قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الرابع - في كورتينا

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الرابع
في كورتينا
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
----
تقع كورتينا على الضفة الغربية من نهر بويتا، الذي يجري هنا من الشمال إلى الجنوب، حيث ممر تري كروسيه الذي يبدأ من باتجاه نهاية البلدة، وممر تري ساسيه الذي يتمدد أمامه باتجاه الغرب من جهة أخرى. كما تقع كورتينا في سهل واسع نسبياً بين أربعة جبال هائلة، وبالتالي فهي أكثر أماناً من خطر الانهيارات ليس في وادي امبيزو فقط بل في المنطقة المتاخمة كلها.
وهي لذات السبب أكثر اعتدالاً في الصيف عن كابريلي، وأغوردو، وبريميرو، وبريدازو: والتي تنحصر بشدة بطوق من المرتفعات المحيطة بها على الرغم من أنّها –جميعاً- تمثل مراكز، و محطات توقف، كما أنّها تمتاز عليها أيضاً من عدة نواح.
يتميز مناخ كورتينا بالاعتدال على مدار العام. ويقدر بول ارتفاع القرية ب4048 قدماً فوق سطح البحر. وأكّد لي أحد كهنة الأسقفية- وهو رجل مُسنٌ لمّاح كرّس سنوات طويلة من عمره لجمع أزهار الامبيزو- أنّ درجة الحرارة لم تكن أبداً أقل من 15 درجة*- من الجليد حتى في أكثر فصول الشتاء برداً. واكتسبت التربة لهذا كله مظهراً قاتماً وقاحلاً، وتنبت الذرة )والتي تدعى هنا (grano Turcoغثة وهذيلة: أما الكروم فغير معروفة في هذه الأنحاء. لم تكن الزراعة آنذاك من اختصاصات إقليم امبيزو ثال. فقد كانت المراعي والغابات هي مصادر ثروة كورتينا الأساسية. بيد أنّ الغابات تدهورت في السنوات الأخيرة بسبب الإسراف في قطع الأخشاب من قبل الكمونة أيضاً، كإحدى تبعات ارتفاع قيمة الخشب بشكل مطرد، الشيء الذي يهدد مصالح كورتينا في المستقبل. أما الآن، على أية حال، فإنَّ ملامح الازدهار بادية على جميع النُزل والفنادق والمباني العامة. فالسكان يتمتعون بالتغذية الجيدة والهندام الجميل. كما أنّ مهرجاناتهم ومعارضهم تعتبر الأكثر أهمية في جميع منطقة جنوب شرق تيرول، وكنيستهم الرئيسية هي الأكبر في هذا الجانب من ضاحية القديس أولريتش، ويبلغ ارتفاع برج الجرس القوطي الجديد 250 قدماً، وربما كان مناسباً لتزيين ساحة مدينة مثل بيرغامو، أو بيلونو. بالمدينة حوالي 700 نفس، ولكن الكثافة السكانية لأهالي الكمونة تصل إلى 2500 نسمة. حيث ينخرط السواد الأعظم منها في تجارة الأخشاب، شيوخاً وشباباً، أغنياء وفقراء، رجالاً ونساءً، وأطفالاً. بعضهم يقطع الخشب، وبعضهم ينقله. ويرسله الأغنياء على الشاحنات التي تسحبها الخيول الأصيلة والتي تعمل فوق طاقتها في العادة. ينظّم الفقراء أنفسهم في فرق للعمل من ستة أو ثمانية من الرجال والنساء والصبية معاً، وهكذا- و تحت شمس الصيف المحرقة- يقومون بسحب الأحمال التي تبدو كما لو أنّها أكبر من قدرة فيل. كان الخروج عادةً قبل إفطار الصباح في اليوم التالي لوصولنا كورتينا، أول منظر وقعت عليه عيني كانت امرأة مسنة جداً، ربما في الثمانين من العمر، وصبيًا مريضًا قليلاً في العاشرة من عمره تقريباً، مربوطين إلى مزلجة مكدسة بما يزن طناً على الأقل من الألواح غير المنتظمة.
يقام قداس الساعة الثامنة في جميع الكنائس بالتناوب كل صباح على طول العام، وقد صادف تواجدي اليوم في الكنيسة القديمة، وهناك، تبعت مجموعة من الفتيات الفلاحات الثرثارات، تحمل بعضهن أواني الحليب، والأخريات سلال السوق في أيديهن، وقد جذبت انتباهي أزياؤهنَّ الطريفة.
اللائي دخلن الكنيسة منهن: خلعن قبعاتهن لدى الباب، مثل الرجال، وظللن حاسرات الرأس خلال القداس. وتتكون الرعية من ثلاث أو أربعة مجموعات من النساء المسنات برؤوس بيضاء نحيلة: وعدد قليل من الفتيات ذوات الرؤوس المربعة والملامح الفتيّة، بدبابيسهن الفضية في شعورهن المتعجّرة والمضفّرة، وقلة من الرجال مسنين، بسحناتهم القاسية والداكنة، وظهورهم المحدودبة حتى ليخال إليك أنهم منحوتون من خشب بني. ثم اندفعنا في صخب وسط ما يقارب الأربعمائة طفل من الجنسين، وجلسنا عىل المقاعد قرب المذبح، حيث يوجد قارع الجرس الذي رنّ في نداءٍ أخير، وجاء يعرج في الممر مرتدياً زوجاً من القباقيب الخشبية الثقيلة، وسروالاً بالياً، فأوقد الشموع على المذبح. ويظهر الآن قس في زي باللونين الأسود والذهبي، يرافقه اثنان من الشمامسة الصغار حمر القلانس، مثل ملائكة جون بيليني، وقد استهل عازف الأورغ (الذي لم تنقصه البراعة بأي حال) بمعزوفة "آه أيها الموت" على وقفات اهتزاز، وقد اتخذ المصلون وضعية الركوع وبدأت الصلاة.
في ما يخص الموسيقى، فقد كانت عرضاً من ذلك النوع الذي كلما زاد استمتاع المرء به قل ما يسمعه منه. إنه قداس أوبرالي استعراضي لمؤلف إيطالي حديث، وأورغ قصبي، وجوقة ربما تلقت تدريباً أفضل، في أداء موحد سرعان ما جعل الكاتبة تزحف باتجاه الباب.
إنّه لمن المبهج الخروج مرة أخرى في الصباح البهيّ. تشرق الشمس الآن بشهية، والهواء يضوع برائحة القش المقصوص للتو؛ والأطيار كانت تغرد ترنيمة حمدها بطريقة تصبح معها أنغام جوقة كورتينا نشازاً واضحاً. لقد كان واحداً من تلك الصباحات المضمخة بالطراوة الندية، عندما تصبح الأصوات والمناظر البعيدة أقرب بشكل خارق للعادة، وعندما تغدو الأضواء براقة على نحو غريب، والظلال شفافة، والجبال نفسها تبدو أكثر يقظة عن المعتاد. حتى جبل توفانا الذي كانت رؤيته دورى دون تلك العمامة من سحابة العاصفة شيء نادر جداً، هاهو يرتفع عالياً، وسافراً في كبد السماء.
تقع مقابر القرية قبالة الكنيسة القديمة تماماً. البوابة موارب، فدخلت وأنا لا أتوقع على وجه التحديد اكتشاف أنَّ "فناء كنيسة" هذه الكمونة الثرية مجرد قفر معشوشب، ولكنه كان كذلك. فهنا خليط من الأكوام الحجرية المبعثرة تسِم قبور الفقراء- وهناك بضعة ألواح من الرخام، والصلبان الحديدية معلقة على الجدار، تحوي سجلاً بأموات الطبقة الاعلى- وتتناثر الأعشاب الخشنة الداكنة والأشواك، والقراص، والحجارة الرخوة، والفخار المكسور، والطمي المفتت. وثمة زوج من النعوش اليدوية، وكومة من الحوامل السوداء، ومجرفة، وبكرة حبل موضوعة غير بعيد لاستخدامها تحت الرواق الحجري في الطرف الأقصى من السياج. ليس ثمة زهرة واحدة هناك، ولا همسة من الشعر أو الرثاء في المكان، لا شيء سوى عدم الاكتراث، والتدنيس، والاستخفاف. وإلى حدٍ ما ذكّرني هذا المنظر غير الجميل بأحد صناديق التبرعات الذي كنت أراه إلى وقت غير بعيد أمام مقبرة صغيرة جداً بالقرب من لوينو، وعليه النقش التالي: Messe Funerale. Nel nome della Beata Maria, carità per noi." أي (القداسات الجنائزية. نلتمس مساعدتكم باسم السيدة مريم المباركة.) لقد أتى هذا النداء كصوت من عالم الموتى، صدمني في ذلك الوقت بشدة، ولكن وجوده هنا يظل أكثر بشاعة، وأكثر انسجاماً مع المكان. وفي طريق العودة، وجدت مظلات وحوانيت من جميع الأشكال تقف على طول شارع القرية، وسياج خشبي واسع مثل السيرك انتصب في الميدان المقابل لفندق النجمة الذهبية. وملصق إعلاني كبير وملون عن مهرجان المراجيح، والبهلوانات، والإهرامات البشرية وما شابهها، ملصق على جزء خال من حائط مجاور، ويتناسب مع حجم وشكل المبنى إلى حد كبير.
" ولكن ماهو الساغرو(Sagro)؟" لقد سألت قساً شاباً كان يراقب النجارين وهم يعملون. " أهو معرض؟". " إنّه احتفال للكنيسة. سيدتي، " أجاب بنبرة مؤكدة، ومضى مبتعداً.
وسرعان ما عرفت أنَّ الساغرو هو معرض واحتفال ديني في الوقت ذاته، ويقام مرة في العام في كل قرية في ذكرى تكريس الكنيسة، أو عيد القديس الذي تكرّس له الكنيسة. وهنالك الكثير من القرى المتناثرة في البلاد، حتى قيل إنّ الساغرو يقام كل يوم من أيام السنة في مكان ما. والآن وأثناء عودتي بسرعة لتناول الإفطار وجدت آل غيدينا، مرشدنا، ومجموعة من المرشدين والفلاحين يحتشدون أمام بوابة فندق اكيلا نيرا، يحدقون في قمة وعرة تعرف باسم بي دي ميزودي، على الجهة المقابلة للوادي. وتتبادل أياديهم المناظير المقربة وسط تعابير العجب “هاهي" " السيد الشجاع!" " الإنجليزية الشجاعة!"- وغيدينا العجوز، يثبت نظارته علي عكس زاوية الحائط، يشير لي بأن أنظر "إلى هناك في الأعلى" حيث أبناء بلدي.
كان هناك سيدان إنجليزيان يقيمان آنذاك مع زوجتيهما في ملحق فندق أكيرا نيرا، ويبدو أنهما في ذلك الصباح قاما بأولى عمليات صعودهما لتلك القمة الوحيدة التي وُفق السيد جلبرت في وصفها بأنّها: " سنٌّ عجيبة من الدولمايت." وقد كانت قمة البيك نفسها لا تبدو أعلى بكثير ولا أوعر، ولكنني علمت بعد ذلك أنّها كانت شديدة الانحدار وبها تصدّع، ولذلك فقد تكبدا مشقة عظيمة في تسلقها. لقد أثبت منظار غيدينا جودته، وقد رأيت بشكل واضح شخوص المتسلقين ومرشديهم واقفين معاً على أعلى القمم، تحت قبة السماء مباشرة.
وبما أننا كنا ننوي قضاء بعض الوقت في كورتينا، وبالتالي القيام ببعض الرحلات ما كان ذلك سهلا وفي متناول اليد، قررنا تكريس اليوم الأول هذا للتعرف على "وضع" البلاد. وقد كانت الطريقة الأكثر فعالية لإنجاز هذه المهمة بالطبع هي تسلق بعض المرتفعات، وقد استعنّا ببرنامج النزهات المكتوب الخاص بغيدينا، واتفقنا على قضاء وقت الصبح في التسكع في المدينة، وثم التمشية حتى كريبا دي بيلفدير بعد الغداء- وهو منزل صيفي، أو مقر للصيادين، وقد برز منتصباً على مد البصر في مواجهة أحد الجروف المشرفة على كورتينا، على بعدٍ تقارب الساعة والنصف من السير المعتدل من القرية، وحوالي عشرين دقيقة إلى يسار مفترق الطرق على الشارع المؤدي إلى ممر تري ساسيه. أما البلفدير فيبدو كبقعة بيضاء صغيرة مقابل صخرة في أحد الجروف الحمراء وسط امتدادٍ طويلٍ لغابة من أشجار التنوب، وتُرى من خلال نوافذ الفندق وهي ماثلة أمام عيني المتسلق طوال الطريق.
وفي هذه الأثناء- على أية حال- تناولنا إفطارنا، وكتبنا رسائلنا، وطالعنا الرسومات واللوحات الجصّية في المنزلين وحولهما، ورتبنا لتبديل أماكن إقامتنا إلى الغرف الأكثر هدوءاً وتجهيزاً على الجهة المقابلة. وقد تبين لنا أنّ اثنين من ابناء غيدينا الأصغر سناً كانا رسامين؛ والثالث كان ينحت ببراعة على الخشب، والرابع (رجل رزين وعملي متفانٍ في عمله، يهتم بالاسطبل وتجارة الخشب) كان يعزف الترومبون في جوقة القرية.
كان المنزلان حافلين بالكثير من الرؤوس والدراسات بألوان الزيت وتصميمات الصور الكبيرة، والرسومات التمهيدية لمواضيع مختلفة. رأس لرجل ذي لحية في واحدة من الغرف العلوية للفندق، وصورتان نصفيتان لوالده ووالدته في غرفة المعيشة، يجوز استخدامها كعينات لمهارة رسم الوجوه لدى الابن، بينما تتناثر بعض الجصيّات الخارجية في الملحق، اثنتان في الكنيسة الجديدة، وشتى أنواع التصميمات المكتملة وغير المكتملة، وبعض التصاميم العسكرية، والدينية، وبعض الوحوش، على جدران السلالم، ومظلات العربات، وواجهات منزل الجيران وهلم جراً، تمثل سمو مواهب وثقافة الأخ الذي يعيش في فيينا. وفي ما يخص زينة الملحق، فهي مفعمة بالقوة، وأضف إلى سلامة الرسم، وبراعة التصميم المنتمي إلى مدرسة ميونخ، رقة ودفء الألوان الإيطالية في الغالب.
وتنتشر ثلاث مجموعات كبيرة تمثل النحت والمعمار والتلوين، والعلوم الطبيعية، وثلاث ميداليات تشتمل على صور للوجه لرافائيل وتيتيان، والبرت دورر، لتغطي- في ما عدا النوافذ- جميع المساحات الخالية من الجدران فويق الأرضية. وهنالك تجسيد لشخصية عطارد في المجموعة الأولى، وأورانيا في الأخيرة، وتستحق طريقة المعالجة التصويرية لأشياء جامدة مثل المحرك البخاري، وآلة التصوير، وجهاز التيلغراف اهتماماً خاصاً. ولألبرت دورر، باعتباره ألمانياً حقيقياً، يجود الفنان بالمكان الأوسط بين الميداليات. اما فرسان الكوزاق، والأحصنة البرية فقد كانت مختلفة بيد أنّها نفذت بطريقة لا تقل جودة، وكذلك الرجال المسلحون من القرون الوسطى، الذين يتقاتلون في جميع أنحاء الجدران البيضاء لخارج المبنى واسطبلات الفندق، وحدث ولا حرج عن الشيطان المذهل، وجميع الأنياب والمخالب التي تكشر في وجه العملاء المطمئنين أمام المطبخ في الصيدلية الوحيدة بكورتينا. لقد أرسلنا في طلب الفنان لكنه كان بعيداً في فيينا ولم يكن مرسمه مغلقاً فقط كما قيل لنا بل خالياً أيضاً.
كان من الواضح أنّ صعود برج الجرس، وإلقاء نظرة إلى مشهد القرية يعتبر من أول واجبات الزوار، وعليه فقد وجدنا الباب مفتوحًا وقارع الجرس المسنّ بالداخل فصعدنا بمشقة إلى الأعلى، ما يزيد ارتفاعه عن برج بيزا المائل بحوالي مائة قدم. ووقفنا هنا على البهو الخارجي فوق مستوى الأجراس الضخمة، فأصبحت القرية والوادي دوننا. ولم يشتمل المنظر سوى على القليل جداً من المناطق التي لم نرَها بعد، كان المنظر جميلاً على استدارة البرج، وقد ساعدنا ذلك على ترسيخ المعالم الرئيسية في الذاكرة.
يفتح الامبيزو تال باتجاه الشمال والجنوب، والممران التوأمان تري كروسيه وتري ساسيه، يقطعانه باتجاه الشرق والغرب. وتعرفنا على شيء من طبوغرافية المنطقة عندما ترسخت في أذهاننا حقيقة أنَّ لاندرو وبرونيك يقعان إلى الشمال، وبيرارولو إلى الجنوب، وأنَّ أورونزو كان يقع في مكان ما على الجانب الآخر من ممر تري كروسيخ، ويلزمه حتى يصل إلى كابريل أن يمر عبر تري ساسيه.
وقد كنا نعرف أنّ مارمولاتا وسيفيتا يقعان على جانب كابريل، ومارمارول على جانب نهر اورونزو فقط من خلال خرائطنا. وأنَّ باليمو الذي تركناه خلفنا البارحة، كان يشرف حتى الآن فوق حافة الروشيتا، وقد تميزت قمة تري ساسيه إلى جهة الغرب بمجموعة من الصخور الرائعة، التي تشبه إلى حدٍ كبير أبراج وحصون أطلال قلعة كما تبدو لنا من أول وهلة. " ولكن ماهو ذاك الجبل البعيد باتجاه الجنوب؟" سألنا مشيرين إلى اتجاه بيرارولو.
" أيَ جبل سيدتي؟"
" ذاك الجبل، الذي يبدو مثل واجهة كاتدرائية ذات برجين."
أظلّ قارع الجرس عينيه بيدٍ مرتعشة، وجال ببصره أسفل الوادي.
" إيه، إنّه جبل على الجانب الإيطالي" (E una montagna della parte d’Italia).
" ولكن ما اسمه؟"
"إيه" كرر عبارته وألحقها بنظرة حيرى، " لا أعرف لم ألحظ وجوده من قبل chi lo sa? "
وأصبح الآن جبلاً وحيداً جداً، وواحداً من أكثر الجبال التي شاهدناها أثناء هذه الجولة تفرداً وأشدها روعة. كان يشبه واجهة كاتدرائية نوتردام بالضبط، وبه كتلة صخرية رفيعة واحدة مثل سارية العلم، تتجه إلى الأعلى من أحد ابراجها ذات الفتحات. لقد كانت واضحة من معظم المواقع على الضفة الغربية لنهر بويتا، ولكني اكتشفت أنَّ أفضل منظر يمكن الحصول عليه عبر النظر من الأرض المرتفعة خلف كورتينا، بالسير أعلى الحقول في اتجاه غدير بيغونتينا. ومن هناك قمت بتنفيذ رسمي التمهيدي المرافق، وقد عدنا لهذه النقطة مراراً وتكراراً ليغشانا الانبهار في كل مرة، ربما بسبب الغموض الذي كان يكتنفها، وبتلك التضاريس المهيبة لهذا الجبل المجهول الذي منحناه اسم نوتردام، فهو أكثر ما يليق به من أسماء.
جبل مجهول بالقرب من كورتينا
ولأنّ قارع الجرس لم يكن الوحيد الذي يجهله. فقد سألنا من أردنا، وتلقينا ذات الإجابة الغامضة من الجميع- لقد كان جبلاً على الجانب الإيطالي. لا يعرفون أكثر من ذلك، والبعض، مثل صديقنا في برج الجرس، " لم ينتبه له من قبل" حقاً.
ماذا نفعل مع حرارة الظهيرة القائظة، التي زادت من مشقة هذه المهمة، وجعلت السير السريع ضرباً من المستحيلات: مع الزهور البرية الجميلة التي تغوينا عن طريقنا على الدوام، ومع الحديث إلى الفلاحين في الطريق، نتوقف لدراسة المشهد، والرسم التمهيدي، وما إلى ذلك، وبعد كل ذلك لم نصل قط إلى شاليه البلفيدير. لقد اقتربنا منه كثيراً- على أية حال- وحصلنا على منظر يطل على الوادي، مجموعة كريستالو، وسلسلة الكرودا مالكورا. وكذلك أيضاً كرّست الكاتبة ساعة من وقتها لتنفيذ رسم تمهيدي بعناية لجبل انتيلاو، والذي يبدو هنا كأبهى ما يكون، من هضبة معشوشبة بالقرب من مفترق الطرق تحت الكريبا. ولم يكن ثمة موقع أفضل للحصول على مشهد رائع كهذا، على حد ما أعرف، للمنحدر الجليدي العظيم على ظهر القمة مع الركائز المتصدعة التي تتساقط باتجاه بوركو وفودو في المقدمة.
أول تسلق لأعلى قمة في هذا الجبل، قام به المتسلق المشهور غرومان في عام 1863، والثاني يُنسب للورد فرانسيس دوغلاس في 1864 صاحب الذكرى المشئومة يرافقه السيد ف. ل. لاتهام، واثنان من المرشدين ماتيو اوسي وسانتو سيوربايس. وقد كان الأخير رجلاً شجاعاً، وقويًا ومؤمنًا، سافر معنا مؤخراً في الخريف إلى سلسلة الألب الإيطالية، وعبر ضاحية زيرمات، وقد اكدّ لي أنّ اللورد فرانسيس كان متسلقاً ممتازاً للجبال، رغم صغر سنه، وقد وصفه بالعبارة "buono, bello, e biondino" أي (طيب، ووسيم ودمث).
لقد بدأت رحلة الصعود من ممر يدعى فورسيلا بيكولا، يفصل بين كتلتي مارمارولي وانتيلاو، ويمكن الوصول إليه بسرعة شديدة من سان فيتو. و تعزى صعوبتها- كما يقال- إلى للمنحدر الثلجي الطويل المذكور آنفاً، وهذا الجبل إلى ارتفاع محدد، يعتبر أسهل من أيٍ من جبال الدولميت العظيمة ما عدا مارمولاتا، ولكن تميّز الأخير بالقنة الفعلية، التي يبلغ ارتفاعها "بانحدارها الهائل" ثلاثمائة قدم أو نحوها، وتنثني مثل قرن. وقد اعتبر الوصول إليها مستحيلاً قبل الدكتور غرومان، عندما قام أحد المرشدين من كورتينا باكتشاف ميمون لأحد الصدوع ففتح الطريق أمام خبير تسلق الصخور الألماني وجميع من يأتون بعده. ويستطيع المتسلق الماهر الصعود من سان فيتو والعودة إليها في إحدى عشرة ساعة، عدا أوقات الراحة.
كان السكان الريفيون يأخذون طريق العودة إلى منازلهم على مراعي جبل افيراو، بينما كنا نسير مرة أخرى في برودة المساء الباكر- يحمل البعض دلاء الحليب الفارغة، بعد بيع ألبانهم في كورتينا، ويحمل الآخرون مؤونتهم من الخبز والدقيق الذي اشتروه للتو. يتسوّل واحد أو اثنان بعض النقود في شيء من المسكنة " من أجل محبة الله [per l’amor di dio]" ولكن السواد الأعظم منهم يمرون بخطوات حثيثة، وابتسامة راضية، وتحية صباحية أو مسائية مفعمة بالسرور. [Guten Abend, buona sera].
أشخاص يتميزون بالتحضر والود بحقٍ كما خبرناهم في فترة وجيزة! أشخاص أسخياء بالأمنيات الطيبة والتحايا الودودة المقتضبة، والتي حتى إن لم يقولوا غيرها بالطبع، فهي تساعد على الحفاظ على الروح الدافئة للنوايا السليمة؛ فإن مروا عبر الغرفة حيث تتناول طعامك، يتمنون لك " شهية طيبة،" وإن كنت خارجاً،" نزهة جميلة"، وإن كنت في طريقك إلى الفراش، " نوماً هانئاً وأحلاماً سعيدة." وإن كنت مسترخياً فيتمنون لك "الهناء"، تعطس، فيقولون "صحةً وسلامة". وكنا جلوساً ذاك المساء على المائدة لتناول وجبة عشاء خفيفة أو ربما كاملة أو الاثنتين معاً. كان نشاز الطبول والآلات النحاسية في الشارع قد أعلن بداية الوجبة. إنهم مجموعة من الأكروباتية الجوالة الذين وصلوا لتوهم، وكانوا يسيرون في شوارع البلدة، يتبعهم الصبية والعاطلون في المنطقة، أكثر من نصف دزينة من الرياضيين في أزيائهم التقليدية من سترات لحمّية اللون وعصابات الرأس، و حولهم مثلهم من النسوة البشعات ذوات العضلات المفتولة، يسرن على الطريق الغبراء في أحذيتهن البيضاء وتنوراتهن القصيرة الزاهية. وبدا أنَّ "المسرح" سيفتتح في الغد، بيد أنَّ مهرجان الساغرو لن ينعقد قبل يوم الأحد.
وقد هبت العاصفة– أخيراً- في اليوم الثالث بعد نزولنا بكورتينا، بعد أن استغرقت وقتاً طويلاً في الاستعداد. وقد تنقل بنا الحمّال مستعيناً بثقته في قدراته، وقد نفذت طاقة احتماله بعدما تحملّ منا ومعنا. والآن وعلى أية حال كان الاحتمال القريب بالزحف بين الممرات وفوق الجبال، أو الذهاب في جولة على ظهر بغل لأيام متتالية، والعيش لعدة أسابيع قادمة في فنادق تيرول التي تقل كثيراً في مستوى ما توفره من راحة عن اكيلا نيرا، أمراً أكبر من فلسفة ذاك الرجل العظيم. لقد قال إنّه أدرك عدم وجود طرق معبدة لمرور العربات التي تجرها الجياد في معظم المناطق التي تظهر على خرائطنا، وليس من سكن ملائم كما اعتاد عليه أثناء سفره مع المجموعات التي كانت تثق برأيه"، ولذلك توسّل إلينا لمنحه إجازة ملطفاً طلب الاستقالة، كما طلب مستحقاته لدينا. لقد كان حسّ التشرد لدينا أكبر من طاقته، وقد تخلى عنّا (إن جاز التعبير، والتي ربما اتخذت شكل الفصل في أوجز حالاته( في وقت أضحت فيه حماية رجل محترم وجدير بالثقة شرطاً ضرورياً لرحلتنا. وليس ثمة حاجة لإضافة أنّ طلب الإخطار قبل أسبوعين من وقف الخدمة قد رُفض رسمياً، فحوسب على عمله وأنهيت خدمته. أما ل. التي احتفظت به لعدة أشهر قبل التحاقنا بالبعثة في نابولي، فقد حولّت العلاقة كلها بدرجة من المرح المدمر فقلّصت من وضعه كمرتكب مخالفة إلى مهزلة من المهانة والضعة. وقد بذل جهداً كبيراً لتأكيد عدم اكتراثه عن طريق لعب الكرات الخشبية أمام الفندق، ولكنه ابتعد في الظهيرة كثيرا حتى وصل إلى مشارف لانغاروني شنيل فاغن وهو في غاية الاكتئاب. والآن ما العمل؟ هل بإمكاننا المضي قدماً والاكتفاء بالمرشدين فقط، وبدون حمّال؟ أو ربما ينبغي التخلي عن الجولة وسط قلب البلاد الجامح، كما لو أنها ليست سوى لمحة لأرض الميعاد؟ يجب أن نجد الإجابات الشافية على هذه الأسئلة قبل أن نشرع في رحلة ليوم واحد لما وراء دروب كورتينا.
وكمسألة اختيار فنحن دون شك نفضّل عدم وجود صديقنا الناقم. لقد كان الأمر بدونه جميلاً في الحقيقة، إلى حد أنّ ل. قالت إنّها شعرت كما لو أنّ عقداً من الأحجار الثقيلة قد انزاح عن جيدها، ولكن فيما يخص مدى جدوى الأمر، فقد كان تقصيره مزعجاً لحدٍ لا يختلف عليه اثنان. فهل كان على أية حال ليُستبدل بحمّال آخر، ليس من ذلك النوع من الأدوات التي لم تكن معروفة في هذه الأودية البدائية، ولكن بأحد الرجال المسؤولين، مثل سانتو سيوربايس على سبيل المثال، الموصى به مسبقاً، والذي اشتهر بكونه أفضل قائد مرشدين في كورتينا.
وقد كانت الخطوة الأولى الضرورية هي الإرسال في طلبه وعرض المشاركة في الرحلة بكاملها عليه. لقد جاء: من شعب الجبال، ذو شعر أسود وعينين مشرقتين، في الأربعين من العمر تقريباً، وصائد شامواه قدير: محارب سابق في الجيش النمسوي، وهو الآن يعمل ضمن حرس الغابات، ومفتش طرق محلي: شخص نشط وشغوف، لونه أحمر مثل التوت، والصدق مكتوب على جبينه، وسلوكه يتسم بالحيوية والشفافية إلى حد أنّه حظى بحبنا من النظرة الأولى.
ولكن لسوء الحظ، على أية حال، كان لدى هذا المرشد العظيم التزام يمتد حتى الأسابيع الستة أو الثمانية القادمة، وقد لا يتمكن من التفرغ لنا على الإطلاق. ولم يكن لديه صديق، إذ سألناه عمن يمكن أن يحلّ محله؟ فاحتار، وبدا عليه الشك. وقال إنّ هنالك لاسيديللي، لكنه شيخ كبير السن، وهنالك لاسيديللي الصغير ولكنه صغير جداً. وهنالك أيضاً شخصٌ يدعى آنجلو، ولكنه بعيد عن الديار، وربما لا يعود قبل شهر. ومرة أخرى، معظم الرجال في كورتينا كانوا يجيدون مهارة التسلق بشكل عام، ولكنهم لم يعتادوا على السفر مع السيدات. حسناً ربما أعاد التفكير في ذلك، وأخبر السيدة بذلك. ولكن هل سيخبرنا نحن؟ هذا المساء؟ لقد هز رأسه. سوف يكون مشغولاً هذا المساء ليشرع في رحلة لوادٍ بعيد مع مجموعة من السادة الرجال الذين سيصعدون الجبل غداً. لا، لم يستطع أن يعد برؤيتنا قبل يوم الأحد، لكنه سينتظرنا آنذاك حتى نهاية القداس الكبير.
وهذا كل ما استطعنا الحصول عليه منه. لم يكن كافياً وبدأنا نشعر بإرهاصات فشل خططنا.
في هذه الأثناء، على كل حال، لم يكن القنوط مجدياً. فكان هنالك الكثير مما يجب عمله في كورتينا، مهما حدث. لقد استطعنا الذهاب إلى بياف دي كادوري، وأورنزو، ولاندرو عبر طرقات صالحة لسير العربات التي تجرها الجياد. لقد استطعنا رؤية السروج المزدوجة الجوانب. وتمكنا أيضاً من التنقل على العربة التي يدعوها صاحب المنزل "كاريتا" حتى وصلنا إلى فالزاريغو، الاستراحة التي تقع في قمة ممر تري ساسيه، ومن ثم حظينا بإطلالة على مارمولاتا.
وأثناء لحظة الشك هذه، بعثت إثارةُ مسألة السرج مزدوج الجوانب هذه قبل كل شيء، بعضَ الراحة في النفوس. وبمناسبة قدرتنا على القيام بالرحلة إلى النهاية، فقد كانت هذه السروج أكثر أهمية بالفعل من جيش من الحمّالين، و لم نكن لنستطيع إنجاز أي شيء بدونها في طريق القمم أو الممرات. بتنا نعرف من معلوماتنا السابقة أنّ مدام بيزيه، صاحبة النُزُل في كابريلي، تملك سرجاً كان قد جُلب في الحقيقة من إنجلترا، وعرض عليها لاستخدامها الخاص من قبل ف. ف. ت. وهنالك ملاحظة مقنعة قدمت الكاتبة في صياغتها باللغة الإيطالية أفضل ما لديها، ولذلك أُرسلت مع مبعوث خاص، تلقى تعليمات بإعادة هذا الغرض الثمين محمولاً على كتفيه إن كان ذلك ممكناً.
وكان غودينا الكبير يقتني واحداً مثله، ولكن ربما لتكهنه بأنَّ استعارتنا له سيطول أمدها، فقد كان يتلكأ في عرضه علينا. ولم يفعل حتى نجحت الكاتبة في تعقبه يوماً ما إلى داخل الإسطبل، فقُدِر لهذا الكنز الغامض أن يرى النور. وقد ثبت أنّه سرج جيدٌ جداً، ولكنها كان واحداً فقط، وحتى إن استطعنا الحصول على السرج الخاص بمدام بيزيه، فلابد من إيجاد سرج ثالث.
إنني أتوقع وصول سرج سيدة ما من فيينا، " غمغم صاحب الدار العجوز، بلهجته العامية متعددة اللغات. " Ein, schöner Sattel" : وهو سرج جميل.
"متى سيصل؟" سألت في نفاذ صبر
" اللعنة! لا أعرف. ربما الليلة- ربما الأسبوع القادم. لقد ظللت أترقب وصوله كل يوم طيلة الشهور الثلاثة الماضية!"
تملكني اليأس كليةً.
افترَّ ثغر الرجل العجوز عن ابتسامة عريضة، وله وجه مسطح بنّي يبدو كما لو أنّ أحدهم جلس عليه، وربت على كتفي فبدت أظافره مثل مخالب النمر البنغالي. "ويحك، ويحك" واستطرد " إنّك سيدة شجاعة، لا تدعي اليأس يسيطر عليك. سوف نصنع حشية للمهرة وسيكون كل شيء على ما يرام!".
كان هذا الوعد بالحشية مبهمًا لكنّه يبعث على الراحة. لم يكن لدي أدنى فكرة عما ستكون عليه هذه الحشية، ولم يقل لي غيدينا سوى ما لم تكن عليه. فهي ليست سرجًا جانبيًا. وهي ليست كرسياً. ولا مقعدًا مسيّجًا مع مسند للقدم مثل سروج الحمير المخصصة للأطفال. وهي تصنع عند الحاجة إليها، وينبغي أن تكون جاهزة عند الطلب. ولم نستطع الحصول على أكثر من هذا، وهاهنا تتوقف هذه القضية وجميع الأحداث الراهنة. أرسلنا في طلب العربة في الصباح لتأخذنا إلى فالزيراغو. ربما كان من الصعب علينا ذكر السبب لكنْ كنا نتوق بشدة لرؤية مارمولاتا، ولم نسترح حتى استطعنا على الأقل أن نلمحه من بعيد. أولاً وقبل كل شيء كان هو الأكثر ارتفاعاً في منطقة الدولمايت، وثانياً كثافة حقول الجليد والثلج التي تغلفه كانت هي الأشد من بين الجبال المحيطة به، وثالثاً، لأنّه كان محاطاً من كل الجوانب بالمرتفعات الجبلية حتى إنّه من الصعب جداً رؤيته.
كان الصبح غائماً. وجبل توفانا يعتمر قبعة من السحاب، ورغم أنّ الشمس كانت مشرقة جداً في بعض الأوقات، إلا أنّ هنالك لمحة غامضة حول الركام الذي ما فتأ يتدحرج فغلب علينا التردد إلى ما قبل الساعة الحادية عشرة بقليل. ثم بشرنا غودينا العجوز بخصوص الطقس، فقررنا المجازفة.
لن أنسى الفزع الذي انتابني عندما رأيت العربة لأول مرة. لقد كانت عبارة عن حوض من الخشب على أربع عجلات، تبلغ سبع أقدام طولاً وثلاثة ونصف قدم عرضاً، وبها لوح خشب عرضي للجلوس. كان الحصان بلون الكستناء الفاتح الرائع، يرتفع إلى حوالي سبعة عشر شبراً، وله ياقة جلدية كبيرة مثل قبة ذات أبراج فوق العربة على الطراز الاليصاباتي، وصبي جلس على الأعمدة ليقود. ولم يكن بالعربة أية نوابض (يايات لامتصاص الصدمات)، ولا وسائد، ولكن هنالك بعض الحُصُر والسجاد مكومة بوفرة، وهكذا انطلقنا.
يقع طريقنا على جسر، ويمر بمفترق الطرق الذي توقفنا عنده للراحة، والرسم قبل يوم أو يومين. ومرة أخرى أصبح المشهد الرائع فوق الوادي منبسطاً كلفيفة من تحت أقدامنا.
ومرة أخرى بدت جبال كريستالو، وكرودا مالكورا وسورابيس وانتيلاو ترتفع مع ارتفاعنا، وتوفانا يبدو أقرب وأكثر تهديداً مع كل خطوة في مسيرنا. وها نحن الآن نصعد أعلى فأعلى بين المنحدرات الخضراء الفاتنة بزهورها البرية، وخلال غابات الصنوبر المزهرة مع نوْر الشليك، وتجاوزنا الآن مشهد كورتينا، ومررنا بالقرب من الواجهة الجنوبية الشرقية لجبل توفا- قريباً جداً حتى إننا رأينا بوضوح فم المغارة الشهيرة التي يقال إنّها تمتد لمئات الأقدام في قلب الجبل. وعندما تُرى من تري ساسيه، فإنّ الوصول إليها يبدو مستحيلاً- جحر أرنب في وجه جرف رأسي مثلث، مثل بوابة الهرم الأكبر. وهذه المغارة على أية حال من المواقع السياحية لكورتينا، ويمكن الوصول إليها بدون مشقة عند تراكم الثلج على المنحدرات الواقعة أسفلها.
والآن بينما نصعد إلى الأعلى، منعطفين حول آخر أكتاف جبل توفانا، تلوح لنا أولى مرتفعات جبل لاغازوي، وبدأت جماعات الفلاحين تترى أمام أنظارنا، اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، وفي بعض الأحيان اثني عشر أو خمسة عشر، بعضهم يحمل أثقالاً من الأطناف المنسوجة منزلياً، وأقمشة الكتان على ظهورهم؛ وبعضهم مثّقل كاهله بالأواني الخشبية؛ والبعض بالدواجن الحية؛ وجميعهم يرتدون ملابس العيد، وقد احتشدوا من أجل مهرجان ساغرو الرائع. لم يفرق بينهم عمر ولا طبقة، شيباً وشباباً، مزارعين، وعمال مزارع، من عرق قصير بدين، نضر المحيا، صادق القسمات، سيقان نسائهم كالأعمدة، ويتراوح متوسط الطول لدى الرجال بين خمسة أقدام وخمس بوصات إلى خمسة أقدام وسبع بوصات. ويرتدي الرجال سراويل قصيرة حد الركبة، ومعاطف هزلية صغيرة من الصوف، غاية في القصر ومنتفخة عند الأطراف، باثنين من الأزرار الكبيرة الموضوعة في منتصف الظهر، كزوج من العيون. يرتدي الشباب منهم البناطيل والسترات المطرزة، وتعتلي قبعاتهم حزماً صغيرة من الريش الملون والزهور الصناعية. أما أزياء الفتيات فهي مبهرجة للغاية، ولا تشبه أي شيء نعرفه. فهنَّ يرتدين قبعات مثل الرجال، مزخرفة على النحو ذاته، وتنانير خضراء أو زرقاء أو بنية غامقة اللون، ذات طيات مغلقة مثل التنانير الاسكتلندية، وتبدأ من بين الكتفين، مثل الكيس؛ وتفتح الصدريات من الأمام ولها أربطة أرجوانية مجدولة من قماش الساتان، والأكمام ضيقة عند الساعد والكوع، ولكنها منتفخة في الأعلى بمساعدة بطانة من الكتان الأبيض، وحول الأعناق قماش قرمزي اللون، ومناديل قطنية صفراء مطبوعة.
وتساءلنا " ما هولاء الناس؟"، إذ بدا أمام أعيننا أول ظهور لهم عند ثنية الطريق. وهو الأمر الذي أجاب عليه الصبي السائس ضاحكاً، وهو شاب طيب يدعى جيوفاني، هؤلاء هم مزراعون من بوشنشتاين، ولوفينالونغو وكورفارا.
" ولكن كورفارا بعيدة جداً عن هذا المكان" قالت ل. متعجبة، وهي أفضل خبرة بالخرائط عني، فضلاً عن درايتها بالمسافات. "إيه! بعضهم يبعد حوالي أربعين، أو خمسين أو ستين ميلاً فوق الجبال- بعضهم يقطع المسافة سيراً على الأقدام جيئة وذهاباً هنا!" (ويلقي بنظرة فاحصة على "الأعمدة" قبل أن يقول: "وماذا تكون الأميال بالنسبة لآنسة مثل تلك!)
كنا في هذه الأثناء نعاني عذابات التشرد، لأنّ الطريق (الذي كان يتسع بالكاد لعجلاتنا، وينتهي بجرف هارٍ يشرف على سيل مزبد هادر) وعر وتتناثر علي طوله الحجارة الصغيرة، التي تتعثر عليها العربة وتصّر وتقفز وتتدحرج بطريقة مزعجة حتى إننا كنا مسرورين في النهاية بالنزول منها والسير على الأقدام.
أصبح الوادي أكثر ضيقاً، والصخور المحصنة التي رأيناها مذ كنا في كورتينا صارت الآن ترى من علٍ فوق الغابات المنحدرة على الجهة المقابلة من النهر. وقد أخبرنا جيوفاني العالم ببواطن الأمور بأنّها تسمى توريتا، وتعتبر جزءاً من قمة جبل نوفولاو، وأنّ النهر الذي يرتفع في مكان وسط معاقل لاغازوي يعرف باسم كوستيانا. الكثير والكثير من المجموعات التي تسير على الأقدام تمر بنا. وكل ما ابتعدنا ازدادت كثافتهم. هل سينامون جميعاً هذه الليلة؟ ففندقي اكيلا نيرا واستيلا دور وإن كانا بأربعة أضعاف حجمهما الحالي، فلن يتسعا لأكثر من نصفهما، وفوق ذلك هذا طريق واحد من عدد من الطرق. في هذه اللحظة كانوا يدخلون إلى كورتينا من اورونزو، ومن بياف دي كادوري، ومن جميع قرى الامبيزو تال. ويقول السائق إنّ هنالك حوالي الف وخمسمائة زائر في كورتينا اليوم. والآن وفجأة مررنا بمجموعة أفضل هنداماً عن أية مجموعة أخرى رأيناها: شابين طويلين وسيدة يبدو النبل على مظهرهم، يتبعهم رجل ريفي يحمل متاعهم على ظهره. كانت السيدة جميلة وشابة، وتضع وردة على شعرها الأسود ولا ترتدي قبعة. رفع الشابان قبعتيهما بينما كانا يمران، ويتبعهما الرجل الريفيّ بخطى متثاقلة، ينظر وعلى وجهه تعبير بالانتباه لوجودنا، ويمس قبعته. ولكن ماذا يحمل على ظهره؟ ليس متاعهما على أية حال. إنّه سرج جانبي! سرج كبير وجديد مصنوع في لندن، وبه رمانة ثالثة يمكن تثبيتها ورِكاب مبطن بالمخمل يتدلى من الوراء. لقد كان مبعوثنا الخاص- إنّه سرج مدام بيزيه!
التفتت السيدة إلى الوراء مبتسمة، لسماعها اللحن الثنائي البهيج القادم من الخلف. اقترب الشابان منا، يبتسمان أيضاً. لقد كانا ابنيْ مدام بيزيه، الملازم سيزاري بيزيه، ضابط غاريبالديّ سابق، والشاب اوغسطينو بيزيه الذي يساعد والدته في إدارة الفندق الصغير في كابريل. السيدة صاحبة الوردة في الشعر هي زوجة أوغسطينو. لقد أتوا عبر المضيق مشياً على الأقدام، يقصدون السارغو في كورتينا مثل الجميع.
ونخلص إلى أننا، بالطبع، كنا في طريقنا إلى كابريل، وقد تفاجأوا بشدة لمغادرتنا كورتينا، وعدم انتظار المهرجان، بل الدهشة لم تفارقهم عندما عرفوا أننا قطعنا كل هذه المسافة فقط لإلقاء نظرة سريعة على جبل مارمولاتا ونعود أدراجنا.
" هل سنحصل على مشهد جميل؟" سألت بشيء من القلق: لأنّ الغيوم كانت تتجمع بكآبة خلال نصف الساعة الأخيرة. فهزوا رؤوسهم. لقد كانت الأبخرة تتكثف بسرعة على الجانب الآخر كما قيل. يجب علينا أن نصعد حالاً إلى القمة، ولا ندع شيئاً يؤخرنا في الدير. كان الجبل جليّاً تماماً قبل نصف ساعة، ولكن سرعان ما أصبح عصياً على الرؤية بكامله.
لقد وضعت هذه المقابلة نهاية مفاجأة لمقابلتنا، ومع وعد باللقاء مجدداً في الغد، أُرسلنا بسرعة إلى الدير، وهو كوخ أبيض صغير على جانب الطريق، يبعد حوالي ربع ميل. تركنا عربتنا هنا، واستأذن جيوفاني ليعتني بحصانه، وأسرع وحده إلى القمة. ولم يكن علينا سوى أن نسير مع الطريق، الذي شُقّ حول منحدرات وعرة في أرض بور جرداء تحدها صخور لاغازوي من جهة، وجرف جبل نوفولاو المنخفض على الجهة الأخرى. وتصطف الأعمدة الطويلة على فترات على طول جانب الطريق، مثل أعمدة التيلغراف، كل منها عبارة عن جذع قوي من شجرة التنوب لتحديد مسار الطريق، وهو تدبير احتياطي ضروري في هذا الارتفاع الشاهق (7.073قدم) حيث يسقط الجليد بكثافة لثماني أشهر في السنة. وحتى الآن، في السادس من يوليو، يحتفظ كل شق وتجويف بمافيه من الثلج غير الذائب الذي جرفته الرياح.
والآن يبدو للعيان مفترق طرق جانبية على بعد ياردات قليلة- يسبقنا عداء سريع- وجيوفاني، يتعجب بأنفاس مخطوفة ووجه محمر:-
“Ecco, Signore! Ecco la croce! Di la vedremo, la Marmolata.”
"("انظر، أيها السيد، هناك مفترق الطرق! سنرى مارمولاتا من هناك.")
ومن هناك، وبمساعدة الحظ الحسن- النادر- نراه عياناً- كتلة ضخمة تأخذ شكل السقف، منحدرة وزلقاء، بيضاء كالثلج في مواجهة السماء الملبدة. وهو يذكرنا بالجبل الأبيض مونت بلان في اتساعه وامتداد الثلج عليه، كما يرى من هذا الجانب. ويتحسن مستوى رؤيته مع ازدياد المسافة بدلاً عن تناقصه، يبدو أنّ ذلك يُعزى إلى التباين بينه وبين المرتفعات المحيطة. يحتل المساحة المتداخلة واديا اندراز وليفينالونغو، وجبل بادون، وبحر متلاطم من القمم الصغيرة، ومع ذلك يبدو مارمولاتا وكأنّه يستأثر بالمشهد وحده.
ولكن لهنيهة قصيرة فقط! حتى بينما كنا نقف هناك، نحدّق فيه في شغف، اصبحت القمة قاتمة، تلاشت الخطوط، وانتشر على حقول الجليد لون رماديّ شاحب، ولم يبق هناك سوى شيء عملاق، مبهم بلا ملامح. لا تكاد العين تميزه من الضباب الذي اكتنفه وأحاط به. ويهتف جيوفاني متعجباً: " يا لشيطان مارمولاتا! لقد وصلت السيدات في الوقت المناسب تماماً- ولكنهن رأينه رائقاً جليّاً"pulito"."
وصارت الآن كلمة “pulito” (كلمة إيطالية تعني نظيفاً) بمعنى أو بآخر على طرف لسان جيوفاني طوال الوقت، وسرعان ما اكتشفت بعدها أنّها تستخدم بشكل عرضي لوصف ما هو واضح، أو لامع، أوناجح، أومفهوم، وعشرة معانٍ أخرى في كافة أنحاء هذا الجزء من تيرول. تصبح بغلتك "pulito"، يناسبك حذائك “pulito” ، منظارك الميداني يظهر الأشياء “pulito”. إنك تقومين بالتسلق على نحو رائع، وتتلقين الإطراء على إنجازه “pulito”. كان سائقكم ثملاً الأمسية الماضية، ولكنكم أكّدتم على أنّه "pulito"، "بمعنى السكر" هذا الصباح. باختصار هي كلمة ذات قدرات مطاطية، بيد أنّها ولهذا السبب تثير حيّرة الغرباء بعض الشيء.
تنازل المارمولاتا عن سيادة المشهد، نعود أدراجنا، عبر طريق مختصر يمر بكول الكئيب، ونجد بالمناسبة بعض الأنواع الجذابة من شجيرات الدفنة البرية (Daphne Cneorum )، والكثير من زهرة جنتيان الجبل الصغيرة (Gentiana verna )، وعناقيد من زهرة قرمزية وردية صغيرة غاية في الجمال، ولها بتلات كالشمع، صغيرة وقريبة الشبه بنبات الحزاز، ولم نر لها مثيلاً من قبل.
وصلنا إلى الدير، ونحن في أشد حالات الجوع هذه المرة، دخلنا ورحبت بنا سيدة أنيقة ومبتسمة ودعتنا إلى دخول المطبخ (نسبة لامتلاء غرفة الطعام الوحيدة بالمزارعين الذين يتناولون طعامهم ويشربون ويدخنون)- لقد كان مطبخاً نموذجياً، كأنّه في لوحة هولندية، أرضيته من القرميد الأحمر المصقول، وناره خشبية متقدة، وصفوف فوق صفوف من الآنية المصنوعة من النحاس والنحاس الأصفر تلمع كالمرايا. لقد ثبت أنّها أكثر ثراءً، على أية حال، فيما يتعلق بأواني الطبخ عنها في المؤن، لأنّها لم تكن تقدم سوى الخبز الجاف والبيض والزبد، والجبن الجبلي الرديء غير المستساغ.
وما زال البيض والزبد سبباً في نجاتنا من الموت جوعاً. وتتناول الكاتبة في لحظة إلهام سعيدة الجزء الخاص بالطبخ، وتعرض علينا ابتكار طبق يعرف باسم "البيض بالزبد"، أو بشكل أكثر تهذيباً "الأومليت السريع". وعليه استعارت مريلة طبخ، ولإدهاش صاحبة النُزُل وخادمتها، تم تحضير الخلطة الشهية في دقائق قليلة. ومن تلك اللحظة أصبحت مشهورة في فالزاريغو باسم "السيدة الطاهية" (Signora Cuoca)، وقد حُييت بذلك اللقب في زيارتي التالية للدير، ولابد أنّهم يذكرونني به حتى اليوم.
وعندما أصبحنا مستعدين للانطلاق مجدداً، كان الضباب قد ارتفع حتى قمة الممر، وبدت السماء سوداء ومنذرة في كل الاتجاهات. تنبأ بعض المزارعين في الخارج بعاصفة، ونصحونا بالنزول إلى الوادي بأسرع ما يمكن، عليه تحركت العربة بسرعة وفي صخب بينما نزلت أولى القطرات بكثافة في زخات غزيرة تصحبها أصوات الرعد البعيدة.
وقد ظلت العاصفة، إن كان ثمة عاصفة، حبيسة في الجزء الآخر من المضيق. وسرعان ما تجاوزناها، قبل أن نصل إلى المكان الذي نتجه منه إلى كريبا دي بيلفدير، حيث كانت الشمس مشرقة في بهاء رائع.
______________________________________
*على مقياس ريومور
باستثناء المحاولة من ارتفاع كبير، كقمة تري ساسيه، أو كول داليغيه، أو كول
فيورينتينو. لا أعرف حتى أي موقع يمكن أن تُرى منه .
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الرابع
في كورتينا
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
----
تقع كورتينا على الضفة الغربية من نهر بويتا، الذي يجري هنا من الشمال إلى الجنوب، حيث ممر تري كروسيه الذي يبدأ من باتجاه نهاية البلدة، وممر تري ساسيه الذي يتمدد أمامه باتجاه الغرب من جهة أخرى. كما تقع كورتينا في سهل واسع نسبياً بين أربعة جبال هائلة، وبالتالي فهي أكثر أماناً من خطر الانهيارات ليس في وادي امبيزو فقط بل في المنطقة المتاخمة كلها.
وهي لذات السبب أكثر اعتدالاً في الصيف عن كابريلي، وأغوردو، وبريميرو، وبريدازو: والتي تنحصر بشدة بطوق من المرتفعات المحيطة بها على الرغم من أنّها –جميعاً- تمثل مراكز، و محطات توقف، كما أنّها تمتاز عليها أيضاً من عدة نواح.
يتميز مناخ كورتينا بالاعتدال على مدار العام. ويقدر بول ارتفاع القرية ب4048 قدماً فوق سطح البحر. وأكّد لي أحد كهنة الأسقفية- وهو رجل مُسنٌ لمّاح كرّس سنوات طويلة من عمره لجمع أزهار الامبيزو- أنّ درجة الحرارة لم تكن أبداً أقل من 15 درجة*- من الجليد حتى في أكثر فصول الشتاء برداً. واكتسبت التربة لهذا كله مظهراً قاتماً وقاحلاً، وتنبت الذرة )والتي تدعى هنا (grano Turcoغثة وهذيلة: أما الكروم فغير معروفة في هذه الأنحاء. لم تكن الزراعة آنذاك من اختصاصات إقليم امبيزو ثال. فقد كانت المراعي والغابات هي مصادر ثروة كورتينا الأساسية. بيد أنّ الغابات تدهورت في السنوات الأخيرة بسبب الإسراف في قطع الأخشاب من قبل الكمونة أيضاً، كإحدى تبعات ارتفاع قيمة الخشب بشكل مطرد، الشيء الذي يهدد مصالح كورتينا في المستقبل. أما الآن، على أية حال، فإنَّ ملامح الازدهار بادية على جميع النُزل والفنادق والمباني العامة. فالسكان يتمتعون بالتغذية الجيدة والهندام الجميل. كما أنّ مهرجاناتهم ومعارضهم تعتبر الأكثر أهمية في جميع منطقة جنوب شرق تيرول، وكنيستهم الرئيسية هي الأكبر في هذا الجانب من ضاحية القديس أولريتش، ويبلغ ارتفاع برج الجرس القوطي الجديد 250 قدماً، وربما كان مناسباً لتزيين ساحة مدينة مثل بيرغامو، أو بيلونو. بالمدينة حوالي 700 نفس، ولكن الكثافة السكانية لأهالي الكمونة تصل إلى 2500 نسمة. حيث ينخرط السواد الأعظم منها في تجارة الأخشاب، شيوخاً وشباباً، أغنياء وفقراء، رجالاً ونساءً، وأطفالاً. بعضهم يقطع الخشب، وبعضهم ينقله. ويرسله الأغنياء على الشاحنات التي تسحبها الخيول الأصيلة والتي تعمل فوق طاقتها في العادة. ينظّم الفقراء أنفسهم في فرق للعمل من ستة أو ثمانية من الرجال والنساء والصبية معاً، وهكذا- و تحت شمس الصيف المحرقة- يقومون بسحب الأحمال التي تبدو كما لو أنّها أكبر من قدرة فيل. كان الخروج عادةً قبل إفطار الصباح في اليوم التالي لوصولنا كورتينا، أول منظر وقعت عليه عيني كانت امرأة مسنة جداً، ربما في الثمانين من العمر، وصبيًا مريضًا قليلاً في العاشرة من عمره تقريباً، مربوطين إلى مزلجة مكدسة بما يزن طناً على الأقل من الألواح غير المنتظمة.
يقام قداس الساعة الثامنة في جميع الكنائس بالتناوب كل صباح على طول العام، وقد صادف تواجدي اليوم في الكنيسة القديمة، وهناك، تبعت مجموعة من الفتيات الفلاحات الثرثارات، تحمل بعضهن أواني الحليب، والأخريات سلال السوق في أيديهن، وقد جذبت انتباهي أزياؤهنَّ الطريفة.
اللائي دخلن الكنيسة منهن: خلعن قبعاتهن لدى الباب، مثل الرجال، وظللن حاسرات الرأس خلال القداس. وتتكون الرعية من ثلاث أو أربعة مجموعات من النساء المسنات برؤوس بيضاء نحيلة: وعدد قليل من الفتيات ذوات الرؤوس المربعة والملامح الفتيّة، بدبابيسهن الفضية في شعورهن المتعجّرة والمضفّرة، وقلة من الرجال مسنين، بسحناتهم القاسية والداكنة، وظهورهم المحدودبة حتى ليخال إليك أنهم منحوتون من خشب بني. ثم اندفعنا في صخب وسط ما يقارب الأربعمائة طفل من الجنسين، وجلسنا عىل المقاعد قرب المذبح، حيث يوجد قارع الجرس الذي رنّ في نداءٍ أخير، وجاء يعرج في الممر مرتدياً زوجاً من القباقيب الخشبية الثقيلة، وسروالاً بالياً، فأوقد الشموع على المذبح. ويظهر الآن قس في زي باللونين الأسود والذهبي، يرافقه اثنان من الشمامسة الصغار حمر القلانس، مثل ملائكة جون بيليني، وقد استهل عازف الأورغ (الذي لم تنقصه البراعة بأي حال) بمعزوفة "آه أيها الموت" على وقفات اهتزاز، وقد اتخذ المصلون وضعية الركوع وبدأت الصلاة.
في ما يخص الموسيقى، فقد كانت عرضاً من ذلك النوع الذي كلما زاد استمتاع المرء به قل ما يسمعه منه. إنه قداس أوبرالي استعراضي لمؤلف إيطالي حديث، وأورغ قصبي، وجوقة ربما تلقت تدريباً أفضل، في أداء موحد سرعان ما جعل الكاتبة تزحف باتجاه الباب.
إنّه لمن المبهج الخروج مرة أخرى في الصباح البهيّ. تشرق الشمس الآن بشهية، والهواء يضوع برائحة القش المقصوص للتو؛ والأطيار كانت تغرد ترنيمة حمدها بطريقة تصبح معها أنغام جوقة كورتينا نشازاً واضحاً. لقد كان واحداً من تلك الصباحات المضمخة بالطراوة الندية، عندما تصبح الأصوات والمناظر البعيدة أقرب بشكل خارق للعادة، وعندما تغدو الأضواء براقة على نحو غريب، والظلال شفافة، والجبال نفسها تبدو أكثر يقظة عن المعتاد. حتى جبل توفانا الذي كانت رؤيته دورى دون تلك العمامة من سحابة العاصفة شيء نادر جداً، هاهو يرتفع عالياً، وسافراً في كبد السماء.
تقع مقابر القرية قبالة الكنيسة القديمة تماماً. البوابة موارب، فدخلت وأنا لا أتوقع على وجه التحديد اكتشاف أنَّ "فناء كنيسة" هذه الكمونة الثرية مجرد قفر معشوشب، ولكنه كان كذلك. فهنا خليط من الأكوام الحجرية المبعثرة تسِم قبور الفقراء- وهناك بضعة ألواح من الرخام، والصلبان الحديدية معلقة على الجدار، تحوي سجلاً بأموات الطبقة الاعلى- وتتناثر الأعشاب الخشنة الداكنة والأشواك، والقراص، والحجارة الرخوة، والفخار المكسور، والطمي المفتت. وثمة زوج من النعوش اليدوية، وكومة من الحوامل السوداء، ومجرفة، وبكرة حبل موضوعة غير بعيد لاستخدامها تحت الرواق الحجري في الطرف الأقصى من السياج. ليس ثمة زهرة واحدة هناك، ولا همسة من الشعر أو الرثاء في المكان، لا شيء سوى عدم الاكتراث، والتدنيس، والاستخفاف. وإلى حدٍ ما ذكّرني هذا المنظر غير الجميل بأحد صناديق التبرعات الذي كنت أراه إلى وقت غير بعيد أمام مقبرة صغيرة جداً بالقرب من لوينو، وعليه النقش التالي: Messe Funerale. Nel nome della Beata Maria, carità per noi." أي (القداسات الجنائزية. نلتمس مساعدتكم باسم السيدة مريم المباركة.) لقد أتى هذا النداء كصوت من عالم الموتى، صدمني في ذلك الوقت بشدة، ولكن وجوده هنا يظل أكثر بشاعة، وأكثر انسجاماً مع المكان. وفي طريق العودة، وجدت مظلات وحوانيت من جميع الأشكال تقف على طول شارع القرية، وسياج خشبي واسع مثل السيرك انتصب في الميدان المقابل لفندق النجمة الذهبية. وملصق إعلاني كبير وملون عن مهرجان المراجيح، والبهلوانات، والإهرامات البشرية وما شابهها، ملصق على جزء خال من حائط مجاور، ويتناسب مع حجم وشكل المبنى إلى حد كبير.
" ولكن ماهو الساغرو(Sagro)؟" لقد سألت قساً شاباً كان يراقب النجارين وهم يعملون. " أهو معرض؟". " إنّه احتفال للكنيسة. سيدتي، " أجاب بنبرة مؤكدة، ومضى مبتعداً.
وسرعان ما عرفت أنَّ الساغرو هو معرض واحتفال ديني في الوقت ذاته، ويقام مرة في العام في كل قرية في ذكرى تكريس الكنيسة، أو عيد القديس الذي تكرّس له الكنيسة. وهنالك الكثير من القرى المتناثرة في البلاد، حتى قيل إنّ الساغرو يقام كل يوم من أيام السنة في مكان ما. والآن وأثناء عودتي بسرعة لتناول الإفطار وجدت آل غيدينا، مرشدنا، ومجموعة من المرشدين والفلاحين يحتشدون أمام بوابة فندق اكيلا نيرا، يحدقون في قمة وعرة تعرف باسم بي دي ميزودي، على الجهة المقابلة للوادي. وتتبادل أياديهم المناظير المقربة وسط تعابير العجب “هاهي" " السيد الشجاع!" " الإنجليزية الشجاعة!"- وغيدينا العجوز، يثبت نظارته علي عكس زاوية الحائط، يشير لي بأن أنظر "إلى هناك في الأعلى" حيث أبناء بلدي.
كان هناك سيدان إنجليزيان يقيمان آنذاك مع زوجتيهما في ملحق فندق أكيرا نيرا، ويبدو أنهما في ذلك الصباح قاما بأولى عمليات صعودهما لتلك القمة الوحيدة التي وُفق السيد جلبرت في وصفها بأنّها: " سنٌّ عجيبة من الدولمايت." وقد كانت قمة البيك نفسها لا تبدو أعلى بكثير ولا أوعر، ولكنني علمت بعد ذلك أنّها كانت شديدة الانحدار وبها تصدّع، ولذلك فقد تكبدا مشقة عظيمة في تسلقها. لقد أثبت منظار غيدينا جودته، وقد رأيت بشكل واضح شخوص المتسلقين ومرشديهم واقفين معاً على أعلى القمم، تحت قبة السماء مباشرة.
وبما أننا كنا ننوي قضاء بعض الوقت في كورتينا، وبالتالي القيام ببعض الرحلات ما كان ذلك سهلا وفي متناول اليد، قررنا تكريس اليوم الأول هذا للتعرف على "وضع" البلاد. وقد كانت الطريقة الأكثر فعالية لإنجاز هذه المهمة بالطبع هي تسلق بعض المرتفعات، وقد استعنّا ببرنامج النزهات المكتوب الخاص بغيدينا، واتفقنا على قضاء وقت الصبح في التسكع في المدينة، وثم التمشية حتى كريبا دي بيلفدير بعد الغداء- وهو منزل صيفي، أو مقر للصيادين، وقد برز منتصباً على مد البصر في مواجهة أحد الجروف المشرفة على كورتينا، على بعدٍ تقارب الساعة والنصف من السير المعتدل من القرية، وحوالي عشرين دقيقة إلى يسار مفترق الطرق على الشارع المؤدي إلى ممر تري ساسيه. أما البلفدير فيبدو كبقعة بيضاء صغيرة مقابل صخرة في أحد الجروف الحمراء وسط امتدادٍ طويلٍ لغابة من أشجار التنوب، وتُرى من خلال نوافذ الفندق وهي ماثلة أمام عيني المتسلق طوال الطريق.
وفي هذه الأثناء- على أية حال- تناولنا إفطارنا، وكتبنا رسائلنا، وطالعنا الرسومات واللوحات الجصّية في المنزلين وحولهما، ورتبنا لتبديل أماكن إقامتنا إلى الغرف الأكثر هدوءاً وتجهيزاً على الجهة المقابلة. وقد تبين لنا أنّ اثنين من ابناء غيدينا الأصغر سناً كانا رسامين؛ والثالث كان ينحت ببراعة على الخشب، والرابع (رجل رزين وعملي متفانٍ في عمله، يهتم بالاسطبل وتجارة الخشب) كان يعزف الترومبون في جوقة القرية.
كان المنزلان حافلين بالكثير من الرؤوس والدراسات بألوان الزيت وتصميمات الصور الكبيرة، والرسومات التمهيدية لمواضيع مختلفة. رأس لرجل ذي لحية في واحدة من الغرف العلوية للفندق، وصورتان نصفيتان لوالده ووالدته في غرفة المعيشة، يجوز استخدامها كعينات لمهارة رسم الوجوه لدى الابن، بينما تتناثر بعض الجصيّات الخارجية في الملحق، اثنتان في الكنيسة الجديدة، وشتى أنواع التصميمات المكتملة وغير المكتملة، وبعض التصاميم العسكرية، والدينية، وبعض الوحوش، على جدران السلالم، ومظلات العربات، وواجهات منزل الجيران وهلم جراً، تمثل سمو مواهب وثقافة الأخ الذي يعيش في فيينا. وفي ما يخص زينة الملحق، فهي مفعمة بالقوة، وأضف إلى سلامة الرسم، وبراعة التصميم المنتمي إلى مدرسة ميونخ، رقة ودفء الألوان الإيطالية في الغالب.
وتنتشر ثلاث مجموعات كبيرة تمثل النحت والمعمار والتلوين، والعلوم الطبيعية، وثلاث ميداليات تشتمل على صور للوجه لرافائيل وتيتيان، والبرت دورر، لتغطي- في ما عدا النوافذ- جميع المساحات الخالية من الجدران فويق الأرضية. وهنالك تجسيد لشخصية عطارد في المجموعة الأولى، وأورانيا في الأخيرة، وتستحق طريقة المعالجة التصويرية لأشياء جامدة مثل المحرك البخاري، وآلة التصوير، وجهاز التيلغراف اهتماماً خاصاً. ولألبرت دورر، باعتباره ألمانياً حقيقياً، يجود الفنان بالمكان الأوسط بين الميداليات. اما فرسان الكوزاق، والأحصنة البرية فقد كانت مختلفة بيد أنّها نفذت بطريقة لا تقل جودة، وكذلك الرجال المسلحون من القرون الوسطى، الذين يتقاتلون في جميع أنحاء الجدران البيضاء لخارج المبنى واسطبلات الفندق، وحدث ولا حرج عن الشيطان المذهل، وجميع الأنياب والمخالب التي تكشر في وجه العملاء المطمئنين أمام المطبخ في الصيدلية الوحيدة بكورتينا. لقد أرسلنا في طلب الفنان لكنه كان بعيداً في فيينا ولم يكن مرسمه مغلقاً فقط كما قيل لنا بل خالياً أيضاً.
كان من الواضح أنّ صعود برج الجرس، وإلقاء نظرة إلى مشهد القرية يعتبر من أول واجبات الزوار، وعليه فقد وجدنا الباب مفتوحًا وقارع الجرس المسنّ بالداخل فصعدنا بمشقة إلى الأعلى، ما يزيد ارتفاعه عن برج بيزا المائل بحوالي مائة قدم. ووقفنا هنا على البهو الخارجي فوق مستوى الأجراس الضخمة، فأصبحت القرية والوادي دوننا. ولم يشتمل المنظر سوى على القليل جداً من المناطق التي لم نرَها بعد، كان المنظر جميلاً على استدارة البرج، وقد ساعدنا ذلك على ترسيخ المعالم الرئيسية في الذاكرة.
يفتح الامبيزو تال باتجاه الشمال والجنوب، والممران التوأمان تري كروسيه وتري ساسيه، يقطعانه باتجاه الشرق والغرب. وتعرفنا على شيء من طبوغرافية المنطقة عندما ترسخت في أذهاننا حقيقة أنَّ لاندرو وبرونيك يقعان إلى الشمال، وبيرارولو إلى الجنوب، وأنَّ أورونزو كان يقع في مكان ما على الجانب الآخر من ممر تري كروسيخ، ويلزمه حتى يصل إلى كابريل أن يمر عبر تري ساسيه.
وقد كنا نعرف أنّ مارمولاتا وسيفيتا يقعان على جانب كابريل، ومارمارول على جانب نهر اورونزو فقط من خلال خرائطنا. وأنَّ باليمو الذي تركناه خلفنا البارحة، كان يشرف حتى الآن فوق حافة الروشيتا، وقد تميزت قمة تري ساسيه إلى جهة الغرب بمجموعة من الصخور الرائعة، التي تشبه إلى حدٍ كبير أبراج وحصون أطلال قلعة كما تبدو لنا من أول وهلة. " ولكن ماهو ذاك الجبل البعيد باتجاه الجنوب؟" سألنا مشيرين إلى اتجاه بيرارولو.
" أيَ جبل سيدتي؟"
" ذاك الجبل، الذي يبدو مثل واجهة كاتدرائية ذات برجين."
أظلّ قارع الجرس عينيه بيدٍ مرتعشة، وجال ببصره أسفل الوادي.
" إيه، إنّه جبل على الجانب الإيطالي" (E una montagna della parte d’Italia).
" ولكن ما اسمه؟"
"إيه" كرر عبارته وألحقها بنظرة حيرى، " لا أعرف لم ألحظ وجوده من قبل chi lo sa? "
وأصبح الآن جبلاً وحيداً جداً، وواحداً من أكثر الجبال التي شاهدناها أثناء هذه الجولة تفرداً وأشدها روعة. كان يشبه واجهة كاتدرائية نوتردام بالضبط، وبه كتلة صخرية رفيعة واحدة مثل سارية العلم، تتجه إلى الأعلى من أحد ابراجها ذات الفتحات. لقد كانت واضحة من معظم المواقع على الضفة الغربية لنهر بويتا، ولكني اكتشفت أنَّ أفضل منظر يمكن الحصول عليه عبر النظر من الأرض المرتفعة خلف كورتينا، بالسير أعلى الحقول في اتجاه غدير بيغونتينا. ومن هناك قمت بتنفيذ رسمي التمهيدي المرافق، وقد عدنا لهذه النقطة مراراً وتكراراً ليغشانا الانبهار في كل مرة، ربما بسبب الغموض الذي كان يكتنفها، وبتلك التضاريس المهيبة لهذا الجبل المجهول الذي منحناه اسم نوتردام، فهو أكثر ما يليق به من أسماء.
جبل مجهول بالقرب من كورتينا
ولأنّ قارع الجرس لم يكن الوحيد الذي يجهله. فقد سألنا من أردنا، وتلقينا ذات الإجابة الغامضة من الجميع- لقد كان جبلاً على الجانب الإيطالي. لا يعرفون أكثر من ذلك، والبعض، مثل صديقنا في برج الجرس، " لم ينتبه له من قبل" حقاً.
ماذا نفعل مع حرارة الظهيرة القائظة، التي زادت من مشقة هذه المهمة، وجعلت السير السريع ضرباً من المستحيلات: مع الزهور البرية الجميلة التي تغوينا عن طريقنا على الدوام، ومع الحديث إلى الفلاحين في الطريق، نتوقف لدراسة المشهد، والرسم التمهيدي، وما إلى ذلك، وبعد كل ذلك لم نصل قط إلى شاليه البلفيدير. لقد اقتربنا منه كثيراً- على أية حال- وحصلنا على منظر يطل على الوادي، مجموعة كريستالو، وسلسلة الكرودا مالكورا. وكذلك أيضاً كرّست الكاتبة ساعة من وقتها لتنفيذ رسم تمهيدي بعناية لجبل انتيلاو، والذي يبدو هنا كأبهى ما يكون، من هضبة معشوشبة بالقرب من مفترق الطرق تحت الكريبا. ولم يكن ثمة موقع أفضل للحصول على مشهد رائع كهذا، على حد ما أعرف، للمنحدر الجليدي العظيم على ظهر القمة مع الركائز المتصدعة التي تتساقط باتجاه بوركو وفودو في المقدمة.
أول تسلق لأعلى قمة في هذا الجبل، قام به المتسلق المشهور غرومان في عام 1863، والثاني يُنسب للورد فرانسيس دوغلاس في 1864 صاحب الذكرى المشئومة يرافقه السيد ف. ل. لاتهام، واثنان من المرشدين ماتيو اوسي وسانتو سيوربايس. وقد كان الأخير رجلاً شجاعاً، وقويًا ومؤمنًا، سافر معنا مؤخراً في الخريف إلى سلسلة الألب الإيطالية، وعبر ضاحية زيرمات، وقد اكدّ لي أنّ اللورد فرانسيس كان متسلقاً ممتازاً للجبال، رغم صغر سنه، وقد وصفه بالعبارة "buono, bello, e biondino" أي (طيب، ووسيم ودمث).
لقد بدأت رحلة الصعود من ممر يدعى فورسيلا بيكولا، يفصل بين كتلتي مارمارولي وانتيلاو، ويمكن الوصول إليه بسرعة شديدة من سان فيتو. و تعزى صعوبتها- كما يقال- إلى للمنحدر الثلجي الطويل المذكور آنفاً، وهذا الجبل إلى ارتفاع محدد، يعتبر أسهل من أيٍ من جبال الدولميت العظيمة ما عدا مارمولاتا، ولكن تميّز الأخير بالقنة الفعلية، التي يبلغ ارتفاعها "بانحدارها الهائل" ثلاثمائة قدم أو نحوها، وتنثني مثل قرن. وقد اعتبر الوصول إليها مستحيلاً قبل الدكتور غرومان، عندما قام أحد المرشدين من كورتينا باكتشاف ميمون لأحد الصدوع ففتح الطريق أمام خبير تسلق الصخور الألماني وجميع من يأتون بعده. ويستطيع المتسلق الماهر الصعود من سان فيتو والعودة إليها في إحدى عشرة ساعة، عدا أوقات الراحة.
كان السكان الريفيون يأخذون طريق العودة إلى منازلهم على مراعي جبل افيراو، بينما كنا نسير مرة أخرى في برودة المساء الباكر- يحمل البعض دلاء الحليب الفارغة، بعد بيع ألبانهم في كورتينا، ويحمل الآخرون مؤونتهم من الخبز والدقيق الذي اشتروه للتو. يتسوّل واحد أو اثنان بعض النقود في شيء من المسكنة " من أجل محبة الله [per l’amor di dio]" ولكن السواد الأعظم منهم يمرون بخطوات حثيثة، وابتسامة راضية، وتحية صباحية أو مسائية مفعمة بالسرور. [Guten Abend, buona sera].
أشخاص يتميزون بالتحضر والود بحقٍ كما خبرناهم في فترة وجيزة! أشخاص أسخياء بالأمنيات الطيبة والتحايا الودودة المقتضبة، والتي حتى إن لم يقولوا غيرها بالطبع، فهي تساعد على الحفاظ على الروح الدافئة للنوايا السليمة؛ فإن مروا عبر الغرفة حيث تتناول طعامك، يتمنون لك " شهية طيبة،" وإن كنت خارجاً،" نزهة جميلة"، وإن كنت في طريقك إلى الفراش، " نوماً هانئاً وأحلاماً سعيدة." وإن كنت مسترخياً فيتمنون لك "الهناء"، تعطس، فيقولون "صحةً وسلامة". وكنا جلوساً ذاك المساء على المائدة لتناول وجبة عشاء خفيفة أو ربما كاملة أو الاثنتين معاً. كان نشاز الطبول والآلات النحاسية في الشارع قد أعلن بداية الوجبة. إنهم مجموعة من الأكروباتية الجوالة الذين وصلوا لتوهم، وكانوا يسيرون في شوارع البلدة، يتبعهم الصبية والعاطلون في المنطقة، أكثر من نصف دزينة من الرياضيين في أزيائهم التقليدية من سترات لحمّية اللون وعصابات الرأس، و حولهم مثلهم من النسوة البشعات ذوات العضلات المفتولة، يسرن على الطريق الغبراء في أحذيتهن البيضاء وتنوراتهن القصيرة الزاهية. وبدا أنَّ "المسرح" سيفتتح في الغد، بيد أنَّ مهرجان الساغرو لن ينعقد قبل يوم الأحد.
وقد هبت العاصفة– أخيراً- في اليوم الثالث بعد نزولنا بكورتينا، بعد أن استغرقت وقتاً طويلاً في الاستعداد. وقد تنقل بنا الحمّال مستعيناً بثقته في قدراته، وقد نفذت طاقة احتماله بعدما تحملّ منا ومعنا. والآن وعلى أية حال كان الاحتمال القريب بالزحف بين الممرات وفوق الجبال، أو الذهاب في جولة على ظهر بغل لأيام متتالية، والعيش لعدة أسابيع قادمة في فنادق تيرول التي تقل كثيراً في مستوى ما توفره من راحة عن اكيلا نيرا، أمراً أكبر من فلسفة ذاك الرجل العظيم. لقد قال إنّه أدرك عدم وجود طرق معبدة لمرور العربات التي تجرها الجياد في معظم المناطق التي تظهر على خرائطنا، وليس من سكن ملائم كما اعتاد عليه أثناء سفره مع المجموعات التي كانت تثق برأيه"، ولذلك توسّل إلينا لمنحه إجازة ملطفاً طلب الاستقالة، كما طلب مستحقاته لدينا. لقد كان حسّ التشرد لدينا أكبر من طاقته، وقد تخلى عنّا (إن جاز التعبير، والتي ربما اتخذت شكل الفصل في أوجز حالاته( في وقت أضحت فيه حماية رجل محترم وجدير بالثقة شرطاً ضرورياً لرحلتنا. وليس ثمة حاجة لإضافة أنّ طلب الإخطار قبل أسبوعين من وقف الخدمة قد رُفض رسمياً، فحوسب على عمله وأنهيت خدمته. أما ل. التي احتفظت به لعدة أشهر قبل التحاقنا بالبعثة في نابولي، فقد حولّت العلاقة كلها بدرجة من المرح المدمر فقلّصت من وضعه كمرتكب مخالفة إلى مهزلة من المهانة والضعة. وقد بذل جهداً كبيراً لتأكيد عدم اكتراثه عن طريق لعب الكرات الخشبية أمام الفندق، ولكنه ابتعد في الظهيرة كثيرا حتى وصل إلى مشارف لانغاروني شنيل فاغن وهو في غاية الاكتئاب. والآن ما العمل؟ هل بإمكاننا المضي قدماً والاكتفاء بالمرشدين فقط، وبدون حمّال؟ أو ربما ينبغي التخلي عن الجولة وسط قلب البلاد الجامح، كما لو أنها ليست سوى لمحة لأرض الميعاد؟ يجب أن نجد الإجابات الشافية على هذه الأسئلة قبل أن نشرع في رحلة ليوم واحد لما وراء دروب كورتينا.
وكمسألة اختيار فنحن دون شك نفضّل عدم وجود صديقنا الناقم. لقد كان الأمر بدونه جميلاً في الحقيقة، إلى حد أنّ ل. قالت إنّها شعرت كما لو أنّ عقداً من الأحجار الثقيلة قد انزاح عن جيدها، ولكن فيما يخص مدى جدوى الأمر، فقد كان تقصيره مزعجاً لحدٍ لا يختلف عليه اثنان. فهل كان على أية حال ليُستبدل بحمّال آخر، ليس من ذلك النوع من الأدوات التي لم تكن معروفة في هذه الأودية البدائية، ولكن بأحد الرجال المسؤولين، مثل سانتو سيوربايس على سبيل المثال، الموصى به مسبقاً، والذي اشتهر بكونه أفضل قائد مرشدين في كورتينا.
وقد كانت الخطوة الأولى الضرورية هي الإرسال في طلبه وعرض المشاركة في الرحلة بكاملها عليه. لقد جاء: من شعب الجبال، ذو شعر أسود وعينين مشرقتين، في الأربعين من العمر تقريباً، وصائد شامواه قدير: محارب سابق في الجيش النمسوي، وهو الآن يعمل ضمن حرس الغابات، ومفتش طرق محلي: شخص نشط وشغوف، لونه أحمر مثل التوت، والصدق مكتوب على جبينه، وسلوكه يتسم بالحيوية والشفافية إلى حد أنّه حظى بحبنا من النظرة الأولى.
ولكن لسوء الحظ، على أية حال، كان لدى هذا المرشد العظيم التزام يمتد حتى الأسابيع الستة أو الثمانية القادمة، وقد لا يتمكن من التفرغ لنا على الإطلاق. ولم يكن لديه صديق، إذ سألناه عمن يمكن أن يحلّ محله؟ فاحتار، وبدا عليه الشك. وقال إنّ هنالك لاسيديللي، لكنه شيخ كبير السن، وهنالك لاسيديللي الصغير ولكنه صغير جداً. وهنالك أيضاً شخصٌ يدعى آنجلو، ولكنه بعيد عن الديار، وربما لا يعود قبل شهر. ومرة أخرى، معظم الرجال في كورتينا كانوا يجيدون مهارة التسلق بشكل عام، ولكنهم لم يعتادوا على السفر مع السيدات. حسناً ربما أعاد التفكير في ذلك، وأخبر السيدة بذلك. ولكن هل سيخبرنا نحن؟ هذا المساء؟ لقد هز رأسه. سوف يكون مشغولاً هذا المساء ليشرع في رحلة لوادٍ بعيد مع مجموعة من السادة الرجال الذين سيصعدون الجبل غداً. لا، لم يستطع أن يعد برؤيتنا قبل يوم الأحد، لكنه سينتظرنا آنذاك حتى نهاية القداس الكبير.
وهذا كل ما استطعنا الحصول عليه منه. لم يكن كافياً وبدأنا نشعر بإرهاصات فشل خططنا.
في هذه الأثناء، على كل حال، لم يكن القنوط مجدياً. فكان هنالك الكثير مما يجب عمله في كورتينا، مهما حدث. لقد استطعنا الذهاب إلى بياف دي كادوري، وأورنزو، ولاندرو عبر طرقات صالحة لسير العربات التي تجرها الجياد. لقد استطعنا رؤية السروج المزدوجة الجوانب. وتمكنا أيضاً من التنقل على العربة التي يدعوها صاحب المنزل "كاريتا" حتى وصلنا إلى فالزاريغو، الاستراحة التي تقع في قمة ممر تري ساسيه، ومن ثم حظينا بإطلالة على مارمولاتا.
وأثناء لحظة الشك هذه، بعثت إثارةُ مسألة السرج مزدوج الجوانب هذه قبل كل شيء، بعضَ الراحة في النفوس. وبمناسبة قدرتنا على القيام بالرحلة إلى النهاية، فقد كانت هذه السروج أكثر أهمية بالفعل من جيش من الحمّالين، و لم نكن لنستطيع إنجاز أي شيء بدونها في طريق القمم أو الممرات. بتنا نعرف من معلوماتنا السابقة أنّ مدام بيزيه، صاحبة النُزُل في كابريلي، تملك سرجاً كان قد جُلب في الحقيقة من إنجلترا، وعرض عليها لاستخدامها الخاص من قبل ف. ف. ت. وهنالك ملاحظة مقنعة قدمت الكاتبة في صياغتها باللغة الإيطالية أفضل ما لديها، ولذلك أُرسلت مع مبعوث خاص، تلقى تعليمات بإعادة هذا الغرض الثمين محمولاً على كتفيه إن كان ذلك ممكناً.
وكان غودينا الكبير يقتني واحداً مثله، ولكن ربما لتكهنه بأنَّ استعارتنا له سيطول أمدها، فقد كان يتلكأ في عرضه علينا. ولم يفعل حتى نجحت الكاتبة في تعقبه يوماً ما إلى داخل الإسطبل، فقُدِر لهذا الكنز الغامض أن يرى النور. وقد ثبت أنّه سرج جيدٌ جداً، ولكنها كان واحداً فقط، وحتى إن استطعنا الحصول على السرج الخاص بمدام بيزيه، فلابد من إيجاد سرج ثالث.
إنني أتوقع وصول سرج سيدة ما من فيينا، " غمغم صاحب الدار العجوز، بلهجته العامية متعددة اللغات. " Ein, schöner Sattel" : وهو سرج جميل.
"متى سيصل؟" سألت في نفاذ صبر
" اللعنة! لا أعرف. ربما الليلة- ربما الأسبوع القادم. لقد ظللت أترقب وصوله كل يوم طيلة الشهور الثلاثة الماضية!"
تملكني اليأس كليةً.
افترَّ ثغر الرجل العجوز عن ابتسامة عريضة، وله وجه مسطح بنّي يبدو كما لو أنّ أحدهم جلس عليه، وربت على كتفي فبدت أظافره مثل مخالب النمر البنغالي. "ويحك، ويحك" واستطرد " إنّك سيدة شجاعة، لا تدعي اليأس يسيطر عليك. سوف نصنع حشية للمهرة وسيكون كل شيء على ما يرام!".
كان هذا الوعد بالحشية مبهمًا لكنّه يبعث على الراحة. لم يكن لدي أدنى فكرة عما ستكون عليه هذه الحشية، ولم يقل لي غيدينا سوى ما لم تكن عليه. فهي ليست سرجًا جانبيًا. وهي ليست كرسياً. ولا مقعدًا مسيّجًا مع مسند للقدم مثل سروج الحمير المخصصة للأطفال. وهي تصنع عند الحاجة إليها، وينبغي أن تكون جاهزة عند الطلب. ولم نستطع الحصول على أكثر من هذا، وهاهنا تتوقف هذه القضية وجميع الأحداث الراهنة. أرسلنا في طلب العربة في الصباح لتأخذنا إلى فالزيراغو. ربما كان من الصعب علينا ذكر السبب لكنْ كنا نتوق بشدة لرؤية مارمولاتا، ولم نسترح حتى استطعنا على الأقل أن نلمحه من بعيد. أولاً وقبل كل شيء كان هو الأكثر ارتفاعاً في منطقة الدولمايت، وثانياً كثافة حقول الجليد والثلج التي تغلفه كانت هي الأشد من بين الجبال المحيطة به، وثالثاً، لأنّه كان محاطاً من كل الجوانب بالمرتفعات الجبلية حتى إنّه من الصعب جداً رؤيته.
كان الصبح غائماً. وجبل توفانا يعتمر قبعة من السحاب، ورغم أنّ الشمس كانت مشرقة جداً في بعض الأوقات، إلا أنّ هنالك لمحة غامضة حول الركام الذي ما فتأ يتدحرج فغلب علينا التردد إلى ما قبل الساعة الحادية عشرة بقليل. ثم بشرنا غودينا العجوز بخصوص الطقس، فقررنا المجازفة.
لن أنسى الفزع الذي انتابني عندما رأيت العربة لأول مرة. لقد كانت عبارة عن حوض من الخشب على أربع عجلات، تبلغ سبع أقدام طولاً وثلاثة ونصف قدم عرضاً، وبها لوح خشب عرضي للجلوس. كان الحصان بلون الكستناء الفاتح الرائع، يرتفع إلى حوالي سبعة عشر شبراً، وله ياقة جلدية كبيرة مثل قبة ذات أبراج فوق العربة على الطراز الاليصاباتي، وصبي جلس على الأعمدة ليقود. ولم يكن بالعربة أية نوابض (يايات لامتصاص الصدمات)، ولا وسائد، ولكن هنالك بعض الحُصُر والسجاد مكومة بوفرة، وهكذا انطلقنا.
يقع طريقنا على جسر، ويمر بمفترق الطرق الذي توقفنا عنده للراحة، والرسم قبل يوم أو يومين. ومرة أخرى أصبح المشهد الرائع فوق الوادي منبسطاً كلفيفة من تحت أقدامنا.
ومرة أخرى بدت جبال كريستالو، وكرودا مالكورا وسورابيس وانتيلاو ترتفع مع ارتفاعنا، وتوفانا يبدو أقرب وأكثر تهديداً مع كل خطوة في مسيرنا. وها نحن الآن نصعد أعلى فأعلى بين المنحدرات الخضراء الفاتنة بزهورها البرية، وخلال غابات الصنوبر المزهرة مع نوْر الشليك، وتجاوزنا الآن مشهد كورتينا، ومررنا بالقرب من الواجهة الجنوبية الشرقية لجبل توفا- قريباً جداً حتى إننا رأينا بوضوح فم المغارة الشهيرة التي يقال إنّها تمتد لمئات الأقدام في قلب الجبل. وعندما تُرى من تري ساسيه، فإنّ الوصول إليها يبدو مستحيلاً- جحر أرنب في وجه جرف رأسي مثلث، مثل بوابة الهرم الأكبر. وهذه المغارة على أية حال من المواقع السياحية لكورتينا، ويمكن الوصول إليها بدون مشقة عند تراكم الثلج على المنحدرات الواقعة أسفلها.
والآن بينما نصعد إلى الأعلى، منعطفين حول آخر أكتاف جبل توفانا، تلوح لنا أولى مرتفعات جبل لاغازوي، وبدأت جماعات الفلاحين تترى أمام أنظارنا، اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، وفي بعض الأحيان اثني عشر أو خمسة عشر، بعضهم يحمل أثقالاً من الأطناف المنسوجة منزلياً، وأقمشة الكتان على ظهورهم؛ وبعضهم مثّقل كاهله بالأواني الخشبية؛ والبعض بالدواجن الحية؛ وجميعهم يرتدون ملابس العيد، وقد احتشدوا من أجل مهرجان ساغرو الرائع. لم يفرق بينهم عمر ولا طبقة، شيباً وشباباً، مزارعين، وعمال مزارع، من عرق قصير بدين، نضر المحيا، صادق القسمات، سيقان نسائهم كالأعمدة، ويتراوح متوسط الطول لدى الرجال بين خمسة أقدام وخمس بوصات إلى خمسة أقدام وسبع بوصات. ويرتدي الرجال سراويل قصيرة حد الركبة، ومعاطف هزلية صغيرة من الصوف، غاية في القصر ومنتفخة عند الأطراف، باثنين من الأزرار الكبيرة الموضوعة في منتصف الظهر، كزوج من العيون. يرتدي الشباب منهم البناطيل والسترات المطرزة، وتعتلي قبعاتهم حزماً صغيرة من الريش الملون والزهور الصناعية. أما أزياء الفتيات فهي مبهرجة للغاية، ولا تشبه أي شيء نعرفه. فهنَّ يرتدين قبعات مثل الرجال، مزخرفة على النحو ذاته، وتنانير خضراء أو زرقاء أو بنية غامقة اللون، ذات طيات مغلقة مثل التنانير الاسكتلندية، وتبدأ من بين الكتفين، مثل الكيس؛ وتفتح الصدريات من الأمام ولها أربطة أرجوانية مجدولة من قماش الساتان، والأكمام ضيقة عند الساعد والكوع، ولكنها منتفخة في الأعلى بمساعدة بطانة من الكتان الأبيض، وحول الأعناق قماش قرمزي اللون، ومناديل قطنية صفراء مطبوعة.
وتساءلنا " ما هولاء الناس؟"، إذ بدا أمام أعيننا أول ظهور لهم عند ثنية الطريق. وهو الأمر الذي أجاب عليه الصبي السائس ضاحكاً، وهو شاب طيب يدعى جيوفاني، هؤلاء هم مزراعون من بوشنشتاين، ولوفينالونغو وكورفارا.
" ولكن كورفارا بعيدة جداً عن هذا المكان" قالت ل. متعجبة، وهي أفضل خبرة بالخرائط عني، فضلاً عن درايتها بالمسافات. "إيه! بعضهم يبعد حوالي أربعين، أو خمسين أو ستين ميلاً فوق الجبال- بعضهم يقطع المسافة سيراً على الأقدام جيئة وذهاباً هنا!" (ويلقي بنظرة فاحصة على "الأعمدة" قبل أن يقول: "وماذا تكون الأميال بالنسبة لآنسة مثل تلك!)
كنا في هذه الأثناء نعاني عذابات التشرد، لأنّ الطريق (الذي كان يتسع بالكاد لعجلاتنا، وينتهي بجرف هارٍ يشرف على سيل مزبد هادر) وعر وتتناثر علي طوله الحجارة الصغيرة، التي تتعثر عليها العربة وتصّر وتقفز وتتدحرج بطريقة مزعجة حتى إننا كنا مسرورين في النهاية بالنزول منها والسير على الأقدام.
أصبح الوادي أكثر ضيقاً، والصخور المحصنة التي رأيناها مذ كنا في كورتينا صارت الآن ترى من علٍ فوق الغابات المنحدرة على الجهة المقابلة من النهر. وقد أخبرنا جيوفاني العالم ببواطن الأمور بأنّها تسمى توريتا، وتعتبر جزءاً من قمة جبل نوفولاو، وأنّ النهر الذي يرتفع في مكان وسط معاقل لاغازوي يعرف باسم كوستيانا. الكثير والكثير من المجموعات التي تسير على الأقدام تمر بنا. وكل ما ابتعدنا ازدادت كثافتهم. هل سينامون جميعاً هذه الليلة؟ ففندقي اكيلا نيرا واستيلا دور وإن كانا بأربعة أضعاف حجمهما الحالي، فلن يتسعا لأكثر من نصفهما، وفوق ذلك هذا طريق واحد من عدد من الطرق. في هذه اللحظة كانوا يدخلون إلى كورتينا من اورونزو، ومن بياف دي كادوري، ومن جميع قرى الامبيزو تال. ويقول السائق إنّ هنالك حوالي الف وخمسمائة زائر في كورتينا اليوم. والآن وفجأة مررنا بمجموعة أفضل هنداماً عن أية مجموعة أخرى رأيناها: شابين طويلين وسيدة يبدو النبل على مظهرهم، يتبعهم رجل ريفي يحمل متاعهم على ظهره. كانت السيدة جميلة وشابة، وتضع وردة على شعرها الأسود ولا ترتدي قبعة. رفع الشابان قبعتيهما بينما كانا يمران، ويتبعهما الرجل الريفيّ بخطى متثاقلة، ينظر وعلى وجهه تعبير بالانتباه لوجودنا، ويمس قبعته. ولكن ماذا يحمل على ظهره؟ ليس متاعهما على أية حال. إنّه سرج جانبي! سرج كبير وجديد مصنوع في لندن، وبه رمانة ثالثة يمكن تثبيتها ورِكاب مبطن بالمخمل يتدلى من الوراء. لقد كان مبعوثنا الخاص- إنّه سرج مدام بيزيه!
التفتت السيدة إلى الوراء مبتسمة، لسماعها اللحن الثنائي البهيج القادم من الخلف. اقترب الشابان منا، يبتسمان أيضاً. لقد كانا ابنيْ مدام بيزيه، الملازم سيزاري بيزيه، ضابط غاريبالديّ سابق، والشاب اوغسطينو بيزيه الذي يساعد والدته في إدارة الفندق الصغير في كابريل. السيدة صاحبة الوردة في الشعر هي زوجة أوغسطينو. لقد أتوا عبر المضيق مشياً على الأقدام، يقصدون السارغو في كورتينا مثل الجميع.
ونخلص إلى أننا، بالطبع، كنا في طريقنا إلى كابريل، وقد تفاجأوا بشدة لمغادرتنا كورتينا، وعدم انتظار المهرجان، بل الدهشة لم تفارقهم عندما عرفوا أننا قطعنا كل هذه المسافة فقط لإلقاء نظرة سريعة على جبل مارمولاتا ونعود أدراجنا.
" هل سنحصل على مشهد جميل؟" سألت بشيء من القلق: لأنّ الغيوم كانت تتجمع بكآبة خلال نصف الساعة الأخيرة. فهزوا رؤوسهم. لقد كانت الأبخرة تتكثف بسرعة على الجانب الآخر كما قيل. يجب علينا أن نصعد حالاً إلى القمة، ولا ندع شيئاً يؤخرنا في الدير. كان الجبل جليّاً تماماً قبل نصف ساعة، ولكن سرعان ما أصبح عصياً على الرؤية بكامله.
لقد وضعت هذه المقابلة نهاية مفاجأة لمقابلتنا، ومع وعد باللقاء مجدداً في الغد، أُرسلنا بسرعة إلى الدير، وهو كوخ أبيض صغير على جانب الطريق، يبعد حوالي ربع ميل. تركنا عربتنا هنا، واستأذن جيوفاني ليعتني بحصانه، وأسرع وحده إلى القمة. ولم يكن علينا سوى أن نسير مع الطريق، الذي شُقّ حول منحدرات وعرة في أرض بور جرداء تحدها صخور لاغازوي من جهة، وجرف جبل نوفولاو المنخفض على الجهة الأخرى. وتصطف الأعمدة الطويلة على فترات على طول جانب الطريق، مثل أعمدة التيلغراف، كل منها عبارة عن جذع قوي من شجرة التنوب لتحديد مسار الطريق، وهو تدبير احتياطي ضروري في هذا الارتفاع الشاهق (7.073قدم) حيث يسقط الجليد بكثافة لثماني أشهر في السنة. وحتى الآن، في السادس من يوليو، يحتفظ كل شق وتجويف بمافيه من الثلج غير الذائب الذي جرفته الرياح.
والآن يبدو للعيان مفترق طرق جانبية على بعد ياردات قليلة- يسبقنا عداء سريع- وجيوفاني، يتعجب بأنفاس مخطوفة ووجه محمر:-
“Ecco, Signore! Ecco la croce! Di la vedremo, la Marmolata.”
"("انظر، أيها السيد، هناك مفترق الطرق! سنرى مارمولاتا من هناك.")
ومن هناك، وبمساعدة الحظ الحسن- النادر- نراه عياناً- كتلة ضخمة تأخذ شكل السقف، منحدرة وزلقاء، بيضاء كالثلج في مواجهة السماء الملبدة. وهو يذكرنا بالجبل الأبيض مونت بلان في اتساعه وامتداد الثلج عليه، كما يرى من هذا الجانب. ويتحسن مستوى رؤيته مع ازدياد المسافة بدلاً عن تناقصه، يبدو أنّ ذلك يُعزى إلى التباين بينه وبين المرتفعات المحيطة. يحتل المساحة المتداخلة واديا اندراز وليفينالونغو، وجبل بادون، وبحر متلاطم من القمم الصغيرة، ومع ذلك يبدو مارمولاتا وكأنّه يستأثر بالمشهد وحده.
ولكن لهنيهة قصيرة فقط! حتى بينما كنا نقف هناك، نحدّق فيه في شغف، اصبحت القمة قاتمة، تلاشت الخطوط، وانتشر على حقول الجليد لون رماديّ شاحب، ولم يبق هناك سوى شيء عملاق، مبهم بلا ملامح. لا تكاد العين تميزه من الضباب الذي اكتنفه وأحاط به. ويهتف جيوفاني متعجباً: " يا لشيطان مارمولاتا! لقد وصلت السيدات في الوقت المناسب تماماً- ولكنهن رأينه رائقاً جليّاً"pulito"."
وصارت الآن كلمة “pulito” (كلمة إيطالية تعني نظيفاً) بمعنى أو بآخر على طرف لسان جيوفاني طوال الوقت، وسرعان ما اكتشفت بعدها أنّها تستخدم بشكل عرضي لوصف ما هو واضح، أو لامع، أوناجح، أومفهوم، وعشرة معانٍ أخرى في كافة أنحاء هذا الجزء من تيرول. تصبح بغلتك "pulito"، يناسبك حذائك “pulito” ، منظارك الميداني يظهر الأشياء “pulito”. إنك تقومين بالتسلق على نحو رائع، وتتلقين الإطراء على إنجازه “pulito”. كان سائقكم ثملاً الأمسية الماضية، ولكنكم أكّدتم على أنّه "pulito"، "بمعنى السكر" هذا الصباح. باختصار هي كلمة ذات قدرات مطاطية، بيد أنّها ولهذا السبب تثير حيّرة الغرباء بعض الشيء.
تنازل المارمولاتا عن سيادة المشهد، نعود أدراجنا، عبر طريق مختصر يمر بكول الكئيب، ونجد بالمناسبة بعض الأنواع الجذابة من شجيرات الدفنة البرية (Daphne Cneorum )، والكثير من زهرة جنتيان الجبل الصغيرة (Gentiana verna )، وعناقيد من زهرة قرمزية وردية صغيرة غاية في الجمال، ولها بتلات كالشمع، صغيرة وقريبة الشبه بنبات الحزاز، ولم نر لها مثيلاً من قبل.
وصلنا إلى الدير، ونحن في أشد حالات الجوع هذه المرة، دخلنا ورحبت بنا سيدة أنيقة ومبتسمة ودعتنا إلى دخول المطبخ (نسبة لامتلاء غرفة الطعام الوحيدة بالمزارعين الذين يتناولون طعامهم ويشربون ويدخنون)- لقد كان مطبخاً نموذجياً، كأنّه في لوحة هولندية، أرضيته من القرميد الأحمر المصقول، وناره خشبية متقدة، وصفوف فوق صفوف من الآنية المصنوعة من النحاس والنحاس الأصفر تلمع كالمرايا. لقد ثبت أنّها أكثر ثراءً، على أية حال، فيما يتعلق بأواني الطبخ عنها في المؤن، لأنّها لم تكن تقدم سوى الخبز الجاف والبيض والزبد، والجبن الجبلي الرديء غير المستساغ.
وما زال البيض والزبد سبباً في نجاتنا من الموت جوعاً. وتتناول الكاتبة في لحظة إلهام سعيدة الجزء الخاص بالطبخ، وتعرض علينا ابتكار طبق يعرف باسم "البيض بالزبد"، أو بشكل أكثر تهذيباً "الأومليت السريع". وعليه استعارت مريلة طبخ، ولإدهاش صاحبة النُزُل وخادمتها، تم تحضير الخلطة الشهية في دقائق قليلة. ومن تلك اللحظة أصبحت مشهورة في فالزاريغو باسم "السيدة الطاهية" (Signora Cuoca)، وقد حُييت بذلك اللقب في زيارتي التالية للدير، ولابد أنّهم يذكرونني به حتى اليوم.
وعندما أصبحنا مستعدين للانطلاق مجدداً، كان الضباب قد ارتفع حتى قمة الممر، وبدت السماء سوداء ومنذرة في كل الاتجاهات. تنبأ بعض المزارعين في الخارج بعاصفة، ونصحونا بالنزول إلى الوادي بأسرع ما يمكن، عليه تحركت العربة بسرعة وفي صخب بينما نزلت أولى القطرات بكثافة في زخات غزيرة تصحبها أصوات الرعد البعيدة.
وقد ظلت العاصفة، إن كان ثمة عاصفة، حبيسة في الجزء الآخر من المضيق. وسرعان ما تجاوزناها، قبل أن نصل إلى المكان الذي نتجه منه إلى كريبا دي بيلفدير، حيث كانت الشمس مشرقة في بهاء رائع.
______________________________________
*على مقياس ريومور
باستثناء المحاولة من ارتفاع كبير، كقمة تري ساسيه، أو كول داليغيه، أو كول
فيورينتينو. لا أعرف حتى أي موقع يمكن أن تُرى منه .
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles