترجمة: أميمة قاسم
-
نهضنا من النوم مع بزوغ الفجر، وتناولنا إفطارنا بعد الساعة الخامسة صباحاً بقليل، وانطلقنا إلى المحطة قبل أن يستيقظ نصف عالم البندقية من نومه. لم تكن هذه سوى محاولة – دون شك- لنكتشف فقط أننا فوتنا قطارنا بحوالي خمس دقائق، ويتعين علينا الانتظار لأربع ساعات موعد القطار التالي. ولم يكن عتاب السائق الذي لم ينم قبل وقت متأخر- وبالتالي كان سبباً في تعاستنا- سيجدي نفعاً بأي حال، بيد أنّه كان سيجلب بعض الراحة للنفوس. قام بتكديس حقائبنا – صامتاً وعبوساً- في إحدى الزوايا، وظل منعزلاً في كآبة، بينما كان البرد والضجر والاستياء باديًا علينا، فجلسنا ونحن نرتعش في ممر مفتوح أمام الرياح قريبًا من مكتب التذاكر، نحسب الساعات المملة، خارج غرف الانتظار التي كانت مغلقة " من قبل المشرف الأعلى" لتفتح قبل نصف ساعة فقط من الوقت الذي نتمكن فيه من استئناف رحلتنا. وبطريقة أو أخرى انقضى الوقت، وعندما حانت الساعة العاشرة وجدنا أنفسنا أخيراً نتحرك ببطء خارج المحطة، وبدا لنا الوقت كما لو أنّ منتصف النهار قد حلّ بالفعل. والآن عبرنا الجسر الهائل والطويل مرة أخرى، ما زال منظر البحيرات الكريستالية الهادئة أمامنا، ولكن تركنا قباب البندقية التي تغدو أصغر فأصغر خلفنا بمسافة بعيدة، والآن نعبر محطة مستري، ونصل مرة أخرى إلى التربة الصلبة، دخلنا في سهل واسع تغطيه الخضرة بالكامل، وتتقاطع فيه حقول الذرة الهندية اليانعة بشبكة من السدود الواسعة المزدحمة بالضفادع. يا لروعة نقيقها! واثناء توجهنا من رافينا إلى غابة صنوبر دانتي المشهورة في اليوم التالي، كادت أصواتها أن تصمّ آذاننا؛ بيد أنّ نقيق ضفادع رافينا تلك على حدته كان كالموسيقى العذبة مقارنة بالصخب الجامح الذي تثيره إخواتها من ضفادع البندقية؛ فهذه قد غطت على صوت القطار المزعج، واضطرتنا لنبدو كمشاركين في عرض صامت حتى فارقنا حيّها.
ثم أسرعنا، وقد أصبحت الجبال الزرقاء الرمادية التي ظلت أمامنا طوال الطريق من البندقية أقرب فأقرب وأوضح تضاريسَ. وسرعان ما انجلت لأعيننا واجهة القمم الأقل ارتفاعاً، بعضها قاتم اللون بغاباته، والآخر مزروع من السفح إلى القمة، وتنتشر عليه القرى البيضاء. ثم بين الفينة والآخرى تظهر محطة، منتصف الطريق، مثل التي بين البندقية وتيرول، ومن هناك، ترى في الخلف كونيغليانو، حيث نرى آخر شبح لأبراج الأجراس في مدينة البندقية يتضاءل على المدى من جهة، وأول الأبراج البصلية التيرولية، بشكله الذي يشبه خوذة رجل من العصور الوسطى في كامل أبهته الحربية، تشرف من أعلى قرية صغيرة على جانب الهضبة من جهة أخرى.
وقد تركنا الآن السدود والضفادع وراءنا، يتسع الطريق على الجانبين تحيط به أطواق من أشجار السنط الريشي، قمم مسننة بطريقة غريبة جداً، والتي على أية حال ليست دولميتية، تبدأ تنفصل من الخلفية الغائمة للسماء الشمالية. لا لا يمكن أن تكون دولميتية، بيد أنّها تبدو كذلك، فقد قيل لنا إننا لن نرى دولميت حقيقي قبل الغد. ومن الممكن على أية حال كما نعلم رؤية انتيلاو من البندقية في يوم صافٍ قد كما قد يحدث حوالي عشر مرات على مدار فصل الصيف: ولكن هنا، حتى إن كانت السماء صافية، فنحن في موقع قريب من سفح أكثر المرتفعات البعيدة انخفاضاً حيث تستحيل رؤية منظر المرتفعات الأعلى. تريفيزو هي المحطة التالية، وهي مكان رائع على ما يبدو. فهنا، وبحسب إفادة موراي، فهنالك لوحة جميلة للبشارة بريشة تيتيان تستحق المشاهدة في الكاتدرائية، ولكن يا حسرتاه ليس لدينا زمن للزيارة. وهنا أيضاً كما يقول رفيق سفرنا، القس الذي في الزاوية- متملقاً- بفتح فمه للمرة الأولى والأخيرة أثناء الرحلة: " إنّهم يصنعون نبيذاً طيباً" (“Qui si fanno buon vino.”)
ترجل بعض مسافري الدرجة الثالثة في تريفيزو، و(بما إننا على بعد ثمانية عشر ميلاً فقط من البندقية، وهو ما يعادل بالضبط منتصف المسافة إلى كونيغليانو) فقد استأنفنا المسير وسط ريف خصب منبسط؛ عابرين حقولاً لا متناهية من الذرة والكتان؛ و مرور بالكروم المشرئبة ترتفع كما في تيرول على تعريشات مائلة منخفضة نصبت قريباً من الأرض؛ وبمروج صيفية غنية حيث يغوص الفلاحون تحت الشمس المحرقة حتى ركبهم بين الزهور البرية، وديوكهم الرومية أقرب إلى الحدس من النظر، القرى والمحطات الصغيرة، وبيوت المزارع المبعثرة، نحث الخطى نحو الهضاب، التي هي وجهة رحلتنا.
وبعد كل فترة، أربعة أو خمسة أميال قبل كونغلي، نجد على السهل الخصب دربا واسعاً من الرمل والحصى، ويجري في وسطه نهر البياف، رمادياً، ضحلاً، وعكراً، باتجاه البحر. وقدر لنا أن نرى ونعرف الكثير عن هذا النهر من خلال ما به من الدولميت.
وها نحن في كونغليانو، آخر محطة يبلغها القطار، والتي – نسبة لتأخرنا أربع ساعات هذا الصباح- لا نملك الزمن الكافي للتجول فيها. وفي هذا مدعاة للشعور بخيبة الأمل، فلا بد أنّ كونغليانو جديرة بالزيارة دون شك. سمعنا عن القصور القديمة المزدانة بجداريات مدينة بوردينوني ذات الألوان سريعة الشحوب، وعن المسرح الذي بناه سيغوسيني، وعن لوحة مذبحٍ في الكاتدرائية بريشة سيما من كونغليانو، وهي لوحة رائعة لفنان قديم من هذه المدينة، والذي ظهرت أعماله البديعة في بريرا ميلانو، وكان الأسلوب اللامع والواضح، والصريح الذي تميزت به يضعها مكاناً وسطاً بين أعمال جيوفاني بيليني ولوكا سينيوريللي. ولكن إن كنا سنصل إلى لونغاروني- أول محطة لنا هذه الليلة، فيجب أن نواصل المسير؛ وعليه لا يبقى معنا سوى ذكرى محطة صغيرة جميلة، وبلدة مشرقة عصرية الملامح، تبعد حوالي نصف ميل، وحفنة من القصور البيضاء تتناثر على جانبي الهضبة المجاورة، وقلعة عتيقة تشرف من علٍ كما لو أنّها قطعة من خطة حربية.
تنطلق الآن صافرات حراس المحطة للمرة الأخيرة في عدة أسابيع، ويتحرك القطار صوب تريستي فيغادر المحطة مطلقاً نفثاته الحرى، ويختفي مع المنعطف، ويتركنا في الرصيف، وأمامنا أمتعتنا المكدسة ومغامراتنا كلها. ننظر في وجوه بعضنا البعض. نشعر للحظة كما مارتن شازلويت من قبل عندما أنزلته الباخرة في عدن ومضت. لا شيء، في الحقيقة، قد يفوق توقعاتنا في عدم التحديد، ولا خططنا في عدم الوضوح. لدينا خرائط ماير، ودليل بول لجبال الألب الشرقية، وكتاب جيلبرت وتشرشل، وكل ضروب الوسائل والأجهزة، ولكن لم تكن لدينا أدنى فكرة حول المكان الذي سنذهب إليه، أو ما سنفعله عندما نصل إلى هناك. بيد أنّه ليس هنالك ما يكفي من الوقت لإهداره في التردد، وفي دقائق معدودة عدنا إلى الطريق مرة أخرى. وهنالك ثلاث أو أربع سيارات صفراء متسخة تنتظر بالخارج، وهي تقصد بيلونو ولانغاروني حتماً، كما أنّ هنالك عربة يجرها حصانان رماديان قويان، والتي وافقت عقب بعض المفاوضات على العمل مقابل 100 ليرة*. وعلى السائق أن يقلنا نظير هذا المبلغ في رحلة تشمل مدينة لانغاروني اليوم، وكورتينا غداً، والتي تقع في وادي أمبيزو، وهي مسافة تقارب 70 ميلاً إنجليزياً. عليه تم شحن الحقائب، بعضها بالداخل والجزء الآخر بالخارج، ودون أن ندخل المدينة على الإطلاق، قدنا الآن عبر ضاحية متربة، وخرجنا مرة أخرى إلى السهل المنبسط. ولم يكن من السهل إيجاد طريق أكثر انبساطاً واستقامة عبر الريف. وقد حفه من كلا الجانبين صف من أشجار الحور الرفيعة، وحقول الذرة الهندية اللامتناهية، فمضت السيارة في ذلك الطريق أميالًا وأميالًا، حتى تلاشت في نقطة على الأفق، مثل الشكل التخطيطي الشهير الذي صور جادة طريق بأسلوب المنظور. وقد كان من السمات الغريبة لهذه النقطة أنّها تتراجع باستمرار أمام أعيننا، وبالتالي يتعين علينا دائماً التقدم إلى الأمام، كما لو أننا في كابوس مرعب، ولم نقترب أبداً. ولحسن الحظ لم نتعرض لأية حادثة في الطريق بالمناسبة. لقد مررنا بإحدى تلك المركبات الفرنسية الصفراء الثقيلة التي كانت تقف من قبل في محطة كونيغليانو. نشاهد الآن بعض النسوة السمراوات وسط حقل الذرة الهندية، ثم لم نر بعد ذلك، وعلى مدى أميال طويلة، أيًّا من البيوت أو البشر.
ويبدو لي أنّ تلك الساعات ربما انقضت إذ أنني نهضت فجأة، على الشمس المحرقة التي ألهبت جسدي والغبار الذي غص به حلقي، لأجد الجميع نائمين، حتى السائق، وقد أصبحت الهضاب الشاهقة البعيدة الآن أمامنا على مسافة قريبة. وأرى بلدة صغيرة لا تبعد أكثر من ربع ميل أمامنا، بلدة صغيرة تلمع في ضوء الشمس مقابل الغابات الداكنة في الخلفية، وأطلال قلعة على ارتفاع قريب. عرفت في الحال أنّها سينيدا دون شك- سينيدا التي أحبها تيتيان- وتلك الغابات والهضاب وأطلال القلعة هي ذاتها التي استخدمها في منظر الخلفية للوحة الشهيد القديس بطرس. ويقال إنّه يملك أرضاً هنا، وفي مانزا، التي تبعد أربعة أميال بنى له قصراً صيفياً.
والآن، تحركنا غريزة غامضة ما، استيقظ السائق في الوقت المناسب ليضرب بسوطه فتشرع أحصنته في العدو، فتصدر عنها جلبة عظيمة، إذ أنّ الحوذيين الأجانب يحبون الصخب، خلال طريقهم الأوحد الذي يشق البلدة. ولكن سدىً، لأنَّ سينيدا- الساكنة، المنعزلة، المشمسة، بمصاريعها الموصدة كلها، وليس سوى كلب هزيل أو اثنين يتسكعان بلا هدف في الفضاء الواسع أمام الكنيسة، التي يبدو أنّها مستغرقة في النوم كما بلدة مسحورة في إحدى القصص الخيالية. ليس ثمة ستارة تتكشف، ولا وجه يرمقنا بالنظرات بينما نمرّ صاخبين. غراب العقعق في قفصه الخوصيّ أمام متجر الحلاق ناعس في غصنه، وبالكاد يستطيع رفع جفنه، لكنْ الجلبة التي نثيرها بحركتنا، كافية لإيقاظ فتية الكهف السبعة من سباتهم.
وحالما اجتزنا المنازل، عدنا، بطبيعة الحال، إلى سرعتنا الأولى، فأصبحت الهضاب الحميمة تقترب أكثر فأكثر، كاشفة عن تفاصيل بكر في كل خطوة. والآن ومع آخر المنحدرات الخضر، والقمم القرمزية القريبة من مسارنا، يبدأ الطريق في الارتفاع: وادٍ زلق وضيق، وهو على ما يبدو مجرد شق في الجبال مثل مضيق فيفرز، ينفتح فجأة أمامنا، وتشرئب من وسط الكروم المتشابكة، وأشجار التوت الأحمر، والكستناء، والأسقف البنية، أبراج أجراس سيرافالي فنراها، على الرغم من أنّها تبدو على الخارطة بخط أصغر من سينيدا، والتي هي مقر الأسقف، أو كانت، مقراً له، وهي مكان أكثر أهمية بعد، يمتد على عدة هكتارات، وينتهي إلى ممر ضيق يجري خلاله نهر ميسكيو باتجاه السهل. وإن تحرينا الدقة فربما لم تعد هناك سينيدا، ولا سيرافالي، فقد تم توحيد البلدتين مؤخراً من قبل الحكومة الإيطالية تحت اسم فيتوريا [Vittoria]، ولكن تفصل بينهما مسافة ميل كامل، ولا يبدو أنّ هنالك من يتقبل الوضع الجديد بطيب خاطر.
ويضرب سائسنا بسوطه مرة أخرى، ليحث خيوله على الإسراع، وعليه، وبما يليق من البهاء، ندلف الآن في عربتنا الصاخبة إلى البلدة فنراها غريبة، وخلابة، ومتداعية، ومنسية، بمنازلها الحجرية المتاخمة للغدير، والكاتدرائية التي تبدو كما لو أنّها هُجرت قبل أن يكتمل بناؤها لثلاثمائة عام. والأروقة الكئيبة مظللة الدروب على جانبي الشارع الرئيسي، كما في ستراسبورغ وبيرن. وسرعان ما عبرنا الجسر ووصلنا إلى الميدان، لنقف أمام واحدٍ من النزلين اللذيْن كانا يتنافسان على استضافة السياح القليلين، ولا تزهو سيرافالي بالميدان والكاتدرائية فقط، بل باثنين من الفنادق، واثنين من المقاهي الصغيرة القديمة، ومكتب للبريد، وحتى مكتب صغير لليانصيب، على نافذته عبارة بالطلاء الأحمر "Qui si giuocono per Venezia"، أي " هنا يتم السحب على بطاقات مدينة البندقية".
والسكان هنا يقظون ونشطون أيضاً. فهم يلعبون الطاولة أمام المقاهي بملابسهم العادية. ويلعبون ال ويلعبون على طاولات أمام المقاهي. ويلعبون “المرُّة" [ المترجمة: هي لعبة تخمين إغريقية قديمة باستخدام الاصابع]-في ظل البوابات والأروقة. ويملأون جرار الماء، يغسلون نبتات الخس، ويتداولون الأخبار حول النافورة؛ بل يشجعون الدراما أيضاً، فربما تراهم بالقرب من مسرح العرائس المتنقل (" تحت رعاية فخامة ملك إيطاليا ورؤوساء أوروبا جميعهم") على جانب ربوة مقفرة تكاد تكون في مواجهة الكنيسة. فلا يريد أحد أن تنتهي المسألة بشكل عادي، ولا حتى الرجلين العاطلين، والصبية الذين بدأوا يتوافدون من أماكن غير معروفة، فاغري الأفواه، باتجاه العربة، يحدقون في ركابها كما لو أنهم أعضاء في حديقة حيوان متنقلة.
ولكن كان لسيرافالي شيء أفضل من العرائس والسكان العاطلين لتعرضه علينا. فهناك الكاتدرائية التي تحتضن لوحة كبيرة الحجم بديعة للسيدة العذراء والطفل، بريشة تيتيان، والتي نفذها بناءً على تكليف بين عامي 1542 1547- وهي لوحة كبيرة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالتكليف الثاني في أكثر فترات المعلم ازدهاراً، وقد قصدها ووصفها رحالة وناقد مشهور بقوله :" إنّها وحدها جديرة بالعودة من أجلها إلى سيرافالي، حتى ولو من البندقية." ومع احترامي للمعاملة التي يحظى بها هذا العمل الجميل، يقول السيد جيلبرت، الذي لم يترك كتابه المثير للإعجاب عن تيتيان وكادوري شيئاً لأي كاتب آخر لإضافته في هذا الموضوع: " إنّها واحد من أعظم عينات المعلم، وفي حالة جيدة جداً. وهي تجسّد العذراء والمسيح في مجدهما تحفهما الملائكة، التي تتماهى في الضباب الذي يكسو الجزء العلوي من اللوحة. عماد السحب الثقيلة الضخمة، وفصل هذه الرؤية المقدسة عن الأرض: وفي الأسفل، يقف على الجانبين شخصا القديس آندرو والقديس بطرس في فخامة وعظمة، يسند الأول الصليب العملاق، ويحمل الأخير مفاتيحه الضخمة عالياً، كما لو أنّه يعارض الشك في إيمانه. وبين هذين الشخصين الجليلين، وتحت خط الأفق المنخفض، تظهر بحيرة قاتمة، وسط هضاب أكثر حلكة، وحيث يرمز الشراع البعيد إلى الصياد وزورقه. وجميع عناصر العمل من موضوع وخطوط وألوان على مستوىً رفيع ويليق بالفنان". كادوري. ص 43.
والآن، والوقت ينسرب من بين أيدينا، ينقضي النهار، وما زال أمامنا من الرحلة ثلاثة أرباعها، فيلزمنا الإسراع، وإلا فلن نصل إلى لونغاروني قبل حلول الظلام. وعليه، وبما أننا شبعنا من النظرات التي يحدجنا بها السكان فقط- بل صاحب المنزل وزوجته أيضاً، وجميع من لهم صلة بالنزل، وأيضاً لاعبو الطاولة الذين تخلوا عن اللعب للمشاركة في العرض المسلي- فقد احتشدنا جميعاً مرة أخرى و اتجهنا صوب المدخل الصخري للمضيق، والآن ينغلق على- ويبتلع على ما يبدو- الصف الطويل من المنازل الحجرية القديمة التي تزحف باتجاه الوادي. بعضها، تداعى وتهالك حيث هو، يجسد الطراز القوطي الفينيسي في النوافذ القوسية المدببة، والأعمدة الرقيقة الملفوفة. فبلا شك قد كانت ملكاً لأشخاص أغنياء في وقت اعتاد فيه تيتيان على شد الرحال من مانزا لزيارة ابنته المتزوجة التي كانت تعيش في سيرافالي.
وحيث تنتهي البيوت، تقترب المنحدرات الشخصية من بعضها حتى لا يبقى مجال سوى للطريق والغدير. ثم يتسع المضيف مرة أخرى، عبر المنحدرات التي تكسوها الغابات، وحقول الكستناء المعلقة، وبيوت المزارع، والشاليهات التي تطفو عالياً فوق الهضبة المعشوشبة، فتبدأ ملامحها في الاقتراب من سويسرا وليس إيطاليا: الجبال والغابات التي تسد الأفق، وعلى بعد ميلين تقريبا من سيرافالي يتوسع النهر في بحيرة صغيرة خضراء شفافة، هادئة كسماء مسائية صافية، ومزدانة بطوق واسع من نباتات الكتان الصغيرة. وينعكس طيف مرأى زورق شراعي صغير واحد فيبدو كما لو أنّه مقلوب على صفحة مرآة، يطفو في دعة وسط البحيرة. والصياد الذي فيه بدا نائماً. لا موجة واحدة ولا نسمة تعكر صفو اللوحة المرسومة على الماء. كل هضبة وكل شجرة هناك، معكوسة، وكل قشة مزدوجة.
البركة الساحرة، المهملة في الخرائط بشكل عام، هي لاغو دي سيرافالي. تنحدر الغابات إلى الحافة على جانب واحد، والطريق، يحد بقايا انهيار ارضي، وتحف الرياح بالآخر. لدى رأس البحيرة منزلان صغيران باللون الأبيض، وبهما مصراعان من الحصير الأخضر، وشرفتان مفتوحتان على الطراز الإيطالي، وكنيسة مصغرة على تلة مخضّرة، وبرج مراقبة من العصور الوسطى، ملتصق بنتوء صخرة فوقه، لتكتمل تفاصيل صورة من الصفاء والكمال الذي لم يكن حتى لخراط في قمة براعته أن يقترب من تجسيده.
يتزايد اتساع المضيق حتى يصبح وادياً، وقد كان منظر شلال بيرغ كبيراً جداً، حتى يُعتقد أنّه هو السبب في تحويل مجرى نهر بياف (الذي كان يتدفق حتى ذلك الوقت قرب سيرافالي)، وجعله يغير مجراه ليمر بوادي ميل بدلاً عن سيرافالي.
حلت هذه الكارثة قبل سنوات طويلة، وربما في عهود ما قبل التأريخ، ولكن ما زال الفاصل العظيم، ستمائة قدم في الارتفاع من هذا الجانب، يبدو كما لو أنّه قام قبل أقل من مائة سنة. وقد نمت بضع شجيرات فقط في ركام البقايا الحجرية الواسعة هذا، والتي يرتفع الطريق وسطها وفوقها ممتداً، وحيث تجمعت بعض الطحالب في شقوق هذه الكتل العملاقة التي تتكدس مثل أبراج منهارة على جانب الطريق. الطريق فوقها وعبرها ممتدٌ، فكلها خاوية، مخيفة ومهجورة.
وبينما نرقى إلى الأعلى، أشار السائق إلى أشجار غابة الزان البعيدة على حافة التلة الشاهقة إلى اليمين بأنّها غابة المجلس، وهو اسم يعود في تاريخه إلى الحكم الفينيسي القديم، حينما كانت هذه الغابات تزود الدولة بالأخشاب. ومن هنا جاء الخشب الذي شيدت به سفينة "البوسينتور" ومن يدري، ربما سفن انطونيو التجارية، وبوارج الحرب التي قادها داندلو الشيخ الضرير لمواجهة الأتراك. والآن، ونحن على بعد أربعة أميال من سيرافالي، ولم نصل بعد إلى قمة الشلال العظيم، مررنا ببحيرة أخرى، صغيرة خضراء وصافية، في حجم السابقة تقريباً- هي لاغو مورتو، وهي تقع في الأسفل في تجويف تحت الطريق، وقريباً من واجهة صخرية بيضاء مصقولة ولامعة تحت أشعة الشمس، حيث نصف جانب الجبل يبدو متصدعاً كما لو أنّ زلزالاً ضربه، فإن لم يكن الأمر كذلك لما بقي الركام مكدساً حيث هو وعلى هيئته، تاركاً تلك الفجوة التي نامت فيها البحيرة، وإنَّ المرء ليفترض أنّ هذه هي النقطة التي حدث فيها الانهيار الصخري وسدَّ على نهر بياف الطريق إلى وادي سيرافالي. وبحسب إحدى الأساطير المحلية، لا يستطيع أي قارب أن يعيش على هذه المياه الساكنة، ولا يعود منها سابح ولا غاطس إلى الشاطيء مرة أخرى. حيث يتم سحب كلٍ منهما بطريقة رهيبة جداً وتبتلعه المياه " أعمق مما يعنيه الانهيار." لقد قيل، على أية حال، كان الحاكم النمسوي للبندقية اللومباردية، قلقاً من وضع حد لهذه الخراقة، فاشترى قاربًا من جهة الصليب المقدس، و في حضور جمع حبيس الأنفاس من جميع القرى المجاورة، وحمل زوجة مدير مصلحة بريد فدالتو على القارب وجدف بنفسه حتى أوصلها منتصراً إلى الساحل المقابل. إنّ مزارعك التيروليّ، على أي حال لا يتخلى عن أخطائه العتيقة بسهولة، ولاغو مورتو، كما قيل لي، ما زالت تتمتع بسمعتها الشريرة إلى اليوم على الرغم من رد الاعتبار العلني ذاك.
وقد كانت بوسكو ديل كونسيليو إلى الجهة اليمنى دائماً على طول الطريق، وكول فيسينتينو بثلجها المتراكم المبعثر كالأبراج إلى اليسار، وقد فزنا بقمة الهضبة، ورأينا بحيرة الصليب المقدس، والتي تشبه إلى حد مثير للدهشة بحيرة البانو، تقع قرب أقدامنا. الجبال الهائلة، والقمم القرمزية والرمادية التي في الأعلى جميعها، جميع حقول الذرة الخضراء، والمنحدرات التي تغطت بالغابات المنحدرة إلى أسفل. وتحفها بعش من النضار. وتشرف قرية وكنيسة الصليب المقدس على سهل معشوشب صغير يكاد يكون معلقاً على الماء. القرى وأبراج الأجراس تبرق بعيداً على الشاطيء وعلى حافة الهضبة، بينما هناك، من خلال فجوة في الجبال في الطرف الأقصى من البحيرة، فوجئنا بروح غريبة لقمم رائعة شاحبة اللون، ارتفعت في السماء فوق الأفق الشمالي.
بحيرة الصليب المقدس
"إيكّو" يقول السائس، مشيرا إليها بسوطه، وبنصف التفاتة لرؤية أثر كلماته يقول " Ecco I nostril dolomiti!"
كان هذا التصريح مباغتاً بشدة للوهلة الأولى بدا كما لو أنّه يخطف الأنفاس. فقد قيل لنا بشكل مؤكد عن عدم إمكانية رؤية أي نوع من الدولميت قبل اليوم الثاني من الرحلة، وبالتالي لم نكن نبحث عنه ولا نتوقع رؤيته- بيد أنه يوجد هنا، وعلى خلاف العادة، وبصورة جليّة جداً!
يشعر المرء على التو بأنها ليست كمثل غيرها من الجبال، ولكنها تماماً كما يتوقع المرء أن تكون. "Che Dolomiti sono? Com si chiamano?" )ماهو الدولميت؟ ماهي أسماؤه؟) كانت هذه هي الأسئلة المحيرة التي طُرحت عقب ذلك.
ولكن لم يكن على سائسنا أن يقول شيئاً سوى الحقيقة الجيولوجية المحضة. إنّه دولميت. والدولميت على الجانب الإيطالي من الحدود. ولا يعرف شيئاً أكثر من ذلك. عليه فبوسعنا فقط الرجوع إلى خرائطنا، وخمنوا ماذا؟ بمقارنة المسافات والمواقع، تنتمي هذه الكتل الصخرية المثيرة للحيرة على الأرجح إلى سلسلة جبل سفورنيوي. ولبثنا حوالي نصف ساعة في بحيرة الصليب المقدس أمام باب فندق صغير، كتبت في مقابله عبارة بحروف واضحة: " "Qui si vende buon vino a chi vuole" [هنا يباع النبيذ الفاخر لمن يريد].
فتركنا السائق والعربة لتقصي حقيقة هذه الأسطورة، فطلبنا القهوة وشربناها في الهواء الطلق. أُخذت الأحصنة لإطعامها خارجاً. عانى الكاتب من محنة عظيمة بسبب الذباب، يخطط رسماً تحت ظروف صعبة إلى حد يصعب معه التعبير، حيث يحيط به جميع سكان المكان الآن، ومن بينهم ثلاث أو أربع شابات يرتدين مناديل مخنثة باللونين الأحمر والأصفر على رؤوسهنَّ مثل العمامة. لم يكن الحياء من شيم هؤلاء الفتيات أبداً؛ فهن يتزاحمن، ويدفعن، ويثرثرن، ويقهقهن. لقد دعتني إحداهن لرسم صورة شخصية لها، بينما تود الأخرى أن تعرف ما إذا كنت متزوجة، وتكتشف الثالثة أنني أشبه واحدة تدعى ماريا روزا، والتي يبدو أنّ جميعهن يعرفنها، ومن ثم تعرضت كل ملامح وجهي للمناقشة بشكل منفصل، ولم يخل الأمر في أغلب الأحوال من استخفاف.
في هذه اللحظة الحاسمة، قام ل. في لحظة إلهام سعيدة، بعرض المطبوعات الملونة في كتاب جلبرت وتشرشل، وبالتالي حول مجرى اهتمامهم الشيء لصالحي. في هذه الأثناء استقرت الحشرات الطائرة علي في أسراب كالسحاب، تحلق في سمائي، وتغرق نفسها في زجاجات المياه، وتترك أرجلها في نباتات الفوّة البنية، على الرغم من كل المعوقات، إلا أنني أكملت رسمي، وعندما أعيدت الخيول للعربة كنت جاهزة لاستئناف الرحلة.
الطريق الآن يسير بمحازاة بحيرة الصليب المقدس، وعلى رأسها يمتد سهل أخضر مرصع بأشجار الحور الفاتحة الريشية المصفرة- ومن الواضح أنّها كانت في وقت ما جزءاً من حوض البحيرة، الذي انحسرت عنه المياه قبل فترة طويلة. ومن هذه النقطة نبدأ السير مع خط الوادي، مروراً بقرية كادولا الجديدة الأنيقة، وفي كابو دي بونتي حيث مفترق وادي سيرافالي ووادي ميل في زوايا قائمة، ونصل مرة أخرى إلى نهر بياف، والآن ينتقل جيئة وذهاباً بين التلال الصخرية، مثل روني في لوك، وابيض حليبي من منبعه الجليدي في الدولميت العلوي. الجسر القديم في كابو دي بونتي- الجسر الذي يعود إلى العهد الفينيسي- اختفى الآن، وذهبت معه الأعمدة المزينة بأسد القديس مرقس الذي ذكره بول، وأشار إليه السيد جلبرت في كتابه "كادوري". وربما لا يزال بالإمكان اقتفاء آثار أجزاء الأرصفة العتيقة، ولكن هنالك جسر حديدي جديد وخفيف جداً يمتد الآن فوق النهر بارتفاع يتجاوز الخمسين ياردة. وفي كابو دي بونتي، لا يخطيء الملاحظ العادي غير الخبير، أنّ نهر بياف كان في وقت ما على الأقل (عندما قاد الانهيار الصخري العظيم المياه بعيداً عن سيرافالي) قد شكّل بحيرة أخرى، وهي الحوض الطبيعي الكبير الذي ما زال هناك، يشقه النهر في مجرىً فرعي ضحل.
ويدخل النهر الطريق الآن وادياً آخراً مستقيماً وضيقاً- وادي نهر بياف- يسده الدولميت الخشن في نقطة متقدمة منه، على هيئة أسنان وإبر حادة. اقترب النهار من ختامه عندما وصلنا إلى هذه المنطقة. وتُقاد الأبقار بعد الحلب إلى المرعى مرة أخرى، يسير العمال بخطىً متثاقلة صوب الديار، وزمرة من بنات الريف بمناديلهن الحمر على رؤوسهن، يخضن حتى الركاب في مرج من الزهور البرية على جانب الطريق، فيبدين مثل مجموعة من الدمى المتحركة. ثم يتدلى قرص الشمس، وإذا بالسماء والجبال يصطبغن باللون الرمادي؛ وقبيل الغسق تماماً حللنا بلونغاروني.
وهي قرية واسعة مترامية الأطراف بها كنيسة مبهرجة من عصر النهضة، وقليل من المتاجر القديمة، ونُزل كبير مهجور ذي درج وأرضية من الحجر- مالك بائس- وخادمة غرف حافية مذعورة تبدو كما لو أنّها صيدت تواً من الجبال- غرفه أشبه بالحظائر، وأرضياته بلا بُسط، ونوافذه بلا ستائر، وهكذا لم تكن انطباعاتنا الأولى عن لانغاروني مريحة أبداً. ولم يكن لمعرفتنا الأكثر حميمية القدرة على تغيير هذه الانطباعات بأي صورة كانت. لقد تناولنا طعامنا في الصحراء في غرفة معيشة في مفرش للطاولة، كانت الغرفة مضاءة بشمعة واحدة من الشحم. وقد كان الطعام عادياً، ومطهواً بطريقة عادية. أما النبيذ فكان أسوأ ما تذوقنا في إيطاليا.
في هذه الأثناء استقرت نظرة من الرضا الكالح والمشؤوم على قسمات الرجل العظيم الذي اقتلعناه بلا حرمة من المكان الذي يزدهي بالإقامة فيه. " لقد أخبرتك بذلك" مكتوبة على كل خط في وجهه، وفي كل شعرة من شاربه. على الأقل لقد سُمح له بالمغادرة هذه الليلة، وأُخطِر بموعد إحضاره للعربة، ليس بوسعه البقاء صامتاً أكثر. " لن نجد فنادق أفضل من هذا في المكان الذي سنسافر إليه، إلى اللقاء سيداتي". يقول هذا في نبرة انتصار لا تخلو من تجهم، ثم يغادر بعد هذه العبارة المرة.
كانت غرفتي تلك الليلة تبلغ حوالي 35 قدماً طولاً و 25 قدماً عرضاً، وتنعشها خمس نوافذ وأربعة أبواب. كانت النوافذ تطل على عدة جهات، الشارع، والفناء الخالفي، والاسطبلات. بينما تقود الأبواب إلى أجنحة لا نهائية من الغرف الموصدة الخالية، وجميع أنواع الطرقات المتداخلة. لم أر في حياتي مكان نوم أشد منه إثارة للذعر والخواطر الانتحارية وأكثر منه ترديداً للصدى!
________________________________________
* حوالي أربعة جنيهات إنجليزية
________________________________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثاني : من البندقية إلى لونغاروني
تأليف:إيمليا إدواردز || ترجمة: أميمة قاسم
-
نهضنا من النوم مع بزوغ الفجر، وتناولنا إفطارنا بعد الساعة الخامسة صباحاً بقليل، وانطلقنا إلى المحطة قبل أن يستيقظ نصف عالم البندقية من نومه. لم تكن هذه سوى محاولة – دون شك- لنكتشف فقط أننا فوتنا قطارنا بحوالي خمس دقائق، ويتعين علينا الانتظار لأربع ساعات موعد القطار التالي. ولم يكن عتاب السائق الذي لم ينم قبل وقت متأخر- وبالتالي كان سبباً في تعاستنا- سيجدي نفعاً بأي حال، بيد أنّه كان سيجلب بعض الراحة للنفوس. قام بتكديس حقائبنا – صامتاً وعبوساً- في إحدى الزوايا، وظل منعزلاً في كآبة، بينما كان البرد والضجر والاستياء باديًا علينا، فجلسنا ونحن نرتعش في ممر مفتوح أمام الرياح قريبًا من مكتب التذاكر، نحسب الساعات المملة، خارج غرف الانتظار التي كانت مغلقة " من قبل المشرف الأعلى" لتفتح قبل نصف ساعة فقط من الوقت الذي نتمكن فيه من استئناف رحلتنا. وبطريقة أو أخرى انقضى الوقت، وعندما حانت الساعة العاشرة وجدنا أنفسنا أخيراً نتحرك ببطء خارج المحطة، وبدا لنا الوقت كما لو أنّ منتصف النهار قد حلّ بالفعل. والآن عبرنا الجسر الهائل والطويل مرة أخرى، ما زال منظر البحيرات الكريستالية الهادئة أمامنا، ولكن تركنا قباب البندقية التي تغدو أصغر فأصغر خلفنا بمسافة بعيدة، والآن نعبر محطة مستري، ونصل مرة أخرى إلى التربة الصلبة، دخلنا في سهل واسع تغطيه الخضرة بالكامل، وتتقاطع فيه حقول الذرة الهندية اليانعة بشبكة من السدود الواسعة المزدحمة بالضفادع. يا لروعة نقيقها! واثناء توجهنا من رافينا إلى غابة صنوبر دانتي المشهورة في اليوم التالي، كادت أصواتها أن تصمّ آذاننا؛ بيد أنّ نقيق ضفادع رافينا تلك على حدته كان كالموسيقى العذبة مقارنة بالصخب الجامح الذي تثيره إخواتها من ضفادع البندقية؛ فهذه قد غطت على صوت القطار المزعج، واضطرتنا لنبدو كمشاركين في عرض صامت حتى فارقنا حيّها.
ثم أسرعنا، وقد أصبحت الجبال الزرقاء الرمادية التي ظلت أمامنا طوال الطريق من البندقية أقرب فأقرب وأوضح تضاريسَ. وسرعان ما انجلت لأعيننا واجهة القمم الأقل ارتفاعاً، بعضها قاتم اللون بغاباته، والآخر مزروع من السفح إلى القمة، وتنتشر عليه القرى البيضاء. ثم بين الفينة والآخرى تظهر محطة، منتصف الطريق، مثل التي بين البندقية وتيرول، ومن هناك، ترى في الخلف كونيغليانو، حيث نرى آخر شبح لأبراج الأجراس في مدينة البندقية يتضاءل على المدى من جهة، وأول الأبراج البصلية التيرولية، بشكله الذي يشبه خوذة رجل من العصور الوسطى في كامل أبهته الحربية، تشرف من أعلى قرية صغيرة على جانب الهضبة من جهة أخرى.
وقد تركنا الآن السدود والضفادع وراءنا، يتسع الطريق على الجانبين تحيط به أطواق من أشجار السنط الريشي، قمم مسننة بطريقة غريبة جداً، والتي على أية حال ليست دولميتية، تبدأ تنفصل من الخلفية الغائمة للسماء الشمالية. لا لا يمكن أن تكون دولميتية، بيد أنّها تبدو كذلك، فقد قيل لنا إننا لن نرى دولميت حقيقي قبل الغد. ومن الممكن على أية حال كما نعلم رؤية انتيلاو من البندقية في يوم صافٍ قد كما قد يحدث حوالي عشر مرات على مدار فصل الصيف: ولكن هنا، حتى إن كانت السماء صافية، فنحن في موقع قريب من سفح أكثر المرتفعات البعيدة انخفاضاً حيث تستحيل رؤية منظر المرتفعات الأعلى. تريفيزو هي المحطة التالية، وهي مكان رائع على ما يبدو. فهنا، وبحسب إفادة موراي، فهنالك لوحة جميلة للبشارة بريشة تيتيان تستحق المشاهدة في الكاتدرائية، ولكن يا حسرتاه ليس لدينا زمن للزيارة. وهنا أيضاً كما يقول رفيق سفرنا، القس الذي في الزاوية- متملقاً- بفتح فمه للمرة الأولى والأخيرة أثناء الرحلة: " إنّهم يصنعون نبيذاً طيباً" (“Qui si fanno buon vino.”)
ترجل بعض مسافري الدرجة الثالثة في تريفيزو، و(بما إننا على بعد ثمانية عشر ميلاً فقط من البندقية، وهو ما يعادل بالضبط منتصف المسافة إلى كونيغليانو) فقد استأنفنا المسير وسط ريف خصب منبسط؛ عابرين حقولاً لا متناهية من الذرة والكتان؛ و مرور بالكروم المشرئبة ترتفع كما في تيرول على تعريشات مائلة منخفضة نصبت قريباً من الأرض؛ وبمروج صيفية غنية حيث يغوص الفلاحون تحت الشمس المحرقة حتى ركبهم بين الزهور البرية، وديوكهم الرومية أقرب إلى الحدس من النظر، القرى والمحطات الصغيرة، وبيوت المزارع المبعثرة، نحث الخطى نحو الهضاب، التي هي وجهة رحلتنا.
وبعد كل فترة، أربعة أو خمسة أميال قبل كونغلي، نجد على السهل الخصب دربا واسعاً من الرمل والحصى، ويجري في وسطه نهر البياف، رمادياً، ضحلاً، وعكراً، باتجاه البحر. وقدر لنا أن نرى ونعرف الكثير عن هذا النهر من خلال ما به من الدولميت.
وها نحن في كونغليانو، آخر محطة يبلغها القطار، والتي – نسبة لتأخرنا أربع ساعات هذا الصباح- لا نملك الزمن الكافي للتجول فيها. وفي هذا مدعاة للشعور بخيبة الأمل، فلا بد أنّ كونغليانو جديرة بالزيارة دون شك. سمعنا عن القصور القديمة المزدانة بجداريات مدينة بوردينوني ذات الألوان سريعة الشحوب، وعن المسرح الذي بناه سيغوسيني، وعن لوحة مذبحٍ في الكاتدرائية بريشة سيما من كونغليانو، وهي لوحة رائعة لفنان قديم من هذه المدينة، والذي ظهرت أعماله البديعة في بريرا ميلانو، وكان الأسلوب اللامع والواضح، والصريح الذي تميزت به يضعها مكاناً وسطاً بين أعمال جيوفاني بيليني ولوكا سينيوريللي. ولكن إن كنا سنصل إلى لونغاروني- أول محطة لنا هذه الليلة، فيجب أن نواصل المسير؛ وعليه لا يبقى معنا سوى ذكرى محطة صغيرة جميلة، وبلدة مشرقة عصرية الملامح، تبعد حوالي نصف ميل، وحفنة من القصور البيضاء تتناثر على جانبي الهضبة المجاورة، وقلعة عتيقة تشرف من علٍ كما لو أنّها قطعة من خطة حربية.
تنطلق الآن صافرات حراس المحطة للمرة الأخيرة في عدة أسابيع، ويتحرك القطار صوب تريستي فيغادر المحطة مطلقاً نفثاته الحرى، ويختفي مع المنعطف، ويتركنا في الرصيف، وأمامنا أمتعتنا المكدسة ومغامراتنا كلها. ننظر في وجوه بعضنا البعض. نشعر للحظة كما مارتن شازلويت من قبل عندما أنزلته الباخرة في عدن ومضت. لا شيء، في الحقيقة، قد يفوق توقعاتنا في عدم التحديد، ولا خططنا في عدم الوضوح. لدينا خرائط ماير، ودليل بول لجبال الألب الشرقية، وكتاب جيلبرت وتشرشل، وكل ضروب الوسائل والأجهزة، ولكن لم تكن لدينا أدنى فكرة حول المكان الذي سنذهب إليه، أو ما سنفعله عندما نصل إلى هناك. بيد أنّه ليس هنالك ما يكفي من الوقت لإهداره في التردد، وفي دقائق معدودة عدنا إلى الطريق مرة أخرى. وهنالك ثلاث أو أربع سيارات صفراء متسخة تنتظر بالخارج، وهي تقصد بيلونو ولانغاروني حتماً، كما أنّ هنالك عربة يجرها حصانان رماديان قويان، والتي وافقت عقب بعض المفاوضات على العمل مقابل 100 ليرة*. وعلى السائق أن يقلنا نظير هذا المبلغ في رحلة تشمل مدينة لانغاروني اليوم، وكورتينا غداً، والتي تقع في وادي أمبيزو، وهي مسافة تقارب 70 ميلاً إنجليزياً. عليه تم شحن الحقائب، بعضها بالداخل والجزء الآخر بالخارج، ودون أن ندخل المدينة على الإطلاق، قدنا الآن عبر ضاحية متربة، وخرجنا مرة أخرى إلى السهل المنبسط. ولم يكن من السهل إيجاد طريق أكثر انبساطاً واستقامة عبر الريف. وقد حفه من كلا الجانبين صف من أشجار الحور الرفيعة، وحقول الذرة الهندية اللامتناهية، فمضت السيارة في ذلك الطريق أميالًا وأميالًا، حتى تلاشت في نقطة على الأفق، مثل الشكل التخطيطي الشهير الذي صور جادة طريق بأسلوب المنظور. وقد كان من السمات الغريبة لهذه النقطة أنّها تتراجع باستمرار أمام أعيننا، وبالتالي يتعين علينا دائماً التقدم إلى الأمام، كما لو أننا في كابوس مرعب، ولم نقترب أبداً. ولحسن الحظ لم نتعرض لأية حادثة في الطريق بالمناسبة. لقد مررنا بإحدى تلك المركبات الفرنسية الصفراء الثقيلة التي كانت تقف من قبل في محطة كونيغليانو. نشاهد الآن بعض النسوة السمراوات وسط حقل الذرة الهندية، ثم لم نر بعد ذلك، وعلى مدى أميال طويلة، أيًّا من البيوت أو البشر.
ويبدو لي أنّ تلك الساعات ربما انقضت إذ أنني نهضت فجأة، على الشمس المحرقة التي ألهبت جسدي والغبار الذي غص به حلقي، لأجد الجميع نائمين، حتى السائق، وقد أصبحت الهضاب الشاهقة البعيدة الآن أمامنا على مسافة قريبة. وأرى بلدة صغيرة لا تبعد أكثر من ربع ميل أمامنا، بلدة صغيرة تلمع في ضوء الشمس مقابل الغابات الداكنة في الخلفية، وأطلال قلعة على ارتفاع قريب. عرفت في الحال أنّها سينيدا دون شك- سينيدا التي أحبها تيتيان- وتلك الغابات والهضاب وأطلال القلعة هي ذاتها التي استخدمها في منظر الخلفية للوحة الشهيد القديس بطرس. ويقال إنّه يملك أرضاً هنا، وفي مانزا، التي تبعد أربعة أميال بنى له قصراً صيفياً.
والآن، تحركنا غريزة غامضة ما، استيقظ السائق في الوقت المناسب ليضرب بسوطه فتشرع أحصنته في العدو، فتصدر عنها جلبة عظيمة، إذ أنّ الحوذيين الأجانب يحبون الصخب، خلال طريقهم الأوحد الذي يشق البلدة. ولكن سدىً، لأنَّ سينيدا- الساكنة، المنعزلة، المشمسة، بمصاريعها الموصدة كلها، وليس سوى كلب هزيل أو اثنين يتسكعان بلا هدف في الفضاء الواسع أمام الكنيسة، التي يبدو أنّها مستغرقة في النوم كما بلدة مسحورة في إحدى القصص الخيالية. ليس ثمة ستارة تتكشف، ولا وجه يرمقنا بالنظرات بينما نمرّ صاخبين. غراب العقعق في قفصه الخوصيّ أمام متجر الحلاق ناعس في غصنه، وبالكاد يستطيع رفع جفنه، لكنْ الجلبة التي نثيرها بحركتنا، كافية لإيقاظ فتية الكهف السبعة من سباتهم.
وحالما اجتزنا المنازل، عدنا، بطبيعة الحال، إلى سرعتنا الأولى، فأصبحت الهضاب الحميمة تقترب أكثر فأكثر، كاشفة عن تفاصيل بكر في كل خطوة. والآن ومع آخر المنحدرات الخضر، والقمم القرمزية القريبة من مسارنا، يبدأ الطريق في الارتفاع: وادٍ زلق وضيق، وهو على ما يبدو مجرد شق في الجبال مثل مضيق فيفرز، ينفتح فجأة أمامنا، وتشرئب من وسط الكروم المتشابكة، وأشجار التوت الأحمر، والكستناء، والأسقف البنية، أبراج أجراس سيرافالي فنراها، على الرغم من أنّها تبدو على الخارطة بخط أصغر من سينيدا، والتي هي مقر الأسقف، أو كانت، مقراً له، وهي مكان أكثر أهمية بعد، يمتد على عدة هكتارات، وينتهي إلى ممر ضيق يجري خلاله نهر ميسكيو باتجاه السهل. وإن تحرينا الدقة فربما لم تعد هناك سينيدا، ولا سيرافالي، فقد تم توحيد البلدتين مؤخراً من قبل الحكومة الإيطالية تحت اسم فيتوريا [Vittoria]، ولكن تفصل بينهما مسافة ميل كامل، ولا يبدو أنّ هنالك من يتقبل الوضع الجديد بطيب خاطر.
ويضرب سائسنا بسوطه مرة أخرى، ليحث خيوله على الإسراع، وعليه، وبما يليق من البهاء، ندلف الآن في عربتنا الصاخبة إلى البلدة فنراها غريبة، وخلابة، ومتداعية، ومنسية، بمنازلها الحجرية المتاخمة للغدير، والكاتدرائية التي تبدو كما لو أنّها هُجرت قبل أن يكتمل بناؤها لثلاثمائة عام. والأروقة الكئيبة مظللة الدروب على جانبي الشارع الرئيسي، كما في ستراسبورغ وبيرن. وسرعان ما عبرنا الجسر ووصلنا إلى الميدان، لنقف أمام واحدٍ من النزلين اللذيْن كانا يتنافسان على استضافة السياح القليلين، ولا تزهو سيرافالي بالميدان والكاتدرائية فقط، بل باثنين من الفنادق، واثنين من المقاهي الصغيرة القديمة، ومكتب للبريد، وحتى مكتب صغير لليانصيب، على نافذته عبارة بالطلاء الأحمر "Qui si giuocono per Venezia"، أي " هنا يتم السحب على بطاقات مدينة البندقية".
والسكان هنا يقظون ونشطون أيضاً. فهم يلعبون الطاولة أمام المقاهي بملابسهم العادية. ويلعبون ال ويلعبون على طاولات أمام المقاهي. ويلعبون “المرُّة" [ المترجمة: هي لعبة تخمين إغريقية قديمة باستخدام الاصابع]-في ظل البوابات والأروقة. ويملأون جرار الماء، يغسلون نبتات الخس، ويتداولون الأخبار حول النافورة؛ بل يشجعون الدراما أيضاً، فربما تراهم بالقرب من مسرح العرائس المتنقل (" تحت رعاية فخامة ملك إيطاليا ورؤوساء أوروبا جميعهم") على جانب ربوة مقفرة تكاد تكون في مواجهة الكنيسة. فلا يريد أحد أن تنتهي المسألة بشكل عادي، ولا حتى الرجلين العاطلين، والصبية الذين بدأوا يتوافدون من أماكن غير معروفة، فاغري الأفواه، باتجاه العربة، يحدقون في ركابها كما لو أنهم أعضاء في حديقة حيوان متنقلة.
ولكن كان لسيرافالي شيء أفضل من العرائس والسكان العاطلين لتعرضه علينا. فهناك الكاتدرائية التي تحتضن لوحة كبيرة الحجم بديعة للسيدة العذراء والطفل، بريشة تيتيان، والتي نفذها بناءً على تكليف بين عامي 1542 1547- وهي لوحة كبيرة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالتكليف الثاني في أكثر فترات المعلم ازدهاراً، وقد قصدها ووصفها رحالة وناقد مشهور بقوله :" إنّها وحدها جديرة بالعودة من أجلها إلى سيرافالي، حتى ولو من البندقية." ومع احترامي للمعاملة التي يحظى بها هذا العمل الجميل، يقول السيد جيلبرت، الذي لم يترك كتابه المثير للإعجاب عن تيتيان وكادوري شيئاً لأي كاتب آخر لإضافته في هذا الموضوع: " إنّها واحد من أعظم عينات المعلم، وفي حالة جيدة جداً. وهي تجسّد العذراء والمسيح في مجدهما تحفهما الملائكة، التي تتماهى في الضباب الذي يكسو الجزء العلوي من اللوحة. عماد السحب الثقيلة الضخمة، وفصل هذه الرؤية المقدسة عن الأرض: وفي الأسفل، يقف على الجانبين شخصا القديس آندرو والقديس بطرس في فخامة وعظمة، يسند الأول الصليب العملاق، ويحمل الأخير مفاتيحه الضخمة عالياً، كما لو أنّه يعارض الشك في إيمانه. وبين هذين الشخصين الجليلين، وتحت خط الأفق المنخفض، تظهر بحيرة قاتمة، وسط هضاب أكثر حلكة، وحيث يرمز الشراع البعيد إلى الصياد وزورقه. وجميع عناصر العمل من موضوع وخطوط وألوان على مستوىً رفيع ويليق بالفنان". كادوري. ص 43.
والآن، والوقت ينسرب من بين أيدينا، ينقضي النهار، وما زال أمامنا من الرحلة ثلاثة أرباعها، فيلزمنا الإسراع، وإلا فلن نصل إلى لونغاروني قبل حلول الظلام. وعليه، وبما أننا شبعنا من النظرات التي يحدجنا بها السكان فقط- بل صاحب المنزل وزوجته أيضاً، وجميع من لهم صلة بالنزل، وأيضاً لاعبو الطاولة الذين تخلوا عن اللعب للمشاركة في العرض المسلي- فقد احتشدنا جميعاً مرة أخرى و اتجهنا صوب المدخل الصخري للمضيق، والآن ينغلق على- ويبتلع على ما يبدو- الصف الطويل من المنازل الحجرية القديمة التي تزحف باتجاه الوادي. بعضها، تداعى وتهالك حيث هو، يجسد الطراز القوطي الفينيسي في النوافذ القوسية المدببة، والأعمدة الرقيقة الملفوفة. فبلا شك قد كانت ملكاً لأشخاص أغنياء في وقت اعتاد فيه تيتيان على شد الرحال من مانزا لزيارة ابنته المتزوجة التي كانت تعيش في سيرافالي.
وحيث تنتهي البيوت، تقترب المنحدرات الشخصية من بعضها حتى لا يبقى مجال سوى للطريق والغدير. ثم يتسع المضيف مرة أخرى، عبر المنحدرات التي تكسوها الغابات، وحقول الكستناء المعلقة، وبيوت المزارع، والشاليهات التي تطفو عالياً فوق الهضبة المعشوشبة، فتبدأ ملامحها في الاقتراب من سويسرا وليس إيطاليا: الجبال والغابات التي تسد الأفق، وعلى بعد ميلين تقريبا من سيرافالي يتوسع النهر في بحيرة صغيرة خضراء شفافة، هادئة كسماء مسائية صافية، ومزدانة بطوق واسع من نباتات الكتان الصغيرة. وينعكس طيف مرأى زورق شراعي صغير واحد فيبدو كما لو أنّه مقلوب على صفحة مرآة، يطفو في دعة وسط البحيرة. والصياد الذي فيه بدا نائماً. لا موجة واحدة ولا نسمة تعكر صفو اللوحة المرسومة على الماء. كل هضبة وكل شجرة هناك، معكوسة، وكل قشة مزدوجة.
البركة الساحرة، المهملة في الخرائط بشكل عام، هي لاغو دي سيرافالي. تنحدر الغابات إلى الحافة على جانب واحد، والطريق، يحد بقايا انهيار ارضي، وتحف الرياح بالآخر. لدى رأس البحيرة منزلان صغيران باللون الأبيض، وبهما مصراعان من الحصير الأخضر، وشرفتان مفتوحتان على الطراز الإيطالي، وكنيسة مصغرة على تلة مخضّرة، وبرج مراقبة من العصور الوسطى، ملتصق بنتوء صخرة فوقه، لتكتمل تفاصيل صورة من الصفاء والكمال الذي لم يكن حتى لخراط في قمة براعته أن يقترب من تجسيده.
يتزايد اتساع المضيق حتى يصبح وادياً، وقد كان منظر شلال بيرغ كبيراً جداً، حتى يُعتقد أنّه هو السبب في تحويل مجرى نهر بياف (الذي كان يتدفق حتى ذلك الوقت قرب سيرافالي)، وجعله يغير مجراه ليمر بوادي ميل بدلاً عن سيرافالي.
حلت هذه الكارثة قبل سنوات طويلة، وربما في عهود ما قبل التأريخ، ولكن ما زال الفاصل العظيم، ستمائة قدم في الارتفاع من هذا الجانب، يبدو كما لو أنّه قام قبل أقل من مائة سنة. وقد نمت بضع شجيرات فقط في ركام البقايا الحجرية الواسعة هذا، والتي يرتفع الطريق وسطها وفوقها ممتداً، وحيث تجمعت بعض الطحالب في شقوق هذه الكتل العملاقة التي تتكدس مثل أبراج منهارة على جانب الطريق. الطريق فوقها وعبرها ممتدٌ، فكلها خاوية، مخيفة ومهجورة.
وبينما نرقى إلى الأعلى، أشار السائق إلى أشجار غابة الزان البعيدة على حافة التلة الشاهقة إلى اليمين بأنّها غابة المجلس، وهو اسم يعود في تاريخه إلى الحكم الفينيسي القديم، حينما كانت هذه الغابات تزود الدولة بالأخشاب. ومن هنا جاء الخشب الذي شيدت به سفينة "البوسينتور" ومن يدري، ربما سفن انطونيو التجارية، وبوارج الحرب التي قادها داندلو الشيخ الضرير لمواجهة الأتراك. والآن، ونحن على بعد أربعة أميال من سيرافالي، ولم نصل بعد إلى قمة الشلال العظيم، مررنا ببحيرة أخرى، صغيرة خضراء وصافية، في حجم السابقة تقريباً- هي لاغو مورتو، وهي تقع في الأسفل في تجويف تحت الطريق، وقريباً من واجهة صخرية بيضاء مصقولة ولامعة تحت أشعة الشمس، حيث نصف جانب الجبل يبدو متصدعاً كما لو أنّ زلزالاً ضربه، فإن لم يكن الأمر كذلك لما بقي الركام مكدساً حيث هو وعلى هيئته، تاركاً تلك الفجوة التي نامت فيها البحيرة، وإنَّ المرء ليفترض أنّ هذه هي النقطة التي حدث فيها الانهيار الصخري وسدَّ على نهر بياف الطريق إلى وادي سيرافالي. وبحسب إحدى الأساطير المحلية، لا يستطيع أي قارب أن يعيش على هذه المياه الساكنة، ولا يعود منها سابح ولا غاطس إلى الشاطيء مرة أخرى. حيث يتم سحب كلٍ منهما بطريقة رهيبة جداً وتبتلعه المياه " أعمق مما يعنيه الانهيار." لقد قيل، على أية حال، كان الحاكم النمسوي للبندقية اللومباردية، قلقاً من وضع حد لهذه الخراقة، فاشترى قاربًا من جهة الصليب المقدس، و في حضور جمع حبيس الأنفاس من جميع القرى المجاورة، وحمل زوجة مدير مصلحة بريد فدالتو على القارب وجدف بنفسه حتى أوصلها منتصراً إلى الساحل المقابل. إنّ مزارعك التيروليّ، على أي حال لا يتخلى عن أخطائه العتيقة بسهولة، ولاغو مورتو، كما قيل لي، ما زالت تتمتع بسمعتها الشريرة إلى اليوم على الرغم من رد الاعتبار العلني ذاك.
وقد كانت بوسكو ديل كونسيليو إلى الجهة اليمنى دائماً على طول الطريق، وكول فيسينتينو بثلجها المتراكم المبعثر كالأبراج إلى اليسار، وقد فزنا بقمة الهضبة، ورأينا بحيرة الصليب المقدس، والتي تشبه إلى حد مثير للدهشة بحيرة البانو، تقع قرب أقدامنا. الجبال الهائلة، والقمم القرمزية والرمادية التي في الأعلى جميعها، جميع حقول الذرة الخضراء، والمنحدرات التي تغطت بالغابات المنحدرة إلى أسفل. وتحفها بعش من النضار. وتشرف قرية وكنيسة الصليب المقدس على سهل معشوشب صغير يكاد يكون معلقاً على الماء. القرى وأبراج الأجراس تبرق بعيداً على الشاطيء وعلى حافة الهضبة، بينما هناك، من خلال فجوة في الجبال في الطرف الأقصى من البحيرة، فوجئنا بروح غريبة لقمم رائعة شاحبة اللون، ارتفعت في السماء فوق الأفق الشمالي.
بحيرة الصليب المقدس
"إيكّو" يقول السائس، مشيرا إليها بسوطه، وبنصف التفاتة لرؤية أثر كلماته يقول " Ecco I nostril dolomiti!"
كان هذا التصريح مباغتاً بشدة للوهلة الأولى بدا كما لو أنّه يخطف الأنفاس. فقد قيل لنا بشكل مؤكد عن عدم إمكانية رؤية أي نوع من الدولميت قبل اليوم الثاني من الرحلة، وبالتالي لم نكن نبحث عنه ولا نتوقع رؤيته- بيد أنه يوجد هنا، وعلى خلاف العادة، وبصورة جليّة جداً!
يشعر المرء على التو بأنها ليست كمثل غيرها من الجبال، ولكنها تماماً كما يتوقع المرء أن تكون. "Che Dolomiti sono? Com si chiamano?" )ماهو الدولميت؟ ماهي أسماؤه؟) كانت هذه هي الأسئلة المحيرة التي طُرحت عقب ذلك.
ولكن لم يكن على سائسنا أن يقول شيئاً سوى الحقيقة الجيولوجية المحضة. إنّه دولميت. والدولميت على الجانب الإيطالي من الحدود. ولا يعرف شيئاً أكثر من ذلك. عليه فبوسعنا فقط الرجوع إلى خرائطنا، وخمنوا ماذا؟ بمقارنة المسافات والمواقع، تنتمي هذه الكتل الصخرية المثيرة للحيرة على الأرجح إلى سلسلة جبل سفورنيوي. ولبثنا حوالي نصف ساعة في بحيرة الصليب المقدس أمام باب فندق صغير، كتبت في مقابله عبارة بحروف واضحة: " "Qui si vende buon vino a chi vuole" [هنا يباع النبيذ الفاخر لمن يريد].
فتركنا السائق والعربة لتقصي حقيقة هذه الأسطورة، فطلبنا القهوة وشربناها في الهواء الطلق. أُخذت الأحصنة لإطعامها خارجاً. عانى الكاتب من محنة عظيمة بسبب الذباب، يخطط رسماً تحت ظروف صعبة إلى حد يصعب معه التعبير، حيث يحيط به جميع سكان المكان الآن، ومن بينهم ثلاث أو أربع شابات يرتدين مناديل مخنثة باللونين الأحمر والأصفر على رؤوسهنَّ مثل العمامة. لم يكن الحياء من شيم هؤلاء الفتيات أبداً؛ فهن يتزاحمن، ويدفعن، ويثرثرن، ويقهقهن. لقد دعتني إحداهن لرسم صورة شخصية لها، بينما تود الأخرى أن تعرف ما إذا كنت متزوجة، وتكتشف الثالثة أنني أشبه واحدة تدعى ماريا روزا، والتي يبدو أنّ جميعهن يعرفنها، ومن ثم تعرضت كل ملامح وجهي للمناقشة بشكل منفصل، ولم يخل الأمر في أغلب الأحوال من استخفاف.
في هذه اللحظة الحاسمة، قام ل. في لحظة إلهام سعيدة، بعرض المطبوعات الملونة في كتاب جلبرت وتشرشل، وبالتالي حول مجرى اهتمامهم الشيء لصالحي. في هذه الأثناء استقرت الحشرات الطائرة علي في أسراب كالسحاب، تحلق في سمائي، وتغرق نفسها في زجاجات المياه، وتترك أرجلها في نباتات الفوّة البنية، على الرغم من كل المعوقات، إلا أنني أكملت رسمي، وعندما أعيدت الخيول للعربة كنت جاهزة لاستئناف الرحلة.
الطريق الآن يسير بمحازاة بحيرة الصليب المقدس، وعلى رأسها يمتد سهل أخضر مرصع بأشجار الحور الفاتحة الريشية المصفرة- ومن الواضح أنّها كانت في وقت ما جزءاً من حوض البحيرة، الذي انحسرت عنه المياه قبل فترة طويلة. ومن هذه النقطة نبدأ السير مع خط الوادي، مروراً بقرية كادولا الجديدة الأنيقة، وفي كابو دي بونتي حيث مفترق وادي سيرافالي ووادي ميل في زوايا قائمة، ونصل مرة أخرى إلى نهر بياف، والآن ينتقل جيئة وذهاباً بين التلال الصخرية، مثل روني في لوك، وابيض حليبي من منبعه الجليدي في الدولميت العلوي. الجسر القديم في كابو دي بونتي- الجسر الذي يعود إلى العهد الفينيسي- اختفى الآن، وذهبت معه الأعمدة المزينة بأسد القديس مرقس الذي ذكره بول، وأشار إليه السيد جلبرت في كتابه "كادوري". وربما لا يزال بالإمكان اقتفاء آثار أجزاء الأرصفة العتيقة، ولكن هنالك جسر حديدي جديد وخفيف جداً يمتد الآن فوق النهر بارتفاع يتجاوز الخمسين ياردة. وفي كابو دي بونتي، لا يخطيء الملاحظ العادي غير الخبير، أنّ نهر بياف كان في وقت ما على الأقل (عندما قاد الانهيار الصخري العظيم المياه بعيداً عن سيرافالي) قد شكّل بحيرة أخرى، وهي الحوض الطبيعي الكبير الذي ما زال هناك، يشقه النهر في مجرىً فرعي ضحل.
ويدخل النهر الطريق الآن وادياً آخراً مستقيماً وضيقاً- وادي نهر بياف- يسده الدولميت الخشن في نقطة متقدمة منه، على هيئة أسنان وإبر حادة. اقترب النهار من ختامه عندما وصلنا إلى هذه المنطقة. وتُقاد الأبقار بعد الحلب إلى المرعى مرة أخرى، يسير العمال بخطىً متثاقلة صوب الديار، وزمرة من بنات الريف بمناديلهن الحمر على رؤوسهن، يخضن حتى الركاب في مرج من الزهور البرية على جانب الطريق، فيبدين مثل مجموعة من الدمى المتحركة. ثم يتدلى قرص الشمس، وإذا بالسماء والجبال يصطبغن باللون الرمادي؛ وقبيل الغسق تماماً حللنا بلونغاروني.
وهي قرية واسعة مترامية الأطراف بها كنيسة مبهرجة من عصر النهضة، وقليل من المتاجر القديمة، ونُزل كبير مهجور ذي درج وأرضية من الحجر- مالك بائس- وخادمة غرف حافية مذعورة تبدو كما لو أنّها صيدت تواً من الجبال- غرفه أشبه بالحظائر، وأرضياته بلا بُسط، ونوافذه بلا ستائر، وهكذا لم تكن انطباعاتنا الأولى عن لانغاروني مريحة أبداً. ولم يكن لمعرفتنا الأكثر حميمية القدرة على تغيير هذه الانطباعات بأي صورة كانت. لقد تناولنا طعامنا في الصحراء في غرفة معيشة في مفرش للطاولة، كانت الغرفة مضاءة بشمعة واحدة من الشحم. وقد كان الطعام عادياً، ومطهواً بطريقة عادية. أما النبيذ فكان أسوأ ما تذوقنا في إيطاليا.
في هذه الأثناء استقرت نظرة من الرضا الكالح والمشؤوم على قسمات الرجل العظيم الذي اقتلعناه بلا حرمة من المكان الذي يزدهي بالإقامة فيه. " لقد أخبرتك بذلك" مكتوبة على كل خط في وجهه، وفي كل شعرة من شاربه. على الأقل لقد سُمح له بالمغادرة هذه الليلة، وأُخطِر بموعد إحضاره للعربة، ليس بوسعه البقاء صامتاً أكثر. " لن نجد فنادق أفضل من هذا في المكان الذي سنسافر إليه، إلى اللقاء سيداتي". يقول هذا في نبرة انتصار لا تخلو من تجهم، ثم يغادر بعد هذه العبارة المرة.
كانت غرفتي تلك الليلة تبلغ حوالي 35 قدماً طولاً و 25 قدماً عرضاً، وتنعشها خمس نوافذ وأربعة أبواب. كانت النوافذ تطل على عدة جهات، الشارع، والفناء الخالفي، والاسطبلات. بينما تقود الأبواب إلى أجنحة لا نهائية من الغرف الموصدة الخالية، وجميع أنواع الطرقات المتداخلة. لم أر في حياتي مكان نوم أشد منه إثارة للذعر والخواطر الانتحارية وأكثر منه ترديداً للصدى!
________________________________________
* حوالي أربعة جنيهات إنجليزية
________________________________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles