Arabic    

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب السادس - أورونزو ووادي بونا


2019-07-05 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة

 

 

 

 

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب السادس- أورونزو ووادي بونا
تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم
---- 
كان منظر كادوري هو ما يراه المرء عندما يلتفت المرء إلى الوراء عند ثنية الطريق التي تبعد حوالي نصف ميل خارج البلدة وباتجاه كالالزو، ومرة أخرى من بونتي ديلا مولينا على بعد ميل واحد من هناك. وهذا هو أفضل جزء من نوعه في جميع أنحاء هذا الجزء من تيرول. وفي الوقت ذاته، ليس فيه سوى القليل جداً من الروح التيرولية. صورياً، فهو موضوع إيطالي بحت، جليل، متوافق، كلاسيكي، وعلى درجة مناسبة من الرسوخ في تشكيل الجبال لتمنحها المهابة، ولكن بدون تغيرات مفاجئة في التضاريس، أو روعة تكفي لزعزعة سكون المشهد. في المقدمة لدينا وادي مولينا يمتد فوقه جسر عتيق وجميل، في الطرف الأقصى منه كنيسة صغيرة تتشبث بجرف متداعٍ هارٍ. في وسط المسافة، ترى قرية كادوري النائية الصغيرة من وراء صدع يعترض  الوادي الضبابي وهي تتلألأ على هضبتها التي تشبه سرجاً غريباً، تحرسها  قلعتها الواقعة على أكثر المنحدرات الشاهقة المطلة عليها ارتفاعاً– كما تخشى عليها من تقدم العمر! وبعد كل هذا، تتعالى على نحو رائع في كبد سماء الظهيرة الصافية، وتسد كتلة جبل بيرا الهرمية الجميلة الأفق. 
عن الضوء والظل، فإنّ اللوحة مثالية في جميع ما يخص عناصر المنظر بأسلوب بديع، فلا شيء يرضى بالتخلي عما فيه من حياة حتى المجموعة التي تظهر في مقدمة الصورة، وهنا تأتي اثنتان من شاحنات البولوك عبر الجسر، بدائيتان فريدتان كما لو انّهما حضرتا إلى هنا مباشرة من القرن الخامس عشر. لقد كانتا موضوعاً فقط، كما لو أنّه لم يزد على الرسم، واضطلع كلود بمهمة التلوين.  
في دوميجي، حوالي ثلاثة أميال ونصف من كادوري، مررنا بقرية قد دمرت بالكامل تقريباً قبل بضعة أشهر بسبب الحرائق. وأصبحت الآن كتلة سوداء واحدة، وحطاماً غير واضح المعالم، ولكنها لن تظل كذلك وقتاً طويلاً، لأنَّ جميع السكان، رجالاً ونساءً وأطفالاً صغاراً تجمعوا كما يفعل النحل في خلية محترقة، يكنسون عنها الركام، وينقلون أحمال الحجارة، يخلطون الملاط، ويساعدون في إعادة إعمار ما فقدوه من منازل. والآن ارتفعت الأساسات والأسوار الجديدة بالفعل، وبحلول هذا الوقت، تكون دوميجي الثانية قد نهضت بلا شك من تحت رماد الأولى. 
القرية التالية، لوزو، على بعد ميلين في طريق الوادي، احترقت بالطريقة نفسها قبل سنة أو اثنتين، وهي الآن أكثر- بشكل غير رسمي- أكثر حداثة، وصلابة وراحة. ربما كان التعرض للحريق هو أفضل قدر قد يقع على سكان أيّ من هذه القرى العتيقة المبنية من جذوع الأخشاب، نظراً لأنّ مساكنهم استبدلت آنذاك بمنازل حجرية أرحب. فكما هو الحال، مع التعرض لخطر الحريق والانهيارات الصخرية، فإنَّ "البلدان" التيرولية الأصغر لا تمثل مكاناً آمناً أو ساراً للإقامة، وربما تقف على قدم المساواة من حيث عدم الأمان مع بورتيتشي، وتور ديل غريكو، أو أيٍّ من القرى الفيزوفية الأخرى.   
أخذ الطريق- الذي كان سيئاً للغاية طوال الرحلة من كادوري- في الانحدار تدريجياً تجاه حوض السيل، وما زال في مدى رؤية لورينزاغو إلى اليمين، وتحت شفا جروف مونت كورنون الخطرة إلى اليسار. لكل من الجبل والقرية أسطورتهما الخاصة. لورينزاغو، معلقة بشكل رائع على واحد من المنحدرات المنخفضة على جبل كريدولا، والتي يعتقد أنّها مكان موقع استشهاد القديس فلوريان، وهو قديس تيرولي ذو شعبية كبيرة، يفترض أنَّ لشفاعته فعالية خاصة في حالات الحريق، بينما يقال إنَّ اسم جبل كورنون مشتق من حدث في تأريخ كادوري، يذكره السيد جلبرت قائلاً:- " على طول المنحدرات التي تقع فوق هذا المضيق، وفي أثناء حرب عام 1509، كانت فرقة من قوات ماكسيمليان تتقدم بحذر، عندما انطلقت نغمات الإنذار من آلة "corno" فجأة من اتجاه جانب الجبل الغائم. لم يك ذاك سوى صوت اعتاد الرعاة سماعه، إذ مازال من العادات المتبعة في ذاك الموسم أن يتم التحذير من الدببة، ولكن أصيب الغزاة بالفزع، إذ افترضوا أنّ تلك إشارة إلى هجوم وشيك من قبل أهل كادوري، وهربوا من حيث أتوا، من أعلى ممر سانتا كروسيه وحتى سيكستين. "-كادوري، ص. 92". 
ويُطلق البوق الريفي ذاته للغرض نفسه، وقد يُسمع هنا في الأمسيات الخريفية الهادئة حتى اليوم، كل ما أتت الدببة لسرقة البساتين في القرية، ومن الملاحظ أنَّ الدببة تكثر في الأنحاء المتامة لجبل كورنون، وكوميليكو والغايل تال عنها في باقي إقليم الإلب. 
عبرنا البياف من نقطة غير بعيدة عن قرية لوزو، واستأنفنا المسير على طول الضفة اليسرى للنهر حتى نقطة التقائه مع الانزاي في تري بونتيه الجسر الثلاثي الشهير الذي يتكون من ثلاثة أقواس عريضة، يمتد الواحد منها على مسافة 90 قدماً، وتستند جميعها على دعامة مركزية واحدة.  
إلى اليسار، على خط متعرج بين المرتفعات المكسوة بالغابات، يقع وادي اورونزو، بينما نجد الوادي العلوي لنهر البياف يقع إلى اليمين، بمياهه الرمادية التي انحسر حجمها إلى نصف ما كانت عليه سابقاً، وتجري بسرعة إلى الأسفل في قناة صخرية مقفرة من منبعها في ذلك الجزء من سلسلة الألب الواقع شمال إيطاليا وجنوب النمسا.
والآن بعد تتبعه مذ رأيناه يتسع عبر السهل بالقرب من كونغليانو، إلى ما يقارب-  في نظر الكثيرين- الميل من مجراه الطويل، نحن الآن نقترب من الوداع الأخير. لم يكن عندها بعيداً من مقبرته في البحر الادرياتيكي، وهو الآن على البعد ذاته من منبعه في حجر جبل بارالبا.
ويتحدث كاتب و باحث قديم في مجال التأريخ، يدعى دوتري جيورجو بيلوني- وهو من بيلونو، و ألّف كتاباً مملاً بأسلوب ممل قبل مائة وستين عاماً- عن البياف ليس فقط كأطول وأهم نهر بل أيضاً باعتباره "أقدم أنهار المحافظة ويسعى لتعريفه على أنّه نهر اناسوم-* الذي ذكره بليني في فصله حول الأراضي الفينسية. ويدفع بالحجة على قدمه، عمق حوضه وارتفاع ضفافه، "وبذلك يمكن الاحتجاج ببساطة بأنَّ نهر البياف ليس نهراً حديثاً، كما في الأمثلة الأخرى يرى المرء أنّه ربما تكوّن نتيجة للزلازل وغيرها من الحوادث." وعندما كتب الدكتور الماهر هذه السطور لم يكن قد زار مشهد الانهيار الصخري على مضيق سيرافالي قط، ولا رأى حوض نهر البياف في كابو دي بونتي.  
وبالسير في اتجاه الضفة اليمنى للانزاي، ندلف إلى وادي الاورونزو. الطريق السيء الذي بدأ في كادوري وينتهي في جسر تري بونتي، وتنبسط الآن من جديد طريق  جديدة وواسعة تحت حوافر الجياد.  
بحلول هذا الوقت بدأت الشمس في المغيب، وتلقي الأشجار بظلالها الطويلة على المرج المنحدر، وتأتي ذبابة البقر في أسراب مثل الغيوم، ويعبق الجو بروائح المساء وأصواته. لقد كان يوماً طويلاً، وانقضت اثنتا عشرة ساعة تقريباً منذ أن غادرنا كورتينا في الصباح. كم سيطول بنا المسير على الطريق قبل أن نصل إلى اورونزو؟
والسائق الذي كان على مستوىً من التهذيب لا يسمح له أبداً بأن يقدم إجابة صريحة على أي شيء، لمس لدى سماع هذا السؤال قبعته بمقبض سوطه، وأجاب بأنّ الأمر: "كما تودّ السيدة." (Come lei piace, Signora.).
ولكن كم أمامنا من الكيلومترات؟" يسعل معتذراً. " كيلومترات! مع احترامي، إنها ليست مسألة كيلومترات بأي حال. بجياد مثل هذه، لا معنىً للكيلومترات. 
جميل! إذن ماذا عن الوقت: متى سنصل إلى أورونزو؟ خلال ساعة؟، ساعة ونصف؟ قبل الغسق؟ 
يرفع السائق كفيه، وينظر حوله بطريقة تنبي عن عجزه، كما لو أنّه يبحث عن مهرب، يمس قبعته مرة أرى، ويتمتم: " كما تحبين سيدتي". Come lei piace! عبارة تضيق بها جميع أفكاره. 
ليس له آراء مستقلة. وإنّه ليفضل الموت دون أن يعبر عن نفسه بقرار حول أي شيء. سله ما تريد- اسم قرية، الساعة من اليوم، حالة الطقس، اسمه هو وعمره ومسقط رأسه، وسوف تجد بلا شك الإجابة ذاتها: كما تود السيدة! "Come lei piace."
إنّها إجابته الثابتة، وأي جهد لحمله على تغييرها سيكون هباءً منثوراً.
وقد تبين أنّ المسافة على أية حال تبلغ اربعة أميال فقط. فبعد ساعة ونصف من مرورنا بجسر تري بونتي الثلاثي، وصلنا إلى ثنية في الطريق، وانظروا! تقع هناك قرية كبيرة، شاسعة تمتد على طول الضفة القريبة من نهر الانزاي، وهنالك كنيسة كبيرة أشبه بالمسجد ذات قبة بيضاء لامعة، وبرج جسر يبدو أقدم منها يشرف على الأسقف البنية في الحد الأقصى للمكان، ووراء كل ذلك مشهد الوادي يشقه سيل عميق وداكن اللون تزينه غابات الصنوبر الكئيبة. وعلى أية حال لم تكن قرية أورينزو، ولا الوادي، ولا السيل ولا غابات الصنوبر هي التي تمنح المنظر بهائه وروعته: بل هي قمم سلسلة الجبال المتراصة فوق بعضها البعض، قمة وراء أخرى باتجاه سماء الأمسية الصافية الشاحبة.  ويشم الآن جبل دري زينين الأشد بعداً وغرابة في أقصى الوادي، مسفراً عن ثلاث قمم خنجرية واضحة للعيان. ويعلق الضباب الخفيف-الذي تشرق الشمس من خلاله- على المدى، وتحيط بالجبل حلقات من السحب الأفقية الرقيقة، فتبدو مثل ركام ثلجي يطفو فوق بحر من الضباب الذهبي. 
 
وادي أورونزو
 
إنّه واحد من تلك التأثيرات النادرة والباهرة التي قد يسافر المرء طوال الصيف دون أن تتسنى له رؤيتها، والتي عندما تحدث لا تدوم سوى برهة قصيرة. وقبل أن نصل إلى أول كوخ، كان الشعاع الذهبي قد خبا، وتحولت الأبخرة إلى اللون الرمادي الشاحب كالأطياف. 
تنقسم أورنزو إلى قسمين قرية عليا وأخرى دنيا، وهي تعرف على التوالي بالقرية الكبيرة والقرية الصغيرة. القرية الصغيرة التي يصل إليها المرء أولاً عبر الدخول من جانب الجسر الثلاثي، هي ضاحية حديثة تتبع للقرية الكبيرة. بيوت هذه الضاحية العصرية تتميز بالرحابة والفخامة، تذكر المرء بمنازل أوبير اميرغاو، وبعضها مزين بالجصيات الدينية الخشنة على نحو ما. وللقرية الصغيرة تتبع الكنيسة الكبيرة الجديدة ذات القبة والنُزول- وهو منزل نظيف المظهر يقع على الجانب الأيسر من الطريق على مسافة غير بعيدة، قبالة مساكن الكهنة. 
وقد وجدنا في طريقنا الصاعد نحو الفندق، حوالي أربع أو خمس عربات تجرها الجياد ممدة أمام المنزل، وهنالك مجموعة من الرجال والنساء تجمعوا حول المدخل، في مواجهة رجال ونساء ينظرون خارجاً من النوافذ العليا، ويكتنف المكان جو احتفالي صاخب على غير العادة. تقف على الباب صاحبة الفندق، وهي سيدة قوية القسمات، ترتدي زياً بلون أسود باهت. تضع يديها على خاصرتها، وتهز رأسها بينما نتقدم صعوداً، ولا تمنح غوسيبي فرصة ليتحدث. 
 ليس بوسعها استضافتنا- ليست هي! إنّها لا تستطيع استضافة ملك إيطاليا حتى، إن قدم هذا المساء. مستحيل. فلديها حفل زفاف من كوميليكو، ودارها ممتلئة عن آخرها. هناك! فندق صغير آخر في الأعلى، في القرية الكبيرة. وسنجد على الأرجح غرفة هناك. وإن لم نفعل؟ حسناً ليس لديها ما تقوله! إنّها تفترض حتمية عودتنا من حيث أتينا. 
وبدا غوسيبي والسائق عاجزين عن التعبير. إنّهما يغمغمان بشيء ما في صوت خفيض حول "l’atro albergo;" وتلتقط أذني تشديداً خطيراً على كلمة "altro". تهمهم السيدة قائلة: ويراقبنا المسافرون المقيمون لديها (جميعهم يرتدون ملابس العطلة المخنثة الطابع) بنشوة الانتصار، فيدير السائق العربة، ونرحل في غمرة من الأسى. ينتهي الطريق المعبّد فجأة بمنازل المزارعين المبعثرة التي تتسم بها القرية الصغيرة، ويغدو طريق العربات أكثر وعورة ويحفل بالأنقاض والركام. ثم، وفجأة، نجد أنفسنا في خضم متاهة من المنازل الخشبية القديمة المتلاصقة المشبعة بالرطوبة، محطمة، ومتهالكة ومسوّدة بفعل الدخان، وأمامها تصبح أسوأ القرى التي مررنا بها نظيفة وواعدة. وهنا يصرخ الأطفال المتسخون، ويموجون، ويتسولون، وتنحني النساء الشعثاوات من النوافذ العليا، والرجال الكئيبون الذين يكسو الغضب ملامحهم يجلسون على المداخل المتسخة  يحدّقون بطريقة متجهمة وشرسة في العربة أثناء مرورها بجانبهم. هذه هي القرية الكبيرة. بعدها بلحظة، سرنا في منعطف حاد، وصعدنا أمام منزل بائس ومهجور، يقف وحده غير بعيد من بقية المنازل، وبجانبه ملعب مسوّر من أحد جوانبه، يلعب فيه نحو ستة أو ثمانية رجال بالكرة، ومجموعة أو اثنتان من المتفرجين. هذا هو فندقنا. نظرنا إلى غوسيبي، ثم إلى المنزل، وإلى بعضنا البعض. 
وتساءلنا في خوف:" هل من مكان آخر نستطيع تمضية الليلة فيه؟" 
هزّ غوسيبي رأسه بالنفي. هذا ونُزل القرية الصغيرة هما الوحيدان في المنطقة. فإن لم ننزل هنا، فليس أمامنا سوى العودة إلى تاي كادوري، على مسافة لا تقل عن أربعة عشر - إن لم تكن خمسة عشر- ميلاً إنجليزياً.
تخرج في هذا الوقت العصيب امرأة طويلة بدينة، ومبتسمة، تنم قسماتها عن صدق ويعجّ فمها بالأسنان البراقة- شخصية متحمسة وكلها رغبة وتوق للترحيب بنا وحمل أي عدد من الأمتعة والمفارش، مفعمة بحسن النية والذوق الرفيع. قادتنا نحو الأعلى في رحلة على درج غاية في القذارة، إلى الطابق العلوي الذي كان أكثر قذارة، وممتليء بأجولة الدقيق والأجبان، ومعدات الزراعة. ومن ثم صعدنا على سلم من النوع المدرج، والذي كان يؤدي إلى بهو مؤثث بطاولة ومقاعد عادية، وآلة للطباعة على الكتان، وخزانة للكؤوس. ولدى فتح هذه الشقة، ظهرت غرفتان أو ثلاث غرف خاوية ولكنها غاية في الكمال، ولها جدران منخفضة بيضاء، وسقف يعلو حوالي السبعة أقدام من الأرض، وفراش، ومقاعد منسوجة بالأسل وجميعها نظيفة لدرجة الهوس، على العكس تماماً من الجزء الأسفل من المبنى.
ليس ثمة ستائر أو سجاد بالطبع. ولكن كل ما هو ضروري لتوفير وسائل الراحة الشخصية متوفر، ولكن اتخذت الزينة فيه طابعاً روحياً. فقد تغطت الجدران بصور مطبوعة للقديسين والشهداء في إطارات صغيرة سوداء، بينما تدلى على رأس كل سرير نقش طباعي ملون للسيدة العذراء يظهر فيه قلب وردي مجسم تخترقه الخناجر، فتضفي عليه صبغة رائعة من عيد الحب.
سنقيم هنا، ونستمتع بالهدوء. قدمت لنا عند نزولنا شرائح الكستلاتة والقهوة والبيض والسلاطة، وكانت جميعها في جودة مناسبة. وأثناء إعداد هذه الوجبة، تفرجنا على اللاعبين في ملعب كرات الخشب. وقد نزع سائقنا، الذي كان مع خيوله، معطفه وانضم إلى اللاعبين. أما غوسيبي فكان يدخن سيكاراً، وبدا شارد الذهن.  شيئاً فشيئاً أرخى الغسق سدوله، وتفرق اللاعبون، ونحن من يتعين علينا الرحيل مجدداً بحلول الساعة الثامنة والنصف صباحاً، سعدنا بالخلود إلى بعض الراحة، تحت حماية سيدتنا المبجلة. 
لقد كانت قرية اورونزو العليا، سواء أرأيتها في الأمسيات الرمادية أو الصباحات المشرقة فهي تبدو مكاناً قد يهتم به المرء بزيارته سواء في بلده أو بالخارج من حيث افتقاره للجمال أو السمعة الحسنة. 
ولم أشاهد أثناء تسكعي في المنطقة في الصباح التالي قبل الإفطار، سوى الأوساخ والفقر في أدنى أشكالها قبولاً. لقد بدا الناس شعثاً، وعلى قسماتهم سيماء اللؤم والسخط، وكانت المنازل شديدة الازدحام، ولم نصف الأراضي التي تحيط بهم مزروعة. وقد عرفت لاحقاً أنَّ تلك الكمونة كانت تعاني من الفقر، والديون، والكثافة السكانية العالية، والسمعة العاطلة للسكان. 
لقد كان شيئاً لطيفاً في كل الأحوال أن نرحل مرة أخرى في الصباح المشرق المعتدل، وقد اتجهت نواصي خيولنا مرة أخرى صوب الهضاب. 
وها قد أصبحت اورونزو خلفنا الآن، وأصبح المشهد أكثر اتساعاً بتقدمنا في الطريق ميلاً بعد ميل. وقد كشف لنا كل مضيق على اليمين أو اليسار عن قمم رائعة، ولمحات من آفاق جديدة. وقد حفت أشعة الشمس منحدرات الصنوبر، التي كانت كئيبة الليلة الماضية، وتترقرق مياه السيل في مجراه المفروش بالحصى الأبيض البراق، فتبدو مثل شريط أزرق مفضض الحواف. 
ويبدو الوادي من هذا المكان أشبه بطريق مسدود. فالطريق يصعد حتى بداية الحاجز الركامي الصخري الكبير في سفح جبل جيرالبا من جانب، وهناك، تنتهي كل المشاهد بغتة. ويضع جبل روزيانا (المعروف لدى السكان المحليين باسم جبل روجيانا) دعامة ضخمة على الجانب الآخر. بينما يرتفع كول اغنيلو، وهو مجموعة عظيمة من القمم التي لا يقل ارتفاعها عن 10 آلاف قدم، كحاجز لا سبيل إلى اجتيازه بين الاثنين. وقبل الوصول إلى هذه النقطة من الارتفاع لا يستطيع المرء أن يدرك انعطاف الوادي بحدة إلى اليسار، بدلاً عن انتهائه إلى طريق مسدود، فيصير إلى مجرد مضيق متعرج خلف الجانب الغربي لجبل روزيانا. 
والآن وبعد مسافة غير بعيدة، نمر بقرية تافيسياجي المهجورة، وهي تجمع لأكواخ نصف مهدمة في مدخل وادٍ غير ذي زرع يؤدي إلى ممر غير مأهول ولا مطروق خلف كول اغنيلو. ينحدر الطريق الآن فجأة إلى درب كثيف وزكي العبير في غابة صنوبر، تنساب فيه موسيقى الطيور المغردة، تخترقه أشعة الشمس الراعشة من هنا وهناك، وتزيده السناجب البنية الصغيرة حياة على حياة وهي تهرع بين ثمار التنوب المخروطية التي تتدلى من الأشجار. وبين الفينة والأخرى، تظهر قمة عظيمة ذات صدوعٍ، إلى اليسار أعلى قمم الأشجار، فتحجب نصف قرص الشمس المشرقة، ثم تنكشف الغابة فجأة عن سهل عريض، يبدو للوهلة الأولى مثل سلسلة من الجبال الجديدة الهائلة التي لا يمنعنا عن الوصول إلى صخور سفحها سوى حوض نهر الأنزاي.
في هذه المرحلة يبدأ السابق في الصعود إلى الأعلى، وفي نصف التفاتة إلى الوراء داخل صندوقه يقول لنا بتهذيب فائق مِن متقنٍ لفن المراسم في قاعة اجتماع حكومي:-
"مع احترامي، سيدتي- إل مارمارول".
وكوننا قد تعرفنا بشكل رسمي إلى جبل الدولمايت الجديد، فإننا سنُسَر إن تمكنا من مشاهدته على نحو أفضل مما نراه من هذه البقعة. فكل ما تقع عليه أعيننا منه، في الحقيقة، كتلة واسعة تتعالى بشكل غير محدد إلى ما بعد غابة الصنوبر، ويواجهنا منحدر هائل من التراب البني الأحمر المكدّس إلى ارتفاع يقارب الخمسمائة أو سبعمائة قدم قبالة جانب الجبل. منحدر الركام هذا، يتناثر هنا وهناك، مع السقائف الخشبية التي تميز موقع منجم غني بالرصاص والفضة، وهو مهجور الآن، وفتحة صغيرة في مقدمة الجرف إلى الأعلى، لا يتجاوز حجمها على ما يبدو حجم فتحة المفتاح، تشير إلى مدخل البئر الرئيسية. 
 
وهكذا واصلنا المسير، تحت ظل الغابة الأخضر طوال الوقت، حتى وصلنا إلى مجموعة صغيرة من الأكواخ تعرف معاً باسم كازا دي سان ماركو، وهو اسم يعود إلى الأيام الخوالي للسيادة الفينسية، وما زال معلماً للحدود بين إيطاليا والنمسا. وهنا، ليس ثمة موظفون في أي مكان، مررنا دون اعتراض تحت الحاجز الملوّن بالأسود والأصفر، ووصلنا في لحظات إلى بوابة الطريق الحكومي الجديد الذي قدم لنا غيدينا الكبير التوجيهات اللازمة للوصول إليه. 
تم تشييد الطريق الحكومي الجديد بحيث يكون واسعاً ويمر عبر جانب هضبة منحدرة تغطيها غابة من أشجار الصنوبر، وهو يعتبر- لا شك في ذلك- عملًا ممتازًا، ولكن السير في هضبة هولبورن القديمة بكل ما عليها من أحجار سفلتة سيكون أسهل مقارنة به. إذ أنّه في الحقيقة ليس طريقاً بعد، بل درباً وعراً بعرض يصل إلى اثني عشر قدماً، مليئاً بالأحجار والأنقاض، وركام الجذور المتشابكة، وجذوع أشجار الصنوبر التي سقطت مؤخراً تتمدد أفقياً على كلا الجانبين، كمحاربين مجندلين في ميدان القتال. ويبدو أنّ العربات لم تدخل هذا الطريق، بيد أننا ترجلنا على الفور، إلا أنّ قدرة العربة على الصعود إلى الأعلى غير مؤكدة. كادت الخيول أن تصاب بالجنون بسبب أسراب ذبابة البقر. فأرهقت في صعود المنحدر الوعر، وكانت تتوقف بين الحين والآخر لتنثني وترفس بأرجلها في غضب. وتهتز العربة وتتدحرج مثل سفينة في البحر. وفي كل لحظة يزداد الطريق سوءاً، ولفحات الظهيرة تغدو أشد وطئاً. لقد وصلنا الآن إلى مجموعة من العاملين في تشييد الطرق، يبلغ عددها المائتين أو نحوها، نساءً وأطفالاً وكذلك الرجال، يتجمهرون فوق الضفاف مثل النمل، ينظفون ويساوون، ويكسرون الحجر. لقد توقفوا عن عملهم وأخذوا ينظرون إلينا كما لو كنا مخلوقات من عالم آخر. 
"إنتم أول مسافرين يمرون من هذا الطريق،" قال أحد المتفرجين ونحن نمر بجانبه. " لا بدّ أنكم إنجليزيون!"
وصلنا بعد فترة طويلة إلى حيث ينقطع الطريق تماماً، أما مساره المستقبلي فقد تم التعليم عليه بحصص عبر هضبة واسعة تنتهي بمرج منبسط. وتعتبر هذه الهضبة نوعاً من الحقول الطبيعية وسط عالم علوي من غابة الصنوبر المحفوفة بإطار ضيق من الأشجار من جوانبها الثلاث، ولكنها تغوص بعيداً على اليسار في واد مكسو بالأشجار تتواثب فيه مياه غدير صاف وتتلألأ. 
"ننظر حولنا، فلا نرى مخرجاً، فنرجع أدراجنا، ونتساءل، عما بمقدورنا عمله بالعربة. ومما أثار استغرابنا أنَّ السائق بكل هدوء أمسك بالحصان من رأسه وقاده بشكل مستقيم إلى المنحدر الزلق ليخوض في الغدير.  
"إنك لا تحاول إدخال العربة في تلك الحفرة!" تعجبت الكاتبة. " مع احترامي سيدتي، ليس من طريق آخر" أجاب السائق بكل احترام. 
 "ولكن ستكسر الخيول أرجلها، وستتحطم العربة إلى قطع صغيرة!"
"كما تحبين سيدتي" يقول السائق، دون أن يدرك المعنى الحقيقي هذه العبارة. 
نحن نقف الآن على حافة الموت، الضفة المنهارة تصل إلى عمق يقارب الثلاثين قدماً، والغدير يثور ويصطفق في القاع، والضفة المقابلة تكاد ترتفع فجأة من ورائه.
" هل بإمكاننا الوصول إلى الضفة الأخرى بأمان؟" سألت.
" مع احترامي، نعم سيدتي. هذا لأقول، إنّ بإمكاننا إعادتها إلى كورتينا على طول الطريق الممتد خلف اورنزو وبياف دي كادوري. كما ترغب السيدة."
والآن لم تعد السيدة تود أن تعيد العربة عبر طريق لا يقل عن خمسة وأربعين ميلاً، وعليه، بعد استشارة سريعة، قررنا أن نخرج الأحصنة، وتسحب العربة بواسطة الرجال. وعليه انصرف غوسيبى لدعم رجال البحرية، ومن ثم بمساعدة ثلاثة أو أربعة من الرجال الأشداء، تم رفع العربة إلى الأعلى، وقيادة الخيول عبر النهر، وشُدّت السروج عليها من جديد، وبعد القليل من الشد والجذب، وصلت العربة إلى الجانب الآخر من هذا الروبيكون سالمة غانمة. 
وبعد يارادات قليلة، خرجنا إلى سهل آخر من الألب الخضراء- مدرج منحدر أخضر ربما يمتد في مساحة ثمانين فداناً- أما الشرق فليس فيه سوى الغابات. والغرب كله جبال، ومنزل واحيد صغير أبيض يستقر مقابل حافة الغابة على بعد ربع ميل تقريباً. هذا المدرج هو وادي بونا، ذلك المنزل الأبيض الصغير هو كوخ الباستيان، حارس الغابة، وهنالك قمم عظيمة شاحبة تشمخ في روعة مفردة فوق قمم الأشجار خلف المنزل، هي قمم كريستالو. ولكن فوق هذا وذاك، كان المشهد الغربي هو ما أتينا خصيصاً لرؤيته، مدرج كرودا مالكورا الطبيعي. وفي الحقيقة، على الرغم من أننا بالفعل نؤمن بأنّه شيء رائع ومدهش في عالم الدولميت، فلم نر شيئاً بعد يستحق المقارنة به. 
وينحدر السيف الأخضر بعيداً من تحت أقدامنا، حتى ينزوي في خليج وادٍ تكسوه الأشجار مجهول المسافة والعمق. بينما على مد البصر وراء وفوق هذا الوادي في البعيد، تتكدس قمة وراء قمة وجرف فوق آخر، تحدها قضبان أفقية من الثلج المجروف بواسطة الرياح، وراء جبل فتتكوم هنا طبقة من الجليد اللامع، وينساب هناك جدول من شلال ضبابي، يقطع الأفق بجميع أشكال الحواف الحادة والتحصينات، وتصل إلى ما يبدو كأنه منتصف الطريق بين السماء والأرض، فتدور في حلقة محكمة من الجبال الهائلة. 
لكن أي جبال؟ أليفة كما أصبحت جبال الدولمايت بالنسبة لنا الآن؟ ليس بوسعنا التعرف على تفصيلة واحدة هنا. أين نحن إذن؟ وماذا سوف نرى إن استطعنا تسلق ذلك الحاجز الضخم؟
يستغرق الأمر بضع دقائق من التفكير، والاستعانة بالخريطة للإجابة على هذه الأسئلة. ثم، فجأة أصبح كل شيء واضحاً. نحن خلف الكرودا مالكورا، بالضبط خلف السورابيس، وننظر مباشرة باتجاه البيلمو، الذي حجبته عن أعيننا بعض الجبال المتشابكة.
ينبغي أن يظهر انتيلاو في الجانب الأيسر، لكنه الآخر متوارٍ خلف سلسلة مارمارول الطويلة الشاهقة. وعلى مسافة بعيدة إلى اليمين، في الفجوة التي تفصل هذه البانوراما الرائعة من أقرب كتل كريستالو الصخرية، يقع ممر التري كروسيه الذي يؤدي إلى كورتينا. ويظل مدرج كرودا مالكورا هو السمة الأساسية للمشهد ونحن ننظر إليه من الخلف.  وهو عند النظر إليه من هذا الجانب يسفر عن جدار عمودي من الجروف وشيكة الانهيار، وأيضاً هو أشد انحداراً و استواءً من أن تتكون فيه تجمعات ثلجية، ما عدا هنا وهناك على حافة ضيقة أو نتوء نادراً ما يتسع لأحد حيوانات الشمواه. ويقذف على جانب الأمبيزو بقطع كبيرة من الصخر، لدرجة أنّه ليس من وجه شبه بين  واجهتيه الغربية والشرقية  كما لو أنّ كلًا منهما في جبل منفصل. وهذه الهيئة تتكرر في بنية الدولمايت، كما عرفت تدريجياً، وسيفيتا من أهم هذه الحالات. 
وبالنظر مطولاً إلى ها المشهد الجميل، سعدنا مرة أخرى بالهروب من الشمس التي تغشي الأبصار إلى ظل غابات الصنوبر. وهنا صنعنا خيمة من المفارش والعباءات للاستراحة فيها من حرارة النهار اللاهبة لبضع ساعات، وأيضاً تناولنا غداءنا، وتدارسنا كتبنا وخرائطنا، واستمعنا إلى أزيز النحل بين الزهور البرية، وإلى غناء طيور السمنة المغردة فوق رؤوسنا، نخال أنفسنا في أركاديا، أو غابة الأردن. وفي هذه الأثناء كان حارس الغابة مشغولاً بين أشجار التنوب على جانب الربوة، ومن وقت لآخر نسمع دوي سقوط إحدى الأشجار. 
يتردد رجل الغابة الذي يعيش في الكوخ الأبيض هناك علينا ليقدم فروض الاحترام للسيدة. كان اسمه باستيان، وقد اكتشفنا أنّه أخ لسانتو سيوربايس. كما أنّه عمل أيضاً كجندي، وهو سعيد بالعمل كمرشد عندما تسنح له الفرصة أحياناً. إنّه يعيش في هذا الركن القصي من العالم طوال السنة. إنه "كئيب جداً" كما يقول خاصة في الشتاء. عندما ينتهي فصل الخريف، يقوم بتوفير مؤونة منزله الصغير كما لو أنّه سيدخل في حصار طويل، فيضع في مستودعه الطحين، والجبن والنقانق، والقهوة وما إلى ذلك. ثم يأتي الثلج، ولا يخرج أيُ ذي روح من تلك الوديان. يصبح كل شيء ناصع البياض وصامتاً كالموت. يساوي ارتفاع الثلج طوله، وفي بعض الأحيان يتجاوزه، ويتعين عليه أن يحفر خندقاً حول المنزل، حتى لا يحتجب الضوء عن النوافذ السفلية. وقد حدث ذات شتاء أن كان سقوط الثلج مفاجئاً وغزيراً، حتى إنّه لم يخلد إلى فراشه دون أن يتساءل ما إذا كان سيدفن حياً في كوخه قبل أن يصبح. 
وبينما كان يتحدث، أقبلت جماعة من العاملين في تشييد الطرق يسيرون ويصفرون، ويضحكون ويدندنون بمقاطع من الأغنيات. إنهم عائدون إلى العمل، وقد تناولوا طبق منتصف النهار من عصيدة عجينة الذرة، وقد سعدت قلوبهم بالنبيذ الأحمر الخام الذي يبيعه باستيان في الكوخ كل لتر بثلاث قطع نقدية من فئة الكروتزر تقريباً، والذي لم نستسغ شربه عندما تناولنا الغداء. 
"المكان مفعم بالحياة الآن، في كل الأحوال،" تقول ل. بنبرة تنم عن الارتياح. 
ينهمك في خدمتهم، ويهز رأسه.
" نعم سيدتي" يجيب؛" ولكن سرعان ما سينتهي عملهم هنا، وستبدو العزلة أشد من أي وقت مضى".
يشبه الرجل سانتو كثيراً، ولكنه لا يملك شيئاً من أسلوب سانتو في الحركة. يبدو أنّ حياة العزلة قد سلبت منه كل ذلك الألق. إنّ أسلوبه حزين وسلبي، وعندما يكون صامتاً، تلون عينيه نظرةُ ضياع من النوع الذي يراه المرء في وجوه السجناء الذين لبثوا في القيد سنين عدداً.
في الساعة الثانية، هدمنا الخيام واستعددنا للمسير من جديد. أقبل السائق المهذب، وهو يدرك إمكانية الاستفتاح بصفقة جيدة، ليطلب إجازة، فحلَّ محله الشاب جيوفاني، الذي رحل من كورتينا ليقابلنا مع السروج الموعودة. والآن يظهر صديقنا القديم الكميّت الطويل في المشهد بسرج آل بيزيه الجانبي على ظهره، يتبعه حصان أسود يساويه في الضخامة وعليه سرج آل غيدينا، وبذلك صار جيوفاني وجيوسبي بخدمتنا، فركبنا وسرنا، ولكن ليس بدون أن تخلو أذهاننا من شكوك مبررة بأنّ هذه الخيول الأصيلة لم تحمل على ظهرها سيدةً من قبل. ورغم ضخامتها فهي تتسلق مثل القطط، وتتمسك بمنحدرات غابة التنوب الوعرة الزلقة في جهد رائع، حتى إنّها تصعد وراء كوخ باستيان وتتجه إلى ما بعده، إلى ميزورينا الألبية. 
وقد وصلنا إلى أعلى مستوى حتى الآن بعد ثلاثة أرباع الساعة من العمل الشاق، وحللنا بهضبة هائلة خضراء يحدها من كل جانب صف من القمم الصخرية. شيمي كادينو أو كاديني سبيتزن من اليمين. أما اليسار فصخور كريستالو الدنيا، التي تعلوها أبراج بيز بوبينا العملاق ولكنها لا ترى من هنا. أما الوادي الشاسع هذا، الشاهق، المنعزل، الذي يكسو سفحه العشب الأشد خضرة، وتعلوه السماء الأشد زرقة، فيموج صعوداً وهبوطاً إلى مسافات تستعصي على القياس. * ربما في حجم ألف رأس من الماشية ترتع في المراعي الخصيبة. ونمر الآن من "ستابيليمنتو" أو فاشيري كما تدعى في فرنسا، وهو مجموعة من المباني الخشبية الواسعة، حيث يعيش الرعاة في الصيف، ويصنعون ويخزنون الجبن الذي يشكل مورداً مهماً للثروة في المقاطعة. 
وبعد مسافة ليست بالقليلة، عندما طال بنا المسير في طريق لم تبد له نهاية، وصلنا إلى دائرة جوفاء استقرت في وسطها بحيرة ميزورينا- بركة خضراء وصافية، وهادئ، تغذيها كما قيل لنا ثلاثون عيناً، وهي غنية بسمك السلمون المرقط، وثعالب الماء.  
والمكان هاديء، وجميل ومنعزل إلى حدٍ غير معقول. يضفي الظلام- الذي طفق يرخي سدوله في استعجال- على أطراف البحيرة أهداباً، فتضاعفت صورتها بانعكاسها على صفحة الماء. تقف في الماء ثلاث بقرات ناعسات، في سكون. ولا تعكر صفو كريستال صفحتها موجة واحدة. وليس ثمة صوت واحد يحرّك الهواء. وهناك، حيث المشهد باتجاه الشمال، تبدو قمم الدري زينين في غلالة من الضباب، وهنا حيث ينحدر المرج الأخضر إلى طرف المياه، تبدو الشمس المشرقة وكأنّها في سبات عميق. وفي المشهد كله ما فيه من خيالية  تخط الأنفاس، كما لو أنّه كان حلماً أو لوحة. 
وبعد أن استرحنا هنا لبرهة من الزمن، تبعنا خطواتنا على طول الهضبة كلها، ثم ترجلنا، نضرب بأقدامنا على المنحدر الطويل بصخوره ومستنقعاته، حتى وصلنا إلى درب البغال المؤدي إلى كورتينا عبر ممر تري كروسيه.  وصعدنا بسلاسة إلى الأعلى في طريق متعرج، ثم التففنا حول حافة غابة الصنوبر، ونسير الآن على كتف كريستالو الذي يبدو الآن بهيئة جديدة بدلاً عن ظهوره ككتلة واحدة، فهو ينقسم إلى ثلاث قطع هائلة الحجم، كل واحدة منها جبل بذاته. 
ولمسافة غير قصيرة ظل المشهد الشرقي يسود سلسلة جبال مارمارول وسيركا مالكورا. ثم وعلى درجات، بينما نعالج الطريق انثناء إلى الغرب، بدأ مارمارول يغيب عن الأنظار شيئاً فشيئاً، وبدأت جروف مالكورا تكشف عن نفسها من الجانب. وأخيراً وصلنا إلى قمة الممر بصلبانها الثلاثة، وارتفعت جميع القمم الأليفة على جانب الامبيزو مرة أخرى في مصفوفة رائعة مقابل الشمس الغاربة: إلى اليسار بيلمو وروشيتا، وإلى اليمين زاوية جبل لاغازوي، والقمم الثلاث لجبل توفانا، وعلى امتداد الطريق مباشرة بيك دي ميزودي، وجبل نوفولاو، ووراء صدع ممر تري ساسيه، المنحدر الجليدي النائي لجبل مارمولاتا. 
بيد أنَّ الطريق من هناك إلى كورتينا لا ينحدر بشدة، وهو طويل ووعر- وعر للغاية لدرجة أننا كنا سعداء بالنزول وإنهاء رحلة العودة إلى الديار على الأقدام. وبينما كنا نهبط، أثارت اهتمامنا كثرة الصلبان المنصوبة على جانبي الطريق، كان بعضها خشبيًا غير متقن الصنع، وبعضها من الحديد الصديء. وهنالك بعض النُصُب التي أقيمت إحياءً لذكرى مسافرين فُقدوا في العواصف الثلجية المفاجئة في وقت الشتاء والربيع.
______________________________________
* "ينبع نهر البياف في جبال الألب التاوريسية، وفي تلك البلاد يسمى جبلياً في اللغة اليونانية، أي كادوري: حيث أخذ النهر من اليونانية اسم اناكسو Anaxo ويراد به القول بأنّه من الممكن أن ينتقل فيه الملاح وظهره باتجاه التيار نسبة لسرعة جريانه الفائقة." تأريخ جورجو بيلوني، الكتاب الثاني، مدينة البندقية، 1707.
* كلمة الألب تستخدم هنا ودائماً بمعناها المحلي، فهي تدل على المرعى الجبلي. وربما دلت أيضاً في الوقت ذاته على الكلمة "Col" التي تعني في هذه الأجزاء "الهضبة"، وهي مشتقة من مفردة”  “Collo، بينما ممر الجبل (يدعى في سويسرا Col )، وهنا يدعى Forcella .
مكان ميلاد تيتيان
______________________________________
 
 
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب 
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)

        قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة الباب السادس- أورونزو ووادي بونا تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم ----  كان منظر كادوري هو ما يراه المرء عندما يلتفت المرء إلى الوراء عند ثنية الطريق التي تبعد حوالي نصف ميل خارج البلدة وباتجاه كالالزو، ومرة أخرى من بونتي ديلا مولينا على بعد ميل واحد من هناك. وهذا هو أفضل جزء من نوعه في جميع أنحاء هذا الجزء من تيرول. وفي الوقت ذاته، ليس فيه سوى القليل جداً من الروح التيرولية. صورياً، فهو موضوع إيطالي بحت، جليل، متوافق، كلاسيكي، وعلى درجة مناسبة من الرسوخ في تشكيل الجبال لتمنحها المهابة، ولكن بدون تغيرات مفاجئة في التضاريس، أو روعة تكفي لزعزعة سكون المشهد. في المقدمة لدينا وادي مولينا يمتد فوقه جسر عتيق وجميل، في الطرف الأقصى منه كنيسة صغيرة تتشبث بجرف متداعٍ هارٍ. في وسط المسافة، ترى قرية كادوري النائية الصغيرة من وراء صدع يعترض  الوادي الضبابي وهي تتلألأ على هضبتها التي تشبه سرجاً غريباً، تحرسها  قلعتها الواقعة على أكثر المنحدرات الشاهقة المطلة عليها ارتفاعاً– كما تخشى عليها من تقدم العمر! وبعد كل هذا، تتعالى على نحو رائع في كبد سماء الظهيرة الصافية، وتسد كتلة جبل بيرا الهرمية الجميلة الأفق.  عن الضوء والظل، فإنّ اللوحة مثالية في جميع ما يخص عناصر المنظر بأسلوب بديع، فلا شيء يرضى بالتخلي عما فيه من حياة حتى المجموعة التي تظهر في مقدمة الصورة، وهنا تأتي اثنتان من شاحنات البولوك عبر الجسر، بدائيتان فريدتان كما لو انّهما حضرتا إلى هنا مباشرة من القرن الخامس عشر. لقد كانتا موضوعاً فقط، كما لو أنّه لم يزد على الرسم، واضطلع كلود بمهمة التلوين.   في دوميجي، حوالي ثلاثة أميال ونصف من كادوري، مررنا بقرية قد دمرت بالكامل تقريباً قبل بضعة أشهر بسبب الحرائق. وأصبحت الآن كتلة سوداء واحدة، وحطاماً غير واضح المعالم، ولكنها لن تظل كذلك وقتاً طويلاً، لأنَّ جميع السكان، رجالاً ونساءً وأطفالاً صغاراً تجمعوا كما يفعل النحل في خلية محترقة، يكنسون عنها الركام، وينقلون أحمال الحجارة، يخلطون الملاط، ويساعدون في إعادة إعمار ما فقدوه من منازل. والآن ارتفعت الأساسات والأسوار الجديدة بالفعل، وبحلول هذا الوقت، تكون دوميجي الثانية قد نهضت بلا شك من تحت رماد الأولى.  القرية التالية، لوزو، على بعد ميلين في طريق الوادي، احترقت بالطريقة نفسها قبل سنة أو اثنتين، وهي الآن أكثر- بشكل غير رسمي- أكثر حداثة، وصلابة وراحة. ربما كان التعرض للحريق هو أفضل قدر قد يقع على سكان أيّ من هذه القرى العتيقة المبنية من جذوع الأخشاب، نظراً لأنّ مساكنهم استبدلت آنذاك بمنازل حجرية أرحب. فكما هو الحال، مع التعرض لخطر الحريق والانهيارات الصخرية، فإنَّ "البلدان" التيرولية الأصغر لا تمثل مكاناً آمناً أو ساراً للإقامة، وربما تقف على قدم المساواة من حيث عدم الأمان مع بورتيتشي، وتور ديل غريكو، أو أيٍّ من القرى الفيزوفية الأخرى.    أخذ الطريق- الذي كان سيئاً للغاية طوال الرحلة من كادوري- في الانحدار تدريجياً تجاه حوض السيل، وما زال في مدى رؤية لورينزاغو إلى اليمين، وتحت شفا جروف مونت كورنون الخطرة إلى اليسار. لكل من الجبل والقرية أسطورتهما الخاصة. لورينزاغو، معلقة بشكل رائع على واحد من المنحدرات المنخفضة على جبل كريدولا، والتي يعتقد أنّها مكان موقع استشهاد القديس فلوريان، وهو قديس تيرولي ذو شعبية كبيرة، يفترض أنَّ لشفاعته فعالية خاصة في حالات الحريق، بينما يقال إنَّ اسم جبل كورنون مشتق من حدث في تأريخ كادوري، يذكره السيد جلبرت قائلاً:- " على طول المنحدرات التي تقع فوق هذا المضيق، وفي أثناء حرب عام 1509، كانت فرقة من قوات ماكسيمليان تتقدم بحذر، عندما انطلقت نغمات الإنذار من آلة "corno" فجأة من اتجاه جانب الجبل الغائم. لم يك ذاك سوى صوت اعتاد الرعاة سماعه، إذ مازال من العادات المتبعة في ذاك الموسم أن يتم التحذير من الدببة، ولكن أصيب الغزاة بالفزع، إذ افترضوا أنّ تلك إشارة إلى هجوم وشيك من قبل أهل كادوري، وهربوا من حيث أتوا، من أعلى ممر سانتا كروسيه وحتى سيكستين. "-كادوري، ص. 92".  ويُطلق البوق الريفي ذاته للغرض نفسه، وقد يُسمع هنا في الأمسيات الخريفية الهادئة حتى اليوم، كل ما أتت الدببة لسرقة البساتين في القرية، ومن الملاحظ أنَّ الدببة تكثر في الأنحاء المتامة لجبل كورنون، وكوميليكو والغايل تال عنها في باقي إقليم الإلب.  عبرنا البياف من نقطة غير بعيدة عن قرية لوزو، واستأنفنا المسير على طول الضفة اليسرى للنهر حتى نقطة التقائه مع الانزاي في تري بونتيه الجسر الثلاثي الشهير الذي يتكون من ثلاثة أقواس عريضة، يمتد الواحد منها على مسافة 90 قدماً، وتستند جميعها على دعامة مركزية واحدة.   إلى اليسار، على خط متعرج بين المرتفعات المكسوة بالغابات، يقع وادي اورونزو، بينما نجد الوادي العلوي لنهر البياف يقع إلى اليمين، بمياهه الرمادية التي انحسر حجمها إلى نصف ما كانت عليه سابقاً، وتجري بسرعة إلى الأسفل في قناة صخرية مقفرة من منبعها في ذلك الجزء من سلسلة الألب الواقع شمال إيطاليا وجنوب النمسا. والآن بعد تتبعه مذ رأيناه يتسع عبر السهل بالقرب من كونغليانو، إلى ما يقارب-  في نظر الكثيرين- الميل من مجراه الطويل، نحن الآن نقترب من الوداع الأخير. لم يكن عندها بعيداً من مقبرته في البحر الادرياتيكي، وهو الآن على البعد ذاته من منبعه في حجر جبل بارالبا. ويتحدث كاتب و باحث قديم في مجال التأريخ، يدعى دوتري جيورجو بيلوني- وهو من بيلونو، و ألّف كتاباً مملاً بأسلوب ممل قبل مائة وستين عاماً- عن البياف ليس فقط كأطول وأهم نهر بل أيضاً باعتباره "أقدم أنهار المحافظة ويسعى لتعريفه على أنّه نهر اناسوم-* الذي ذكره بليني في فصله حول الأراضي الفينسية. ويدفع بالحجة على قدمه، عمق حوضه وارتفاع ضفافه، "وبذلك يمكن الاحتجاج ببساطة بأنَّ نهر البياف ليس نهراً حديثاً، كما في الأمثلة الأخرى يرى المرء أنّه ربما تكوّن نتيجة للزلازل وغيرها من الحوادث." وعندما كتب الدكتور الماهر هذه السطور لم يكن قد زار مشهد الانهيار الصخري على مضيق سيرافالي قط، ولا رأى حوض نهر البياف في كابو دي بونتي.   وبالسير في اتجاه الضفة اليمنى للانزاي، ندلف إلى وادي الاورونزو. الطريق السيء الذي بدأ في كادوري وينتهي في جسر تري بونتي، وتنبسط الآن من جديد طريق  جديدة وواسعة تحت حوافر الجياد.   بحلول هذا الوقت بدأت الشمس في المغيب، وتلقي الأشجار بظلالها الطويلة على المرج المنحدر، وتأتي ذبابة البقر في أسراب مثل الغيوم، ويعبق الجو بروائح المساء وأصواته. لقد كان يوماً طويلاً، وانقضت اثنتا عشرة ساعة تقريباً منذ أن غادرنا كورتينا في الصباح. كم سيطول بنا المسير على الطريق قبل أن نصل إلى اورونزو؟ والسائق الذي كان على مستوىً من التهذيب لا يسمح له أبداً بأن يقدم إجابة صريحة على أي شيء، لمس لدى سماع هذا السؤال قبعته بمقبض سوطه، وأجاب بأنّ الأمر: "كما تودّ السيدة." (Come lei piace, Signora.). ولكن كم أمامنا من الكيلومترات؟" يسعل معتذراً. " كيلومترات! مع احترامي، إنها ليست مسألة كيلومترات بأي حال. بجياد مثل هذه، لا معنىً للكيلومترات.  جميل! إذن ماذا عن الوقت: متى سنصل إلى أورونزو؟ خلال ساعة؟، ساعة ونصف؟ قبل الغسق؟  يرفع السائق كفيه، وينظر حوله بطريقة تنبي عن عجزه، كما لو أنّه يبحث عن مهرب، يمس قبعته مرة أرى، ويتمتم: " كما تحبين سيدتي". Come lei piace! عبارة تضيق بها جميع أفكاره.  ليس له آراء مستقلة. وإنّه ليفضل الموت دون أن يعبر عن نفسه بقرار حول أي شيء. سله ما تريد- اسم قرية، الساعة من اليوم، حالة الطقس، اسمه هو وعمره ومسقط رأسه، وسوف تجد بلا شك الإجابة ذاتها: كما تود السيدة! "Come lei piace." إنّها إجابته الثابتة، وأي جهد لحمله على تغييرها سيكون هباءً منثوراً. وقد تبين أنّ المسافة على أية حال تبلغ اربعة أميال فقط. فبعد ساعة ونصف من مرورنا بجسر تري بونتي الثلاثي، وصلنا إلى ثنية في الطريق، وانظروا! تقع هناك قرية كبيرة، شاسعة تمتد على طول الضفة القريبة من نهر الانزاي، وهنالك كنيسة كبيرة أشبه بالمسجد ذات قبة بيضاء لامعة، وبرج جسر يبدو أقدم منها يشرف على الأسقف البنية في الحد الأقصى للمكان، ووراء كل ذلك مشهد الوادي يشقه سيل عميق وداكن اللون تزينه غابات الصنوبر الكئيبة. وعلى أية حال لم تكن قرية أورينزو، ولا الوادي، ولا السيل ولا غابات الصنوبر هي التي تمنح المنظر بهائه وروعته: بل هي قمم سلسلة الجبال المتراصة فوق بعضها البعض، قمة وراء أخرى باتجاه سماء الأمسية الصافية الشاحبة.  ويشم الآن جبل دري زينين الأشد بعداً وغرابة في أقصى الوادي، مسفراً عن ثلاث قمم خنجرية واضحة للعيان. ويعلق الضباب الخفيف-الذي تشرق الشمس من خلاله- على المدى، وتحيط بالجبل حلقات من السحب الأفقية الرقيقة، فتبدو مثل ركام ثلجي يطفو فوق بحر من الضباب الذهبي.    وادي أورونزو   إنّه واحد من تلك التأثيرات النادرة والباهرة التي قد يسافر المرء طوال الصيف دون أن تتسنى له رؤيتها، والتي عندما تحدث لا تدوم سوى برهة قصيرة. وقبل أن نصل إلى أول كوخ، كان الشعاع الذهبي قد خبا، وتحولت الأبخرة إلى اللون الرمادي الشاحب كالأطياف.  تنقسم أورنزو إلى قسمين قرية عليا وأخرى دنيا، وهي تعرف على التوالي بالقرية الكبيرة والقرية الصغيرة. القرية الصغيرة التي يصل إليها المرء أولاً عبر الدخول من جانب الجسر الثلاثي، هي ضاحية حديثة تتبع للقرية الكبيرة. بيوت هذه الضاحية العصرية تتميز بالرحابة والفخامة، تذكر المرء بمنازل أوبير اميرغاو، وبعضها مزين بالجصيات الدينية الخشنة على نحو ما. وللقرية الصغيرة تتبع الكنيسة الكبيرة الجديدة ذات القبة والنُزول- وهو منزل نظيف المظهر يقع على الجانب الأيسر من الطريق على مسافة غير بعيدة، قبالة مساكن الكهنة.  وقد وجدنا في طريقنا الصاعد نحو الفندق، حوالي أربع أو خمس عربات تجرها الجياد ممدة أمام المنزل، وهنالك مجموعة من الرجال والنساء تجمعوا حول المدخل، في مواجهة رجال ونساء ينظرون خارجاً من النوافذ العليا، ويكتنف المكان جو احتفالي صاخب على غير العادة. تقف على الباب صاحبة الفندق، وهي سيدة قوية القسمات، ترتدي زياً بلون أسود باهت. تضع يديها على خاصرتها، وتهز رأسها بينما نتقدم صعوداً، ولا تمنح غوسيبي فرصة ليتحدث.   ليس بوسعها استضافتنا- ليست هي! إنّها لا تستطيع استضافة ملك إيطاليا حتى، إن قدم هذا المساء. مستحيل. فلديها حفل زفاف من كوميليكو، ودارها ممتلئة عن آخرها. هناك! فندق صغير آخر في الأعلى، في القرية الكبيرة. وسنجد على الأرجح غرفة هناك. وإن لم نفعل؟ حسناً ليس لديها ما تقوله! إنّها تفترض حتمية عودتنا من حيث أتينا.  وبدا غوسيبي والسائق عاجزين عن التعبير. إنّهما يغمغمان بشيء ما في صوت خفيض حول "l’atro albergo;" وتلتقط أذني تشديداً خطيراً على كلمة "altro". تهمهم السيدة قائلة: ويراقبنا المسافرون المقيمون لديها (جميعهم يرتدون ملابس العطلة المخنثة الطابع) بنشوة الانتصار، فيدير السائق العربة، ونرحل في غمرة من الأسى. ينتهي الطريق المعبّد فجأة بمنازل المزارعين المبعثرة التي تتسم بها القرية الصغيرة، ويغدو طريق العربات أكثر وعورة ويحفل بالأنقاض والركام. ثم، وفجأة، نجد أنفسنا في خضم متاهة من المنازل الخشبية القديمة المتلاصقة المشبعة بالرطوبة، محطمة، ومتهالكة ومسوّدة بفعل الدخان، وأمامها تصبح أسوأ القرى التي مررنا بها نظيفة وواعدة. وهنا يصرخ الأطفال المتسخون، ويموجون، ويتسولون، وتنحني النساء الشعثاوات من النوافذ العليا، والرجال الكئيبون الذين يكسو الغضب ملامحهم يجلسون على المداخل المتسخة  يحدّقون بطريقة متجهمة وشرسة في العربة أثناء مرورها بجانبهم. هذه هي القرية الكبيرة. بعدها بلحظة، سرنا في منعطف حاد، وصعدنا أمام منزل بائس ومهجور، يقف وحده غير بعيد من بقية المنازل، وبجانبه ملعب مسوّر من أحد جوانبه، يلعب فيه نحو ستة أو ثمانية رجال بالكرة، ومجموعة أو اثنتان من المتفرجين. هذا هو فندقنا. نظرنا إلى غوسيبي، ثم إلى المنزل، وإلى بعضنا البعض.  وتساءلنا في خوف:" هل من مكان آخر نستطيع تمضية الليلة فيه؟"  هزّ غوسيبي رأسه بالنفي. هذا ونُزل القرية الصغيرة هما الوحيدان في المنطقة. فإن لم ننزل هنا، فليس أمامنا سوى العودة إلى تاي كادوري، على مسافة لا تقل عن أربعة عشر - إن لم تكن خمسة عشر- ميلاً إنجليزياً. تخرج في هذا الوقت العصيب امرأة طويلة بدينة، ومبتسمة، تنم قسماتها عن صدق ويعجّ فمها بالأسنان البراقة- شخصية متحمسة وكلها رغبة وتوق للترحيب بنا وحمل أي عدد من الأمتعة والمفارش، مفعمة بحسن النية والذوق الرفيع. قادتنا نحو الأعلى في رحلة على درج غاية في القذارة، إلى الطابق العلوي الذي كان أكثر قذارة، وممتليء بأجولة الدقيق والأجبان، ومعدات الزراعة. ومن ثم صعدنا على سلم من النوع المدرج، والذي كان يؤدي إلى بهو مؤثث بطاولة ومقاعد عادية، وآلة للطباعة على الكتان، وخزانة للكؤوس. ولدى فتح هذه الشقة، ظهرت غرفتان أو ثلاث غرف خاوية ولكنها غاية في الكمال، ولها جدران منخفضة بيضاء، وسقف يعلو حوالي السبعة أقدام من الأرض، وفراش، ومقاعد منسوجة بالأسل وجميعها نظيفة لدرجة الهوس، على العكس تماماً من الجزء الأسفل من المبنى. ليس ثمة ستائر أو سجاد بالطبع. ولكن كل ما هو ضروري لتوفير وسائل الراحة الشخصية متوفر، ولكن اتخذت الزينة فيه طابعاً روحياً. فقد تغطت الجدران بصور مطبوعة للقديسين والشهداء في إطارات صغيرة سوداء، بينما تدلى على رأس كل سرير نقش طباعي ملون للسيدة العذراء يظهر فيه قلب وردي مجسم تخترقه الخناجر، فتضفي عليه صبغة رائعة من عيد الحب. سنقيم هنا، ونستمتع بالهدوء. قدمت لنا عند نزولنا شرائح الكستلاتة والقهوة والبيض والسلاطة، وكانت جميعها في جودة مناسبة. وأثناء إعداد هذه الوجبة، تفرجنا على اللاعبين في ملعب كرات الخشب. وقد نزع سائقنا، الذي كان مع خيوله، معطفه وانضم إلى اللاعبين. أما غوسيبي فكان يدخن سيكاراً، وبدا شارد الذهن.  شيئاً فشيئاً أرخى الغسق سدوله، وتفرق اللاعبون، ونحن من يتعين علينا الرحيل مجدداً بحلول الساعة الثامنة والنصف صباحاً، سعدنا بالخلود إلى بعض الراحة، تحت حماية سيدتنا المبجلة.  لقد كانت قرية اورونزو العليا، سواء أرأيتها في الأمسيات الرمادية أو الصباحات المشرقة فهي تبدو مكاناً قد يهتم به المرء بزيارته سواء في بلده أو بالخارج من حيث افتقاره للجمال أو السمعة الحسنة.  ولم أشاهد أثناء تسكعي في المنطقة في الصباح التالي قبل الإفطار، سوى الأوساخ والفقر في أدنى أشكالها قبولاً. لقد بدا الناس شعثاً، وعلى قسماتهم سيماء اللؤم والسخط، وكانت المنازل شديدة الازدحام، ولم نصف الأراضي التي تحيط بهم مزروعة. وقد عرفت لاحقاً أنَّ تلك الكمونة كانت تعاني من الفقر، والديون، والكثافة السكانية العالية، والسمعة العاطلة للسكان.  لقد كان شيئاً لطيفاً في كل الأحوال أن نرحل مرة أخرى في الصباح المشرق المعتدل، وقد اتجهت نواصي خيولنا مرة أخرى صوب الهضاب.  وها قد أصبحت اورونزو خلفنا الآن، وأصبح المشهد أكثر اتساعاً بتقدمنا في الطريق ميلاً بعد ميل. وقد كشف لنا كل مضيق على اليمين أو اليسار عن قمم رائعة، ولمحات من آفاق جديدة. وقد حفت أشعة الشمس منحدرات الصنوبر، التي كانت كئيبة الليلة الماضية، وتترقرق مياه السيل في مجراه المفروش بالحصى الأبيض البراق، فتبدو مثل شريط أزرق مفضض الحواف.  ويبدو الوادي من هذا المكان أشبه بطريق مسدود. فالطريق يصعد حتى بداية الحاجز الركامي الصخري الكبير في سفح جبل جيرالبا من جانب، وهناك، تنتهي كل المشاهد بغتة. ويضع جبل روزيانا (المعروف لدى السكان المحليين باسم جبل روجيانا) دعامة ضخمة على الجانب الآخر. بينما يرتفع كول اغنيلو، وهو مجموعة عظيمة من القمم التي لا يقل ارتفاعها عن 10 آلاف قدم، كحاجز لا سبيل إلى اجتيازه بين الاثنين. وقبل الوصول إلى هذه النقطة من الارتفاع لا يستطيع المرء أن يدرك انعطاف الوادي بحدة إلى اليسار، بدلاً عن انتهائه إلى طريق مسدود، فيصير إلى مجرد مضيق متعرج خلف الجانب الغربي لجبل روزيانا.  والآن وبعد مسافة غير بعيدة، نمر بقرية تافيسياجي المهجورة، وهي تجمع لأكواخ نصف مهدمة في مدخل وادٍ غير ذي زرع يؤدي إلى ممر غير مأهول ولا مطروق خلف كول اغنيلو. ينحدر الطريق الآن فجأة إلى درب كثيف وزكي العبير في غابة صنوبر، تنساب فيه موسيقى الطيور المغردة، تخترقه أشعة الشمس الراعشة من هنا وهناك، وتزيده السناجب البنية الصغيرة حياة على حياة وهي تهرع بين ثمار التنوب المخروطية التي تتدلى من الأشجار. وبين الفينة والأخرى، تظهر قمة عظيمة ذات صدوعٍ، إلى اليسار أعلى قمم الأشجار، فتحجب نصف قرص الشمس المشرقة، ثم تنكشف الغابة فجأة عن سهل عريض، يبدو للوهلة الأولى مثل سلسلة من الجبال الجديدة الهائلة التي لا يمنعنا عن الوصول إلى صخور سفحها سوى حوض نهر الأنزاي. في هذه المرحلة يبدأ السابق في الصعود إلى الأعلى، وفي نصف التفاتة إلى الوراء داخل صندوقه يقول لنا بتهذيب فائق مِن متقنٍ لفن المراسم في قاعة اجتماع حكومي:- "مع احترامي، سيدتي- إل مارمارول". وكوننا قد تعرفنا بشكل رسمي إلى جبل الدولمايت الجديد، فإننا سنُسَر إن تمكنا من مشاهدته على نحو أفضل مما نراه من هذه البقعة. فكل ما تقع عليه أعيننا منه، في الحقيقة، كتلة واسعة تتعالى بشكل غير محدد إلى ما بعد غابة الصنوبر، ويواجهنا منحدر هائل من التراب البني الأحمر المكدّس إلى ارتفاع يقارب الخمسمائة أو سبعمائة قدم قبالة جانب الجبل. منحدر الركام هذا، يتناثر هنا وهناك، مع السقائف الخشبية التي تميز موقع منجم غني بالرصاص والفضة، وهو مهجور الآن، وفتحة صغيرة في مقدمة الجرف إلى الأعلى، لا يتجاوز حجمها على ما يبدو حجم فتحة المفتاح، تشير إلى مدخل البئر الرئيسية.    وهكذا واصلنا المسير، تحت ظل الغابة الأخضر طوال الوقت، حتى وصلنا إلى مجموعة صغيرة من الأكواخ تعرف معاً باسم كازا دي سان ماركو، وهو اسم يعود إلى الأيام الخوالي للسيادة الفينسية، وما زال معلماً للحدود بين إيطاليا والنمسا. وهنا، ليس ثمة موظفون في أي مكان، مررنا دون اعتراض تحت الحاجز الملوّن بالأسود والأصفر، ووصلنا في لحظات إلى بوابة الطريق الحكومي الجديد الذي قدم لنا غيدينا الكبير التوجيهات اللازمة للوصول إليه.  تم تشييد الطريق الحكومي الجديد بحيث يكون واسعاً ويمر عبر جانب هضبة منحدرة تغطيها غابة من أشجار الصنوبر، وهو يعتبر- لا شك في ذلك- عملًا ممتازًا، ولكن السير في هضبة هولبورن القديمة بكل ما عليها من أحجار سفلتة سيكون أسهل مقارنة به. إذ أنّه في الحقيقة ليس طريقاً بعد، بل درباً وعراً بعرض يصل إلى اثني عشر قدماً، مليئاً بالأحجار والأنقاض، وركام الجذور المتشابكة، وجذوع أشجار الصنوبر التي سقطت مؤخراً تتمدد أفقياً على كلا الجانبين، كمحاربين مجندلين في ميدان القتال. ويبدو أنّ العربات لم تدخل هذا الطريق، بيد أننا ترجلنا على الفور، إلا أنّ قدرة العربة على الصعود إلى الأعلى غير مؤكدة. كادت الخيول أن تصاب بالجنون بسبب أسراب ذبابة البقر. فأرهقت في صعود المنحدر الوعر، وكانت تتوقف بين الحين والآخر لتنثني وترفس بأرجلها في غضب. وتهتز العربة وتتدحرج مثل سفينة في البحر. وفي كل لحظة يزداد الطريق سوءاً، ولفحات الظهيرة تغدو أشد وطئاً. لقد وصلنا الآن إلى مجموعة من العاملين في تشييد الطرق، يبلغ عددها المائتين أو نحوها، نساءً وأطفالاً وكذلك الرجال، يتجمهرون فوق الضفاف مثل النمل، ينظفون ويساوون، ويكسرون الحجر. لقد توقفوا عن عملهم وأخذوا ينظرون إلينا كما لو كنا مخلوقات من عالم آخر.  "إنتم أول مسافرين يمرون من هذا الطريق،" قال أحد المتفرجين ونحن نمر بجانبه. " لا بدّ أنكم إنجليزيون!" وصلنا بعد فترة طويلة إلى حيث ينقطع الطريق تماماً، أما مساره المستقبلي فقد تم التعليم عليه بحصص عبر هضبة واسعة تنتهي بمرج منبسط. وتعتبر هذه الهضبة نوعاً من الحقول الطبيعية وسط عالم علوي من غابة الصنوبر المحفوفة بإطار ضيق من الأشجار من جوانبها الثلاث، ولكنها تغوص بعيداً على اليسار في واد مكسو بالأشجار تتواثب فيه مياه غدير صاف وتتلألأ.  "ننظر حولنا، فلا نرى مخرجاً، فنرجع أدراجنا، ونتساءل، عما بمقدورنا عمله بالعربة. ومما أثار استغرابنا أنَّ السائق بكل هدوء أمسك بالحصان من رأسه وقاده بشكل مستقيم إلى المنحدر الزلق ليخوض في الغدير.   "إنك لا تحاول إدخال العربة في تلك الحفرة!" تعجبت الكاتبة. " مع احترامي سيدتي، ليس من طريق آخر" أجاب السائق بكل احترام.   "ولكن ستكسر الخيول أرجلها، وستتحطم العربة إلى قطع صغيرة!" "كما تحبين سيدتي" يقول السائق، دون أن يدرك المعنى الحقيقي هذه العبارة.  نحن نقف الآن على حافة الموت، الضفة المنهارة تصل إلى عمق يقارب الثلاثين قدماً، والغدير يثور ويصطفق في القاع، والضفة المقابلة تكاد ترتفع فجأة من ورائه. " هل بإمكاننا الوصول إلى الضفة الأخرى بأمان؟" سألت. " مع احترامي، نعم سيدتي. هذا لأقول، إنّ بإمكاننا إعادتها إلى كورتينا على طول الطريق الممتد خلف اورنزو وبياف دي كادوري. كما ترغب السيدة." والآن لم تعد السيدة تود أن تعيد العربة عبر طريق لا يقل عن خمسة وأربعين ميلاً، وعليه، بعد استشارة سريعة، قررنا أن نخرج الأحصنة، وتسحب العربة بواسطة الرجال. وعليه انصرف غوسيبى لدعم رجال البحرية، ومن ثم بمساعدة ثلاثة أو أربعة من الرجال الأشداء، تم رفع العربة إلى الأعلى، وقيادة الخيول عبر النهر، وشُدّت السروج عليها من جديد، وبعد القليل من الشد والجذب، وصلت العربة إلى الجانب الآخر من هذا الروبيكون سالمة غانمة.  وبعد يارادات قليلة، خرجنا إلى سهل آخر من الألب الخضراء- مدرج منحدر أخضر ربما يمتد في مساحة ثمانين فداناً- أما الشرق فليس فيه سوى الغابات. والغرب كله جبال، ومنزل واحيد صغير أبيض يستقر مقابل حافة الغابة على بعد ربع ميل تقريباً. هذا المدرج هو وادي بونا، ذلك المنزل الأبيض الصغير هو كوخ الباستيان، حارس الغابة، وهنالك قمم عظيمة شاحبة تشمخ في روعة مفردة فوق قمم الأشجار خلف المنزل، هي قمم كريستالو. ولكن فوق هذا وذاك، كان المشهد الغربي هو ما أتينا خصيصاً لرؤيته، مدرج كرودا مالكورا الطبيعي. وفي الحقيقة، على الرغم من أننا بالفعل نؤمن بأنّه شيء رائع ومدهش في عالم الدولميت، فلم نر شيئاً بعد يستحق المقارنة به.  وينحدر السيف الأخضر بعيداً من تحت أقدامنا، حتى ينزوي في خليج وادٍ تكسوه الأشجار مجهول المسافة والعمق. بينما على مد البصر وراء وفوق هذا الوادي في البعيد، تتكدس قمة وراء قمة وجرف فوق آخر، تحدها قضبان أفقية من الثلج المجروف بواسطة الرياح، وراء جبل فتتكوم هنا طبقة من الجليد اللامع، وينساب هناك جدول من شلال ضبابي، يقطع الأفق بجميع أشكال الحواف الحادة والتحصينات، وتصل إلى ما يبدو كأنه منتصف الطريق بين السماء والأرض، فتدور في حلقة محكمة من الجبال الهائلة.  لكن أي جبال؟ أليفة كما أصبحت جبال الدولمايت بالنسبة لنا الآن؟ ليس بوسعنا التعرف على تفصيلة واحدة هنا. أين نحن إذن؟ وماذا سوف نرى إن استطعنا تسلق ذلك الحاجز الضخم؟ يستغرق الأمر بضع دقائق من التفكير، والاستعانة بالخريطة للإجابة على هذه الأسئلة. ثم، فجأة أصبح كل شيء واضحاً. نحن خلف الكرودا مالكورا، بالضبط خلف السورابيس، وننظر مباشرة باتجاه البيلمو، الذي حجبته عن أعيننا بعض الجبال المتشابكة. ينبغي أن يظهر انتيلاو في الجانب الأيسر، لكنه الآخر متوارٍ خلف سلسلة مارمارول الطويلة الشاهقة. وعلى مسافة بعيدة إلى اليمين، في الفجوة التي تفصل هذه البانوراما الرائعة من أقرب كتل كريستالو الصخرية، يقع ممر التري كروسيه الذي يؤدي إلى كورتينا. ويظل مدرج كرودا مالكورا هو السمة الأساسية للمشهد ونحن ننظر إليه من الخلف.  وهو عند النظر إليه من هذا الجانب يسفر عن جدار عمودي من الجروف وشيكة الانهيار، وأيضاً هو أشد انحداراً و استواءً من أن تتكون فيه تجمعات ثلجية، ما عدا هنا وهناك على حافة ضيقة أو نتوء نادراً ما يتسع لأحد حيوانات الشمواه. ويقذف على جانب الأمبيزو بقطع كبيرة من الصخر، لدرجة أنّه ليس من وجه شبه بين  واجهتيه الغربية والشرقية  كما لو أنّ كلًا منهما في جبل منفصل. وهذه الهيئة تتكرر في بنية الدولمايت، كما عرفت تدريجياً، وسيفيتا من أهم هذه الحالات.  وبالنظر مطولاً إلى ها المشهد الجميل، سعدنا مرة أخرى بالهروب من الشمس التي تغشي الأبصار إلى ظل غابات الصنوبر. وهنا صنعنا خيمة من المفارش والعباءات للاستراحة فيها من حرارة النهار اللاهبة لبضع ساعات، وأيضاً تناولنا غداءنا، وتدارسنا كتبنا وخرائطنا، واستمعنا إلى أزيز النحل بين الزهور البرية، وإلى غناء طيور السمنة المغردة فوق رؤوسنا، نخال أنفسنا في أركاديا، أو غابة الأردن. وفي هذه الأثناء كان حارس الغابة مشغولاً بين أشجار التنوب على جانب الربوة، ومن وقت لآخر نسمع دوي سقوط إحدى الأشجار.  يتردد رجل الغابة الذي يعيش في الكوخ الأبيض هناك علينا ليقدم فروض الاحترام للسيدة. كان اسمه باستيان، وقد اكتشفنا أنّه أخ لسانتو سيوربايس. كما أنّه عمل أيضاً كجندي، وهو سعيد بالعمل كمرشد عندما تسنح له الفرصة أحياناً. إنّه يعيش في هذا الركن القصي من العالم طوال السنة. إنه "كئيب جداً" كما يقول خاصة في الشتاء. عندما ينتهي فصل الخريف، يقوم بتوفير مؤونة منزله الصغير كما لو أنّه سيدخل في حصار طويل، فيضع في مستودعه الطحين، والجبن والنقانق، والقهوة وما إلى ذلك. ثم يأتي الثلج، ولا يخرج أيُ ذي روح من تلك الوديان. يصبح كل شيء ناصع البياض وصامتاً كالموت. يساوي ارتفاع الثلج طوله، وفي بعض الأحيان يتجاوزه، ويتعين عليه أن يحفر خندقاً حول المنزل، حتى لا يحتجب الضوء عن النوافذ السفلية. وقد حدث ذات شتاء أن كان سقوط الثلج مفاجئاً وغزيراً، حتى إنّه لم يخلد إلى فراشه دون أن يتساءل ما إذا كان سيدفن حياً في كوخه قبل أن يصبح.  وبينما كان يتحدث، أقبلت جماعة من العاملين في تشييد الطرق يسيرون ويصفرون، ويضحكون ويدندنون بمقاطع من الأغنيات. إنهم عائدون إلى العمل، وقد تناولوا طبق منتصف النهار من عصيدة عجينة الذرة، وقد سعدت قلوبهم بالنبيذ الأحمر الخام الذي يبيعه باستيان في الكوخ كل لتر بثلاث قطع نقدية من فئة الكروتزر تقريباً، والذي لم نستسغ شربه عندما تناولنا الغداء.  "المكان مفعم بالحياة الآن، في كل الأحوال،" تقول ل. بنبرة تنم عن الارتياح.  ينهمك في خدمتهم، ويهز رأسه. " نعم سيدتي" يجيب؛" ولكن سرعان ما سينتهي عملهم هنا، وستبدو العزلة أشد من أي وقت مضى". يشبه الرجل سانتو كثيراً، ولكنه لا يملك شيئاً من أسلوب سانتو في الحركة. يبدو أنّ حياة العزلة قد سلبت منه كل ذلك الألق. إنّ أسلوبه حزين وسلبي، وعندما يكون صامتاً، تلون عينيه نظرةُ ضياع من النوع الذي يراه المرء في وجوه السجناء الذين لبثوا في القيد سنين عدداً. في الساعة الثانية، هدمنا الخيام واستعددنا للمسير من جديد. أقبل السائق المهذب، وهو يدرك إمكانية الاستفتاح بصفقة جيدة، ليطلب إجازة، فحلَّ محله الشاب جيوفاني، الذي رحل من كورتينا ليقابلنا مع السروج الموعودة. والآن يظهر صديقنا القديم الكميّت الطويل في المشهد بسرج آل بيزيه الجانبي على ظهره، يتبعه حصان أسود يساويه في الضخامة وعليه سرج آل غيدينا، وبذلك صار جيوفاني وجيوسبي بخدمتنا، فركبنا وسرنا، ولكن ليس بدون أن تخلو أذهاننا من شكوك مبررة بأنّ هذه الخيول الأصيلة لم تحمل على ظهرها سيدةً من قبل. ورغم ضخامتها فهي تتسلق مثل القطط، وتتمسك بمنحدرات غابة التنوب الوعرة الزلقة في جهد رائع، حتى إنّها تصعد وراء كوخ باستيان وتتجه إلى ما بعده، إلى ميزورينا الألبية.  وقد وصلنا إلى أعلى مستوى حتى الآن بعد ثلاثة أرباع الساعة من العمل الشاق، وحللنا بهضبة هائلة خضراء يحدها من كل جانب صف من القمم الصخرية. شيمي كادينو أو كاديني سبيتزن من اليمين. أما اليسار فصخور كريستالو الدنيا، التي تعلوها أبراج بيز بوبينا العملاق ولكنها لا ترى من هنا. أما الوادي الشاسع هذا، الشاهق، المنعزل، الذي يكسو سفحه العشب الأشد خضرة، وتعلوه السماء الأشد زرقة، فيموج صعوداً وهبوطاً إلى مسافات تستعصي على القياس. * ربما في حجم ألف رأس من الماشية ترتع في المراعي الخصيبة. ونمر الآن من "ستابيليمنتو" أو فاشيري كما تدعى في فرنسا، وهو مجموعة من المباني الخشبية الواسعة، حيث يعيش الرعاة في الصيف، ويصنعون ويخزنون الجبن الذي يشكل مورداً مهماً للثروة في المقاطعة.  وبعد مسافة ليست بالقليلة، عندما طال بنا المسير في طريق لم تبد له نهاية، وصلنا إلى دائرة جوفاء استقرت في وسطها بحيرة ميزورينا- بركة خضراء وصافية، وهادئ، تغذيها كما قيل لنا ثلاثون عيناً، وهي غنية بسمك السلمون المرقط، وثعالب الماء.   والمكان هاديء، وجميل ومنعزل إلى حدٍ غير معقول. يضفي الظلام- الذي طفق يرخي سدوله في استعجال- على أطراف البحيرة أهداباً، فتضاعفت صورتها بانعكاسها على صفحة الماء. تقف في الماء ثلاث بقرات ناعسات، في سكون. ولا تعكر صفو كريستال صفحتها موجة واحدة. وليس ثمة صوت واحد يحرّك الهواء. وهناك، حيث المشهد باتجاه الشمال، تبدو قمم الدري زينين في غلالة من الضباب، وهنا حيث ينحدر المرج الأخضر إلى طرف المياه، تبدو الشمس المشرقة وكأنّها في سبات عميق. وفي المشهد كله ما فيه من خيالية  تخط الأنفاس، كما لو أنّه كان حلماً أو لوحة.  وبعد أن استرحنا هنا لبرهة من الزمن، تبعنا خطواتنا على طول الهضبة كلها، ثم ترجلنا، نضرب بأقدامنا على المنحدر الطويل بصخوره ومستنقعاته، حتى وصلنا إلى درب البغال المؤدي إلى كورتينا عبر ممر تري كروسيه.  وصعدنا بسلاسة إلى الأعلى في طريق متعرج، ثم التففنا حول حافة غابة الصنوبر، ونسير الآن على كتف كريستالو الذي يبدو الآن بهيئة جديدة بدلاً عن ظهوره ككتلة واحدة، فهو ينقسم إلى ثلاث قطع هائلة الحجم، كل واحدة منها جبل بذاته.  ولمسافة غير قصيرة ظل المشهد الشرقي يسود سلسلة جبال مارمارول وسيركا مالكورا. ثم وعلى درجات، بينما نعالج الطريق انثناء إلى الغرب، بدأ مارمارول يغيب عن الأنظار شيئاً فشيئاً، وبدأت جروف مالكورا تكشف عن نفسها من الجانب. وأخيراً وصلنا إلى قمة الممر بصلبانها الثلاثة، وارتفعت جميع القمم الأليفة على جانب الامبيزو مرة أخرى في مصفوفة رائعة مقابل الشمس الغاربة: إلى اليسار بيلمو وروشيتا، وإلى اليمين زاوية جبل لاغازوي، والقمم الثلاث لجبل توفانا، وعلى امتداد الطريق مباشرة بيك دي ميزودي، وجبل نوفولاو، ووراء صدع ممر تري ساسيه، المنحدر الجليدي النائي لجبل مارمولاتا.  بيد أنَّ الطريق من هناك إلى كورتينا لا ينحدر بشدة، وهو طويل ووعر- وعر للغاية لدرجة أننا كنا سعداء بالنزول وإنهاء رحلة العودة إلى الديار على الأقدام. وبينما كنا نهبط، أثارت اهتمامنا كثرة الصلبان المنصوبة على جانبي الطريق، كان بعضها خشبيًا غير متقن الصنع، وبعضها من الحديد الصديء. وهنالك بعض النُصُب التي أقيمت إحياءً لذكرى مسافرين فُقدوا في العواصف الثلجية المفاجئة في وقت الشتاء والربيع. ______________________________________ * "ينبع نهر البياف في جبال الألب التاوريسية، وفي تلك البلاد يسمى جبلياً في اللغة اليونانية، أي كادوري: حيث أخذ النهر من اليونانية اسم اناكسو Anaxo ويراد به القول بأنّه من الممكن أن ينتقل فيه الملاح وظهره باتجاه التيار نسبة لسرعة جريانه الفائقة." تأريخ جورجو بيلوني، الكتاب الثاني، مدينة البندقية، 1707. * كلمة الألب تستخدم هنا ودائماً بمعناها المحلي، فهي تدل على المرعى الجبلي. وربما دلت أيضاً في الوقت ذاته على الكلمة "Col" التي تعني في هذه الأجزاء "الهضبة"، وهي مشتقة من مفردة”  “Collo، بينما ممر الجبل (يدعى في سويسرا Col )، وهنا يدعى Forcella . مكان ميلاد تيتيان ______________________________________     _______________________ بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب  وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة صفحتنا الرسمية في فيس بوك : https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar (جميع الحقوق محفوظة) , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

متى سيصل؟ - قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - إيمليا إدواردز - تعريف بالكتاب
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الأول - من جبل جينيروسو إلى مدينة البندقية
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثاني - من البندقية إلى لونغاروني
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثالث - من لانغاروني إلى كورتينا
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الرابع - في كورتينا
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الخامس - من كورتينا إلى بياف دي كادوري