قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الخامس - من كورتينا إلى بياف دي كادوري

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الخامس- من كورتينا إلى بياف دي كادوري
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
-----
أشرق صباح السارغو على رنين أجراس الكنيسة بشكل استثنائي وإطلاق النار من فوهات البنادق. ابتهاجاً كانت الجماهير تيمم شطر الكنائس من الساعة الخامسة صباحاً وحتى منتصف النهار. وصار الشارع الطويل والساحة بالقرب من مكتب البريد صفاً متراصاً من الأكشاك والحوانيت الصغيرة. توافد الزوار بالمئات على جميع أنحاء البلدة: مئات في الكنائس، وبدا أنَّ جميع المنازل قد تحولت إلى نُزُل واستراحات للزوار. وأصبح الزحام سمة لجميع النوافذ والشرفات والمداخل. وقد انطلق موكب فرقة الألعاب البهلوانية في المدينة في الساعة التاسعة من هذا الصباح المشرق من يوم الأحد، وقد استمر نشاز أبواقهم وطبولهم طوال اليوم، وبمصاحبة أجراس الكنيسة وأصوات الرصاص المتقطعة من بنادق الرماة الحاذقين قرب شاطيء النهر.
يا له من حشد متنوع! ويا له من مشهد حافل وبهيج! وامتزاج للأصوات واللغات والموسيقى والأجراس والبارود! هنا تيروليّ نمسوي من توبالش إنيشن، وسيكستن ثال، لا يتحدث سوى الألمانية؛ وتيروليّ إيطالي من جانب لونغاروني، يتحدث الإيطالية فقط، وآخرون من القرى الحدودية يتحدثون اللغتين، أو لهجة مركبة من كلا اللغتين، يكاد فهمها يستحيل على غيرهم.
أزياء سكان الجبال أكثر تنوعاً من ألسنتهم. فنساء سان فيتو يرتدين الدروع الصدرية القرمزية والستان الأخضر، المزينة بأطواق عريضة مضفرة بالذهب، ومرصعة باللآليء. وتتجول نساء باستر تال وعلى رؤوسهن ما يشبه العمائم، وهي في ثقلها مثل فرو الدببة الذي يرتديه قاذفو القنابل. أما رجال فليتش فقد كادوا أن يضيعوا داخل أحذيتهم الطويلة الهائلة، المقولبة والمصممة على غرار الموضة الفرنسية من القرن الماضي على ما يبدو. وهنا أيضاً، نساء مسنّات في قبعاتهن المصنوعة منزلياً من جلد القندس، عالية المقدمة كقبعة الخادمة ومزينة بقطعة ذهبية من المطاط، وصيادون أقوياء يرتدون احزمة عريضة من الجلد، وحمالات خضراء، وقبعات ملساء متوجة، وبنادق معلقة على أكتافهم، يبدون تماما مثل كاسبر في أوبرا الصياد " Der Freischüt" وسيدات ليفينالونغو اللائي قابلناهنَّ البارحة على الممر، كن حضوراً أيضاً في أعداد كبيرة، ولكن الأزياء السائدة بالطبع هي أزياء الامبيزي. وهي تتكون من قبعة مخملية سوداء، بها باقة من الريش على الجانب، وتنورة سوداء من القماش وصدرية عليها برواز من الساتان أو المخمل الأسود، وأكمام بيضاء واسعة، ومريلة زرقاء كبيرة تكاد أطرافها الجانبية تلتقي من الخلف، ومنديل ملوّن بعض الشيء على العنق. بسيط ووقور وجذاب، هذا الفستان يناسب الصغار والكبار معاً، والقبعة المستديرة توائم الوجه الجميل في انسجام.
ونسبة لعلمنا بأنّ بداية القداس الموسيقي ستكون في الحادية عشرة صباحاً، حرصنا، كما اعتقدنا، على أن نكون في أبواب الكنيسة في وقت مناسب، ولكن ازدحمت عتبات الكنيسة قبل ربع ساعة من الموعد المضروب، وبالكاد وجدنا مكاناً نقف عليه بين الحشود. كان جسد الكنيسة بكامله كسجد واحداً فيه ما فيه من حياة وألوان ورؤوسٍ حاسرة ووجوه تنظر للأعلى. نساءُ ورجالٌ على حد سواء يحملون قبعاتهم في أيديهم. وثلاثة كهنة في ثلاث مذابح مختلفة قاموا بأداء القداس بشكل متزامن. قدم العازف على الأورغ أفضل ما عنده، وساعدته في ذلك فرقة كورتينا للآلات النحاسية بتأثير يكاد يبعث على الجنون. كان أحد عازفي آلة الترومبون، على وجه التحديد رجلًا غاضبًا، ذا وجه أحمر يرتدي قيمصاً ذا أكمام من القطن الصوفي، وينفخ منحنياً كما لو أنّه يعزم على نفخ مافي جوفه في الآلة.
وعندما يأخذ عازف الأورغ استراحته، أو يغني قائد الكورس بعض الجمل منفرداً، تحلّ فترة من الهدوء عندئذٍ يأخذ المرء أنفاسه. ولكن ما أقل هذه الاستراحات وأقصرها، وفرقة الآلات النحاسية قد أبلت بلاءً حسناً ذلك الصباح في ما عدا وقت الخطبة بالطبع.
ألقى راعي الأبرشية عظته، وكان يرتدي حلة بيضاء موشاة بالذهب. دارت خطبته حول الإيمان، وقام بشرح حديثه بشكل لا يخلو من غرابة مشيراً إلى مسائل ومواضيع متنوعة ومختلفة، ولم يكن الإيمان جزءاً رئيسياً منها بأي حال من الأحوال.
ماذا يفعل الجندي، والفنان، والمحامي، والعالم دون إيمان؟ قال متسأئلاً. لنأخذ الجندي على سبيل المثال: ما الذي يلهمه الشجاعة لمواجهة فوهات المدافع؟ الإيمان. خذوا الرسام- وما يلهمه برسم الجصيّات واللوحات في هذه الكنيسة: إنّه الإيمان. فكروا في الصبر والجهد المطلوبين لشق قناة السويس! ماهو دافع هؤلاء العمال لأداء مهمتهم الصعبة؟ الإيمان. انظر مرة أخرى إلى نفق جبل سينيز! فكر في الكيفية التي بدأ فيها هؤلاء المهندسون في الجوانب المقابلة لذلك الجبل، وفي طوله الكامل، بعد سنوات من العمل، التقى الجانبان في نقطة وسطى.
إلى أي قوى علينا أن ننسب تلك الإرادة المتوجة بذاك النجاح؟ إلى قوة الإيمان العليا والمحيية.
كانت خطبة الرجل الجيدة من هذا النوع. لقد وعظ الشعب بلغة إيطالية، وكان يسكت بعد محاولة للتعبير عما في خلده، وما استقر في دماغه الصلعاء، حاملاً منديلاً قطنياً للجيب أزرق اللون. لقد كان يوماً حاراً، وقد أرهقته البلاغة التي كان يتحراها في حديثه إلى حدٍ بعيد.
قمنا بجولة في المعرض بعد خروجنا من الكنيسة. تقام هنا المتاجر المتحركة والأكشاك لبيع جميع السلع تحت الشمس- قبعات، ومظلات، وغلايين، ومناظير، وأوانٍ، ومقالي، وأباريق الشاي، والجلد المدبوغ، والجلد غير المدبوغ، والسلال، والمغارف الخشبية، والأحذية الطويلة والقصيرة. والألحفة، والأطناف المطرزة في المنزل، والكتّان، والمناجل، وآنية الصفيح، والأواني الخشبية، والمسامير، والبراغيّ، وأدوات النجارة، والمُدى، والشوك، والملاعق، والخزف، والألعاب، والصلبان، وكتب الصلوات، والحمالات، والأربطة، وكتب الجيب، وسلاسل الفولاذ، وأزرار الأكمام، والأدوات المكتبية، والدواجن الحية، والفاكهة، والخضر، والمجوهرات الرخيصة، والأشرطة، والمطارف، والبذور، وأقفاص الطيور، ومظلات القطن من جميع الألوان. هنا أيضاً يوجد كشك لبيع الساعات اليدوية حصراً، من ساعات التورنيب الفضية الضخمة إلى ساعات جنيف الصغيرة الحجم، وربما أيضاً القيّمة منها التي قد يصل ثمنها إلى فلوريناً إنجليزياً. وبالقرب من باب الكنيسة يوجد كشك أكبر قليلاً تتكدس فيه الأعمال النحاسية التي تعود للقرون الوسطى، شمعدانات المذابح، والزنجار، والكؤوس وما شابه ذلك. بينما الذي يفصله عنه حانوت واحد فقط مزارع عجوز غامض الهيئة يشرف على برميل كبير مليء بالقش والماء، وحول سطحه تصطف الأحجار المبللة من كل الأحجام في مصفوفة متسقة ومتناسقة.
ومن اللافت في هذا الاحتفال غياب عنصر الرقص وأكشاك المرطبات. فالتيروليون المتزنون لا يرقصون كثيراً، عدا في مناسبات الزفاف، أما الوجبات، فتكتظ الفنادق الصغيرة منتصف النهار بالزائرين الذين لم يتزودوا بالطعام في رحلتهم، ويأكلون هناك بشيء من الاحتفالية. وحتى الألعاب البهلوانية، لا يبدو أنّها تجذبهم إلى حد كبير. يتجمع حشد كبير أمام العرض، وغالبا ما يمتليء الميدان بالزوار في الظهيرة، ولكن لا يبدو أنّ الكثيرين يقصدونها. إنّهم سعداء، في أغلب الحال، لسماع الحوار الفكاهي الذي يؤديه بإتقان على الرصيف الخارجي البهلوان وميري اندرو، ويؤثروا يحتفظوا بنقودهم بدلاً عن إنفاقها على مشاهدة العرض.
تتسلل الكاتبة الآن إلى الأركان وما وراء الأكشاك في محاولة لإتمام كتابة ملاحظات قليلة حول الأزياء والشخصيات، مدركة من تجاربها السابقة عدم شعبية الرسّام، ولكن كونها سهلة الاكتشاف، مما يجعل الجميع يتحلق حولها يجبرها الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما، إما استخدام قلمها بكل سرور علناً، أو ترك الأمر كله. وقد أثبت سكان الامبيزو الطيبون أنّهم اقل حساسية بهذا الصدد عن مزارعي إيطاليا أو سويسرا. فقد كانوا مسرورين لرسمهم، وتحلقوا بالعشرات، يتوسلون لتصويرهم رسماً، وقد كانوا قلقين من حذف أية تفصيلة تخص الأزياء. وقد جاءت معي إلى المنزل امرأة جميلة جدا من ليفينالونغو أملاً في الحصول على فلورين وعدتها به نظير إجراء دراسة ملونة لزيّها. لقد كانت طويلة، وذات بنية جميلة، ولم تستطع تلك السترة الفضفاضة ولا الصدرية الشبحية أن تنتقص من كمال جسدها. وكما وضعتها، وقفت، صامتة، ساكنة، وساهمة لأكثر من نصف ساعة. وقد كان لها وجه لم أر أكثر منه هيبة، ولا عذوبة، وفيه حزن لا قرار له. وعندما سألتها قالت إنّها في الثالثة والعشرين من عمرها، وتعمل كخادمة فلاحة في ليفينالونغو.
" وهل أنت غير متزوجة؟" سألتها.
" لا، سيدتي"
"ولا مخطوبة؟"
"لا سيدتي"
" لابد أنّك المسؤولة عن ذلك،" قلت
ولكنها هزت رأسها.
"أه، لا" أجابت وقد تغير لونها قليلاً: " لا يتزوج شبابنا بدون نقود. من كان ليفكر فيّ؟ إنني فقيرة جداً".
لربما أردت أن أعرف أكثر عن تأريخها، ولكن كرامتها الفطرية وتحفّظها جعلاني أشعر بضرورة عدم أطرح عليها المزيد من الأسئلة.
انتهى الرسم، ألقت عليه لمحة واحدة، وأعادت المبلغ المتفق عليه، واستدارت لتذهب. لقد أظهرت السيدة أريحية كبيرة، فلم تكن تريد أن تتلقى أجراً. بيد أنّ الإلحاح عليها لتأخذ المال جعلها تتمسك بموقفها وتمضي لحال سبيلها، ويبدو أنّ تصرفها ذاك ينبع من حسن تربيتها وليس من زهدها في الأجر، سارت على الطريق المنحدر خلف المنزل، ثم فوق الجبل بمفردها عائدة إلى الديار.
في تلك الظهيرة جاء سانتو سيوربايس مرة أخرى، يرافقه رجل شاب طويل ذو شعر أشقر وسحنة داكنة، في حوالي الثامنة والعشرين أو الثلاثين من عمره، قدمه إلينا بصفته "السيد غوسيبي غيدينا" وقال إنّ غوسيبي هذا مزارع، تزوج مؤخراً، وحسناً ما فعل. وهو ابن أخ صاحب فندقنا أكيلا نيرا. وبما أنّه ليس مرشداً محترفاً، فسوف يكون سعيداً بالسفر مع السيدات، ويساعدهن بكل ما أوتي من قوة. وهو لا يدعي معرفة جميع البلاد التي تقع داخل نطاق مشروعنا، ولكنه سوف يستعين بتعليمات سانتو المكتوبة في ما يتعلق بالمسارات، والفنادق، والبغال، والمرشدين وما إلى ذلك، وأنّه، أي سانتو، لا يساوره أدنى شك في أنَّ غوسيبي سيثبت كفاءته في جميع المهام التي يتطلبها العمل بدرجة لا تقل عنه هو نفسه.
وقد أسرنا غوسيبي بأخلاقه ومظهره بشكل خاص. لقد أحببنا جاذبيته، وذكاءه الذي كان جلياً في ما طرحه من أسئلة وما قدمه من إجابات، واهتمامه بدراسة خرائطنا وكتبنا الدليلية. وعليه سرعان ما وضعت الخطة التمهيدية. وكان عليه الاطلاع بشكل شامل على جميع المسائل ذات الصلة بالمسار، ويبقي نفسه مستعداً للالتحاق بنا في غضون يوم أو اثنين.
وفي هذه الاثناء تم الاتفاق على أنْ ندفع له ذات الأجر الذي كنا سندفعه مقابل خدمات سانتو سيوربايس: وهو تحديداً اثنان ونصف فلورين عبارة عن مستحقاته، وواحد ونصف فلورين لطعامه- ما يعادل في جملته ثمانية فرنكات، أو ستة شلنات وثمانية بنسات. وإن عنَّ لنا السفر عن طريق أي من الوسائل العامة، فعلينا فقط دفع ثمن تذكرته، ولكن يتحمل هو نفقة السكن وجميع النفقات الأخرى في الطريق.
وربما يلاحظ هنا، فوراً وعلى الدوام، أنّه قد لا يتسنى لنا اختيار الطريقة الأكثر حظاً. فغوسيبي غيدينا، المخلص، الأمين، المهذّب، النشط، الذكي غير المعتاد على مكتبه الجديد، شرع في أداء واجباته بكل تلقائية، فكان فوق توقعاتنا. كان دائماً مستعداً، مع أنّه لم يك دائماً أمام أنظارنا، وكان يهتم بأموالنا كما لو أنّها ملكه، ويفكر فينا وليس في نفسه أبداً. وكان حريصاً جداً على أن ترى السيدات كل ما تنبغي رؤيته، وعند السفر خلال ضاحية ما جديدة عليه، كان يتكبد المشاق كلها ليضيف إلى كتاب الجيب الخاص به جميع التفاصيل ما أمكنه ذلك، واضعاً في الاعتبار كل بند قد يثير اهتمامنا مما قد يقابلنا في الطريق في رحلة الغد. لقد ظل معنا، كما سيفعل خلال هذه الجولة في منطقة الدولمايت، وقد فارقنا في نهايتها وفي قلوبنا حسرات كلٌ على فراق الآخر.
أعداد ممن احتشدوا في المعرض والكنائس طوال هذا اليوم عادوا إلى ديارهم، في الظهيرة أو المساء. وطول النهار كانوا يبدون كنقاط متناثرة على جميع دروب الجبل، وظلت نداءهم الألبيّ القوي يرنّ لساعات بعد أن خلد جميع من في كورتينا إلى النوم، وشقت صمت الليل. في صبيحة اليوم التالي، على أية حال، بدا أنّ عدد زوار المعرض لم يقل عن السابق، وظل قائماً طوال اليوم الثاني بروح لم تعرف الكلل.
بدأ الصباح التالي بحفل زفاف. وقد كان ترتيب حفل العرس كما يلي: أتت في البداية فرقة الآلات النحاسية التي لا تعرف الكلل ولا الملل، ويصل عدد عازفيها إلى العشرين ونيف، ثم العروس ووزير الريس، ثم والد ووالدة العروس، ثم العريس يمشي وحده، وأخيراً أقارب وأصدقاء العروسين وقارب عددهم أربعة عشر أو خمسة عشر شخصاً.
وبهذا الترتيب ساروا مرتين على امتداد البلدة طولاً. ارتدت العروس فستاناً أسود اللون من قماش الألبكة، والصدرية القماشية السوداء والأكمام البيضاء كما هو معتاد، ثم مريلة رائعة من الحرير الأحمر والأخضر تغلق من الخلف بزوج من المشابك النحاسية الظريفة. ولم ترتد العروس قبعة، ولا أي من النساء اللواتي شهدن العرس، بل وضعن فقط الكثير من الدبابيس الفضية في شعورهن المصففة بعناية. وعند دخول الكنيسة، اتخذ الجميع مقاعدهم في الممر حتى منتصف القاعة، واتجهت الفرقة إلى الشرفة الخاصة بآلة الأورغ.
ذهب العريس الآن بنفسه إلى المذبح، وركع. وبعد أن مضى على ركوعه دقائق قليلة، رافقت الأم ابنتها إليه لتقف إلى يساره، وتركتها هناك. وبعد أن ركعا معاً لحوالي خمس دقائق أخرى، دخل الكاهن، يتبعه قارع الجرس، الذي قام بدور الكاتب. أشعل قارع الجرس زوجاً من الشموع الطويلة وقدمها للكاهن، الذي باركهما، وأعطى واحدة للعروس والأخرى للعريس. وهكذا بدأت مراسم الزفاف.
تلا الكاهن قداس الزواج بصوت خفيض وبسرعة شديدة، ولم يتوقف الا الآن لطلب الخواتم، التي سلمها إليه قارع الجرس في طبق زجاجي صغير. بارك الكاهن الخواتم، وأعطى في الأول واحداً للعريس ليضعه على إصبع العروس، ثم أعطى الآخر للعروس لتضعه على إصبع العريس. وأثناء كل هذا الوقت لم يفارقا شمعتيهما، بل نقلاها من يد لأخرى كما يتطلب الحال. وفي هذه المرحلة من المراسم أخرج العريس بعض المال وقدمه للعروس. وعندها رُش عليهما الماء المقدس، وكان في هذا ختام طقس الزواج.
تلا ذلك القداس الأكبر، كما البارحة، بالفرقة الكاملة ومصاحبة الأورغ، ظل الزوجان الجديدان طوال فترة القداس على ركبتيهما أمام المذبح، يحملان شمعتيهما المتقدتين.
وبعد فترة ليست بالقصيرة، عندما انتهى كل شيء، وكان الحضور على وشك الانصراف، نهض العريس بهدوء شديد، وسار في طريقه إلى خارج الكنيسة، تاركاً عروسه ما تزال جاثية. عندها أتت أمها مرة أخرى وقادتها إلى الخارج. أما العريس، فبدون أن يلتفت وراءه ليعرف ما حدث لها، ذهب ليلعب بالكرات الخشبية في الميدان، ومضت العروس إلى المنزل مع والديها، فخلعت زينتها، وعادت بعد فترة قصيرة ترتدي ملابسها العادية. ربما كان هذا تقليداً تيرولياً بالنسبة للأشخاص المتزوجين حديثاً، أن يتجنبوا بعضهما البعض قدر الإمكان. في كل الأحوال، فقد تسكع العريس مع الرجال، وسارت العروس مع أهلها، ولم يُشاهدا معاً بقية ذلك اليوم بطوله. ومن أجمل النزهات التي قمنا بها في ذلك الوقت كانت رحلتنا إلى لاندرو في هوليشتاين تال، حوالي اثني عشر ميلاً من كورتينا على الطريق النمسوي. وفي هذه المرة، قدم لنا صاحب الفندق عربة صغيرة على نوع جيد من النابض، ومقعد من الأمام للسائق، وقد بدا الحصان الكستنائي في طقم رائع، وزيّن رأسه بشرابات حمراء وعقد من الأجراس المجلجلة الصغيرة.
وانطلقنا مرة أخرى وجيوفاني على مقعد القيادة، مبكرين هذه المرة في صباح أغر من أيام شهر يوليو، متبعين مسار وادي الامبيزو الأعلى، بمحاذاة جبل التوفانا بطوله، وناظرين إلى قممه الثلاث على التوالي. وقد أمضينا وقتاً طويلا على الجرف، لا يقدّر ارتفاع هذا الجبل وضخامته الا من رأوه من جانبين اثنين على الأقل من جوانب مثلثه العريض: من ممر تري ساسيه على الجهة الجنوبية الغربية، ومن الطريق العالي على الشرق. المشاؤون المهرة قد يستطيعون إكمال الجولة على الجبل بنزول وادي ترافيرنانزا إن توفر لديهم الوقت، وهو الوادي الذي يفصل بين جرف توفانا وجرف جبل لاغازوي. أما القمة الهرمية على جانب ممر تري ساسيه فقد صعدها الصيادون من كورتينا مراراً وتكراراً. وقد كان صعود القمة المركزية من إنجازات د. غرومان في عام 1863.
أما الوصول إلى القمة الشمالية فقد كان في عام 1867، إذ صعدها السيد بوني الذي وصف المنظر الذي تطل عليه باتجاه برونيك وقمة فينيديجر العظيمة كواحدة من أجمل القمم في سلسلة الألب الشرقية. أما القمة الأعلى وفقاً لآخر القياسات فتبلغ حوالي 10.724 قدم تقريباً.
من كورتينا، يسير الطريق لبعض المسافة في مستوى يقارب الستين قدماً فوق مستوى حوض بويتا، ويمر الآن تحت أحد أعمدة الحلاقة والمخطط باللونين الأبيض والأحمر، والذي يبرز هنا عبر الطريق على زاوية تبلغ 45درجة. وبينا نستعد للرحيل تحت قيادته، تطير بوابة أحد الأكواخ الملاصقة، التي اتخذناها حتى الآن منزلاً مناسب الحجم فجأة فتنفتح على مصراعيها، ويلقي رجل عجوز، واهن، وضئيل الحجم بنفسه إلى وسط الطريق، ويطلب رسوماً تصل إلى 48 عملة فضية من فئة الكروزر. وبما أننا اكتسبنا قدراً من المعرفة بأساليب المنطقة، فسرعان ما عرفنا أنَّ السواري المخططة بالأبيض والأحمر تعني دائماً حاجزًا ضريبيًا. بينما يشير اللونان الأصفر والأسود إلى الخط الحدودي بين النمسا وإيطاليا.
ومن هنا يبدأ الطريق صعوداً والجبال تتقارب، قمم جديدة، تكسوها الثلوج من فوق والغابات من تحت، وظهرت في الأفق قمة بوتلشتاين، والتي كانت تتوجها قلعة حصينة شهيرة من العصور الوسطى، تسد الطريق في آخر الوادي. أما القلعة القديمة فقد سويت بالأرض عام 1867، وهنالك حديث حول قلعة حديثة ستقام في مكانها. وفي هذه المكان يبدأ الطريق في الانحراف بشدة إلى اليمين، ويرتفع خلال غابات الصنوبر، وتحت الرصيف الذي كانت تقوم عليه القلعة، تاركاً السيل الهادر بالأسفل، و يتجه شرقاً بزوايا قائمة إلى وادي الأمبيزو، الذي يسمى باللهجة المحلية "تال تيديسكو"، الاسم الذي لا يمكن العثور عليه على أية حال في خرائط ماير ولا آرتاريا. وهنا أيضاً لوح بجانب الطريق يخطرنا بأننا دخلنا ضاحية ويلزبيرغ.
أصبح الطريق الآن يمر عبر سلسلة من الساحات المشعوشبة الزكية، عبر غابات الصنوبر المحملة بالكريمسون والثمار المخروطية المخملية، ويزدان بمستنقعات الألب بلونها الرمادي الغريب. وعالم كامل من زهور الجريس البرية، والجنطيان القرمزي، ونور زهرة العاس الذهبية الغامقة، والدفنة الزهرية، وغيرها من الأزهار البرية، وبعضها جديد علينا تماماً، وهنا براعم كثيرة حتى إنَّ المساحة الرفيعة الخضراء على كل من جانبي طريق العربة تبدو كما لو أحاط بها شريط من السجاد الفارسي.
وفي هذه الأثناء وعبر ثغرات الغابة، التقطنا لمحات من قمم الدلمايت الرائعة يميناً ويساراً والتي ما تفتأ تبرز بين الفينة والأخرى في المساحة المفتوحة للأرض الخضراء على الحدود التي تصطف عليها البيوت الصغيرة الملحقة بالمزارع، ونرى قمم الكريستالينو التي يبلغ ارتفاعها (9238 قدماً) التي تبرز في تحصينات عملاقة وراء الأرض المنحدرة على الجانب الأيمن من طريقنا. والآن يعبر الطريق حوض سيل وعر، مليء بالأحجار وحاد الانحدار، ويكاد لونه الأبيض يخطف الأبصار في ضوء الشمس. نقف هنا، ونتلمس طريقنا عابرين من صخرة إلى أخرى، بينما يقود جيوفاني الحصان الكميت خلال الدروب الرملية.
والآن، وبينا نخرج من غابة الصنوبر، يظهر أمامنا جبل ضخم من جبال الدولمايت، داكن اللون كئيب الطلعة، به لطخات من اللون الأحمر، يبرز فجأة شاهقاً شامخاً إلى يسارنا ، ويبدو أنّه يكاد يسقط على الطريق.
ماهو هذا الجبل؟ وقد أخطأ جيوفاني للمرة الأولى. فيخال إليه أنّه لابد جبل كرودا روسا، لكنه ليس متأكداً. وبعثورنا على جبل، على أية حال، يقع في هذا المكان في خارطة ماير، ويدعى جبل كريبا روسا، وفي أرتاريا باسم روثواند، يسعدنا أن نخلص إلى أنّه ذات الجبل في كلا الحالتين، والاختلاف في الاسم فقط.
بخلاف جميع جبال الدولمايت الأخرى، التي رأيناها حتى الآن فإنَّ كرودا روسا لم يكن رمادياً وشاحب اللون، ولكنه بنيّ كئيب، وذو مسحة ارجوانية، مثل الجبل المعروف باسم "الدرج الأسود"، بالقرب من إنيسكورثي، في إيرلندا. وبالمضي في اتجاه سكلوديرباخ، وبالنظر إلى الخلف على جبل كرودا روسا، يفترض أنّه كان عامل تهديد على الدوام، بالصعود إلى جرف بعد آخر نحو واحدة من القمم العريضة المقببة، التي تتجمع تحتها قمم صغيرة شديدة الانحدار في لون الدم القاني.
ومن هذه الشرائط والبقع الضخمة من ذات المسحة تنساب رواسب قاحلة إلى الأسفل، كما لو أنَّ ذبحاً عظيماً قد تم هناك، في الأيام الغابرة من التأريخ.
مرورا بسكلوديرباخ، وهو فندق على جانب الطريق تبدو عليه النظافة، وصلنا إلى موقع درين. فرأينا بحيرة صغيرة لطيفة في لون الزمرد الأخضر، عليها خطوط من الظلال البنفسجية وتصل في طولها إلى ثلاثة أرباع الميل. تقف الجبال العظيمة على مقربة من جميع الاتجاهات، والغابات الغنية في أسفل منحدرات الهضاب إلى حد الماء. القمم المحتشدة، والجليد والثلوج اللانهائية لجبل كريستالو: القمة الحصينة لبيز بوبينا: والأبراج الاستثنائية لدري زينين تنضم واحدة بعد الأخرى إلى روعة المشهد. كما هو الحال بالنسبة لدري زينين فإنها تفوق في وضوحها وغرابتها جميع قمم دولمايت الامبيزو. وتبدوان من خلال الفتحات في الهضبتين المكسوتين بالغابات، تصعدان بحدة من وراء لوحة جبل بيانو التي تفرض نفسها، كما لو أنّها انبثقت من مركز الأرض، مثل زوج من الأنياب. ليس هنالك وصف مجرد بوسعه أن ينقل لأكثر القراء حصافة، أي انطباع سليم عن التضاريس، وملامح الطاقة الكثيفة لارتفاع "الطعنة"، قوة لا تقبل المقاومة. عمودان مقفران معزولان من الكبريت الشاحب، وحجر الجير الذي تتخلله خطوط برتقالية اللون، تهتز جميعها فتصبح شفرات حادة وأسنانًا تشبه أنياب سمك القرش تصعد باتجاه القمة، إنّها تكاد تتحدى قلم الرصاص، وتتحدى قلم الحبر أيضاً. ومع ذلك فإنَّ الرسم التوضيحي المرفق، يعبر بصدق يضاهي حقيقة الشكل الفعلي، ويجوز للكاتبة أن تقسم على رسمها له بعناية فائقة من أفضل موقع على طول حدود البحيرة.
الديري زينين
أما في لاندرو، وهو فندق نظيف ومريح يقف منفرداً على طرف البحيرة، توقفنا لإطعام الحصان وتناول وجبة الغداء. حيث قُدمَ لنا طبقٌ قوامه سمك السلمون البارد الممتاز من بحيرة ميزورينا، مع الكوستلاتة الساخنة. كان المكان بكل مافيه يبعث على التفاؤل. أما أصحاب الفندق فهم السيد والسيدة، وابنهما وهو ولدٌ لماحٌ في السابعة عشرة من عمره، كان يتحدث لهجة غير مفهومة من اللغة الألمانية، ولكنه كان خدوماً وحاضراً عند الاحتياج إليه بشكل يدعو للسرور. اعتقدنا أنّه ربما كان مكاناً مناسباً للبقاء لأيام قليلة، فسألنا عن الغرف، ولكن كان الفندق مشغولاً عن آخره ومحجوزاً لمجموعة كبيرة طوال فصل الصيف، وهي مجموعة يغلب عليها الإنجليز، وبينهم عضو في نادي الألب الإيطالي. كان يتبع هذا السيد كلب عملاق من نوع سان برنار، وقد دلف بينما كنا على مائدة الغداء، مرتدياً قميصاً قرمزياً رائعاً من القطن، وزوجًا من أحذية الفروسية العالية، وقد كان يتبعه كلبه دائماً، وقد شهد هذا الصباح انهياراً ثلجياً خطيراً لجبل كريستالو.
انتهى الغداء، وأمضينا فترة في الخارج نتسكع ونرسم، بجانب مياه دورين الرائعة. نشاهد بحيرة تجري فيها ثلاثة سيول، ولا ينبع منها أي نهر. لم لا تتدفق على شواطئها، وأين تذهب المياه الفائضة؟ هذه أسرار لم يقع أحد بعد على تفسير لها. وهنالك حديث حول صدوع خفية وانبعاثات طبيعية في حوض البحيرة، ولكن لا يبدو أنّها تفسر على الأقل توازن كمية المياه التي تصب في البحيرة والتي تجف منها. وعليه فإنّ امتلاء حوض دورين سي بالمياه على الدوام دون أن يشهد أي نوع من الفيضان يظل لغزاً في انتظار أن يفك طلاسمه العلماء.
وربما يجدر بنا أيضاً ذكر أنَّ دري زينين الذي يبلغ ارتفاعه (9.833 قدماً)* من الجبال الثلاثة العظيمة التي ترى من لاندرو، والذي قد تسلقه مؤخراً أعضاء النوادي الألبية النمسوية والألمانية، فكان بيز بوبينا (10.389 قدماً) هو الأول الذي صعده السيد إ. ر. وايتويل، والقمة الأعلى لجبل كريستالو (10.644قدماً)، التي صعدها د. غرومان في سبتمبر عام 1865، من ممر كريستال، بدايةً من جانب التري ساسيه.
ومن دورين سي يبدأ الطريق مرة أخرى في الميلان ناحية الشمال، ثم يمضي مستقيماً تقريباً طوال الطريق حتى توبلاخ، على مسافة تقارب عشرة أميال إنجليزية. وبالنظر إلى مشهد هذا الوادي الضيق من لاندرو، يرى المرء جبال باستر تال التي يغطي الجليد قممها التي تسد الأفق.
وعندما عدنا إلى كورتينا في وقت الظهيرة الجميل، تركنا العربة في مكان ليس ببعيد من حاجز الضرائب، وسرنا على الأقدام باتجاه الديار عبر الدرب الأدنى الذي يمر بالحقول والمروج وأطلال عجيبة لقصر ذي أبراجٍ، أصبح أحدها الآن جزءاً من كنيسة صغيرة بنيت من أحجار الحصن القديم.
بالقرب من كورتينا
وفي هذه الأثناء ما زال لدينا الكثير لنشاهده ونقوم به قبل مغادرة كورتينا. فلا بد أن نرى المارمارول، المتواري تماماً وحتى الآن خلف كرودا مالكورا، وبحيرة ميسورينا، الشهيرة بما فيها من ثعالب الماء وسمك السلمون المرقط. لابد أن نزور ممر التري كروسيه، ونصعد إلى وادي اورونزو، وفوق كل شيء يجب أن نزور مسقط رأس تيتيان في بياف دي كادوري. ولا يبدو من السهل بمكان أن نحكم من الخرائط على إمكانية جمع هذه المواقع في رحلة واحدة بالترتيب، وإمضاء ليلة أو اثنتين على الطريق. وحتى يتسنى لنا ذلك فسنتبع وادي الامبيزو إلى بياف دي كادوري، ثم نأخذ طريق وادي بياف حتى نقطة اقترانه مع الانزاي في تري بونتي، ومن ثم الانثناء إلى وادي اورونزو، ومن اورنزو نأخذ طريق العودة إلى كورتينا عبر وادي بونا وممر تري كروسيه. وسوف يأخذنا هذا المسار إن كان عملياً في دائرة مكتملة تمر على كرودا مالكورا، وانتيلاو، ومارمارول، ويمكن على ما يبدو الانتقال في جميع طرقاتها بالعربة.
وقد دعمت النصيحة التي قدمها إلينا غودينا الكبير أنَّ هذه الخطة قابلة للتنفيذ طالما كان الوصول إلى المكان المسمى كازا دي سان ماركو في وادي بونا سهلاً عبر أحد الطرق الجديدة في عملية البناء التي تقوم بها الحكومة الإيطالية. أما بخصوص حال هذا الطريق من الاكتمال أو عدمه حتى نقطة كازا دي سان ماركو، فهذا أمر لم يكن متأكداً منه، ولكنه لا يشك في أنَّ العربة قد تصلح للانتقال إلى ما بعد تلك النقطة. وعلى أية حال فإنَّ الطريق الجديد لم يفتتح بعد، ونحن بكل تأكيد نستطيع فقط استخدام الجزء المكتمل منه. ولذلك أرسل مجموعة من الخيول المسرجة عبر مضيق تري كروسي لتقابلنا في كازا دي سان ماركو، وتعود العربة من خلال مسار مخصص للعربات يمر بلاندرو. وبمعاونة هذه الخيول استطعنا صعود ميسورينا الألبية، وعدنا أدراجنا عبر تري كروسيه إلى كورتينا.
وكما في المرة التي شهدناها، استطعنا فتح حساب الجيرو الخاص بنا في يومين أو ثلاثة، كنا ننام في حالة واحدة في كلا من بياف دي كادوري و أورونزو، أو في الحالات الأخرى نبدأ مبكراً بما يكفي لقضاء اليوم في بياف والوصول إلى اورونزو في المساء. وبسماعنا الأخبار غير السارة عن النُزُل في بياف، أتى قرارنا في آخر لحظة.
وقد كان اليوم الذي بدأنا فيه من هنا، أولى رحلاتنا الطويلة، هو اليوم الذي بدأ فيه غوسيبي العمل معنا كمساعد رحلات. وكنا ننهض باكراً، ونطلب العربة في السابعة صباحاً، وهي عربة من فئة اللانداو، رحيبة، ويسحبها زوج من الخيول الأساسية، التي يقودها مدرس مهيب أشعث الشعر ذو رصانة ولطف. وقد تبين أنّه طيب إلى حد غير متوقع، ومريح وربما اعترف بالفضل لأي من فنادق الدرجة الأولى التي تركناها خلفنا مؤخراً.
تجمع آل غيدينا لرؤيتنا نغادر. وبدا الحزن على قسمات خادمة ل. لتركها في الغربة، وهي تراقبنا من الشرفة. وقف مدير مكتب البريد، والصيدلي، والبقال، وراعي الأبرشية معاً في مجموعة صغيرة على ركن الميدان لوداعنا. وأخيراً وضعت الحقائب، والمفارش والمظلات في العربة، وقفز غوسيبي إلى مقعده في الصندوق، وفرقع السائس سوطه، وانطلقنا تحيط بنا التمنيات برحلة طيبة من المودعين " buon viaggios ".
وكانت المرحلة الأولى من الطريق (حوالي 12-14 ميلاً) حتى تاي كادوري، تقع على الأرض نفسها التي مررنا بها في يوم وصولنا لكورتينا. على أية حال اتجهنا إلى جانب الطريق تاركين جبل زوكو زكزاك وراءنا في الأسفل، وصعدنا على الطريق الأبيض الطويل المؤدي إلى القرية التي على الهضبة.
عند منتصف المسافة بين الواديين تقريباً، توقفنا عند كنيسة صغيرة على جانب الطريق لرؤية صليب عجائبي عثر عليه عام 1540 في أحد الحقول القريبة، حيث ظهر أثناء حرث الأرض. ولم يكن الصليب قديماً جداً قِدَم غزو الغوطيين الغربيين عام 410 بعد الميلاد،(كما يعتقد بعض الأثريين المحليين) ولا الهون في 432 بعد الميلاد. ولكن الصليب بلا شك فيه غرابة، وربما دفن ليجلب الأمن إبان الغزو الألماني تحت قيادة ماكسيميليان في عام 1508 للميلاد. ويفترض أنّه قد اجترح منذ ذلك الوقت عددا كبيرا من المعجزات، من التعرق الدموي، وظل أثناء وباء عام 1630، وبطرق عدة وفر درجة استثنائية من الحماية والتأييد لشعب كادوري. وقد كرّست الكنيسة الصغيرة في الأصل للقديس انطونيو، وهي تدعى الآن كنيسة الصليب المقدس، وتتمتع بصيت ذائع في أرجاء هذا الجزء من تيرول. لقد تم نحت الصليب من الخشب البني القديم، والصورة المقدسة محجوبة إلى حدٍ ما بواسطة خصلة من الشعر الطبيعي، وبشكل لا يخلو من سذاجة.
لقد وصلنا إلى بياف دي كادوري حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، بما في ذلك الوقت الضائع، ووجدنا الفندق دون الوسط مثل ما يشاع عنه. لقد كان صغيراً جداً، ومتسخاً للغاية، ومزدحماً بالفلاحين الذين انهمكوا في الأكل والشرب والتدخين. صعدنا إلى الدور العلوي بحثاً عن ركن يمكننا ترك لفائفنا فيه، ونحاول تناول غداءنا كل بمفرده. ووجدنا الغرف بحال مزرية، فقررنا أن ننزل بالاستقبال. لم يكن مكاناً مريحاً البتة، مزدحم بجذوع الأخشاب، وهو لا يفضل بقية المنزل بشيء سوى التهوية. تم إخلاء بعض المساحة، على أية حال، تمت استعارة بعض المقاعد من الغرفة المجاورة، وقد تم استخدام الجزء العلوي من منحوتة غائرة كبيرة، أو خزانة ملاءات كمنضدة. وبما أننا طلبنا بعض الطعام ليكون معداً حوالي الساعة الواحدة (الساعة الآن حوالي الحادية عشرة) فقد هرعنا إلى الخارج لمشاهدة منظر المكان. تطوعت أصغر بنات صاحبة الفندق، وهي فتاة تتكلف الرسمية في أسلوبها، في الثانية عشرة من عمرها تقريباً، لتكون مرشدتنا، وعندما لم نقبل بعرضها، آثرت متابعتنا من على البعد في شيء من العناد.
الساحة القديمة الغريبة بأروقتها الكئيبة، ومنازلها العتيقة ونوافذها الفينيسية، ومقاهيها، ونوافيرها، وآرائكها، التي تشبه كثيراً ساحات سيرافالي، ولونغاروني، والبلديات التي تشترك معها في الطراز. بمبنى بلديتها الرائع، وبرج الجرس المألوف بالفعل في صفحات مؤلف جلبرت عن "كادوري". وهناك أيضاً الدرجات المزدوجة الجميلة التي تؤدي لى الأعلى حيث المدخل الرئيسي في الطابق الأول، كما في قاعة مدينة هيلبرون- وهي سمة إيطالية دون شك، وهناك حوالي منتصف الطريق يقع برج الجرس، وهو ضخم، ومزدان بجصيّة كان تصميمها في الحقيقة أجمل من رسمها، حيث يقف فيها تيتيان، على ارتفاع يصل إلى 12 قدماً، ملتحياً ومرتدياً عباءته، مقابل خلفية لازوردية، تشبه إلى حدٍ كبير بورتريه عملاق القافلة في معرض.
كانت هذه اللوحة هدية إلى كمونة كادوري من الفنان الذي قام بتلوينها- وهي الآن ليست سوى جصيّة جدارية في البلدة. وقبل بضع سنين، كان يقال إنَّ أحد المنازل القديمة في الساحة - تم مسحه الآن بالكامل من على وجه الأرض- يحمل آثاراً مميزة لزينة خارجية بيد سيزاري فيشيلو، ابن عم تيتيان وتلميذه.
بالتحول جانباً من الساحة المتلألئة، وبالسير باتجاه انحدار الهضبة إلى يسار مبنى البلدية، وصلنا، على بعد ياردات قليلة فقط، إلى مساحة مفتوحة أخرى، معزولة ومكسوة بالأعشاب، ومحاطة من ثلاث جهات بمنازل متداعية، وآيلة للسقوط، وتفتح على الغابات والجبال من الجهة الرابعة.
في وسط هذا الميدان الصغير تقف نافورة حجرية عملاقة، قد أهلكها جريان الماء والزمان معاً، محاطة بتمثال للقديس تيزيانو في عباءته وقبعة كاهن مربعة الشكل.
ينساب الماء عبر انبوبين معدنيين في منصة التمثال تحت قدمي القديس تيزيانو، فتصدر خريراً يطرب السامعين، وفي الحوض الحجري القديم، الذي يتوارى جزئياً خلف النافورة، وينحني كما لو أنّه مظلة ملاصقة لمنزل أكبر، يقف كوخ صغير ومتهالك على جانب الجدار الذي يحمل لوحاً منقوشاً عليه السجل التالي:-
" في1473
ولد بين هذه الجدران الوضيعة
تيزيانو فيشيلو
عاش حياة نجومية
عاش فيها بالفعل لمائة سنة
ثم غادرها في البندقية
أغسطس
1576
مسكن متوسط الحال، منخفض السقف، شوهته أعمدة المداخن الخارجية والفرن المشيّد خارجه، يدخل إليه الضوء عبر نوافذ صغيرة متناثرة على طراز العصور الوسطى، مشهد يفتقر إلى الجمال وليس فيه ما يلفت الانتباه سوى أنّه المكان الذي شهد ولادة تيتيان!
لابد أنّ شكله كان مختلفاً عندما كان صبياً يلعب خارجه هنا على العشب. وربما كان ذا سقف عالٍ ومائل، مثل المنازل التي تبدو في خلفيات لوحاته، ولكن الفترة التي بقي فيها هذا الطوب عليه كانت طويلة بما يكفي لإصابته ببقع الآشنات الصفراء. و أنّ المرء ليود معرفة وجود النافورة والتمثال في عهده من عدمه، وما إذا كانت المياه تتدفق بدرجة الصوت الخفيضة ذاتها، وإذا ما كانت السيدات يأتين لغسل ملاءاتهن وملء جرار الماء النحاسية، كما يفعلن الآن. وقد كانت هذه الهضبة الخضراء دائماً ملاذاً من الرياح الشرقية، وقد شمخ جبل دورانو بقمته الغريبة هناك قبالة الأفق الجنوبي، وانحدرت الغابات باتجاه الوادي في الأسفل، ثم كما هو الحال الآن، حيث تنزل طريق الخيول بعيداً لتلتحم بالطريق المؤدية إلى مدينة البندقية.
صعدنا إلى المنزل، وطرقنا الباب. فتحه رجل أحدب الظهر يبدو عليه الإعياء، وألح علينا في الدخول، وقد بدا وحيداً هناك. كان المنزل شديد الظلام، وبدا أقدم من الداخل عنه من الخارج. والغرفة العلوية الطويلة الكئيبة بملحق ذي مدفأة بارزة في الحجرة، هي بلا شك تعود في تأريخها إلى عهد جد تيتيان، وهو المالك الأصلي للمنزل، بينما توجد مقصورة ملحقة غاية في الصغر والظلام، بها نافذة صغيرة في عمق الجدار الضخم، وقد أشير إليها باعتبارها الغرفة التي شهدت ميلاد الفنان العظيم.
" ولكن ما أدراك أنّه وُلد هنا؟" سألتُ.
رفع الرجل الأحدب كفه المضناة في استنكار مجيباً: " إنّهم قالوا ذلك، سيدتي، لقد ظلوا يقولون ذلك لأكثر من اربعمائة عام."
"هم؟" كررتُ العبارة في استغراب.
" آل فيشيلي، يا سيدتي."
" لقد كنت أعتقد أنّ عائلة آل فيشيلو قد اندثرت."
" عذراً سيدتي، لقد توفي آخر أحفاد إل تيزيانو" قبل وقت قصير، سنوات قليلة قبل مولدي، والفرع الموازي في العائلة آل فيشيلي هم من مواطني كادوري حتى هذا اليوم. وإن كانت السيدة تود التأكد من ذلك، فسترى اسم فيشلو على الحانوت الذي يقع على الجانب الأيمن في طريق العودة إلى الميدان."
لقد بحثت عنه، وهناك، بكل تأكيد، فوق نافذة الحانوت الصغير وجدته. لقد فاجأني الأمر بطريقة غريبة، كما لو أنّ الوقت توقف للحظة، وتذكرت كيف رأيت مرة اسم روبنز على واجهة أحد محلات السوق في كلونيا، حيث اعتراني الشعور ذاته تقريباً.
غادرت المنزل، وأنا أقل تهكماً عما كنت عليه لحظة دخولي. لم يكن هنالك شك في هوية المبنى، لقد اقتنعت بهوية الغرفة كذلك. لقد عاش تيتيان حتى أصبح – قبل وفاته بوقت طويل- سبباً في شهرة عائلته. لقد أصبح ثرياً، ونبيلاً، وعمت شهرته آرجاء إيطاليا. وبالتالي فقد اكتسبت الغرفة التي شهدت ميلاده، قبل نصف قرن من وفاته، وربما في حياة امه- ذلك النوع من القدسية التي تشيع عادة ما بعد الوفاة.
وقد توارث آل فيشيلو القصة جيلاً بعد جيل في خلافة متتابعة، مما يدل على كرم محتده الأكثر موثوقية من معظم التقاليد ذات الطابع المماثل.
المنزل الكبير الملحق، والمعروف في كادوري باسم كازا زامبيري، كان هو موقع الزيارة التالية. وقد كان في الأصل جزءاً من ملكية آل فيشيلو، وهو يضم جدارية قديمة، كانت في الخارج، ولكنها أصبحت في الداخل الآن بعد عملية لتوسعة المنزل، ويفترض أنّها من عمل تيتيان في شبابه.
وقد عرض علينا الأحدب أن يأخذنا لهذا المنزل، مغلقاً بابه خلفه في حرص، وخرج مرافقاً لنا إلى الساحة الصغيرة. وهنا وجدنا الفتاة الرسمية الصغيرة في انتظارنا ومعها ثلاث أو أربعة رفاق في عمرها، وقد اتخذوا وضعيات حرس عنيد لا يتزعزع.
قرع الأحدب جرس آل زامبيري، ولكن لم يجب أحد. فطرق الباب، ولكن تلاشى صدى طرقاته دون جدوى. وفي النهاية حاول فتح الباب، الذي كان مغلقاً بالمزلاج فقط، وفتحه على الفور.
" لنصعد إلى الطابق العلوي" قال ودلف مباشرة إلى الداخل.
تبعناه، بشيء من التلكؤ. وتحرك الحرس في إثرنا.
" من هنا،" قال الأحدب، الذي كان قد وصل إلى منتصف الدرج بالفعل.
" ولكن سيدة المنزل، أين هي؟" قلنا في تردد وإلحاح.
" أه، chi lo sa?، ربما كانت في الخارج، أو قد نجدها في الأعلى."
ومرة أخرى سرنا خلفه. كان منزلاً كبيراً، ويبدو أنّه كان جميلاً في وقت ما. لقد أحيط البهو الرئيسي بأبواب، وجُهزّ بمقاعد عتيقة ذات مساند مرتفعة، وقوالب منحوتة، وصناديق قديمة من خشب الصنوبر بحجم يتسع لإخفاء اثنتين أو ثلاث من لوحات جنيفرا بداخلها. ثم فتح مرشدنا واحداً من الأبواب، وقادنا إلى غرفة خالية يبدو أنّها كانت مرسماً، وكان فخوراً بالمكان كما لو أنّه يملكه.
وقال مشيراً إلى جصّية كروكية، تم تنفيذها على جدار الغرفة، وكانت قد أحيطت بإطار باللونين الأسود والذهبي كما هو متعارف عليه. "Ecco il Tiziano!":" هذا هو تيتيان."
كانت اللوحة تتألف من ثلاثة أشخاص:- صبي طويل الشعر يجثو على إحدى ركبتيه، والسيدة العذراء جالسة، والمسيح الطفل يقف على حجرها. وقد نحتت هذه الشخوص قبالة خلفية غير محددة إلى حدٍ ما من الأعمدة والستائر. لم يكن رسم هذه المجموعة متقناً على وجه التحديد، التلوين كان رقيقاً وسيئاً، ولكن هنالك شيء من الفخر والعذوبة في حالة وقسمات السيدة العذراء. كانت الستائر والخلفية قد تعرضت للضرر وإعادة الترميم – في وقت أو آخر- وما زالت أسوأ حالاً.
وهي لوحة صغيرة يبدو أنَّ الصبي قد قدمها في الأصل على سبيل النذر، وقد تم تلوينها ككل، ولكن يتضح الموقع السابق من خلال طريقة رسم أيدي الشخصيتين الرئيسيتين.
ووفقاً لذات التقاليد المحلية المتوارثة والمحترمة، فقد لوّن تيتيان هذه الجصّية في عمر الحادية عشرة. ويشير السيد جلبرت، الذي كتب عن كادوري أكثر مما فعل أيٍ من كتاب سيرة تيتيان الآخرين، إلى أنّ الصبي الراكع هو ليس سوى الفنان الشاب نفسه، وأنّه " أخضع نفسه بهذا السلوك إلى العناية الإلهية" قبل أن يهجر منزله في عام 1486، ليصبح تلميذا لزوكاتي في مدينة البندقية.
بينما كان الأحدب يسلينا بتأريخ الجصيّة، وقف الحرس يحدقّ بنا، والفتاة الصغيرة المقيتة كانت تسلّي نفسها بمطالعة ألبوم الصور الفوتوغرافية الملقى على الطاولة. وفي وسط هذا كله، فُتح الباب في نهاية الغرفة ودخلت امرأة.
وقد بعث فينا تعاملها مع غزونا بشكل طبيعي شعوراً كبيراً بالراحة، فقد استقبلتنا بود كما لو كنا قد قدمنا أنفسنا بأكثر الطرق طبيعية. وربما أنّها كانت معتادة على رؤية السياح الأجانب وهم يقتحمون غرفة رسمها عن طريق الخطأ، ولكنها بكل تأكيد لم تظهر أي استغراب لرؤية شخوصنا أو حقيبتنا. وأطلعتنا على بعض الخرائط القديمة، ونقوش كادوري، ورأس لتيتيان مطبوع على الحجر، وبعض الكنوز التي لا تقدر بثمن، وعندما نهضنا للمغادرة، طلبت بطاقاتنا التعريفية. قائلة: "إني أقدرها كتذكارات للغرباء الذين شرفوني بالزيارة".
عاد الأحدب الآن إلى منزله، وجرجرنا نحن أقدامنا صوب الكاتدرائية، ودائماً كانت الفتاة الصغيرة الجامحة في إثرنا، والتي اضطلعت بأعباء إرشادنا بعد انسحاب الأحدب، سواء أردنا ذلك أم كرهناه، بل قامت بذلك الدور على طريقتها الخاصة تماماً. فأخذت تثرثر وتوميء، ووضعت يديها على حقيبة الرسم، وغاصت في مظلّاتنا، وتعاركت حولنا، وأمامنا ومن خلفنا، ولم تفتأ تصخب بثرثرة سريعة لا تطاق.
هل كانت السيدات في طريقهن إلى الكاتدرائية؟ هنا! ليس عليهن سوى أن يتبعنها. فهي تعرف الطريق، لقد كانت تعرفه طوال حياتها. فقد ولدت هنا! انظر، تلك كانت بناية البلدية. هل تود السيدات الذهاب إلى مبنى البلدية؟ الكثير من الغرباء قاموا بزيارتها. هناك كانت توجد دار الدراسة. لقد درست هناك. لقد كانت مولعة بالمدرسة. و سقطت إحدى أسنانها الأسبوع الماضي. كان ذلك مؤلماً للغاية- مؤلماً بشدة. لقد خلعه الطبيب. إنّه يعيش في الساحة هناك، مقابل مكتب البريد تقريباً. كان هذا المنزل الصغير هنا للقس. وكان لديها عماً يعمل قساً، ليس هنا، على أية حال. في دوميجي، أعلى الوادي. ولديها عمة في كورتينا، وإخوة وأخوات، الكثير من الإخوة والأخوات، جميعهم أكبر منها. وقد أنجبت أختها الكبرى طفلاً الأسبوع الماضي-أوه. طفل صغير، ليس أطول من ذلك! هل تود السيدات رؤية الطفل؟ آه، حسناً كانت الكنيسة هنا. يجب أن تدخل السيدات من الباب الجانبي. أما الباب الكبير فهو موصد دائماً، عدا في أعياد القديسين وأيام الآحاد. أما الباب الجانبي فهو مفتوح على الدوام. "من هنا، من هنا، انتبهن لمواطيء أقدامكن فضلاً!"
إنها كنيسة كبيرة، في ضخامة كاتدرائية سيرافالي، وهي من الخارج غير مكتملة، بسيطة المنظر، ولكنها من الداخل لا تفتقر للتناسب. وتحفل مقصورة الكنيسة وجناحها بالصور، اثنتين أو ثلاث منها من أعمال تيتيان الأصلية الشهيرة. وليس منها على أية حال، ما يتميز بجمال يكفي للاستدلال على صاحبها من النظرة الأولى، مثل العظيم تيتيان سيرافالي، بيد أنّها تتسم جميعاً بأسلوب المعلم العظيم.
وقد صدف، لحسن حظنا، أنَّ القس كان في مجلس الكنيسة. وبسماعه أصوات تتحدث بلسان غريب. خرج رجل نحيل وسيم ونبيل في حوالي السابعة والأربعين إلى الخمسين من العمر، له قسمات واضحة، وعينان براقتان للغاية، وسحنة يغلب عليها النشاط، وشعر أبيض فضي. انضم فوراً إلى النقاش، وعرض علينا كنوز كنيسته في سرور بادٍ. كان اسمه دون انطونيو دا فيا (على الأرجح أنَّ لفظة دون هي تحريف لدومين، وهو كاهن الأبرشية)، ولقد عمل كقس لبلدته الأم خمسة عشر عاماً. أما في ما يخص التعليم والذائقة فهو يتفوق على بقية الكهنة التيروليين. لقد كان له اهتمام خاص بجميع ما يتعلق بتيتيان وآل فيشيلي، وهو يؤمن بأنّ كادوري هي المحور الذي يدور حوله العالم. أما أعمال تيتيان في الكنيسة فهي اثنتان عدداً: - إحداها لوحة كبيرة بالحجم الطبيعية تتضمن أربعة أشخاص بالطول الكامل، والأخرى مستطيلة، وتتخذ من إحدى الشخصيات موضوعاً لها، بنصف الحجم الطبيعي، ونصف الطول.
كانت الأولى تجسيداً للسيدة العذارء والطفل جالسٌ مع القديس روكو واقفاً على أحد جانبي المجموعة، والقديس سيباستيانو على الجانب الآخر. يشير القديس روكو كالعادة إلى جرح في فخذه، ويتخذ القديس سيباستيانو الوضعية البيروجينية التقليدية، مع وجه مقلوب، وكفين معقودتين وراء ظهره، وجسده مثقّب بالسهام.
لقد شحبت الألوان بدرجة مؤسفة، ولم يكن رسم القديسين متقناً، وكان التصميم رديئاً بشكل عام، والمعالجة تقليدية، وجودة العمل غير كافية، بيد أنّه لا يمكن أن ينظر إليه أحد تلاميذ تيتيان لخمس دقائق ويشك في أصالته.
إنّها شخصية السيدة العذراء التي تختم العمل ببصمة يد تيتيان. وهنا الوجه العريض والهاديء نوعاً ما، والسحنة النضرة، والشعر الأحمر الذهبي الذي كان يبتهج بتلوينه طوال حياته. لقد كان هذا هو النوع المفضل لديه من جمال الأنثى- ذلك النوع الذي قام بتطويره إلى أقصى حدود الكمال في "الحب المدنس والمقدس" في المعرض البورغيزي. وحتى الأزياء في عذراء كادوري، على الرغم من فقدان الكريمسون لناره، والأزرق الذي أصبح بارداً ومبهماً، بيد أنّه يستدعي تلك الثنيات الضخمة الوردية الأخرى، شيء غاية في الاستحالة، والأهمية التي تتسم بها الرحلة العليا النموذجية أكثر من أي وقت ليتحقق في محض طيات.
لقد نفّذت الصورة الحالية بلا شك عندما كان تيتيان صبياً لم يزل، ولكنها تحمل في الوقت ذاته دليلاً على أنّه قام برسمها بعد رؤيته مدينة البندقية ودراسته لأعمال ممارسي التلوين من الفينيسيين.
وبين هذه اللوحة واللوحة الصغرى، يصل إلى برزخ عظيم من الوقت- ربما يصل الفارق الزمني إلى 50 سنة. لقد كانت الأولى عملاً من فترة صباه، والثانية لوحة عمره. لقد لونها، على الأرجح، وقدمها للكنيسة أثناء واحدة من زياراته الصيفية للهضاب التي شهدت مولده. وهي معلقة في كنيسة آل فيشيلي- كنيسة مكرّسة للقديس تيزيانو، راعيه الشخصي، وقد كان يود دفنه هنا. ولكنه توفي على أية حال كما نعرف جميعاً في زمن الطاعون في مدينة البندقية، وقد دفن بالضرورة حيث توفي.
أما هذه اللوحة الصغيرة التي أنشأ كادوريني إلى جانبها متجراً غير محدد، فهي تجسد القديس تيزيانو، والقديس آندرو وهما يعبدان المسيح الطفل، والذي ينام في حجر العذراء. يفترض أن يكون القديس تيزيانو في اللوحة هو ابن أخ تيتيان، ماركو فيشيلو، الذي يركع إلى يسار المتفرج، في حلّة أسقفية بادية الثراء، بيضاء وحمراء. كان القديس آندرو ( لوحة شخصية لفرانسسكو أخ تيتيان) وهو يجثم في خشوع إلى اليمين. أما تيتيان نفسه فهو يحمل صولجان الأسقف القديس سيباستيانو، الذي يظهر حاضراً أمام القديس إلى اليمين، بينما الأمّ العذراء وفقاً للاعتقاد الشائع، تجّسد زوجة الفنان.)
وقد نفّذت صورة مادونا هنا بشكل غير متقن، ولكن تم تجسيد الطفل بنقش بارع، وتم إبراز جسمه بشكل جميل، ودافيء وثابت. أما أجمل جزء بالصورة فقد كان هو الخاص بالقديس تيزيانو، حيث تجلى في وجهه البني الجميل المرفوع، وملامحه الإيطالية وسحنته الجنوبية المترفة، وتعبيره المحفوف بالتبجيل أسلوب المعلم في أنقى حالاته.
الوشي الأبيض والذهبي في ثوب القديس الأسقفي والذهب المخفف لقلنسوته، ذكرني بثرائهم ورسوخ النعمة في معالجة باولو الفيروني. حيث كان رأس تيتيان الذي نفذه بنفسه في الركن الأيسر ربما ذكر لتأريخ اللوحة، وهو يمثل رجلًا ربما كان في الستين من عمره. وكان التنفيذ بشكل عام غير متجانس، إلى حد أنّه يشير إلى احتمال اشتراك أحد الدارسين في تنفيذ اللوحة، وفي هذه الحالة ينسب رسم شخصيات القديس تيزيانو والمسيح الطفل لأنامل المعلم دون تردد. بجانب هاتين اللوحتين، تحتوي كنوز الكنيسة في كادوري على عدة لوحات لإخوة وأبناء إخوة تيتيان، وغيرها الذي يشتمل على العشاء الأخير لسيزار فيشيلو، واستشهاد القديسة كاثرين لأورازو فيشيلو، وتفوقها في الجودة والحجم أيضاً، أربعة أعمال باستخدام الصبغة التي نفذت في الأصل على أبواب آلة الأورغ بيد ماركو فيشيلو ابن الأخ الذي جلس لرسم القديس تيزيانو في قطعة المذبح الموصوفة أعلاه.
قال الكاهن إنَّ هذه اللوحات الأربع ظلت تعاني الإهمال والنسيان سنوات طويلة هنا في عليّة تم وضعها فيها عندما أزيلت من مقدمة الأورغ. ولطالما رغب في تأطيرها وتعليقها في الكنيسة، والآن، بعد سنوات من الانتظار، استطاع فقط أن ينفذ تصميمه. فقال مبتسماً: " لا يملك الراعي التيرولي الكثير من المال لإنفاقه على الفنون الجميلة، ولكن هاهو في النهاية، والسيدات كنَّ أول من يراها من الغرباء. فلم يمض بعد على تعليقها أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام".
قياسات هذه اللوحات الأربع تبلغ ستة عشر قدماً في الارتفاع وثمانية أقدام في العرض، وقد وضعت في إطارات خشبية بسيطة مطلية باللون الأسود والورنيش. أما التكلفة الخارجية لهذه الإطارات فقد يظنها المرء خيالية، ولكنها لم تتجاوز العشرين ليرة إلا بقليل للوحة الواحدة. أو ما يربو على الثلاثة جنيهات إنجليزية بقليل للأربعة لوحات. ولكن تمسك دون أنطونيو بمشروعه "لسنوات عديدة" قبل أن يصبح غنياً بما يكفي لتحقيقه.
ربما توصف اللوحات الصبغية – باللوحات الأربع العظيمة، وقد ازدانت كل واحدة منها بشخصية ضخمة. ومنها القديس متى والقديس مرقس اللذيْن يشكلان ثنائياً واحداً، وملاك البشارة ومريم العذراء، يشكلان الثنائي الآخر. مع استثناء العذراء، التي مثلت الشخصية الأصغر بالنسبة للآخرين، فإنَّ هذه الشخصيات بعيدة، ونائية، إنّها أجمل مافي كادوري. ونظراً لضخامة المعالجة وحرية الرسم لم تعرف الكاتبة بماذا تقارنها، إلا لوحات الكارتون الموجودة في جنوب كينسنغتون. كان ملاك البشارة جريئاً وجميلاً ومبهجًا كما لو أنّه هبط لتوه من السماء- متقدماً على ركبة نصف مثنية، وبمسحة رائعة من السلطة والجلال. كان رسم الرأس والتجعيدات الطائرة على الطراز الرفائيلي، وكذلك الرأس الكبير والوجه المرفوع للقديس مرقس على لوحة أخرى، على الرغم من تعرضه للضرر والاندثار. كان الملاك والسيدة العذراء في مواجهة معاً من جانبي جناح الكنيسة كليهما، وينظران باتجاه الغرب بينما يشغل القديس متى والقديس مرقس الموقعين المتناسبين ذاتهما ولكن بالعكس. " ويقول دون أنطونيو: " كان الملاك مفصولاً بمسافة بعيدة عن السيدة العذراء، وهو أمر لم يكن تجنبه ممكناً، فليس هنالك مكان آخر في الكنيسة يسمح بمشاهدتهما على نحو أفضل.
وبعد القيام بما يجب ناحية الموهف " حجرة المقدسات" ( التي تضم العديد من اللوحات القديمة العادية، بما في ذلك لوحة بالما فيكيو المشكوك فيها) قادنا دون انطونيو إلى الأعلى عبر درج ضيق من الحجر باتجاه غرفة الملابس، وهناك، كامتياز خاص، منحنا الأذن لرؤية بعض الملابس الأثرية المطرزة ولافتات المواكب التي كانت تستخدم في المناسبات الكبرى في غابر الأزمان. والأكثر عجباً من هذه، على أية حال، وأكثر غرابة هي المنصة التحتية العتيقة المنقوشة والمذّهبة، أو الضريح، المشيد على غرار الطراز القوطي، تعلوه أيقونة للمسيح ذي الملامح البيزنطية الجافة، وأسفلها بابان قابلان للطي، مثل اللوحات الثلاثية. وقد زينت ألواح هذه الأبواب من الخارج بأربع صور صغيرة بالطول الطبيعي للأنجيليين، وبطريقة واضحة وذكية ومتقنة التنفيذ، كانت الرؤوس والمعالجة بشكل عام تستدعي أسلوب ساندرو بوتيشيلي، بينما احتوى الضريح من الداخل على أربعة أدراج مغطاة بشكل مترف، وقد احتلت كلاً منها لوحة صغيرة منقوشة وملونة لأحد القديسين، ساذجة وفق أسلوب العصور الوسطى، مثل لوحة صغيرة لسيمابوي نُفذت على الخشب. وتنتمي هذه المنصة التحتية إلى سابقة لعهد تيتيان بوقت طويل، وقد زينت المذبح المرتفع حتى بداية القرن الحالي.
لقد تجاوزنا بالفعل الساعة التي طلبنا فيها الغداء بوقت طويل، وعندما شكرنا دون أنطونيو على لطفه، خرجنا مرة أخرى إلى أشعة الشمس المحرقة. ويا للسعادة فقد اختفى كل أثر للفتاة الصغيرة التي لا تطاق، ولكنها عادت للظهور مرة أخرى حالما وصلنا إلى الفندق، وكانت ما تفتأ تسأل عنا طوال الوقت الذي كنا فيه خارجاً في وجبتنا النهارية المزعجة، ولم ننجح في التخلص منها إلا بمساعدة غوسيبي عندما خرجنا مرة أخرى للرسم، والتسكع في البلدة، وهضبة القلعة لساعتين أخريين قبل استئناف رحلتنا إلى اورونزو.
________________________________________
• من القمم الثلاث التي تحمل هذا الاسم، يمكن رؤية اثنتين فقط من لاندرو، ولكنها ترى من الخلف بينما يصعد المرء في وادي اورونزو، حيث تبدو القمم الثلاث للعيان.
• * سيكون بالطبع من السهل الإقامة في تاي كادوري حيث المضيفة الجميلة الصغيرة في مثالية، وهي تقع حوالي ميل واحد من بياف دي كادوري. وينوي الأشخاص أن يظلوا لوقت أطول في الحي وسيكون عليهم فعل ذلك، فنحن على أية حال لا نحب فكرة العودة على ذات الطريق، مؤثرين على ذلك الدفع إلى الأمام ومواصلة الطريق حتى أورنزو.
• في عام في1473، وبين جنبات هذه الجدران الوضيعة، خرج تيتيان فيشيلو إلى حياة زاخرة بالشهرة والنجومية، حيث غادر بعد مائة عام تقريباً، في يوم 27 أغسطس 1576.
• "ليس هنالك ثمة وصف لهذه التصميمات الكبيرة موجود في أيّ من تأريخ كراوي أو كافالكاسيلي للتلوين في إيطاليا، أو في كتاب "كادوري" للسيد جلبرت" على الرغم من أنَّ السيد الأخير بدا وكأنّه قد أحاط بها خبراً بينما كانت مختبئة وراء ظلام العلية."
_________________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الخامس- من كورتينا إلى بياف دي كادوري
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
-----
أشرق صباح السارغو على رنين أجراس الكنيسة بشكل استثنائي وإطلاق النار من فوهات البنادق. ابتهاجاً كانت الجماهير تيمم شطر الكنائس من الساعة الخامسة صباحاً وحتى منتصف النهار. وصار الشارع الطويل والساحة بالقرب من مكتب البريد صفاً متراصاً من الأكشاك والحوانيت الصغيرة. توافد الزوار بالمئات على جميع أنحاء البلدة: مئات في الكنائس، وبدا أنَّ جميع المنازل قد تحولت إلى نُزُل واستراحات للزوار. وأصبح الزحام سمة لجميع النوافذ والشرفات والمداخل. وقد انطلق موكب فرقة الألعاب البهلوانية في المدينة في الساعة التاسعة من هذا الصباح المشرق من يوم الأحد، وقد استمر نشاز أبواقهم وطبولهم طوال اليوم، وبمصاحبة أجراس الكنيسة وأصوات الرصاص المتقطعة من بنادق الرماة الحاذقين قرب شاطيء النهر.
يا له من حشد متنوع! ويا له من مشهد حافل وبهيج! وامتزاج للأصوات واللغات والموسيقى والأجراس والبارود! هنا تيروليّ نمسوي من توبالش إنيشن، وسيكستن ثال، لا يتحدث سوى الألمانية؛ وتيروليّ إيطالي من جانب لونغاروني، يتحدث الإيطالية فقط، وآخرون من القرى الحدودية يتحدثون اللغتين، أو لهجة مركبة من كلا اللغتين، يكاد فهمها يستحيل على غيرهم.
أزياء سكان الجبال أكثر تنوعاً من ألسنتهم. فنساء سان فيتو يرتدين الدروع الصدرية القرمزية والستان الأخضر، المزينة بأطواق عريضة مضفرة بالذهب، ومرصعة باللآليء. وتتجول نساء باستر تال وعلى رؤوسهن ما يشبه العمائم، وهي في ثقلها مثل فرو الدببة الذي يرتديه قاذفو القنابل. أما رجال فليتش فقد كادوا أن يضيعوا داخل أحذيتهم الطويلة الهائلة، المقولبة والمصممة على غرار الموضة الفرنسية من القرن الماضي على ما يبدو. وهنا أيضاً، نساء مسنّات في قبعاتهن المصنوعة منزلياً من جلد القندس، عالية المقدمة كقبعة الخادمة ومزينة بقطعة ذهبية من المطاط، وصيادون أقوياء يرتدون احزمة عريضة من الجلد، وحمالات خضراء، وقبعات ملساء متوجة، وبنادق معلقة على أكتافهم، يبدون تماما مثل كاسبر في أوبرا الصياد " Der Freischüt" وسيدات ليفينالونغو اللائي قابلناهنَّ البارحة على الممر، كن حضوراً أيضاً في أعداد كبيرة، ولكن الأزياء السائدة بالطبع هي أزياء الامبيزي. وهي تتكون من قبعة مخملية سوداء، بها باقة من الريش على الجانب، وتنورة سوداء من القماش وصدرية عليها برواز من الساتان أو المخمل الأسود، وأكمام بيضاء واسعة، ومريلة زرقاء كبيرة تكاد أطرافها الجانبية تلتقي من الخلف، ومنديل ملوّن بعض الشيء على العنق. بسيط ووقور وجذاب، هذا الفستان يناسب الصغار والكبار معاً، والقبعة المستديرة توائم الوجه الجميل في انسجام.
ونسبة لعلمنا بأنّ بداية القداس الموسيقي ستكون في الحادية عشرة صباحاً، حرصنا، كما اعتقدنا، على أن نكون في أبواب الكنيسة في وقت مناسب، ولكن ازدحمت عتبات الكنيسة قبل ربع ساعة من الموعد المضروب، وبالكاد وجدنا مكاناً نقف عليه بين الحشود. كان جسد الكنيسة بكامله كسجد واحداً فيه ما فيه من حياة وألوان ورؤوسٍ حاسرة ووجوه تنظر للأعلى. نساءُ ورجالٌ على حد سواء يحملون قبعاتهم في أيديهم. وثلاثة كهنة في ثلاث مذابح مختلفة قاموا بأداء القداس بشكل متزامن. قدم العازف على الأورغ أفضل ما عنده، وساعدته في ذلك فرقة كورتينا للآلات النحاسية بتأثير يكاد يبعث على الجنون. كان أحد عازفي آلة الترومبون، على وجه التحديد رجلًا غاضبًا، ذا وجه أحمر يرتدي قيمصاً ذا أكمام من القطن الصوفي، وينفخ منحنياً كما لو أنّه يعزم على نفخ مافي جوفه في الآلة.
وعندما يأخذ عازف الأورغ استراحته، أو يغني قائد الكورس بعض الجمل منفرداً، تحلّ فترة من الهدوء عندئذٍ يأخذ المرء أنفاسه. ولكن ما أقل هذه الاستراحات وأقصرها، وفرقة الآلات النحاسية قد أبلت بلاءً حسناً ذلك الصباح في ما عدا وقت الخطبة بالطبع.
ألقى راعي الأبرشية عظته، وكان يرتدي حلة بيضاء موشاة بالذهب. دارت خطبته حول الإيمان، وقام بشرح حديثه بشكل لا يخلو من غرابة مشيراً إلى مسائل ومواضيع متنوعة ومختلفة، ولم يكن الإيمان جزءاً رئيسياً منها بأي حال من الأحوال.
ماذا يفعل الجندي، والفنان، والمحامي، والعالم دون إيمان؟ قال متسأئلاً. لنأخذ الجندي على سبيل المثال: ما الذي يلهمه الشجاعة لمواجهة فوهات المدافع؟ الإيمان. خذوا الرسام- وما يلهمه برسم الجصيّات واللوحات في هذه الكنيسة: إنّه الإيمان. فكروا في الصبر والجهد المطلوبين لشق قناة السويس! ماهو دافع هؤلاء العمال لأداء مهمتهم الصعبة؟ الإيمان. انظر مرة أخرى إلى نفق جبل سينيز! فكر في الكيفية التي بدأ فيها هؤلاء المهندسون في الجوانب المقابلة لذلك الجبل، وفي طوله الكامل، بعد سنوات من العمل، التقى الجانبان في نقطة وسطى.
إلى أي قوى علينا أن ننسب تلك الإرادة المتوجة بذاك النجاح؟ إلى قوة الإيمان العليا والمحيية.
كانت خطبة الرجل الجيدة من هذا النوع. لقد وعظ الشعب بلغة إيطالية، وكان يسكت بعد محاولة للتعبير عما في خلده، وما استقر في دماغه الصلعاء، حاملاً منديلاً قطنياً للجيب أزرق اللون. لقد كان يوماً حاراً، وقد أرهقته البلاغة التي كان يتحراها في حديثه إلى حدٍ بعيد.
قمنا بجولة في المعرض بعد خروجنا من الكنيسة. تقام هنا المتاجر المتحركة والأكشاك لبيع جميع السلع تحت الشمس- قبعات، ومظلات، وغلايين، ومناظير، وأوانٍ، ومقالي، وأباريق الشاي، والجلد المدبوغ، والجلد غير المدبوغ، والسلال، والمغارف الخشبية، والأحذية الطويلة والقصيرة. والألحفة، والأطناف المطرزة في المنزل، والكتّان، والمناجل، وآنية الصفيح، والأواني الخشبية، والمسامير، والبراغيّ، وأدوات النجارة، والمُدى، والشوك، والملاعق، والخزف، والألعاب، والصلبان، وكتب الصلوات، والحمالات، والأربطة، وكتب الجيب، وسلاسل الفولاذ، وأزرار الأكمام، والأدوات المكتبية، والدواجن الحية، والفاكهة، والخضر، والمجوهرات الرخيصة، والأشرطة، والمطارف، والبذور، وأقفاص الطيور، ومظلات القطن من جميع الألوان. هنا أيضاً يوجد كشك لبيع الساعات اليدوية حصراً، من ساعات التورنيب الفضية الضخمة إلى ساعات جنيف الصغيرة الحجم، وربما أيضاً القيّمة منها التي قد يصل ثمنها إلى فلوريناً إنجليزياً. وبالقرب من باب الكنيسة يوجد كشك أكبر قليلاً تتكدس فيه الأعمال النحاسية التي تعود للقرون الوسطى، شمعدانات المذابح، والزنجار، والكؤوس وما شابه ذلك. بينما الذي يفصله عنه حانوت واحد فقط مزارع عجوز غامض الهيئة يشرف على برميل كبير مليء بالقش والماء، وحول سطحه تصطف الأحجار المبللة من كل الأحجام في مصفوفة متسقة ومتناسقة.
ومن اللافت في هذا الاحتفال غياب عنصر الرقص وأكشاك المرطبات. فالتيروليون المتزنون لا يرقصون كثيراً، عدا في مناسبات الزفاف، أما الوجبات، فتكتظ الفنادق الصغيرة منتصف النهار بالزائرين الذين لم يتزودوا بالطعام في رحلتهم، ويأكلون هناك بشيء من الاحتفالية. وحتى الألعاب البهلوانية، لا يبدو أنّها تجذبهم إلى حد كبير. يتجمع حشد كبير أمام العرض، وغالبا ما يمتليء الميدان بالزوار في الظهيرة، ولكن لا يبدو أنّ الكثيرين يقصدونها. إنّهم سعداء، في أغلب الحال، لسماع الحوار الفكاهي الذي يؤديه بإتقان على الرصيف الخارجي البهلوان وميري اندرو، ويؤثروا يحتفظوا بنقودهم بدلاً عن إنفاقها على مشاهدة العرض.
تتسلل الكاتبة الآن إلى الأركان وما وراء الأكشاك في محاولة لإتمام كتابة ملاحظات قليلة حول الأزياء والشخصيات، مدركة من تجاربها السابقة عدم شعبية الرسّام، ولكن كونها سهلة الاكتشاف، مما يجعل الجميع يتحلق حولها يجبرها الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما، إما استخدام قلمها بكل سرور علناً، أو ترك الأمر كله. وقد أثبت سكان الامبيزو الطيبون أنّهم اقل حساسية بهذا الصدد عن مزارعي إيطاليا أو سويسرا. فقد كانوا مسرورين لرسمهم، وتحلقوا بالعشرات، يتوسلون لتصويرهم رسماً، وقد كانوا قلقين من حذف أية تفصيلة تخص الأزياء. وقد جاءت معي إلى المنزل امرأة جميلة جدا من ليفينالونغو أملاً في الحصول على فلورين وعدتها به نظير إجراء دراسة ملونة لزيّها. لقد كانت طويلة، وذات بنية جميلة، ولم تستطع تلك السترة الفضفاضة ولا الصدرية الشبحية أن تنتقص من كمال جسدها. وكما وضعتها، وقفت، صامتة، ساكنة، وساهمة لأكثر من نصف ساعة. وقد كان لها وجه لم أر أكثر منه هيبة، ولا عذوبة، وفيه حزن لا قرار له. وعندما سألتها قالت إنّها في الثالثة والعشرين من عمرها، وتعمل كخادمة فلاحة في ليفينالونغو.
" وهل أنت غير متزوجة؟" سألتها.
" لا، سيدتي"
"ولا مخطوبة؟"
"لا سيدتي"
" لابد أنّك المسؤولة عن ذلك،" قلت
ولكنها هزت رأسها.
"أه، لا" أجابت وقد تغير لونها قليلاً: " لا يتزوج شبابنا بدون نقود. من كان ليفكر فيّ؟ إنني فقيرة جداً".
لربما أردت أن أعرف أكثر عن تأريخها، ولكن كرامتها الفطرية وتحفّظها جعلاني أشعر بضرورة عدم أطرح عليها المزيد من الأسئلة.
انتهى الرسم، ألقت عليه لمحة واحدة، وأعادت المبلغ المتفق عليه، واستدارت لتذهب. لقد أظهرت السيدة أريحية كبيرة، فلم تكن تريد أن تتلقى أجراً. بيد أنّ الإلحاح عليها لتأخذ المال جعلها تتمسك بموقفها وتمضي لحال سبيلها، ويبدو أنّ تصرفها ذاك ينبع من حسن تربيتها وليس من زهدها في الأجر، سارت على الطريق المنحدر خلف المنزل، ثم فوق الجبل بمفردها عائدة إلى الديار.
في تلك الظهيرة جاء سانتو سيوربايس مرة أخرى، يرافقه رجل شاب طويل ذو شعر أشقر وسحنة داكنة، في حوالي الثامنة والعشرين أو الثلاثين من عمره، قدمه إلينا بصفته "السيد غوسيبي غيدينا" وقال إنّ غوسيبي هذا مزارع، تزوج مؤخراً، وحسناً ما فعل. وهو ابن أخ صاحب فندقنا أكيلا نيرا. وبما أنّه ليس مرشداً محترفاً، فسوف يكون سعيداً بالسفر مع السيدات، ويساعدهن بكل ما أوتي من قوة. وهو لا يدعي معرفة جميع البلاد التي تقع داخل نطاق مشروعنا، ولكنه سوف يستعين بتعليمات سانتو المكتوبة في ما يتعلق بالمسارات، والفنادق، والبغال، والمرشدين وما إلى ذلك، وأنّه، أي سانتو، لا يساوره أدنى شك في أنَّ غوسيبي سيثبت كفاءته في جميع المهام التي يتطلبها العمل بدرجة لا تقل عنه هو نفسه.
وقد أسرنا غوسيبي بأخلاقه ومظهره بشكل خاص. لقد أحببنا جاذبيته، وذكاءه الذي كان جلياً في ما طرحه من أسئلة وما قدمه من إجابات، واهتمامه بدراسة خرائطنا وكتبنا الدليلية. وعليه سرعان ما وضعت الخطة التمهيدية. وكان عليه الاطلاع بشكل شامل على جميع المسائل ذات الصلة بالمسار، ويبقي نفسه مستعداً للالتحاق بنا في غضون يوم أو اثنين.
وفي هذه الاثناء تم الاتفاق على أنْ ندفع له ذات الأجر الذي كنا سندفعه مقابل خدمات سانتو سيوربايس: وهو تحديداً اثنان ونصف فلورين عبارة عن مستحقاته، وواحد ونصف فلورين لطعامه- ما يعادل في جملته ثمانية فرنكات، أو ستة شلنات وثمانية بنسات. وإن عنَّ لنا السفر عن طريق أي من الوسائل العامة، فعلينا فقط دفع ثمن تذكرته، ولكن يتحمل هو نفقة السكن وجميع النفقات الأخرى في الطريق.
وربما يلاحظ هنا، فوراً وعلى الدوام، أنّه قد لا يتسنى لنا اختيار الطريقة الأكثر حظاً. فغوسيبي غيدينا، المخلص، الأمين، المهذّب، النشط، الذكي غير المعتاد على مكتبه الجديد، شرع في أداء واجباته بكل تلقائية، فكان فوق توقعاتنا. كان دائماً مستعداً، مع أنّه لم يك دائماً أمام أنظارنا، وكان يهتم بأموالنا كما لو أنّها ملكه، ويفكر فينا وليس في نفسه أبداً. وكان حريصاً جداً على أن ترى السيدات كل ما تنبغي رؤيته، وعند السفر خلال ضاحية ما جديدة عليه، كان يتكبد المشاق كلها ليضيف إلى كتاب الجيب الخاص به جميع التفاصيل ما أمكنه ذلك، واضعاً في الاعتبار كل بند قد يثير اهتمامنا مما قد يقابلنا في الطريق في رحلة الغد. لقد ظل معنا، كما سيفعل خلال هذه الجولة في منطقة الدولمايت، وقد فارقنا في نهايتها وفي قلوبنا حسرات كلٌ على فراق الآخر.
أعداد ممن احتشدوا في المعرض والكنائس طوال هذا اليوم عادوا إلى ديارهم، في الظهيرة أو المساء. وطول النهار كانوا يبدون كنقاط متناثرة على جميع دروب الجبل، وظلت نداءهم الألبيّ القوي يرنّ لساعات بعد أن خلد جميع من في كورتينا إلى النوم، وشقت صمت الليل. في صبيحة اليوم التالي، على أية حال، بدا أنّ عدد زوار المعرض لم يقل عن السابق، وظل قائماً طوال اليوم الثاني بروح لم تعرف الكلل.
بدأ الصباح التالي بحفل زفاف. وقد كان ترتيب حفل العرس كما يلي: أتت في البداية فرقة الآلات النحاسية التي لا تعرف الكلل ولا الملل، ويصل عدد عازفيها إلى العشرين ونيف، ثم العروس ووزير الريس، ثم والد ووالدة العروس، ثم العريس يمشي وحده، وأخيراً أقارب وأصدقاء العروسين وقارب عددهم أربعة عشر أو خمسة عشر شخصاً.
وبهذا الترتيب ساروا مرتين على امتداد البلدة طولاً. ارتدت العروس فستاناً أسود اللون من قماش الألبكة، والصدرية القماشية السوداء والأكمام البيضاء كما هو معتاد، ثم مريلة رائعة من الحرير الأحمر والأخضر تغلق من الخلف بزوج من المشابك النحاسية الظريفة. ولم ترتد العروس قبعة، ولا أي من النساء اللواتي شهدن العرس، بل وضعن فقط الكثير من الدبابيس الفضية في شعورهن المصففة بعناية. وعند دخول الكنيسة، اتخذ الجميع مقاعدهم في الممر حتى منتصف القاعة، واتجهت الفرقة إلى الشرفة الخاصة بآلة الأورغ.
ذهب العريس الآن بنفسه إلى المذبح، وركع. وبعد أن مضى على ركوعه دقائق قليلة، رافقت الأم ابنتها إليه لتقف إلى يساره، وتركتها هناك. وبعد أن ركعا معاً لحوالي خمس دقائق أخرى، دخل الكاهن، يتبعه قارع الجرس، الذي قام بدور الكاتب. أشعل قارع الجرس زوجاً من الشموع الطويلة وقدمها للكاهن، الذي باركهما، وأعطى واحدة للعروس والأخرى للعريس. وهكذا بدأت مراسم الزفاف.
تلا الكاهن قداس الزواج بصوت خفيض وبسرعة شديدة، ولم يتوقف الا الآن لطلب الخواتم، التي سلمها إليه قارع الجرس في طبق زجاجي صغير. بارك الكاهن الخواتم، وأعطى في الأول واحداً للعريس ليضعه على إصبع العروس، ثم أعطى الآخر للعروس لتضعه على إصبع العريس. وأثناء كل هذا الوقت لم يفارقا شمعتيهما، بل نقلاها من يد لأخرى كما يتطلب الحال. وفي هذه المرحلة من المراسم أخرج العريس بعض المال وقدمه للعروس. وعندها رُش عليهما الماء المقدس، وكان في هذا ختام طقس الزواج.
تلا ذلك القداس الأكبر، كما البارحة، بالفرقة الكاملة ومصاحبة الأورغ، ظل الزوجان الجديدان طوال فترة القداس على ركبتيهما أمام المذبح، يحملان شمعتيهما المتقدتين.
وبعد فترة ليست بالقصيرة، عندما انتهى كل شيء، وكان الحضور على وشك الانصراف، نهض العريس بهدوء شديد، وسار في طريقه إلى خارج الكنيسة، تاركاً عروسه ما تزال جاثية. عندها أتت أمها مرة أخرى وقادتها إلى الخارج. أما العريس، فبدون أن يلتفت وراءه ليعرف ما حدث لها، ذهب ليلعب بالكرات الخشبية في الميدان، ومضت العروس إلى المنزل مع والديها، فخلعت زينتها، وعادت بعد فترة قصيرة ترتدي ملابسها العادية. ربما كان هذا تقليداً تيرولياً بالنسبة للأشخاص المتزوجين حديثاً، أن يتجنبوا بعضهما البعض قدر الإمكان. في كل الأحوال، فقد تسكع العريس مع الرجال، وسارت العروس مع أهلها، ولم يُشاهدا معاً بقية ذلك اليوم بطوله. ومن أجمل النزهات التي قمنا بها في ذلك الوقت كانت رحلتنا إلى لاندرو في هوليشتاين تال، حوالي اثني عشر ميلاً من كورتينا على الطريق النمسوي. وفي هذه المرة، قدم لنا صاحب الفندق عربة صغيرة على نوع جيد من النابض، ومقعد من الأمام للسائق، وقد بدا الحصان الكستنائي في طقم رائع، وزيّن رأسه بشرابات حمراء وعقد من الأجراس المجلجلة الصغيرة.
وانطلقنا مرة أخرى وجيوفاني على مقعد القيادة، مبكرين هذه المرة في صباح أغر من أيام شهر يوليو، متبعين مسار وادي الامبيزو الأعلى، بمحاذاة جبل التوفانا بطوله، وناظرين إلى قممه الثلاث على التوالي. وقد أمضينا وقتاً طويلا على الجرف، لا يقدّر ارتفاع هذا الجبل وضخامته الا من رأوه من جانبين اثنين على الأقل من جوانب مثلثه العريض: من ممر تري ساسيه على الجهة الجنوبية الغربية، ومن الطريق العالي على الشرق. المشاؤون المهرة قد يستطيعون إكمال الجولة على الجبل بنزول وادي ترافيرنانزا إن توفر لديهم الوقت، وهو الوادي الذي يفصل بين جرف توفانا وجرف جبل لاغازوي. أما القمة الهرمية على جانب ممر تري ساسيه فقد صعدها الصيادون من كورتينا مراراً وتكراراً. وقد كان صعود القمة المركزية من إنجازات د. غرومان في عام 1863.
أما الوصول إلى القمة الشمالية فقد كان في عام 1867، إذ صعدها السيد بوني الذي وصف المنظر الذي تطل عليه باتجاه برونيك وقمة فينيديجر العظيمة كواحدة من أجمل القمم في سلسلة الألب الشرقية. أما القمة الأعلى وفقاً لآخر القياسات فتبلغ حوالي 10.724 قدم تقريباً.
من كورتينا، يسير الطريق لبعض المسافة في مستوى يقارب الستين قدماً فوق مستوى حوض بويتا، ويمر الآن تحت أحد أعمدة الحلاقة والمخطط باللونين الأبيض والأحمر، والذي يبرز هنا عبر الطريق على زاوية تبلغ 45درجة. وبينا نستعد للرحيل تحت قيادته، تطير بوابة أحد الأكواخ الملاصقة، التي اتخذناها حتى الآن منزلاً مناسب الحجم فجأة فتنفتح على مصراعيها، ويلقي رجل عجوز، واهن، وضئيل الحجم بنفسه إلى وسط الطريق، ويطلب رسوماً تصل إلى 48 عملة فضية من فئة الكروزر. وبما أننا اكتسبنا قدراً من المعرفة بأساليب المنطقة، فسرعان ما عرفنا أنَّ السواري المخططة بالأبيض والأحمر تعني دائماً حاجزًا ضريبيًا. بينما يشير اللونان الأصفر والأسود إلى الخط الحدودي بين النمسا وإيطاليا.
ومن هنا يبدأ الطريق صعوداً والجبال تتقارب، قمم جديدة، تكسوها الثلوج من فوق والغابات من تحت، وظهرت في الأفق قمة بوتلشتاين، والتي كانت تتوجها قلعة حصينة شهيرة من العصور الوسطى، تسد الطريق في آخر الوادي. أما القلعة القديمة فقد سويت بالأرض عام 1867، وهنالك حديث حول قلعة حديثة ستقام في مكانها. وفي هذه المكان يبدأ الطريق في الانحراف بشدة إلى اليمين، ويرتفع خلال غابات الصنوبر، وتحت الرصيف الذي كانت تقوم عليه القلعة، تاركاً السيل الهادر بالأسفل، و يتجه شرقاً بزوايا قائمة إلى وادي الأمبيزو، الذي يسمى باللهجة المحلية "تال تيديسكو"، الاسم الذي لا يمكن العثور عليه على أية حال في خرائط ماير ولا آرتاريا. وهنا أيضاً لوح بجانب الطريق يخطرنا بأننا دخلنا ضاحية ويلزبيرغ.
أصبح الطريق الآن يمر عبر سلسلة من الساحات المشعوشبة الزكية، عبر غابات الصنوبر المحملة بالكريمسون والثمار المخروطية المخملية، ويزدان بمستنقعات الألب بلونها الرمادي الغريب. وعالم كامل من زهور الجريس البرية، والجنطيان القرمزي، ونور زهرة العاس الذهبية الغامقة، والدفنة الزهرية، وغيرها من الأزهار البرية، وبعضها جديد علينا تماماً، وهنا براعم كثيرة حتى إنَّ المساحة الرفيعة الخضراء على كل من جانبي طريق العربة تبدو كما لو أحاط بها شريط من السجاد الفارسي.
وفي هذه الأثناء وعبر ثغرات الغابة، التقطنا لمحات من قمم الدلمايت الرائعة يميناً ويساراً والتي ما تفتأ تبرز بين الفينة والأخرى في المساحة المفتوحة للأرض الخضراء على الحدود التي تصطف عليها البيوت الصغيرة الملحقة بالمزارع، ونرى قمم الكريستالينو التي يبلغ ارتفاعها (9238 قدماً) التي تبرز في تحصينات عملاقة وراء الأرض المنحدرة على الجانب الأيمن من طريقنا. والآن يعبر الطريق حوض سيل وعر، مليء بالأحجار وحاد الانحدار، ويكاد لونه الأبيض يخطف الأبصار في ضوء الشمس. نقف هنا، ونتلمس طريقنا عابرين من صخرة إلى أخرى، بينما يقود جيوفاني الحصان الكميت خلال الدروب الرملية.
والآن، وبينا نخرج من غابة الصنوبر، يظهر أمامنا جبل ضخم من جبال الدولمايت، داكن اللون كئيب الطلعة، به لطخات من اللون الأحمر، يبرز فجأة شاهقاً شامخاً إلى يسارنا ، ويبدو أنّه يكاد يسقط على الطريق.
ماهو هذا الجبل؟ وقد أخطأ جيوفاني للمرة الأولى. فيخال إليه أنّه لابد جبل كرودا روسا، لكنه ليس متأكداً. وبعثورنا على جبل، على أية حال، يقع في هذا المكان في خارطة ماير، ويدعى جبل كريبا روسا، وفي أرتاريا باسم روثواند، يسعدنا أن نخلص إلى أنّه ذات الجبل في كلا الحالتين، والاختلاف في الاسم فقط.
بخلاف جميع جبال الدولمايت الأخرى، التي رأيناها حتى الآن فإنَّ كرودا روسا لم يكن رمادياً وشاحب اللون، ولكنه بنيّ كئيب، وذو مسحة ارجوانية، مثل الجبل المعروف باسم "الدرج الأسود"، بالقرب من إنيسكورثي، في إيرلندا. وبالمضي في اتجاه سكلوديرباخ، وبالنظر إلى الخلف على جبل كرودا روسا، يفترض أنّه كان عامل تهديد على الدوام، بالصعود إلى جرف بعد آخر نحو واحدة من القمم العريضة المقببة، التي تتجمع تحتها قمم صغيرة شديدة الانحدار في لون الدم القاني.
ومن هذه الشرائط والبقع الضخمة من ذات المسحة تنساب رواسب قاحلة إلى الأسفل، كما لو أنَّ ذبحاً عظيماً قد تم هناك، في الأيام الغابرة من التأريخ.
مرورا بسكلوديرباخ، وهو فندق على جانب الطريق تبدو عليه النظافة، وصلنا إلى موقع درين. فرأينا بحيرة صغيرة لطيفة في لون الزمرد الأخضر، عليها خطوط من الظلال البنفسجية وتصل في طولها إلى ثلاثة أرباع الميل. تقف الجبال العظيمة على مقربة من جميع الاتجاهات، والغابات الغنية في أسفل منحدرات الهضاب إلى حد الماء. القمم المحتشدة، والجليد والثلوج اللانهائية لجبل كريستالو: القمة الحصينة لبيز بوبينا: والأبراج الاستثنائية لدري زينين تنضم واحدة بعد الأخرى إلى روعة المشهد. كما هو الحال بالنسبة لدري زينين فإنها تفوق في وضوحها وغرابتها جميع قمم دولمايت الامبيزو. وتبدوان من خلال الفتحات في الهضبتين المكسوتين بالغابات، تصعدان بحدة من وراء لوحة جبل بيانو التي تفرض نفسها، كما لو أنّها انبثقت من مركز الأرض، مثل زوج من الأنياب. ليس هنالك وصف مجرد بوسعه أن ينقل لأكثر القراء حصافة، أي انطباع سليم عن التضاريس، وملامح الطاقة الكثيفة لارتفاع "الطعنة"، قوة لا تقبل المقاومة. عمودان مقفران معزولان من الكبريت الشاحب، وحجر الجير الذي تتخلله خطوط برتقالية اللون، تهتز جميعها فتصبح شفرات حادة وأسنانًا تشبه أنياب سمك القرش تصعد باتجاه القمة، إنّها تكاد تتحدى قلم الرصاص، وتتحدى قلم الحبر أيضاً. ومع ذلك فإنَّ الرسم التوضيحي المرفق، يعبر بصدق يضاهي حقيقة الشكل الفعلي، ويجوز للكاتبة أن تقسم على رسمها له بعناية فائقة من أفضل موقع على طول حدود البحيرة.
الديري زينين
أما في لاندرو، وهو فندق نظيف ومريح يقف منفرداً على طرف البحيرة، توقفنا لإطعام الحصان وتناول وجبة الغداء. حيث قُدمَ لنا طبقٌ قوامه سمك السلمون البارد الممتاز من بحيرة ميزورينا، مع الكوستلاتة الساخنة. كان المكان بكل مافيه يبعث على التفاؤل. أما أصحاب الفندق فهم السيد والسيدة، وابنهما وهو ولدٌ لماحٌ في السابعة عشرة من عمره، كان يتحدث لهجة غير مفهومة من اللغة الألمانية، ولكنه كان خدوماً وحاضراً عند الاحتياج إليه بشكل يدعو للسرور. اعتقدنا أنّه ربما كان مكاناً مناسباً للبقاء لأيام قليلة، فسألنا عن الغرف، ولكن كان الفندق مشغولاً عن آخره ومحجوزاً لمجموعة كبيرة طوال فصل الصيف، وهي مجموعة يغلب عليها الإنجليز، وبينهم عضو في نادي الألب الإيطالي. كان يتبع هذا السيد كلب عملاق من نوع سان برنار، وقد دلف بينما كنا على مائدة الغداء، مرتدياً قميصاً قرمزياً رائعاً من القطن، وزوجًا من أحذية الفروسية العالية، وقد كان يتبعه كلبه دائماً، وقد شهد هذا الصباح انهياراً ثلجياً خطيراً لجبل كريستالو.
انتهى الغداء، وأمضينا فترة في الخارج نتسكع ونرسم، بجانب مياه دورين الرائعة. نشاهد بحيرة تجري فيها ثلاثة سيول، ولا ينبع منها أي نهر. لم لا تتدفق على شواطئها، وأين تذهب المياه الفائضة؟ هذه أسرار لم يقع أحد بعد على تفسير لها. وهنالك حديث حول صدوع خفية وانبعاثات طبيعية في حوض البحيرة، ولكن لا يبدو أنّها تفسر على الأقل توازن كمية المياه التي تصب في البحيرة والتي تجف منها. وعليه فإنّ امتلاء حوض دورين سي بالمياه على الدوام دون أن يشهد أي نوع من الفيضان يظل لغزاً في انتظار أن يفك طلاسمه العلماء.
وربما يجدر بنا أيضاً ذكر أنَّ دري زينين الذي يبلغ ارتفاعه (9.833 قدماً)* من الجبال الثلاثة العظيمة التي ترى من لاندرو، والذي قد تسلقه مؤخراً أعضاء النوادي الألبية النمسوية والألمانية، فكان بيز بوبينا (10.389 قدماً) هو الأول الذي صعده السيد إ. ر. وايتويل، والقمة الأعلى لجبل كريستالو (10.644قدماً)، التي صعدها د. غرومان في سبتمبر عام 1865، من ممر كريستال، بدايةً من جانب التري ساسيه.
ومن دورين سي يبدأ الطريق مرة أخرى في الميلان ناحية الشمال، ثم يمضي مستقيماً تقريباً طوال الطريق حتى توبلاخ، على مسافة تقارب عشرة أميال إنجليزية. وبالنظر إلى مشهد هذا الوادي الضيق من لاندرو، يرى المرء جبال باستر تال التي يغطي الجليد قممها التي تسد الأفق.
وعندما عدنا إلى كورتينا في وقت الظهيرة الجميل، تركنا العربة في مكان ليس ببعيد من حاجز الضرائب، وسرنا على الأقدام باتجاه الديار عبر الدرب الأدنى الذي يمر بالحقول والمروج وأطلال عجيبة لقصر ذي أبراجٍ، أصبح أحدها الآن جزءاً من كنيسة صغيرة بنيت من أحجار الحصن القديم.
بالقرب من كورتينا
وفي هذه الأثناء ما زال لدينا الكثير لنشاهده ونقوم به قبل مغادرة كورتينا. فلا بد أن نرى المارمارول، المتواري تماماً وحتى الآن خلف كرودا مالكورا، وبحيرة ميسورينا، الشهيرة بما فيها من ثعالب الماء وسمك السلمون المرقط. لابد أن نزور ممر التري كروسيه، ونصعد إلى وادي اورونزو، وفوق كل شيء يجب أن نزور مسقط رأس تيتيان في بياف دي كادوري. ولا يبدو من السهل بمكان أن نحكم من الخرائط على إمكانية جمع هذه المواقع في رحلة واحدة بالترتيب، وإمضاء ليلة أو اثنتين على الطريق. وحتى يتسنى لنا ذلك فسنتبع وادي الامبيزو إلى بياف دي كادوري، ثم نأخذ طريق وادي بياف حتى نقطة اقترانه مع الانزاي في تري بونتي، ومن ثم الانثناء إلى وادي اورونزو، ومن اورنزو نأخذ طريق العودة إلى كورتينا عبر وادي بونا وممر تري كروسيه. وسوف يأخذنا هذا المسار إن كان عملياً في دائرة مكتملة تمر على كرودا مالكورا، وانتيلاو، ومارمارول، ويمكن على ما يبدو الانتقال في جميع طرقاتها بالعربة.
وقد دعمت النصيحة التي قدمها إلينا غودينا الكبير أنَّ هذه الخطة قابلة للتنفيذ طالما كان الوصول إلى المكان المسمى كازا دي سان ماركو في وادي بونا سهلاً عبر أحد الطرق الجديدة في عملية البناء التي تقوم بها الحكومة الإيطالية. أما بخصوص حال هذا الطريق من الاكتمال أو عدمه حتى نقطة كازا دي سان ماركو، فهذا أمر لم يكن متأكداً منه، ولكنه لا يشك في أنَّ العربة قد تصلح للانتقال إلى ما بعد تلك النقطة. وعلى أية حال فإنَّ الطريق الجديد لم يفتتح بعد، ونحن بكل تأكيد نستطيع فقط استخدام الجزء المكتمل منه. ولذلك أرسل مجموعة من الخيول المسرجة عبر مضيق تري كروسي لتقابلنا في كازا دي سان ماركو، وتعود العربة من خلال مسار مخصص للعربات يمر بلاندرو. وبمعاونة هذه الخيول استطعنا صعود ميسورينا الألبية، وعدنا أدراجنا عبر تري كروسيه إلى كورتينا.
وكما في المرة التي شهدناها، استطعنا فتح حساب الجيرو الخاص بنا في يومين أو ثلاثة، كنا ننام في حالة واحدة في كلا من بياف دي كادوري و أورونزو، أو في الحالات الأخرى نبدأ مبكراً بما يكفي لقضاء اليوم في بياف والوصول إلى اورونزو في المساء. وبسماعنا الأخبار غير السارة عن النُزُل في بياف، أتى قرارنا في آخر لحظة.
وقد كان اليوم الذي بدأنا فيه من هنا، أولى رحلاتنا الطويلة، هو اليوم الذي بدأ فيه غوسيبي العمل معنا كمساعد رحلات. وكنا ننهض باكراً، ونطلب العربة في السابعة صباحاً، وهي عربة من فئة اللانداو، رحيبة، ويسحبها زوج من الخيول الأساسية، التي يقودها مدرس مهيب أشعث الشعر ذو رصانة ولطف. وقد تبين أنّه طيب إلى حد غير متوقع، ومريح وربما اعترف بالفضل لأي من فنادق الدرجة الأولى التي تركناها خلفنا مؤخراً.
تجمع آل غيدينا لرؤيتنا نغادر. وبدا الحزن على قسمات خادمة ل. لتركها في الغربة، وهي تراقبنا من الشرفة. وقف مدير مكتب البريد، والصيدلي، والبقال، وراعي الأبرشية معاً في مجموعة صغيرة على ركن الميدان لوداعنا. وأخيراً وضعت الحقائب، والمفارش والمظلات في العربة، وقفز غوسيبي إلى مقعده في الصندوق، وفرقع السائس سوطه، وانطلقنا تحيط بنا التمنيات برحلة طيبة من المودعين " buon viaggios ".
وكانت المرحلة الأولى من الطريق (حوالي 12-14 ميلاً) حتى تاي كادوري، تقع على الأرض نفسها التي مررنا بها في يوم وصولنا لكورتينا. على أية حال اتجهنا إلى جانب الطريق تاركين جبل زوكو زكزاك وراءنا في الأسفل، وصعدنا على الطريق الأبيض الطويل المؤدي إلى القرية التي على الهضبة.
عند منتصف المسافة بين الواديين تقريباً، توقفنا عند كنيسة صغيرة على جانب الطريق لرؤية صليب عجائبي عثر عليه عام 1540 في أحد الحقول القريبة، حيث ظهر أثناء حرث الأرض. ولم يكن الصليب قديماً جداً قِدَم غزو الغوطيين الغربيين عام 410 بعد الميلاد،(كما يعتقد بعض الأثريين المحليين) ولا الهون في 432 بعد الميلاد. ولكن الصليب بلا شك فيه غرابة، وربما دفن ليجلب الأمن إبان الغزو الألماني تحت قيادة ماكسيميليان في عام 1508 للميلاد. ويفترض أنّه قد اجترح منذ ذلك الوقت عددا كبيرا من المعجزات، من التعرق الدموي، وظل أثناء وباء عام 1630، وبطرق عدة وفر درجة استثنائية من الحماية والتأييد لشعب كادوري. وقد كرّست الكنيسة الصغيرة في الأصل للقديس انطونيو، وهي تدعى الآن كنيسة الصليب المقدس، وتتمتع بصيت ذائع في أرجاء هذا الجزء من تيرول. لقد تم نحت الصليب من الخشب البني القديم، والصورة المقدسة محجوبة إلى حدٍ ما بواسطة خصلة من الشعر الطبيعي، وبشكل لا يخلو من سذاجة.
لقد وصلنا إلى بياف دي كادوري حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، بما في ذلك الوقت الضائع، ووجدنا الفندق دون الوسط مثل ما يشاع عنه. لقد كان صغيراً جداً، ومتسخاً للغاية، ومزدحماً بالفلاحين الذين انهمكوا في الأكل والشرب والتدخين. صعدنا إلى الدور العلوي بحثاً عن ركن يمكننا ترك لفائفنا فيه، ونحاول تناول غداءنا كل بمفرده. ووجدنا الغرف بحال مزرية، فقررنا أن ننزل بالاستقبال. لم يكن مكاناً مريحاً البتة، مزدحم بجذوع الأخشاب، وهو لا يفضل بقية المنزل بشيء سوى التهوية. تم إخلاء بعض المساحة، على أية حال، تمت استعارة بعض المقاعد من الغرفة المجاورة، وقد تم استخدام الجزء العلوي من منحوتة غائرة كبيرة، أو خزانة ملاءات كمنضدة. وبما أننا طلبنا بعض الطعام ليكون معداً حوالي الساعة الواحدة (الساعة الآن حوالي الحادية عشرة) فقد هرعنا إلى الخارج لمشاهدة منظر المكان. تطوعت أصغر بنات صاحبة الفندق، وهي فتاة تتكلف الرسمية في أسلوبها، في الثانية عشرة من عمرها تقريباً، لتكون مرشدتنا، وعندما لم نقبل بعرضها، آثرت متابعتنا من على البعد في شيء من العناد.
الساحة القديمة الغريبة بأروقتها الكئيبة، ومنازلها العتيقة ونوافذها الفينيسية، ومقاهيها، ونوافيرها، وآرائكها، التي تشبه كثيراً ساحات سيرافالي، ولونغاروني، والبلديات التي تشترك معها في الطراز. بمبنى بلديتها الرائع، وبرج الجرس المألوف بالفعل في صفحات مؤلف جلبرت عن "كادوري". وهناك أيضاً الدرجات المزدوجة الجميلة التي تؤدي لى الأعلى حيث المدخل الرئيسي في الطابق الأول، كما في قاعة مدينة هيلبرون- وهي سمة إيطالية دون شك، وهناك حوالي منتصف الطريق يقع برج الجرس، وهو ضخم، ومزدان بجصيّة كان تصميمها في الحقيقة أجمل من رسمها، حيث يقف فيها تيتيان، على ارتفاع يصل إلى 12 قدماً، ملتحياً ومرتدياً عباءته، مقابل خلفية لازوردية، تشبه إلى حدٍ كبير بورتريه عملاق القافلة في معرض.
كانت هذه اللوحة هدية إلى كمونة كادوري من الفنان الذي قام بتلوينها- وهي الآن ليست سوى جصيّة جدارية في البلدة. وقبل بضع سنين، كان يقال إنَّ أحد المنازل القديمة في الساحة - تم مسحه الآن بالكامل من على وجه الأرض- يحمل آثاراً مميزة لزينة خارجية بيد سيزاري فيشيلو، ابن عم تيتيان وتلميذه.
بالتحول جانباً من الساحة المتلألئة، وبالسير باتجاه انحدار الهضبة إلى يسار مبنى البلدية، وصلنا، على بعد ياردات قليلة فقط، إلى مساحة مفتوحة أخرى، معزولة ومكسوة بالأعشاب، ومحاطة من ثلاث جهات بمنازل متداعية، وآيلة للسقوط، وتفتح على الغابات والجبال من الجهة الرابعة.
في وسط هذا الميدان الصغير تقف نافورة حجرية عملاقة، قد أهلكها جريان الماء والزمان معاً، محاطة بتمثال للقديس تيزيانو في عباءته وقبعة كاهن مربعة الشكل.
ينساب الماء عبر انبوبين معدنيين في منصة التمثال تحت قدمي القديس تيزيانو، فتصدر خريراً يطرب السامعين، وفي الحوض الحجري القديم، الذي يتوارى جزئياً خلف النافورة، وينحني كما لو أنّه مظلة ملاصقة لمنزل أكبر، يقف كوخ صغير ومتهالك على جانب الجدار الذي يحمل لوحاً منقوشاً عليه السجل التالي:-
" في1473
ولد بين هذه الجدران الوضيعة
تيزيانو فيشيلو
عاش حياة نجومية
عاش فيها بالفعل لمائة سنة
ثم غادرها في البندقية
أغسطس
1576
مسكن متوسط الحال، منخفض السقف، شوهته أعمدة المداخن الخارجية والفرن المشيّد خارجه، يدخل إليه الضوء عبر نوافذ صغيرة متناثرة على طراز العصور الوسطى، مشهد يفتقر إلى الجمال وليس فيه ما يلفت الانتباه سوى أنّه المكان الذي شهد ولادة تيتيان!
لابد أنّ شكله كان مختلفاً عندما كان صبياً يلعب خارجه هنا على العشب. وربما كان ذا سقف عالٍ ومائل، مثل المنازل التي تبدو في خلفيات لوحاته، ولكن الفترة التي بقي فيها هذا الطوب عليه كانت طويلة بما يكفي لإصابته ببقع الآشنات الصفراء. و أنّ المرء ليود معرفة وجود النافورة والتمثال في عهده من عدمه، وما إذا كانت المياه تتدفق بدرجة الصوت الخفيضة ذاتها، وإذا ما كانت السيدات يأتين لغسل ملاءاتهن وملء جرار الماء النحاسية، كما يفعلن الآن. وقد كانت هذه الهضبة الخضراء دائماً ملاذاً من الرياح الشرقية، وقد شمخ جبل دورانو بقمته الغريبة هناك قبالة الأفق الجنوبي، وانحدرت الغابات باتجاه الوادي في الأسفل، ثم كما هو الحال الآن، حيث تنزل طريق الخيول بعيداً لتلتحم بالطريق المؤدية إلى مدينة البندقية.
صعدنا إلى المنزل، وطرقنا الباب. فتحه رجل أحدب الظهر يبدو عليه الإعياء، وألح علينا في الدخول، وقد بدا وحيداً هناك. كان المنزل شديد الظلام، وبدا أقدم من الداخل عنه من الخارج. والغرفة العلوية الطويلة الكئيبة بملحق ذي مدفأة بارزة في الحجرة، هي بلا شك تعود في تأريخها إلى عهد جد تيتيان، وهو المالك الأصلي للمنزل، بينما توجد مقصورة ملحقة غاية في الصغر والظلام، بها نافذة صغيرة في عمق الجدار الضخم، وقد أشير إليها باعتبارها الغرفة التي شهدت ميلاد الفنان العظيم.
" ولكن ما أدراك أنّه وُلد هنا؟" سألتُ.
رفع الرجل الأحدب كفه المضناة في استنكار مجيباً: " إنّهم قالوا ذلك، سيدتي، لقد ظلوا يقولون ذلك لأكثر من اربعمائة عام."
"هم؟" كررتُ العبارة في استغراب.
" آل فيشيلي، يا سيدتي."
" لقد كنت أعتقد أنّ عائلة آل فيشيلو قد اندثرت."
" عذراً سيدتي، لقد توفي آخر أحفاد إل تيزيانو" قبل وقت قصير، سنوات قليلة قبل مولدي، والفرع الموازي في العائلة آل فيشيلي هم من مواطني كادوري حتى هذا اليوم. وإن كانت السيدة تود التأكد من ذلك، فسترى اسم فيشلو على الحانوت الذي يقع على الجانب الأيمن في طريق العودة إلى الميدان."
لقد بحثت عنه، وهناك، بكل تأكيد، فوق نافذة الحانوت الصغير وجدته. لقد فاجأني الأمر بطريقة غريبة، كما لو أنّ الوقت توقف للحظة، وتذكرت كيف رأيت مرة اسم روبنز على واجهة أحد محلات السوق في كلونيا، حيث اعتراني الشعور ذاته تقريباً.
غادرت المنزل، وأنا أقل تهكماً عما كنت عليه لحظة دخولي. لم يكن هنالك شك في هوية المبنى، لقد اقتنعت بهوية الغرفة كذلك. لقد عاش تيتيان حتى أصبح – قبل وفاته بوقت طويل- سبباً في شهرة عائلته. لقد أصبح ثرياً، ونبيلاً، وعمت شهرته آرجاء إيطاليا. وبالتالي فقد اكتسبت الغرفة التي شهدت ميلاده، قبل نصف قرن من وفاته، وربما في حياة امه- ذلك النوع من القدسية التي تشيع عادة ما بعد الوفاة.
وقد توارث آل فيشيلو القصة جيلاً بعد جيل في خلافة متتابعة، مما يدل على كرم محتده الأكثر موثوقية من معظم التقاليد ذات الطابع المماثل.
المنزل الكبير الملحق، والمعروف في كادوري باسم كازا زامبيري، كان هو موقع الزيارة التالية. وقد كان في الأصل جزءاً من ملكية آل فيشيلو، وهو يضم جدارية قديمة، كانت في الخارج، ولكنها أصبحت في الداخل الآن بعد عملية لتوسعة المنزل، ويفترض أنّها من عمل تيتيان في شبابه.
وقد عرض علينا الأحدب أن يأخذنا لهذا المنزل، مغلقاً بابه خلفه في حرص، وخرج مرافقاً لنا إلى الساحة الصغيرة. وهنا وجدنا الفتاة الرسمية الصغيرة في انتظارنا ومعها ثلاث أو أربعة رفاق في عمرها، وقد اتخذوا وضعيات حرس عنيد لا يتزعزع.
قرع الأحدب جرس آل زامبيري، ولكن لم يجب أحد. فطرق الباب، ولكن تلاشى صدى طرقاته دون جدوى. وفي النهاية حاول فتح الباب، الذي كان مغلقاً بالمزلاج فقط، وفتحه على الفور.
" لنصعد إلى الطابق العلوي" قال ودلف مباشرة إلى الداخل.
تبعناه، بشيء من التلكؤ. وتحرك الحرس في إثرنا.
" من هنا،" قال الأحدب، الذي كان قد وصل إلى منتصف الدرج بالفعل.
" ولكن سيدة المنزل، أين هي؟" قلنا في تردد وإلحاح.
" أه، chi lo sa?، ربما كانت في الخارج، أو قد نجدها في الأعلى."
ومرة أخرى سرنا خلفه. كان منزلاً كبيراً، ويبدو أنّه كان جميلاً في وقت ما. لقد أحيط البهو الرئيسي بأبواب، وجُهزّ بمقاعد عتيقة ذات مساند مرتفعة، وقوالب منحوتة، وصناديق قديمة من خشب الصنوبر بحجم يتسع لإخفاء اثنتين أو ثلاث من لوحات جنيفرا بداخلها. ثم فتح مرشدنا واحداً من الأبواب، وقادنا إلى غرفة خالية يبدو أنّها كانت مرسماً، وكان فخوراً بالمكان كما لو أنّه يملكه.
وقال مشيراً إلى جصّية كروكية، تم تنفيذها على جدار الغرفة، وكانت قد أحيطت بإطار باللونين الأسود والذهبي كما هو متعارف عليه. "Ecco il Tiziano!":" هذا هو تيتيان."
كانت اللوحة تتألف من ثلاثة أشخاص:- صبي طويل الشعر يجثو على إحدى ركبتيه، والسيدة العذراء جالسة، والمسيح الطفل يقف على حجرها. وقد نحتت هذه الشخوص قبالة خلفية غير محددة إلى حدٍ ما من الأعمدة والستائر. لم يكن رسم هذه المجموعة متقناً على وجه التحديد، التلوين كان رقيقاً وسيئاً، ولكن هنالك شيء من الفخر والعذوبة في حالة وقسمات السيدة العذراء. كانت الستائر والخلفية قد تعرضت للضرر وإعادة الترميم – في وقت أو آخر- وما زالت أسوأ حالاً.
وهي لوحة صغيرة يبدو أنَّ الصبي قد قدمها في الأصل على سبيل النذر، وقد تم تلوينها ككل، ولكن يتضح الموقع السابق من خلال طريقة رسم أيدي الشخصيتين الرئيسيتين.
ووفقاً لذات التقاليد المحلية المتوارثة والمحترمة، فقد لوّن تيتيان هذه الجصّية في عمر الحادية عشرة. ويشير السيد جلبرت، الذي كتب عن كادوري أكثر مما فعل أيٍ من كتاب سيرة تيتيان الآخرين، إلى أنّ الصبي الراكع هو ليس سوى الفنان الشاب نفسه، وأنّه " أخضع نفسه بهذا السلوك إلى العناية الإلهية" قبل أن يهجر منزله في عام 1486، ليصبح تلميذا لزوكاتي في مدينة البندقية.
بينما كان الأحدب يسلينا بتأريخ الجصيّة، وقف الحرس يحدقّ بنا، والفتاة الصغيرة المقيتة كانت تسلّي نفسها بمطالعة ألبوم الصور الفوتوغرافية الملقى على الطاولة. وفي وسط هذا كله، فُتح الباب في نهاية الغرفة ودخلت امرأة.
وقد بعث فينا تعاملها مع غزونا بشكل طبيعي شعوراً كبيراً بالراحة، فقد استقبلتنا بود كما لو كنا قد قدمنا أنفسنا بأكثر الطرق طبيعية. وربما أنّها كانت معتادة على رؤية السياح الأجانب وهم يقتحمون غرفة رسمها عن طريق الخطأ، ولكنها بكل تأكيد لم تظهر أي استغراب لرؤية شخوصنا أو حقيبتنا. وأطلعتنا على بعض الخرائط القديمة، ونقوش كادوري، ورأس لتيتيان مطبوع على الحجر، وبعض الكنوز التي لا تقدر بثمن، وعندما نهضنا للمغادرة، طلبت بطاقاتنا التعريفية. قائلة: "إني أقدرها كتذكارات للغرباء الذين شرفوني بالزيارة".
عاد الأحدب الآن إلى منزله، وجرجرنا نحن أقدامنا صوب الكاتدرائية، ودائماً كانت الفتاة الصغيرة الجامحة في إثرنا، والتي اضطلعت بأعباء إرشادنا بعد انسحاب الأحدب، سواء أردنا ذلك أم كرهناه، بل قامت بذلك الدور على طريقتها الخاصة تماماً. فأخذت تثرثر وتوميء، ووضعت يديها على حقيبة الرسم، وغاصت في مظلّاتنا، وتعاركت حولنا، وأمامنا ومن خلفنا، ولم تفتأ تصخب بثرثرة سريعة لا تطاق.
هل كانت السيدات في طريقهن إلى الكاتدرائية؟ هنا! ليس عليهن سوى أن يتبعنها. فهي تعرف الطريق، لقد كانت تعرفه طوال حياتها. فقد ولدت هنا! انظر، تلك كانت بناية البلدية. هل تود السيدات الذهاب إلى مبنى البلدية؟ الكثير من الغرباء قاموا بزيارتها. هناك كانت توجد دار الدراسة. لقد درست هناك. لقد كانت مولعة بالمدرسة. و سقطت إحدى أسنانها الأسبوع الماضي. كان ذلك مؤلماً للغاية- مؤلماً بشدة. لقد خلعه الطبيب. إنّه يعيش في الساحة هناك، مقابل مكتب البريد تقريباً. كان هذا المنزل الصغير هنا للقس. وكان لديها عماً يعمل قساً، ليس هنا، على أية حال. في دوميجي، أعلى الوادي. ولديها عمة في كورتينا، وإخوة وأخوات، الكثير من الإخوة والأخوات، جميعهم أكبر منها. وقد أنجبت أختها الكبرى طفلاً الأسبوع الماضي-أوه. طفل صغير، ليس أطول من ذلك! هل تود السيدات رؤية الطفل؟ آه، حسناً كانت الكنيسة هنا. يجب أن تدخل السيدات من الباب الجانبي. أما الباب الكبير فهو موصد دائماً، عدا في أعياد القديسين وأيام الآحاد. أما الباب الجانبي فهو مفتوح على الدوام. "من هنا، من هنا، انتبهن لمواطيء أقدامكن فضلاً!"
إنها كنيسة كبيرة، في ضخامة كاتدرائية سيرافالي، وهي من الخارج غير مكتملة، بسيطة المنظر، ولكنها من الداخل لا تفتقر للتناسب. وتحفل مقصورة الكنيسة وجناحها بالصور، اثنتين أو ثلاث منها من أعمال تيتيان الأصلية الشهيرة. وليس منها على أية حال، ما يتميز بجمال يكفي للاستدلال على صاحبها من النظرة الأولى، مثل العظيم تيتيان سيرافالي، بيد أنّها تتسم جميعاً بأسلوب المعلم العظيم.
وقد صدف، لحسن حظنا، أنَّ القس كان في مجلس الكنيسة. وبسماعه أصوات تتحدث بلسان غريب. خرج رجل نحيل وسيم ونبيل في حوالي السابعة والأربعين إلى الخمسين من العمر، له قسمات واضحة، وعينان براقتان للغاية، وسحنة يغلب عليها النشاط، وشعر أبيض فضي. انضم فوراً إلى النقاش، وعرض علينا كنوز كنيسته في سرور بادٍ. كان اسمه دون انطونيو دا فيا (على الأرجح أنَّ لفظة دون هي تحريف لدومين، وهو كاهن الأبرشية)، ولقد عمل كقس لبلدته الأم خمسة عشر عاماً. أما في ما يخص التعليم والذائقة فهو يتفوق على بقية الكهنة التيروليين. لقد كان له اهتمام خاص بجميع ما يتعلق بتيتيان وآل فيشيلي، وهو يؤمن بأنّ كادوري هي المحور الذي يدور حوله العالم. أما أعمال تيتيان في الكنيسة فهي اثنتان عدداً: - إحداها لوحة كبيرة بالحجم الطبيعية تتضمن أربعة أشخاص بالطول الكامل، والأخرى مستطيلة، وتتخذ من إحدى الشخصيات موضوعاً لها، بنصف الحجم الطبيعي، ونصف الطول.
كانت الأولى تجسيداً للسيدة العذارء والطفل جالسٌ مع القديس روكو واقفاً على أحد جانبي المجموعة، والقديس سيباستيانو على الجانب الآخر. يشير القديس روكو كالعادة إلى جرح في فخذه، ويتخذ القديس سيباستيانو الوضعية البيروجينية التقليدية، مع وجه مقلوب، وكفين معقودتين وراء ظهره، وجسده مثقّب بالسهام.
لقد شحبت الألوان بدرجة مؤسفة، ولم يكن رسم القديسين متقناً، وكان التصميم رديئاً بشكل عام، والمعالجة تقليدية، وجودة العمل غير كافية، بيد أنّه لا يمكن أن ينظر إليه أحد تلاميذ تيتيان لخمس دقائق ويشك في أصالته.
إنّها شخصية السيدة العذراء التي تختم العمل ببصمة يد تيتيان. وهنا الوجه العريض والهاديء نوعاً ما، والسحنة النضرة، والشعر الأحمر الذهبي الذي كان يبتهج بتلوينه طوال حياته. لقد كان هذا هو النوع المفضل لديه من جمال الأنثى- ذلك النوع الذي قام بتطويره إلى أقصى حدود الكمال في "الحب المدنس والمقدس" في المعرض البورغيزي. وحتى الأزياء في عذراء كادوري، على الرغم من فقدان الكريمسون لناره، والأزرق الذي أصبح بارداً ومبهماً، بيد أنّه يستدعي تلك الثنيات الضخمة الوردية الأخرى، شيء غاية في الاستحالة، والأهمية التي تتسم بها الرحلة العليا النموذجية أكثر من أي وقت ليتحقق في محض طيات.
لقد نفّذت الصورة الحالية بلا شك عندما كان تيتيان صبياً لم يزل، ولكنها تحمل في الوقت ذاته دليلاً على أنّه قام برسمها بعد رؤيته مدينة البندقية ودراسته لأعمال ممارسي التلوين من الفينيسيين.
وبين هذه اللوحة واللوحة الصغرى، يصل إلى برزخ عظيم من الوقت- ربما يصل الفارق الزمني إلى 50 سنة. لقد كانت الأولى عملاً من فترة صباه، والثانية لوحة عمره. لقد لونها، على الأرجح، وقدمها للكنيسة أثناء واحدة من زياراته الصيفية للهضاب التي شهدت مولده. وهي معلقة في كنيسة آل فيشيلي- كنيسة مكرّسة للقديس تيزيانو، راعيه الشخصي، وقد كان يود دفنه هنا. ولكنه توفي على أية حال كما نعرف جميعاً في زمن الطاعون في مدينة البندقية، وقد دفن بالضرورة حيث توفي.
أما هذه اللوحة الصغيرة التي أنشأ كادوريني إلى جانبها متجراً غير محدد، فهي تجسد القديس تيزيانو، والقديس آندرو وهما يعبدان المسيح الطفل، والذي ينام في حجر العذراء. يفترض أن يكون القديس تيزيانو في اللوحة هو ابن أخ تيتيان، ماركو فيشيلو، الذي يركع إلى يسار المتفرج، في حلّة أسقفية بادية الثراء، بيضاء وحمراء. كان القديس آندرو ( لوحة شخصية لفرانسسكو أخ تيتيان) وهو يجثم في خشوع إلى اليمين. أما تيتيان نفسه فهو يحمل صولجان الأسقف القديس سيباستيانو، الذي يظهر حاضراً أمام القديس إلى اليمين، بينما الأمّ العذراء وفقاً للاعتقاد الشائع، تجّسد زوجة الفنان.)
وقد نفّذت صورة مادونا هنا بشكل غير متقن، ولكن تم تجسيد الطفل بنقش بارع، وتم إبراز جسمه بشكل جميل، ودافيء وثابت. أما أجمل جزء بالصورة فقد كان هو الخاص بالقديس تيزيانو، حيث تجلى في وجهه البني الجميل المرفوع، وملامحه الإيطالية وسحنته الجنوبية المترفة، وتعبيره المحفوف بالتبجيل أسلوب المعلم في أنقى حالاته.
الوشي الأبيض والذهبي في ثوب القديس الأسقفي والذهب المخفف لقلنسوته، ذكرني بثرائهم ورسوخ النعمة في معالجة باولو الفيروني. حيث كان رأس تيتيان الذي نفذه بنفسه في الركن الأيسر ربما ذكر لتأريخ اللوحة، وهو يمثل رجلًا ربما كان في الستين من عمره. وكان التنفيذ بشكل عام غير متجانس، إلى حد أنّه يشير إلى احتمال اشتراك أحد الدارسين في تنفيذ اللوحة، وفي هذه الحالة ينسب رسم شخصيات القديس تيزيانو والمسيح الطفل لأنامل المعلم دون تردد. بجانب هاتين اللوحتين، تحتوي كنوز الكنيسة في كادوري على عدة لوحات لإخوة وأبناء إخوة تيتيان، وغيرها الذي يشتمل على العشاء الأخير لسيزار فيشيلو، واستشهاد القديسة كاثرين لأورازو فيشيلو، وتفوقها في الجودة والحجم أيضاً، أربعة أعمال باستخدام الصبغة التي نفذت في الأصل على أبواب آلة الأورغ بيد ماركو فيشيلو ابن الأخ الذي جلس لرسم القديس تيزيانو في قطعة المذبح الموصوفة أعلاه.
قال الكاهن إنَّ هذه اللوحات الأربع ظلت تعاني الإهمال والنسيان سنوات طويلة هنا في عليّة تم وضعها فيها عندما أزيلت من مقدمة الأورغ. ولطالما رغب في تأطيرها وتعليقها في الكنيسة، والآن، بعد سنوات من الانتظار، استطاع فقط أن ينفذ تصميمه. فقال مبتسماً: " لا يملك الراعي التيرولي الكثير من المال لإنفاقه على الفنون الجميلة، ولكن هاهو في النهاية، والسيدات كنَّ أول من يراها من الغرباء. فلم يمض بعد على تعليقها أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام".
قياسات هذه اللوحات الأربع تبلغ ستة عشر قدماً في الارتفاع وثمانية أقدام في العرض، وقد وضعت في إطارات خشبية بسيطة مطلية باللون الأسود والورنيش. أما التكلفة الخارجية لهذه الإطارات فقد يظنها المرء خيالية، ولكنها لم تتجاوز العشرين ليرة إلا بقليل للوحة الواحدة. أو ما يربو على الثلاثة جنيهات إنجليزية بقليل للأربعة لوحات. ولكن تمسك دون أنطونيو بمشروعه "لسنوات عديدة" قبل أن يصبح غنياً بما يكفي لتحقيقه.
ربما توصف اللوحات الصبغية – باللوحات الأربع العظيمة، وقد ازدانت كل واحدة منها بشخصية ضخمة. ومنها القديس متى والقديس مرقس اللذيْن يشكلان ثنائياً واحداً، وملاك البشارة ومريم العذراء، يشكلان الثنائي الآخر. مع استثناء العذراء، التي مثلت الشخصية الأصغر بالنسبة للآخرين، فإنَّ هذه الشخصيات بعيدة، ونائية، إنّها أجمل مافي كادوري. ونظراً لضخامة المعالجة وحرية الرسم لم تعرف الكاتبة بماذا تقارنها، إلا لوحات الكارتون الموجودة في جنوب كينسنغتون. كان ملاك البشارة جريئاً وجميلاً ومبهجًا كما لو أنّه هبط لتوه من السماء- متقدماً على ركبة نصف مثنية، وبمسحة رائعة من السلطة والجلال. كان رسم الرأس والتجعيدات الطائرة على الطراز الرفائيلي، وكذلك الرأس الكبير والوجه المرفوع للقديس مرقس على لوحة أخرى، على الرغم من تعرضه للضرر والاندثار. كان الملاك والسيدة العذراء في مواجهة معاً من جانبي جناح الكنيسة كليهما، وينظران باتجاه الغرب بينما يشغل القديس متى والقديس مرقس الموقعين المتناسبين ذاتهما ولكن بالعكس. " ويقول دون أنطونيو: " كان الملاك مفصولاً بمسافة بعيدة عن السيدة العذراء، وهو أمر لم يكن تجنبه ممكناً، فليس هنالك مكان آخر في الكنيسة يسمح بمشاهدتهما على نحو أفضل.
وبعد القيام بما يجب ناحية الموهف " حجرة المقدسات" ( التي تضم العديد من اللوحات القديمة العادية، بما في ذلك لوحة بالما فيكيو المشكوك فيها) قادنا دون انطونيو إلى الأعلى عبر درج ضيق من الحجر باتجاه غرفة الملابس، وهناك، كامتياز خاص، منحنا الأذن لرؤية بعض الملابس الأثرية المطرزة ولافتات المواكب التي كانت تستخدم في المناسبات الكبرى في غابر الأزمان. والأكثر عجباً من هذه، على أية حال، وأكثر غرابة هي المنصة التحتية العتيقة المنقوشة والمذّهبة، أو الضريح، المشيد على غرار الطراز القوطي، تعلوه أيقونة للمسيح ذي الملامح البيزنطية الجافة، وأسفلها بابان قابلان للطي، مثل اللوحات الثلاثية. وقد زينت ألواح هذه الأبواب من الخارج بأربع صور صغيرة بالطول الطبيعي للأنجيليين، وبطريقة واضحة وذكية ومتقنة التنفيذ، كانت الرؤوس والمعالجة بشكل عام تستدعي أسلوب ساندرو بوتيشيلي، بينما احتوى الضريح من الداخل على أربعة أدراج مغطاة بشكل مترف، وقد احتلت كلاً منها لوحة صغيرة منقوشة وملونة لأحد القديسين، ساذجة وفق أسلوب العصور الوسطى، مثل لوحة صغيرة لسيمابوي نُفذت على الخشب. وتنتمي هذه المنصة التحتية إلى سابقة لعهد تيتيان بوقت طويل، وقد زينت المذبح المرتفع حتى بداية القرن الحالي.
لقد تجاوزنا بالفعل الساعة التي طلبنا فيها الغداء بوقت طويل، وعندما شكرنا دون أنطونيو على لطفه، خرجنا مرة أخرى إلى أشعة الشمس المحرقة. ويا للسعادة فقد اختفى كل أثر للفتاة الصغيرة التي لا تطاق، ولكنها عادت للظهور مرة أخرى حالما وصلنا إلى الفندق، وكانت ما تفتأ تسأل عنا طوال الوقت الذي كنا فيه خارجاً في وجبتنا النهارية المزعجة، ولم ننجح في التخلص منها إلا بمساعدة غوسيبي عندما خرجنا مرة أخرى للرسم، والتسكع في البلدة، وهضبة القلعة لساعتين أخريين قبل استئناف رحلتنا إلى اورونزو.
________________________________________
• من القمم الثلاث التي تحمل هذا الاسم، يمكن رؤية اثنتين فقط من لاندرو، ولكنها ترى من الخلف بينما يصعد المرء في وادي اورونزو، حيث تبدو القمم الثلاث للعيان.
• * سيكون بالطبع من السهل الإقامة في تاي كادوري حيث المضيفة الجميلة الصغيرة في مثالية، وهي تقع حوالي ميل واحد من بياف دي كادوري. وينوي الأشخاص أن يظلوا لوقت أطول في الحي وسيكون عليهم فعل ذلك، فنحن على أية حال لا نحب فكرة العودة على ذات الطريق، مؤثرين على ذلك الدفع إلى الأمام ومواصلة الطريق حتى أورنزو.
• في عام في1473، وبين جنبات هذه الجدران الوضيعة، خرج تيتيان فيشيلو إلى حياة زاخرة بالشهرة والنجومية، حيث غادر بعد مائة عام تقريباً، في يوم 27 أغسطس 1576.
• "ليس هنالك ثمة وصف لهذه التصميمات الكبيرة موجود في أيّ من تأريخ كراوي أو كافالكاسيلي للتلوين في إيطاليا، أو في كتاب "كادوري" للسيد جلبرت" على الرغم من أنَّ السيد الأخير بدا وكأنّه قد أحاط بها خبراً بينما كانت مختبئة وراء ظلام العلية."
_________________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles