قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثالث - من لانغاروني إلى كورتينا

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثالث
من لانغاروني إلى كورتينا
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
------
بدت لنا لانغاروني في الساعة السادسة في صباح رمادي ملبد، ولم تبدُ أكثر جاذبية عنها في غسق الليلة السابقة. كان هنالك رعد ومطر غزير في الليل، وقد تناثرت البرك الطينية الصغيرة على الطريق والدروب. وقد استيقظت الكاتبة على أية حال مبكرًا، ومضت تتسكع وحيدة ً في الطرقات المبللة؛ وتختلس النظر إلى الكنائس المبهرجة؛ تطوف بالشهادات المؤطرة والمزججة للميلاد والوفاة والزواج في إدارة المقاطعة: تضع رسماً تمهيدياً لقمة غالينا، قمة بارزة منعزلة على الجهة المقابلة لفم وادي فايونت، في الضفة المقابلة لنهر البياف، تسعى لجمع تلك المعلومات الصغيرة التي قد تصادفها في الطريق.
والرسم، حتى في الساعة السادسة من الصباح الباكر، وبدون أن يصبح مركزاً، ويحتشد المتفرجون حوله، لهو بالطبع شيء مستحيل. يتشكل الحشد في هذه الساعة من تلاميذ المدارس بجميع فئاتهم العمرية. جامحون في العادة، وكثيرون في الغالب، مثل حشرات محطة الصليب المقدس[سانتا كروسي]. والآن على كل حال، يمر قس متوسط البدانة يرتدي غفارة قديمة، وهو يلاحق المتهربين ليعيدهم إلى دار مدرسة الأبرشية، ويتسكع هو ليتجاذب أطراف الحديث في حوارات علمانية عابرة.
بيك غالينا
لم يكن لديه الكثير ليقوله، ولكنه باح بالقليل الذي يعرفه عن طيب خاطر وبدون تردد. يبلغ تعداد رعايا الابرشية حوالي ثلاثة آلاف نسمة- شعب تقي من العمال الذين يعتمدون بشكل أساسي على تجارة الأخشاب، التي تمثل العنصر الأساسي في هذه الأنحاء، حيث تقطع هذه الأخشاب، وتباع، وتوسم بعلامات معينة في وادي الامبيزو ثال، وتنقل طفواً عبر نهر البويتا حتى نقطة التقائه مع نهر البياف في بيرارولو. ومن هناك تنقل بالتيارات المزدوجة، فتعبر وادي البياف ووادي دي ميل، ليطلبها مشتروها الكثيرون على طول الضفاف، ويتم الإمساك بها أثناء مرورها بهم. ولذلك كانت تنتصب مناشير الخشب، وورش الأخشاب في جميع القرى على ذلك الطريق، وكان معظم الناس يعملون في النجارة. ثم قال لي مستطرداً إنَّ قنة الجبل في صورتي كانت تسمى بيك غالينا، أو قمة الدجاجة، وإنّ هناك دربًا للمشاة مختصرًا ومطروقًا باتجاه الطريق الذي يربط بين وادي فايونت واوديني، وسكة حديد ترياست، وإنّ " فران تيزيانو ولد على ضفاف نهر البياف الأعلى، في بياف كادوري، وإنّ الدولميت كانت هي الجبال الأكثر ارتفاعاً في العالم (والتي أخشى أنني قد ادعيت التصديق)، وإنّ الكنيسة الكبرى في الميدان كانت هي كنيسة الحمل، وإنّ الكنيسة الصغرى في الخلف قد كرّست للقديس سان ليبراريو، وهي أصغر كنيسة في إيطاليا آنذاك (هذا صحيح بلا شك، بالنظر إلى أنّ باستطاعتك وضعها داخل كنيسة القديس سان لورنس، تحت الجرف، وبعد ذلك كله يتبقى لديك ممرٌ للدوران حولها)، وأخيراً، إنّ قلعة لافازو، التي تُرى من نقطة تبعد حوالي ميل واحد، كانت أروع منظر في الوادي، وأكثره جدارة بالرسم. بعد أن زودني بتلك المعلومات من أساطير وغيرها، رفع قبعته الجوفاء بأسلوب علماني، وودعني متمنياً لي صباحاً طيباً.
لقد خرجت بالطبع في بحث عن منظر قلعة لافازو، ولم أجد له مثيلاً في وادي البياف، نجحت في وضع رسم تمهيدي له، قبل أوان العودة لتناول وجبة الإفطار.
قلعة لافازو
بحلول الساعة التاسعة، كنا قد استأنفنا السفر بمحازاة الممر الضيق الذي سرعان ما قادنا إلى العالم الحقيقي للدولميت. أضحى الصبح الآن أكثر إشراقاً والمطر أكثر غزارة، والقمم الناتئة الداكنة التي تسد الأفق اتشحت برزقة البحر الفائقة العميقة المذهلة التي أحبها تيتيان، واستخدمها كثيراً في خلفيات مناظره الطبيعية. وفي تيرميني، وهي قرية صغيرة تعمل في النجارة، وترتفع في جنباتها أصوات المناشير، تبعد حوالي ميل واحد من قلعة لافازو، يضيق الممر فجأة حتى إنّ أحد الحجارة الرمادية والذهبية يبدو كأنّه يسد نهاية طريق القرية. النساء هنا جميلات ويرتدين قطعاً من القماش يطوينها فوق رؤوسهن كما هو الحال في الهضاب التي تحيط بروما، ويرتدي الرجال قباقيب خشبية كما في لوغانو. يرتعش شلال مائي ضعيف أسفل واجهة الجرف في الجانب المقابل للنهر. متاريس مياه بدائية مثل سلال ضخمة من القش الغليظ معبأة بالحجارة، فهنا تُصد قوة السيل الهادر في مجراه الضيق، وبعضها يقبع في هذا المكان منذ فترة طويلة حتى إنّ الشجيرات الغضة قد وجدت الوقت الكافي لتضرب بجذورها وتزهر فيها. وبجانبها قرية الاوسبيتالي، وقرية صغيرة أخرى بنية الأسقف تتدلى من تلة خضراء مثل قلعة لافازو، وتتناثر بعض آلات نشر الخشب وخنادق المناشير كالعادة على طول حافة المياه، والآن ندخل إلى كمونة بيرارولو، بينما تمطر السماء بشدة، لقد انحدرنا وسط مجلجلين من خلال سلسلة من القرى الصغيرة المبنية على الطراز السويسري، بشرفاتها الخشبية، والسلالم الخارجية، والأسطح البارزة. وفي معظم هذه الأماكن، كانت الساعة بين العاشرة والحادية عشرة صباحاً، كان الناس الطيبون يجلسون في الطرقات يتناولون طعامهم في أطباق من الخشب بطريقة بدائية. وهكذا تقدمنا، وكذلك البياف، تقطعه آلف من التيارات السريعة الصاخبة الدافقة التي تتوجه نحونا بسرعة كبيرة، وتمر بنا، ومن ثم تذهب بعيداً إلى البحر. وأيضاً، جذوع أشجار الصنوبر الذهبية والبنية التي تقترب وهي تتقلب مع التيار. إنّه لمن العجيب مراقبتها في مسارها، حيث يأتي البعض منها فرادى والآخر في مجموعات. بعضها يتخبط على طول الشاطئين بطريقة غبية وحائرة ومتقلبة. والبعض يتقافز بجنون أعلى السطح وأسفله. بينما يستبق البعض الآخر، ويبدو أنّ البعض لحقه التعب، فيستريح تحت ظلال الضفة، ومن ثم ينطلق مرة أخرى مرتفعاً ومهتزاً فيندس مرة أخرى وسط الجذوع.
بينما تزحف الأخريات إلى الأسطح الحجرية الصغيرة، وتخلد عندها إلى النوم لايام وأسابيع كاملة، تدفع حزمة أخرى نفسها إلى الأمام مباشرة، بأنفها أولاً، كما لو أنها عرفت أنّها قريبة، وقد صممت على الوصول لنهاية الرحلة بأسرع ما يمكن.
ونحن نقترب من بيرارولو، تبدو إلى اليمين، بين الحين والآخر، بعض ملامح القمم والكتل الصخرية وميادين الثلوج بجبل كريدولا (8.474 قدم)، وهي أعلى قمة في سلسلة بريماجيوري، من خلال الفجوات بين الجبال الأقل ارتفاعاً. يسد جبل زوكو نهاية المضيق فجأة. تشير الآن العربات الريفية على الطريق، والنساء العاملات في الحقول، ومجموعة من الأطفال يتزاحمون ويصرخون وسط الشجيرات على جانب الطريق؛ إلى اقترابنا من مكان أكثر ازدحاماً بالسكان من جميع القرى السابقة. ثم تأخذ الطريق منعطفاً مفاجئاً، وهاهي بيرارولو تتجلى للأنظار، بكنيستها الجديدة الجميلة، وجسرها الحجري الحديث، ونافورتها العامة، وورش الأخشاب الفسيحة، والجو العام ينبيء بازدهار راسخ.
بيد أنّه وبعد بضع ياردات، نعبر جسراً آخرَ- وادياً جديداً غنياً بالأخشاب والمياه يمتد على الجهة اليسرى، ومنظر مهيب ورائع، يظهر أمامنا فجأة مزداناً بالضباب ومغطىً بالسحاب! وليس مسموحاً للحوذيّ بالتحدث، وهو يقوم بتجهيز قنبلته المخصصة. نعرف على الفور في حضرة من نحن. نعرف على الفور أنِّ تلك الموجة وكتلة الظل التي ترتفع وراء أنظارنا تبدو كما لو أنّها تنظم منحدرات الوادي في ما يشبه الحبل، ليست سوى انتيلاو.
يا له من منظر فخم ولكنه عابر! الحوذي، ولمحة لا تخلو من الغيرة على الخريطة المفتوحة، والكتيبات الإرشادية التي احتوت على معلوماته، يلهب بالسياط ظهور جياده، وفي لحظة أخرى يغيب الوادي والجبل في منعطف الطريق، فنسرع نحو أعلى الهضبة التي تقود إلى طريق جبل مونت زيكو المتعرج. وما زلنا نرى أعلى عمالقة الكادوري ارتفاعاً ولكن ليس بما يكفي من الوضوح على أية حال، راينا فم امبيزو ثال الشهير، وبدأنا نشعر أننا لا نحلم على الإطلاق، بل نحن فعلا موجودون وسط الدولميت.
والآن، وفي فترة سادها الملل، نسير ونسير، مرة على الأرجل ومرة على متن العربة، على الطريق الجديد الذي شيده الإمبراطور فيرديناند في السنوات الأخيرة. يغصُّ حلق البياف هنا بكتل ضخمة ومستقرة من جذوع أشجار الصنوبر، لا تسمع الرياح في عمق يصل إلى مئات الأقدام. بيرارولو، مركز تجارة الأخشاب هذه كلها، يتضاءل حتى يصبح قرية صغيرة في الوادي.
تظهر قمم جديدة على الأفق. وأودية جديدة تلتمع على البعد. ما زال الطريق يتجه نحو الأعلى- والرياح بين المنحدرات المتشعبة من غابات الصنوبر تجعل دائرة جبل زوكو كلها، أخيراً في آخر دفعة، بيد أنّها ليست بالقصيرة، تصل مستوى الهضبة العليا. وهنا في تاي كادوري، وهي قرية صغيرة تتصدر بعض المنحدرات المزروعة، آن لنا أن نخلد إلى راحة منتصف النهار. وهنا أيضاً، ندرك أولى اللمحات لمسقط رأس تيتيان، بيف دي كادوري، وهي قرية صغيرة بيضاء تستقر في إحدى ثنيات الهضاب أسفل حطام إحدى القلاع على هضبة مغطاة بالأشجار، على بعد ميل واحد. والآن أصبحت بياف دي كادوري في مسارنا كنزهة خاصة نخرج فيها بعد مغادرتنا لكورتينا في وادي امبيزو، ولكن شوقنا كان عظيماً. وكانت الشمس مشرقة إلى درجة رائعة، وأول فكرة خطرت لنا هي استغلال هاتين الساعتين في الراحة للسير إلى ومن هناك، ومجرد رؤية (من الخارج فقط حتى) المنزل الذي ولد فيه الفنان العظيم. في البدء كان ضرورياً، على أية حال، أن نتناول غداءنا في تاي، وقد كان، جلوساً إلى مائدة قمار عارية في الغرفة العلوية من فندق صغير نظيف، بجانب النافذة حيث نشرف على منظر رائع لسلسلة جبال بريماجيوري. وفي هذه الأثناء أصبح الطقس المتقلب غائماً مرة أخرى، وبحلول ذلك الوقت كان علينا مواصلة الرحلة، فقد بدأ المطر ينهمر غزيراً حتى إنّه لم يكن هناك بدٌ من تأجيل زيارة بياف دي كادوري إلى وقت لاحق.
وبعد تاي كادوري بقليل تبدأ واحدة من أجمل الرحلات في أوربا. حيث يدخل الطريق الامبيزو في ارتفاع لا يقل عن 1250 متراً فوق نهر بويتا المزبد، ووادٍ قريب، مغطىً بالغابات الكثيفة، مثل وادي انزاسكا المهيب، ما يفتح المجال لمشاهد أكثر وعورة بعد؛ حيث تتعالى مرتفعات واسعة، وقرى متناثرة تتشبث بالمنحدرات الخضراء في منتصف الطريق إلى السفح، ومسارات الضوء والظل اللامعة المتحركة فوقها بسرعة. والآن هاهي قمة مضاءة، والآن أخرى. وهنا سقف بنيّ، رطب منذ أن أمطرت السماء آخر مرة، يلتمع مثل الفضة تحت أشعة الشمس، وهنالك منحدر معشوشب مزدان بالكستناء النبيلة التي تتوهج باللونين الأخضر والذهبي الفاتح، بينما هنالك على التلة المقابلة، غابة من أشجار التنوب تكتسب لوناً أزرق قرمزيًا في ظلال العاصفة الغاضبة.
وفي فيناس، تبرز الأسقف، والسلالم الخارجية، والشرفات المسيجة جميعها على الطراز السويسري، بينما تذكرنا النقوش مثل " Qui si vende Vino d'Asti, Coloniale, ed altri generi," بأننا على الرغم من ذلك أقرب إلى الحدود النمسوية، فنحن لم نصل بعد إلى إيطاليا.
هاهو ذا الوادي يتسع. وما زالت الانتيلاو موشحة بالضباب العالق، مرة أخرى تبدو للناظرين- مجموعة قريبة من الذرى، ثم بيلمو على الجانب المقابل من الوادي، مرتفعاً في ما يشبه التاج العظيم المكلل بالغيوم، ويقترب منه درج عملاق، كل درجة منه عبارة عن جرف مثقل بثليج أبدي ولم تطرقه سوى أقدام صيادي الشامواه، يليه على جانب بيلمو ذاته ولكن أبعد منه قليلاً أعلى الوادي، تبدو الروشيتا، وهي سلسلة من الصخور الوعرة المحيرة مثل صف من حطام الحصون، تكدست عالياً على جدران من المروج وغابات الصنوبر.
وبين القرى الجانبية الصغيرة نجد فودو وبروكا، وقد شُقَّ الطريق خلال عدد هائل من المنحدرات من الركام الصخري، مشهد لانهيار سقط من الانتيلاو في عام 1816، وقريتان مغمورتان على الضفة المقابلة من نهر بويت. أكثر مباغتة وأشد قسوة من الحمم المتدفقة من بركان فيزوف، لقد سقطت، غالباً يسقط كل انهيار، في جنح الليل، فيسحق النائمين في اسرتهم، ولا يمهلهم ولا لحظة واحدة للهرب.
ترتفع كلٌ من هضبتي الكلس المفتت العظيمتين، على الأقل لمائة قدم، وتربضان كدليلين على القرى الضائعة، ومن الغريب القول إنَّ النهر بدلاً عن كونه ملعوناً ويسير إلى الوراء مثلما هو الحال في سيرافالي، فإنّه يتدفق في طريقه بدون أي عائق ما عدا بضع صخور عملاقة. الطريقة التي عبر بها ذاك الانهيار الهائل بما يكفي من الحجم لعبور النهر ودفن جميع المنازل والكنيسة وبرج الجرس على الجهة المقابلة، لأمرٌ في منتهى الغموض.
لقد استفسرت آنذاك وفي وقت لاحق عما إذا كان النهر قد انسد لفترة مؤقتة ثم أعيد فتح مجراه على أيدي بعض المجتمعات الامبيزية الأخرى، ولكن بدا جميع من سألتهم يعتقدون باستحالة القيام بتلك المهمة في أي وقت من الأوقات. لم يكن بوسع أحدهم تقديم أية اجابات. " لقد حدث ذلك يا سينورا، قبل ست وخمسين سنة مضت،" كانت الإجابة المشتركة هي "chi lo sa?" هل كان ذلك وقتاً طويلاً؟ يبدو لي غريباً أنّه وبعد مضي وقت قصير يتجاوز بالكاد نصف قرن من الزمان، يطوي النسيان جميع تفاصيل تلك الكارثة الفظيعة في مكان تقل فيه مثل تلك الحوادث بالضرورة؟
والآن، ونحن نسير على الطريق المنحدر، وقد قطعنا على الأقل ثلث دائرة انتيلاو، والتي تصبح أوسع فأوسع، وتتغير هيئتها وخارطتها مع كل انعطافة. الجليد لا يجد مستقراً في هذا الجانب، ما عدا على بعض الركام هنا وهناك. ويتكون الجبل على ما يبدو من عدد لا حصر له من الحواجز الحادة، والمنحدرات الضخمة من ركام الطمي، وسلسلة متنوعة الأشكال من القمم والذرى الشاحبة. والتي نجد بعضها يكاد يتلفح بالبياض الناصع، وبعضها أصفر كبريتي شاحب، مشوب باللون البنفسجي، وبعضها ملطخ بالأحمر الصديء الفاقع، مما يشير إلى وجود الحديد. إحدى الكتل الصخرية القوية المتشققة الحادة كالمشرط، ومقوسة كناب القرش، تبدو مثل سيف معقوف مغموس في الدم لتوه.
والآن، وفي سان فيتو، يبدأ الانتيلاو في الاتجاه إلى الوراء من الناحية اليسرى، وعلى طول جانب جبل الكرودا مالكورا، بقمته الأعلى، سورابيس، التي تشمخ في أنفة على خلفية من السحب العاصفة، تدخل المشهد. وبعد ذلك بقليل وصلنا إلى الحدود النمسوية. صارية عارية، باللونين الأسود والأصفر، مثل رجل أحد حراس البابا، تنتصب على جانبي الطريق أمام مكتب جمرك خرِب. وهنا يلعب أربعة عساكر ذوي مظهر رثٍّ بالكرات الخشبية، بينما يسترخي ضابطان على أريكة بجانب الباب، يتنشقان لفافتي تبغ ويتفرجان على اللعب. كان أحدهما طويلاً جداً ومهلهلًا جداً، ومتسخ الملابس، وله زجاجة مثبتة إلى عينه وشارب يقارب طوله ثماني عشرة بوصة، يسير نحو باب العربة. وعندما اطمأن، على كل حال، من أننا لا نحمل شيئاً محظوراً، رفع قبعته في فتور بادٍ وعصي على الوصف، وأشار إلى الحوذيّ بالانصراف. ومن هذه النقطة، صار من الواضح أننا تجاوزنا الحد السياسي غير المرئي، ويلاحظ المرء تغييراً مفاجئاً ليس فقط في الأزياء ولكن في في بنية وسحنات البشر. إنهم الآن أطول، وأفتح بشرةً، وأجود عرقاً. يرتدي يالرجال قبعات غليظة من الجلد العاري. (والنساء لم يعدن يكشفن سيقانهن، ولم تعد شعورهن مغطاة بالمناديل الحمراء والصفراء). يرتدين نوعاً من اللباس البيرني المكون من معطف قصير أسود، وقطعة من القماش الأسود على هيئة الجسد مثل صدار في حجم الجسم تماماً، وبطانة بيضاء وأكمام طويلة تصل إلى المرفقين، ومئزر أزرق كبير، وقبعة مستديرة سميكة، مثل قبعة الرجال.
بحلول هذا الوقت خرجت بيلمو من مدى النظر، وأصبحت روشيتا إلى الوراء في الجهة اليسرى، ومرت سورابيس، وما زالت الجبال الجديدة ترتفع أمامنا على مد البصر. إلى اليسار تستمر في الحقيقة سلسلة الروشيتا، قمة بيك دي ميزودي وجرف بيكولونغو، يبرزان مثل صف من الأسنان الحادة. وبمحازاتها ولكن على بعد ميل واحد على الأقل صوب أعلى الوادي، نجد سهل توفانا الكبير يشرئب في شموخ ساخط، تعلوه صخرة رائعة، مثل هرم من الجرانيت الأحمر. أما إلى اليمين فهنالك إفريز خيول جبل كريستالو الفاتن من القمم البرتقالية، يشكل خلفية عظيمة لكورتينا ذات الأسقف المتزاحمة، والأبراج الشاهقة، والمراعي الخضراء.
وعليه فقد أصبحنا في النهاية أمام المكان الذي سنقيم فيه طيلة الأسبوع القادم وقد شارفت الرحلة الرائعة على نهايتها. نحن بالفعل على بعد خمسة عشر ميلا إنجليزيا (أي من تاي إلى كورتينا)، وقد رأينا حوالي ستة من أشهر مواقع الدولميات، ثلاثة منها على الضفة اليمنى وثلاثة على الضفة اليسرى لنهر بويتا. ويتجاوز أربعة من الستة هذه ارتفاع 10.500 قدم، بينما انتيلاو، كما أعتقد، يبعد عن اثنين فقط من منافسيه، هما مارمولاتا وسيمون ديلا بالا على وجه التحديد. والأشكال الرائعة والجديدة من هذه الجبال العملاقة، وألوانها الغريبة، وغموض تكوينها، وفرادة مواقعها النسبية، حيث كل منها يكون أقرب إلى جاره، بيد أنّه في حد ذاته يكون مميزاً ومختلفاً، والحقيقة العجيبة أنها جميعها متقاربة جداً في الارتفاع، وفي الأسماء، التي بخلاف اسماء الجبال الأخرى جميعاً ذات صدىً عالٍ، وفخم، مثل أطلال لغات ما قبل التأريخ، جميع هذه المواقع والحقائق في تركيبة مفاجئة تربك المخيلة، وتترك المرء حائراً في البداية أمام تنوعها وسرعة حدوث التأثير بعد الآخر في الذاكرة. وهكذا اتسمت بحس الراحة ذاك، خليط من الدوار والدهشة والإعجاب.
الطريق العلوي، كورتينا
والآن أصبح الطريق الذي كان يهبط تدريجياً على طول عدة أميال، يدخل إلى كورتينا على ارتفاع مائة قدم فوق مستوى نهر بويتا. وفي البداية بدا منزل أو اثنان متفرقين، ثم لمحة من الكنيسة القديمة، والدير، والمقبرة، وملعب الرماية، في الغور بجانب النهر، ثم شارع طويل غير منتظم من المزارع، والفنادق، والمتاجر المتواضعة، وبرج الجرس الجديد، فخر القرية، 250 قدماً في ارتفاعه، ومكتب البريد في زاوية الميدان الصغير الذي يحتوي على نافورة عامة، وفي النهاية اشيلا نيرا ، كونه المنزل الأخير في المكان، وهو فندق مبني على الطراز التيروليّ الحقيقي، مثل سفينة نوح الهائلة، بصفوف فوقها صفوف من النوافذ المربعة ذات المصاريع الخضراء الفاقعة، والسقف الضخم بأفاريزه المعلقة، التي تبدو كما لو أنّها على وشك أن تقفز مثل غطاء زجاجة لتسمح للحيوانات الموجودة داخلها بالهرب. هذه إذن هي وجهتنا، وهنا نقترب من آخر النهار، فنسير خلال القرية ونحثُّ الخطى إلى الباب مع سائقنا بحيويته المعتادة، كما لو أنّه لم يخط الشيب فوديه أو لم يقد خمسة وثلاثين ميلاً اليوم، وأربعة وثلاثين ميلاً البارحة، كان نشطاً جداً، وقد خرج لتوه من الإسطبل. آل غديناس، أب وولداه، خرجا ليرحبا بنا، لم يبد عليهما كثير اهتمام، بيد أنّ الكاتبة على كل حال تذكر اسماً كبيراً، هو اسم !!Francis Fox Tuckett فرانسيس فوكس تاكت وهي ذات تاثير مثل التعويذة على الثلاثي المتألق. تنطلق نيتهم الطيبة إلى الأمام في مزيج سخيف بين الألمانية والإيطالية. كيف للسينيورة أن تكون صديقة للسيد "إل تاكت"- السنيورة الكبيرة الشجاعة" والتي عم صيت إنجازاتها في إنحاء هذه الوديان جميعها؟ ألا ينبغي أن يكون المنزل بكامله طوع أمرها؟ هناك! الأشيلا نيرا سوف تبرر التوصية ب"تاكت الشجاع!" وها نحن ننزل هنا. صاحب المنزل العجوز يضع ربطة عنق بُنيَّة كبيرة الحجم، والأيدي تتصافح في كل مكان. تم استدعاء النادلة، وحظينا بتخصيص أفضل الغرف لنا، كان الطباخون (ويبدو أنَّ هنالك الكثيرين منهم في ذلك المطبخ الكبير الكئيب) قد شرعوا في إعداد العشاء، ووضعت لنا طاولة على الرصيف، والذي كما عرفنا لاحقاً أنّه مكان لاستقبال ضيوف الشرف في جميع الفنادق في تيرول الدولميت، وكل ما يملكه الاشيلا نيرا مسخر لما فيه فائدتنا.
إنّه نُزلٌ تيرولينيٌ شامل، ونظيف بلا أدنى شك، كما أنّه مجهزّ جيداً، وأوسع كثيراً مما كنا نتوقع العثور عليه في أكثر قرى هذه المنطقة أهمية. تميزت الغرف بالرحابة، بيد أنّ أثاثها لم يكن مكتملاً. فهناك القليل من المفارش المصنوعة من جلود الذئاب والشامواه تتوزع هنا وهناك: ولكن لا يوجد بساط مثل الذي يستخدم لتغطية الأرضية في أي مكان في الفندق.
وفي الملحق، المبنى الجديد على الجانب المقال من الطريق، والمزين بطريقة ساحرة بالجداريات الخارجية التي نفذها أحد أفراد آل غدينا الصغار الذي كان فناناً في فيينا- وهنالك غرف أصغر، بأسرة معدنية جيدة، وبعض وسائل الراحة الحديثة. ولكنا لم نك نعلم شيئاً عن هذا الأمر حتى يوم أو يومين عقب ذلك، وسررنا عندئذٍ بالانتقال إلى المنزل الأكثر هدوءاً، بيد أنّ ذلك كلفنا عبور الشارع لتناول الوجبات في كل مرة.
فيما يخص الطعام، كانت هنالك عدة قوانين قاسية. عن الطيبات فحدِّث ولا حرج، أما اللحم، والسجق، والبيض، والجبن، والملفوف المخلل فهنالك الكثير منها.
الرعاة، والأدلة، والمزارعون-الفلاحون والمسافرون من كل الدرجات يأكلون، ويشربون، ويدخنون طوال اليوم في الغرف العامة، التي يوجد منها على الأقل أربع في الطابق الأرضي من البيت الكبير. كانت مدخنة المطبخ تنفث الدخان، والطباخون يصنعون الطعام، والماء يتدفق من الصنابير " من الصباح حتى المساء النديّ." لقد وصلنا في مساءً مفعم بالندى، وحللنا في جو مشحون بروائح التبغ والثوم- وغضب قرابين اليوم المتراكم.
مع الحشد الكبير هذا، على أية حال، هذا الطقس كله، كان يتعين على أغنى وأكثر المسافرين نجاحاً أن يعرض نفس اللحوم والمشروبات مثل أفقرهم. النوع الوحيد من النبيذ الذي يحتفظ به غيدينا في قبوه هو نبيذ فينو باربيرا البيدومنتي الخام العتيق، والذي تكلف الزجاجة منه فرنكين تقريباً، فإن كنت لا تحب ذاك، فعليك شرب البيرة، أو النبيذ الريفي الخفيف الأحمر أو الكحول المعقم المسبب للغثيان والمصنوع من جذر نبات صغير الحجم يشبه إلى حد كبير عشبة لسان الحمل أو نبتة موز الجنة الإنجليزية. وهنالك نوع أقل جودة من كريسشوزر والذي أعتقد أنّه هو الآخر سيئٌ، أو على الأقل كنوع من البراندي، ولكني أشك إن كان بالإمكان العثور على نقطة واحدة منه في الريف كله بدءاً من بيلونو وحتى برونيك.
بالنسبة للبقية، يعتبر الفندق لا بأس به، يشعر المرء بالحاجة إلى عشيقة في المكان. فوالد غيدينا، أرمل ثري، وابناؤه الأقوياء الثلاثة جميعهم غير متزوجين، يعيشون في المنزل ويشرفون على إدارة المنزل والإسطبلات ولكن بامتعاض بادٍ كما لو أنّهم مجبرون. وخيولهم بالمناسبة من أجود الخيول لدرجة لا تتناسب مع خشونة العمل الريفي، بينما في المبنى المجاور توجد عربة كبيرة بأربع عجلات، وعربة صغيرة تكفي لشخصين، وثلاث أو أربع عربات متوسطة، وسرج! كيف سنرى هذه الأداة في هذا المكان، وهي في حد ذاتها ليست بالشيء النادر ولا الجميل، كيف أنّها ستحتل المكانة الأولى في عواطفنا ورغباتنا، كيف تنافسنا مع جميع الوافدين على امتلاكها، وكيف تذللنا، واستعرناها، وأخيراً سرقناها.
في هذا الأثناء وصلنا متأخرين ومتعبين، وكنا سعداء بالحصول على غرف واسعة في منزل كبير، والتماشي مع الجو العام، وتنشق القديد، وسماع المحتفلين في الدور الأرضي يسهرون لوقت طويل بعد أن خلدنا إلى النوم، وحتى عندما أيقظتنا الصرخة الداوية لحارس القرية في عدة مرات أثناء ساعات الليلة الظلماء تلك. ربما لم يكن بالشيء الذي يتفق على إثارته زمرة النجارين أول شيء في صباح الغد في الشارع وهم يلقون بأكداس الخشب الثقيلة، وهم يسيرون في طوابير بجانب الطريق، ينشرون، ويصخبون بما يكفي لإيقاظ الموتى أيضاً وليس الأحياء فقط. ولهذا، على أي حال، وكما هو الحال في كل الأمور السيئة، هنالك تعويض، وقد كان عزاؤنا عظيماً عندما عرفنا أنَّ عيد الساغرو السنوي، أو احتفال الكنيسة، سوف يقام في غضون أيام قليلة، وأنَ أصدقاءنا الصاخبين في الخارج كانوا قد شرعوا بالفعل في نصب الأكشاك استعداداً للمعرض السنوي الذي يعقد بالتزامن مع العيد. إنّه أهم معرض في جميع هذا الجزء النمسوي بالإضافة إلى تيرول الإيطالية، ويشارك فيه عادةً ما بين ألف ومائتين وألف وخمسمائة من المزارعين من كل هضبة أو وادٍ على دائرة تقارب ثلاثين ميلاً حول كورتينا.
______________________________________
*الأطوال النسبية لدولمايت امبيزو،ي كأقرب تحديد لها، هي كالآتي: انتيلاو 15.838 قدم، سورابيس 10.798قدم، توفانا، 10724 قدم، كريستالو، 10.644 قدم، بيلمو، 10.377 قدم، ولا روشيتا، 7.793 قدم.
______________________________________
جبل انتيلاو
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثالث
من لانغاروني إلى كورتينا
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
------
بدت لنا لانغاروني في الساعة السادسة في صباح رمادي ملبد، ولم تبدُ أكثر جاذبية عنها في غسق الليلة السابقة. كان هنالك رعد ومطر غزير في الليل، وقد تناثرت البرك الطينية الصغيرة على الطريق والدروب. وقد استيقظت الكاتبة على أية حال مبكرًا، ومضت تتسكع وحيدة ً في الطرقات المبللة؛ وتختلس النظر إلى الكنائس المبهرجة؛ تطوف بالشهادات المؤطرة والمزججة للميلاد والوفاة والزواج في إدارة المقاطعة: تضع رسماً تمهيدياً لقمة غالينا، قمة بارزة منعزلة على الجهة المقابلة لفم وادي فايونت، في الضفة المقابلة لنهر البياف، تسعى لجمع تلك المعلومات الصغيرة التي قد تصادفها في الطريق.
والرسم، حتى في الساعة السادسة من الصباح الباكر، وبدون أن يصبح مركزاً، ويحتشد المتفرجون حوله، لهو بالطبع شيء مستحيل. يتشكل الحشد في هذه الساعة من تلاميذ المدارس بجميع فئاتهم العمرية. جامحون في العادة، وكثيرون في الغالب، مثل حشرات محطة الصليب المقدس[سانتا كروسي]. والآن على كل حال، يمر قس متوسط البدانة يرتدي غفارة قديمة، وهو يلاحق المتهربين ليعيدهم إلى دار مدرسة الأبرشية، ويتسكع هو ليتجاذب أطراف الحديث في حوارات علمانية عابرة.
بيك غالينا
لم يكن لديه الكثير ليقوله، ولكنه باح بالقليل الذي يعرفه عن طيب خاطر وبدون تردد. يبلغ تعداد رعايا الابرشية حوالي ثلاثة آلاف نسمة- شعب تقي من العمال الذين يعتمدون بشكل أساسي على تجارة الأخشاب، التي تمثل العنصر الأساسي في هذه الأنحاء، حيث تقطع هذه الأخشاب، وتباع، وتوسم بعلامات معينة في وادي الامبيزو ثال، وتنقل طفواً عبر نهر البويتا حتى نقطة التقائه مع نهر البياف في بيرارولو. ومن هناك تنقل بالتيارات المزدوجة، فتعبر وادي البياف ووادي دي ميل، ليطلبها مشتروها الكثيرون على طول الضفاف، ويتم الإمساك بها أثناء مرورها بهم. ولذلك كانت تنتصب مناشير الخشب، وورش الأخشاب في جميع القرى على ذلك الطريق، وكان معظم الناس يعملون في النجارة. ثم قال لي مستطرداً إنَّ قنة الجبل في صورتي كانت تسمى بيك غالينا، أو قمة الدجاجة، وإنّ هناك دربًا للمشاة مختصرًا ومطروقًا باتجاه الطريق الذي يربط بين وادي فايونت واوديني، وسكة حديد ترياست، وإنّ " فران تيزيانو ولد على ضفاف نهر البياف الأعلى، في بياف كادوري، وإنّ الدولميت كانت هي الجبال الأكثر ارتفاعاً في العالم (والتي أخشى أنني قد ادعيت التصديق)، وإنّ الكنيسة الكبرى في الميدان كانت هي كنيسة الحمل، وإنّ الكنيسة الصغرى في الخلف قد كرّست للقديس سان ليبراريو، وهي أصغر كنيسة في إيطاليا آنذاك (هذا صحيح بلا شك، بالنظر إلى أنّ باستطاعتك وضعها داخل كنيسة القديس سان لورنس، تحت الجرف، وبعد ذلك كله يتبقى لديك ممرٌ للدوران حولها)، وأخيراً، إنّ قلعة لافازو، التي تُرى من نقطة تبعد حوالي ميل واحد، كانت أروع منظر في الوادي، وأكثره جدارة بالرسم. بعد أن زودني بتلك المعلومات من أساطير وغيرها، رفع قبعته الجوفاء بأسلوب علماني، وودعني متمنياً لي صباحاً طيباً.
لقد خرجت بالطبع في بحث عن منظر قلعة لافازو، ولم أجد له مثيلاً في وادي البياف، نجحت في وضع رسم تمهيدي له، قبل أوان العودة لتناول وجبة الإفطار.
قلعة لافازو
بحلول الساعة التاسعة، كنا قد استأنفنا السفر بمحازاة الممر الضيق الذي سرعان ما قادنا إلى العالم الحقيقي للدولميت. أضحى الصبح الآن أكثر إشراقاً والمطر أكثر غزارة، والقمم الناتئة الداكنة التي تسد الأفق اتشحت برزقة البحر الفائقة العميقة المذهلة التي أحبها تيتيان، واستخدمها كثيراً في خلفيات مناظره الطبيعية. وفي تيرميني، وهي قرية صغيرة تعمل في النجارة، وترتفع في جنباتها أصوات المناشير، تبعد حوالي ميل واحد من قلعة لافازو، يضيق الممر فجأة حتى إنّ أحد الحجارة الرمادية والذهبية يبدو كأنّه يسد نهاية طريق القرية. النساء هنا جميلات ويرتدين قطعاً من القماش يطوينها فوق رؤوسهن كما هو الحال في الهضاب التي تحيط بروما، ويرتدي الرجال قباقيب خشبية كما في لوغانو. يرتعش شلال مائي ضعيف أسفل واجهة الجرف في الجانب المقابل للنهر. متاريس مياه بدائية مثل سلال ضخمة من القش الغليظ معبأة بالحجارة، فهنا تُصد قوة السيل الهادر في مجراه الضيق، وبعضها يقبع في هذا المكان منذ فترة طويلة حتى إنّ الشجيرات الغضة قد وجدت الوقت الكافي لتضرب بجذورها وتزهر فيها. وبجانبها قرية الاوسبيتالي، وقرية صغيرة أخرى بنية الأسقف تتدلى من تلة خضراء مثل قلعة لافازو، وتتناثر بعض آلات نشر الخشب وخنادق المناشير كالعادة على طول حافة المياه، والآن ندخل إلى كمونة بيرارولو، بينما تمطر السماء بشدة، لقد انحدرنا وسط مجلجلين من خلال سلسلة من القرى الصغيرة المبنية على الطراز السويسري، بشرفاتها الخشبية، والسلالم الخارجية، والأسطح البارزة. وفي معظم هذه الأماكن، كانت الساعة بين العاشرة والحادية عشرة صباحاً، كان الناس الطيبون يجلسون في الطرقات يتناولون طعامهم في أطباق من الخشب بطريقة بدائية. وهكذا تقدمنا، وكذلك البياف، تقطعه آلف من التيارات السريعة الصاخبة الدافقة التي تتوجه نحونا بسرعة كبيرة، وتمر بنا، ومن ثم تذهب بعيداً إلى البحر. وأيضاً، جذوع أشجار الصنوبر الذهبية والبنية التي تقترب وهي تتقلب مع التيار. إنّه لمن العجيب مراقبتها في مسارها، حيث يأتي البعض منها فرادى والآخر في مجموعات. بعضها يتخبط على طول الشاطئين بطريقة غبية وحائرة ومتقلبة. والبعض يتقافز بجنون أعلى السطح وأسفله. بينما يستبق البعض الآخر، ويبدو أنّ البعض لحقه التعب، فيستريح تحت ظلال الضفة، ومن ثم ينطلق مرة أخرى مرتفعاً ومهتزاً فيندس مرة أخرى وسط الجذوع.
بينما تزحف الأخريات إلى الأسطح الحجرية الصغيرة، وتخلد عندها إلى النوم لايام وأسابيع كاملة، تدفع حزمة أخرى نفسها إلى الأمام مباشرة، بأنفها أولاً، كما لو أنها عرفت أنّها قريبة، وقد صممت على الوصول لنهاية الرحلة بأسرع ما يمكن.
ونحن نقترب من بيرارولو، تبدو إلى اليمين، بين الحين والآخر، بعض ملامح القمم والكتل الصخرية وميادين الثلوج بجبل كريدولا (8.474 قدم)، وهي أعلى قمة في سلسلة بريماجيوري، من خلال الفجوات بين الجبال الأقل ارتفاعاً. يسد جبل زوكو نهاية المضيق فجأة. تشير الآن العربات الريفية على الطريق، والنساء العاملات في الحقول، ومجموعة من الأطفال يتزاحمون ويصرخون وسط الشجيرات على جانب الطريق؛ إلى اقترابنا من مكان أكثر ازدحاماً بالسكان من جميع القرى السابقة. ثم تأخذ الطريق منعطفاً مفاجئاً، وهاهي بيرارولو تتجلى للأنظار، بكنيستها الجديدة الجميلة، وجسرها الحجري الحديث، ونافورتها العامة، وورش الأخشاب الفسيحة، والجو العام ينبيء بازدهار راسخ.
بيد أنّه وبعد بضع ياردات، نعبر جسراً آخرَ- وادياً جديداً غنياً بالأخشاب والمياه يمتد على الجهة اليسرى، ومنظر مهيب ورائع، يظهر أمامنا فجأة مزداناً بالضباب ومغطىً بالسحاب! وليس مسموحاً للحوذيّ بالتحدث، وهو يقوم بتجهيز قنبلته المخصصة. نعرف على الفور في حضرة من نحن. نعرف على الفور أنِّ تلك الموجة وكتلة الظل التي ترتفع وراء أنظارنا تبدو كما لو أنّها تنظم منحدرات الوادي في ما يشبه الحبل، ليست سوى انتيلاو.
يا له من منظر فخم ولكنه عابر! الحوذي، ولمحة لا تخلو من الغيرة على الخريطة المفتوحة، والكتيبات الإرشادية التي احتوت على معلوماته، يلهب بالسياط ظهور جياده، وفي لحظة أخرى يغيب الوادي والجبل في منعطف الطريق، فنسرع نحو أعلى الهضبة التي تقود إلى طريق جبل مونت زيكو المتعرج. وما زلنا نرى أعلى عمالقة الكادوري ارتفاعاً ولكن ليس بما يكفي من الوضوح على أية حال، راينا فم امبيزو ثال الشهير، وبدأنا نشعر أننا لا نحلم على الإطلاق، بل نحن فعلا موجودون وسط الدولميت.
والآن، وفي فترة سادها الملل، نسير ونسير، مرة على الأرجل ومرة على متن العربة، على الطريق الجديد الذي شيده الإمبراطور فيرديناند في السنوات الأخيرة. يغصُّ حلق البياف هنا بكتل ضخمة ومستقرة من جذوع أشجار الصنوبر، لا تسمع الرياح في عمق يصل إلى مئات الأقدام. بيرارولو، مركز تجارة الأخشاب هذه كلها، يتضاءل حتى يصبح قرية صغيرة في الوادي.
تظهر قمم جديدة على الأفق. وأودية جديدة تلتمع على البعد. ما زال الطريق يتجه نحو الأعلى- والرياح بين المنحدرات المتشعبة من غابات الصنوبر تجعل دائرة جبل زوكو كلها، أخيراً في آخر دفعة، بيد أنّها ليست بالقصيرة، تصل مستوى الهضبة العليا. وهنا في تاي كادوري، وهي قرية صغيرة تتصدر بعض المنحدرات المزروعة، آن لنا أن نخلد إلى راحة منتصف النهار. وهنا أيضاً، ندرك أولى اللمحات لمسقط رأس تيتيان، بيف دي كادوري، وهي قرية صغيرة بيضاء تستقر في إحدى ثنيات الهضاب أسفل حطام إحدى القلاع على هضبة مغطاة بالأشجار، على بعد ميل واحد. والآن أصبحت بياف دي كادوري في مسارنا كنزهة خاصة نخرج فيها بعد مغادرتنا لكورتينا في وادي امبيزو، ولكن شوقنا كان عظيماً. وكانت الشمس مشرقة إلى درجة رائعة، وأول فكرة خطرت لنا هي استغلال هاتين الساعتين في الراحة للسير إلى ومن هناك، ومجرد رؤية (من الخارج فقط حتى) المنزل الذي ولد فيه الفنان العظيم. في البدء كان ضرورياً، على أية حال، أن نتناول غداءنا في تاي، وقد كان، جلوساً إلى مائدة قمار عارية في الغرفة العلوية من فندق صغير نظيف، بجانب النافذة حيث نشرف على منظر رائع لسلسلة جبال بريماجيوري. وفي هذه الأثناء أصبح الطقس المتقلب غائماً مرة أخرى، وبحلول ذلك الوقت كان علينا مواصلة الرحلة، فقد بدأ المطر ينهمر غزيراً حتى إنّه لم يكن هناك بدٌ من تأجيل زيارة بياف دي كادوري إلى وقت لاحق.
وبعد تاي كادوري بقليل تبدأ واحدة من أجمل الرحلات في أوربا. حيث يدخل الطريق الامبيزو في ارتفاع لا يقل عن 1250 متراً فوق نهر بويتا المزبد، ووادٍ قريب، مغطىً بالغابات الكثيفة، مثل وادي انزاسكا المهيب، ما يفتح المجال لمشاهد أكثر وعورة بعد؛ حيث تتعالى مرتفعات واسعة، وقرى متناثرة تتشبث بالمنحدرات الخضراء في منتصف الطريق إلى السفح، ومسارات الضوء والظل اللامعة المتحركة فوقها بسرعة. والآن هاهي قمة مضاءة، والآن أخرى. وهنا سقف بنيّ، رطب منذ أن أمطرت السماء آخر مرة، يلتمع مثل الفضة تحت أشعة الشمس، وهنالك منحدر معشوشب مزدان بالكستناء النبيلة التي تتوهج باللونين الأخضر والذهبي الفاتح، بينما هنالك على التلة المقابلة، غابة من أشجار التنوب تكتسب لوناً أزرق قرمزيًا في ظلال العاصفة الغاضبة.
وفي فيناس، تبرز الأسقف، والسلالم الخارجية، والشرفات المسيجة جميعها على الطراز السويسري، بينما تذكرنا النقوش مثل " Qui si vende Vino d'Asti, Coloniale, ed altri generi," بأننا على الرغم من ذلك أقرب إلى الحدود النمسوية، فنحن لم نصل بعد إلى إيطاليا.
هاهو ذا الوادي يتسع. وما زالت الانتيلاو موشحة بالضباب العالق، مرة أخرى تبدو للناظرين- مجموعة قريبة من الذرى، ثم بيلمو على الجانب المقابل من الوادي، مرتفعاً في ما يشبه التاج العظيم المكلل بالغيوم، ويقترب منه درج عملاق، كل درجة منه عبارة عن جرف مثقل بثليج أبدي ولم تطرقه سوى أقدام صيادي الشامواه، يليه على جانب بيلمو ذاته ولكن أبعد منه قليلاً أعلى الوادي، تبدو الروشيتا، وهي سلسلة من الصخور الوعرة المحيرة مثل صف من حطام الحصون، تكدست عالياً على جدران من المروج وغابات الصنوبر.
وبين القرى الجانبية الصغيرة نجد فودو وبروكا، وقد شُقَّ الطريق خلال عدد هائل من المنحدرات من الركام الصخري، مشهد لانهيار سقط من الانتيلاو في عام 1816، وقريتان مغمورتان على الضفة المقابلة من نهر بويت. أكثر مباغتة وأشد قسوة من الحمم المتدفقة من بركان فيزوف، لقد سقطت، غالباً يسقط كل انهيار، في جنح الليل، فيسحق النائمين في اسرتهم، ولا يمهلهم ولا لحظة واحدة للهرب.
ترتفع كلٌ من هضبتي الكلس المفتت العظيمتين، على الأقل لمائة قدم، وتربضان كدليلين على القرى الضائعة، ومن الغريب القول إنَّ النهر بدلاً عن كونه ملعوناً ويسير إلى الوراء مثلما هو الحال في سيرافالي، فإنّه يتدفق في طريقه بدون أي عائق ما عدا بضع صخور عملاقة. الطريقة التي عبر بها ذاك الانهيار الهائل بما يكفي من الحجم لعبور النهر ودفن جميع المنازل والكنيسة وبرج الجرس على الجهة المقابلة، لأمرٌ في منتهى الغموض.
لقد استفسرت آنذاك وفي وقت لاحق عما إذا كان النهر قد انسد لفترة مؤقتة ثم أعيد فتح مجراه على أيدي بعض المجتمعات الامبيزية الأخرى، ولكن بدا جميع من سألتهم يعتقدون باستحالة القيام بتلك المهمة في أي وقت من الأوقات. لم يكن بوسع أحدهم تقديم أية اجابات. " لقد حدث ذلك يا سينورا، قبل ست وخمسين سنة مضت،" كانت الإجابة المشتركة هي "chi lo sa?" هل كان ذلك وقتاً طويلاً؟ يبدو لي غريباً أنّه وبعد مضي وقت قصير يتجاوز بالكاد نصف قرن من الزمان، يطوي النسيان جميع تفاصيل تلك الكارثة الفظيعة في مكان تقل فيه مثل تلك الحوادث بالضرورة؟
والآن، ونحن نسير على الطريق المنحدر، وقد قطعنا على الأقل ثلث دائرة انتيلاو، والتي تصبح أوسع فأوسع، وتتغير هيئتها وخارطتها مع كل انعطافة. الجليد لا يجد مستقراً في هذا الجانب، ما عدا على بعض الركام هنا وهناك. ويتكون الجبل على ما يبدو من عدد لا حصر له من الحواجز الحادة، والمنحدرات الضخمة من ركام الطمي، وسلسلة متنوعة الأشكال من القمم والذرى الشاحبة. والتي نجد بعضها يكاد يتلفح بالبياض الناصع، وبعضها أصفر كبريتي شاحب، مشوب باللون البنفسجي، وبعضها ملطخ بالأحمر الصديء الفاقع، مما يشير إلى وجود الحديد. إحدى الكتل الصخرية القوية المتشققة الحادة كالمشرط، ومقوسة كناب القرش، تبدو مثل سيف معقوف مغموس في الدم لتوه.
والآن، وفي سان فيتو، يبدأ الانتيلاو في الاتجاه إلى الوراء من الناحية اليسرى، وعلى طول جانب جبل الكرودا مالكورا، بقمته الأعلى، سورابيس، التي تشمخ في أنفة على خلفية من السحب العاصفة، تدخل المشهد. وبعد ذلك بقليل وصلنا إلى الحدود النمسوية. صارية عارية، باللونين الأسود والأصفر، مثل رجل أحد حراس البابا، تنتصب على جانبي الطريق أمام مكتب جمرك خرِب. وهنا يلعب أربعة عساكر ذوي مظهر رثٍّ بالكرات الخشبية، بينما يسترخي ضابطان على أريكة بجانب الباب، يتنشقان لفافتي تبغ ويتفرجان على اللعب. كان أحدهما طويلاً جداً ومهلهلًا جداً، ومتسخ الملابس، وله زجاجة مثبتة إلى عينه وشارب يقارب طوله ثماني عشرة بوصة، يسير نحو باب العربة. وعندما اطمأن، على كل حال، من أننا لا نحمل شيئاً محظوراً، رفع قبعته في فتور بادٍ وعصي على الوصف، وأشار إلى الحوذيّ بالانصراف. ومن هذه النقطة، صار من الواضح أننا تجاوزنا الحد السياسي غير المرئي، ويلاحظ المرء تغييراً مفاجئاً ليس فقط في الأزياء ولكن في في بنية وسحنات البشر. إنهم الآن أطول، وأفتح بشرةً، وأجود عرقاً. يرتدي يالرجال قبعات غليظة من الجلد العاري. (والنساء لم يعدن يكشفن سيقانهن، ولم تعد شعورهن مغطاة بالمناديل الحمراء والصفراء). يرتدين نوعاً من اللباس البيرني المكون من معطف قصير أسود، وقطعة من القماش الأسود على هيئة الجسد مثل صدار في حجم الجسم تماماً، وبطانة بيضاء وأكمام طويلة تصل إلى المرفقين، ومئزر أزرق كبير، وقبعة مستديرة سميكة، مثل قبعة الرجال.
بحلول هذا الوقت خرجت بيلمو من مدى النظر، وأصبحت روشيتا إلى الوراء في الجهة اليسرى، ومرت سورابيس، وما زالت الجبال الجديدة ترتفع أمامنا على مد البصر. إلى اليسار تستمر في الحقيقة سلسلة الروشيتا، قمة بيك دي ميزودي وجرف بيكولونغو، يبرزان مثل صف من الأسنان الحادة. وبمحازاتها ولكن على بعد ميل واحد على الأقل صوب أعلى الوادي، نجد سهل توفانا الكبير يشرئب في شموخ ساخط، تعلوه صخرة رائعة، مثل هرم من الجرانيت الأحمر. أما إلى اليمين فهنالك إفريز خيول جبل كريستالو الفاتن من القمم البرتقالية، يشكل خلفية عظيمة لكورتينا ذات الأسقف المتزاحمة، والأبراج الشاهقة، والمراعي الخضراء.
وعليه فقد أصبحنا في النهاية أمام المكان الذي سنقيم فيه طيلة الأسبوع القادم وقد شارفت الرحلة الرائعة على نهايتها. نحن بالفعل على بعد خمسة عشر ميلا إنجليزيا (أي من تاي إلى كورتينا)، وقد رأينا حوالي ستة من أشهر مواقع الدولميات، ثلاثة منها على الضفة اليمنى وثلاثة على الضفة اليسرى لنهر بويتا. ويتجاوز أربعة من الستة هذه ارتفاع 10.500 قدم، بينما انتيلاو، كما أعتقد، يبعد عن اثنين فقط من منافسيه، هما مارمولاتا وسيمون ديلا بالا على وجه التحديد. والأشكال الرائعة والجديدة من هذه الجبال العملاقة، وألوانها الغريبة، وغموض تكوينها، وفرادة مواقعها النسبية، حيث كل منها يكون أقرب إلى جاره، بيد أنّه في حد ذاته يكون مميزاً ومختلفاً، والحقيقة العجيبة أنها جميعها متقاربة جداً في الارتفاع، وفي الأسماء، التي بخلاف اسماء الجبال الأخرى جميعاً ذات صدىً عالٍ، وفخم، مثل أطلال لغات ما قبل التأريخ، جميع هذه المواقع والحقائق في تركيبة مفاجئة تربك المخيلة، وتترك المرء حائراً في البداية أمام تنوعها وسرعة حدوث التأثير بعد الآخر في الذاكرة. وهكذا اتسمت بحس الراحة ذاك، خليط من الدوار والدهشة والإعجاب.
الطريق العلوي، كورتينا
والآن أصبح الطريق الذي كان يهبط تدريجياً على طول عدة أميال، يدخل إلى كورتينا على ارتفاع مائة قدم فوق مستوى نهر بويتا. وفي البداية بدا منزل أو اثنان متفرقين، ثم لمحة من الكنيسة القديمة، والدير، والمقبرة، وملعب الرماية، في الغور بجانب النهر، ثم شارع طويل غير منتظم من المزارع، والفنادق، والمتاجر المتواضعة، وبرج الجرس الجديد، فخر القرية، 250 قدماً في ارتفاعه، ومكتب البريد في زاوية الميدان الصغير الذي يحتوي على نافورة عامة، وفي النهاية اشيلا نيرا ، كونه المنزل الأخير في المكان، وهو فندق مبني على الطراز التيروليّ الحقيقي، مثل سفينة نوح الهائلة، بصفوف فوقها صفوف من النوافذ المربعة ذات المصاريع الخضراء الفاقعة، والسقف الضخم بأفاريزه المعلقة، التي تبدو كما لو أنّها على وشك أن تقفز مثل غطاء زجاجة لتسمح للحيوانات الموجودة داخلها بالهرب. هذه إذن هي وجهتنا، وهنا نقترب من آخر النهار، فنسير خلال القرية ونحثُّ الخطى إلى الباب مع سائقنا بحيويته المعتادة، كما لو أنّه لم يخط الشيب فوديه أو لم يقد خمسة وثلاثين ميلاً اليوم، وأربعة وثلاثين ميلاً البارحة، كان نشطاً جداً، وقد خرج لتوه من الإسطبل. آل غديناس، أب وولداه، خرجا ليرحبا بنا، لم يبد عليهما كثير اهتمام، بيد أنّ الكاتبة على كل حال تذكر اسماً كبيراً، هو اسم !!Francis Fox Tuckett فرانسيس فوكس تاكت وهي ذات تاثير مثل التعويذة على الثلاثي المتألق. تنطلق نيتهم الطيبة إلى الأمام في مزيج سخيف بين الألمانية والإيطالية. كيف للسينيورة أن تكون صديقة للسيد "إل تاكت"- السنيورة الكبيرة الشجاعة" والتي عم صيت إنجازاتها في إنحاء هذه الوديان جميعها؟ ألا ينبغي أن يكون المنزل بكامله طوع أمرها؟ هناك! الأشيلا نيرا سوف تبرر التوصية ب"تاكت الشجاع!" وها نحن ننزل هنا. صاحب المنزل العجوز يضع ربطة عنق بُنيَّة كبيرة الحجم، والأيدي تتصافح في كل مكان. تم استدعاء النادلة، وحظينا بتخصيص أفضل الغرف لنا، كان الطباخون (ويبدو أنَّ هنالك الكثيرين منهم في ذلك المطبخ الكبير الكئيب) قد شرعوا في إعداد العشاء، ووضعت لنا طاولة على الرصيف، والذي كما عرفنا لاحقاً أنّه مكان لاستقبال ضيوف الشرف في جميع الفنادق في تيرول الدولميت، وكل ما يملكه الاشيلا نيرا مسخر لما فيه فائدتنا.
إنّه نُزلٌ تيرولينيٌ شامل، ونظيف بلا أدنى شك، كما أنّه مجهزّ جيداً، وأوسع كثيراً مما كنا نتوقع العثور عليه في أكثر قرى هذه المنطقة أهمية. تميزت الغرف بالرحابة، بيد أنّ أثاثها لم يكن مكتملاً. فهناك القليل من المفارش المصنوعة من جلود الذئاب والشامواه تتوزع هنا وهناك: ولكن لا يوجد بساط مثل الذي يستخدم لتغطية الأرضية في أي مكان في الفندق.
وفي الملحق، المبنى الجديد على الجانب المقال من الطريق، والمزين بطريقة ساحرة بالجداريات الخارجية التي نفذها أحد أفراد آل غدينا الصغار الذي كان فناناً في فيينا- وهنالك غرف أصغر، بأسرة معدنية جيدة، وبعض وسائل الراحة الحديثة. ولكنا لم نك نعلم شيئاً عن هذا الأمر حتى يوم أو يومين عقب ذلك، وسررنا عندئذٍ بالانتقال إلى المنزل الأكثر هدوءاً، بيد أنّ ذلك كلفنا عبور الشارع لتناول الوجبات في كل مرة.
فيما يخص الطعام، كانت هنالك عدة قوانين قاسية. عن الطيبات فحدِّث ولا حرج، أما اللحم، والسجق، والبيض، والجبن، والملفوف المخلل فهنالك الكثير منها.
الرعاة، والأدلة، والمزارعون-الفلاحون والمسافرون من كل الدرجات يأكلون، ويشربون، ويدخنون طوال اليوم في الغرف العامة، التي يوجد منها على الأقل أربع في الطابق الأرضي من البيت الكبير. كانت مدخنة المطبخ تنفث الدخان، والطباخون يصنعون الطعام، والماء يتدفق من الصنابير " من الصباح حتى المساء النديّ." لقد وصلنا في مساءً مفعم بالندى، وحللنا في جو مشحون بروائح التبغ والثوم- وغضب قرابين اليوم المتراكم.
مع الحشد الكبير هذا، على أية حال، هذا الطقس كله، كان يتعين على أغنى وأكثر المسافرين نجاحاً أن يعرض نفس اللحوم والمشروبات مثل أفقرهم. النوع الوحيد من النبيذ الذي يحتفظ به غيدينا في قبوه هو نبيذ فينو باربيرا البيدومنتي الخام العتيق، والذي تكلف الزجاجة منه فرنكين تقريباً، فإن كنت لا تحب ذاك، فعليك شرب البيرة، أو النبيذ الريفي الخفيف الأحمر أو الكحول المعقم المسبب للغثيان والمصنوع من جذر نبات صغير الحجم يشبه إلى حد كبير عشبة لسان الحمل أو نبتة موز الجنة الإنجليزية. وهنالك نوع أقل جودة من كريسشوزر والذي أعتقد أنّه هو الآخر سيئٌ، أو على الأقل كنوع من البراندي، ولكني أشك إن كان بالإمكان العثور على نقطة واحدة منه في الريف كله بدءاً من بيلونو وحتى برونيك.
بالنسبة للبقية، يعتبر الفندق لا بأس به، يشعر المرء بالحاجة إلى عشيقة في المكان. فوالد غيدينا، أرمل ثري، وابناؤه الأقوياء الثلاثة جميعهم غير متزوجين، يعيشون في المنزل ويشرفون على إدارة المنزل والإسطبلات ولكن بامتعاض بادٍ كما لو أنّهم مجبرون. وخيولهم بالمناسبة من أجود الخيول لدرجة لا تتناسب مع خشونة العمل الريفي، بينما في المبنى المجاور توجد عربة كبيرة بأربع عجلات، وعربة صغيرة تكفي لشخصين، وثلاث أو أربع عربات متوسطة، وسرج! كيف سنرى هذه الأداة في هذا المكان، وهي في حد ذاتها ليست بالشيء النادر ولا الجميل، كيف أنّها ستحتل المكانة الأولى في عواطفنا ورغباتنا، كيف تنافسنا مع جميع الوافدين على امتلاكها، وكيف تذللنا، واستعرناها، وأخيراً سرقناها.
في هذا الأثناء وصلنا متأخرين ومتعبين، وكنا سعداء بالحصول على غرف واسعة في منزل كبير، والتماشي مع الجو العام، وتنشق القديد، وسماع المحتفلين في الدور الأرضي يسهرون لوقت طويل بعد أن خلدنا إلى النوم، وحتى عندما أيقظتنا الصرخة الداوية لحارس القرية في عدة مرات أثناء ساعات الليلة الظلماء تلك. ربما لم يكن بالشيء الذي يتفق على إثارته زمرة النجارين أول شيء في صباح الغد في الشارع وهم يلقون بأكداس الخشب الثقيلة، وهم يسيرون في طوابير بجانب الطريق، ينشرون، ويصخبون بما يكفي لإيقاظ الموتى أيضاً وليس الأحياء فقط. ولهذا، على أي حال، وكما هو الحال في كل الأمور السيئة، هنالك تعويض، وقد كان عزاؤنا عظيماً عندما عرفنا أنَّ عيد الساغرو السنوي، أو احتفال الكنيسة، سوف يقام في غضون أيام قليلة، وأنَ أصدقاءنا الصاخبين في الخارج كانوا قد شرعوا بالفعل في نصب الأكشاك استعداداً للمعرض السنوي الذي يعقد بالتزامن مع العيد. إنّه أهم معرض في جميع هذا الجزء النمسوي بالإضافة إلى تيرول الإيطالية، ويشارك فيه عادةً ما بين ألف ومائتين وألف وخمسمائة من المزارعين من كل هضبة أو وادٍ على دائرة تقارب ثلاثين ميلاً حول كورتينا.
______________________________________
*الأطوال النسبية لدولمايت امبيزو،ي كأقرب تحديد لها، هي كالآتي: انتيلاو 15.838 قدم، سورابيس 10.798قدم، توفانا، 10724 قدم، كريستالو، 10.644 قدم، بيلمو، 10.377 قدم، ولا روشيتا، 7.793 قدم.
______________________________________
جبل انتيلاو
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles