قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب السابع - كابريل

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب السابع- كابريل
تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم
--
آن الأوان- أخيراً- لتوديع كورتينا. لقد كانت بقعة تستحق قضاء الأيام الطويلة في زيارتها التي تجمع بين الفائدة والبهجة في وقت واحد. كانت المشاوير لا حد لها، ولا للرسم غاية، وكان الطقس رائعاً. ولقد لبثنا بالفعل وقتاً أطول من الفترة التي حددناها مسبقاً ضمن برنامج مقاطعة الأمبيزو. لقد قمنا بكل الطلعات الممكنة في تلك الأنحاء، ومع ذلك لم نستكشف بعد جميع أجزاء مركز الدولمايت الإيطالي البديع الذي يقع وراء حافة تري ساسيه. لقد كان من الواضح أننا لم نستطع تحمل نفقة البقاء على الحدود النمساوية.
وفي الوقت ذاته، كانت كورتينا معرضة للتجاوز من قبل المسافرين القادمين من جانب كونيليانو، وذلك فقط بسبب وقوعها على الحدود. وكونه والجبال المحيطة به على ذات الدرجة من الجمال، فلا يسع الزائرين الا اعتبارها ليست سوى البداية لمزيد من الروائع، ويرون أنّ الأمبيزو تال ليس الا بوابة لبلاد العجائب.
حتى السيد جلبرت عندما زار كورتينا للمرة الأولى عام 1861، كما يقول هو نفسه، فقد ظل هناك لليلة واحدة فقط، ولم تنقضِ حسرته على تلك الخسارة حتى مكنته جولة تيرولية أخرى من تعويضها.
وعن نفسي، عندما أعود بذاكرتي لأعبر ذلك الخضم المتلاطم من القمم والممرات التي تقع بين بوتزون وكورتينا، فإنّي أميل إلى وضع دولمايت الأمبيزو في أعلى مكانة من حيث الموقع والبنية كليهما. لقد كانت جبال بريميرو فائقة الروعة من حيث الشكل العام، وتحمل مارمولاتا قدراً أكبر من الثلج والجليد، بينما كانت سيفيتا هي الأكثر جمالاً، والأكثر رهبةً هي جبال الألب السيسيرية العملاقة المهجورة، بيد أنّها عندما تؤخذ كمجموعة، فلا أعلم شيئاً، سواء في الحجم، أو النوع، أو الصورية، يضاهي تلك الدائرة العظيمة التي لا يتجاوز قطرها إثني عشر ميلاً من بوابة أكيلا نيرا، والتي تتضمن البيلمو، والانتيلاو، والمارمارول، والكرودا مالكورا، والكريستالو وتوفانا.
وعلى أية حال، لقد كان ذلك هو الوقت، كما قلت آنفاً، لنمضي قدماً. وإنّ الخبير بالجبال ليشكّ في العثور على عمل أكثر من كاف للموسم بطوله في هذه المنطقة، ولكننا، الذين لم نكن من الخبراء بالجبال بالمعنى الفعلي للمفردة، قد قمنا بواجبنا على أتم وجه مروراً بالمكان، وبالتالي علينا (ونحن نجر أقدامنا جراً) أن ننطلق بحثاً عن غابات بكر، ومراعٍ جديدة. وباختصار ليس ثمة ماهو أجمل من البقاء سوى الرحيل.
كابريل هي محطتنا القادمة، ولقد تم الترتيب بحيث علينا أن نجتاز ممر تري ساسيه على الخيول ونرسل متاعنا بالعربة. وقد اقترح غوسيبي الذي يدأب دائماً على الاقتصاد في النفقات استخدام عربة أخرى للسيدات، مضيفاً أنَّ طريق العربات "وعرٌ بعض الشيء" على جانب كابريل. نحن على أية حال، وجدناه أكثر قليلاً مما قد تتحمله عبارة " وعرٌ بعض الشيء" في الجانب المتاخم لكورتينا، وآثرنا السلامة عن الاستمرار في التجربة تأثراً بالذكريات الحيّة لتلك الرحلة المرعبة.
وقد كان من الضروري أيضاً اختبار السرج الجانبي الخاص بآل غيدينا. وذلك بركوب الخيول عبر الممر، حيث كان علينا السير حتى كابريل على الأقل. فحيازته مضمونة حتى الآن. وعليَّ أن أعترف بأنّ نوايانا لم تخلُ بعد تلك المسافة، من السوء- رغم غموضها.
كان الصبح بديعاً عندما بدأنا الرحلة. وسبقتنا العربة- التي يقودها صديقنا المهذب كالمرة السابقة، ثم تبعناه بعد نصف ساعة. كانت القافلة تتكون من حصانين للركوب (فوكس الكميّت، ومورو الأسود)، وبغل للخادمة، واثنين من أكبر أبناء غيدينا، وغوسيبي وجيوفاني. كانت مشاركة أبناء غيدينا في الرحلة تنحصر في قيادة الجياد إن دعت الحاجة لذلك، وأن يعيداها إلى المنزل في الغد بينما تلقى جيوفاني- نظراً لأنَّ راكب البغل الحالي لم يسبق له اعتلاء أي شيء أنشط من حمير سورينتو- تعليمات صارمة بأن يلزم موقعه بالقرب من رأس ذلك الحيوان ولا يبارحه ولا للحظة واحدة. وفي الحقيقة لا تثريب على حديثي العهد بركوب البغال إن اعتراهم بعض التوتر، لما يتخلل الطريق من منحدرات زلقة، وما يحفه من حواف حادة لا تسر الناظرين، بينما "الحشية" الموعودة بائسة مثلها مثل السرج والمقبض، والتي ثبت أنّها هي الأخرى ليست سوى حزمة من الوسائد والحشايا وجلد الخراف مربوطة على سرج بشري، بدون توفير أدنى أسباب السلامة لراكبها.
وبهذا الترتيب انطلقنا أخيراً، عبر مسارنا السابق باتجاه فالزاريغو، وقد حانت منا التفاتات ولمحات صوب الجبال التي نتركها الآن وراء ظهورنا.
ووصلنا مرة أخرى إلى الفندق الصغير، واستُقبلِت "السنيورة الشيفة" بالهتاف والتصفيق. مرة أخرى تركنا الغرفة العامة مؤثرين عليها مطبخ السيدة الصغير المبهج، ومرة أخرى جُلب البيض والزبد، ومقلاة النحاس اللامعة، ومغرفة النحاس الطويلة، والمريلة الواسعة. مجدداً تحيط الكاتبة نفسها بهالة من الأبهة. ربما هي السمة الغريبة التي يتسم بها طقس هذا الممر، أو ربما كان هذا نتيجة المبالغة في الاعتداد بالذات، ولكن في هذه المرة والمرة السابقة أيضاً بدا بيض فلازاريغو تحديداً متفوقاً من حيث رقة وغنى النكهة على ما سواه من أنواع البيض التي سعدت الكاتبة بالتعرف عليها من قبل.
وضعنا القدر تحت رحمة المطر والضباب على طريق تري ساسيه. وقد شهدنا قبل مغادرنا النُزُل بدء نزول بعض قطرات المطر التي لا تنبيء عن شيء، وفي وقت وصولنا للقمة، كان المارمولاتا يلمع في غموض كما كان في المرة السابقة، تحفه الأبخرة التي تتجمع بسرعة كبيرة.
ومن هذا المكان، يبدو كل شيء جديداً. تبدو أمامنا حافة سفح جبل لاغازوي، ثم يظهر فجأة جرف شديد الانحدار يعرف باسم صخرة استريا[Sasso d'Istria ]. فنعبر قريباً منه على كتلة هائلة من الركام الجليدي الصلب، ثم نهبط إلى وادٍ ساحر الجمال يشقه نهير صافٍ " ويصدر خريراً منّغم الخطوات هبوطاً"، تتناثر على امتداده بعض الجسور البدائية الضيقة المصنوعة من ألواح أشجار الصنوبر . وأحياناً عندما لا يكون هنالك جسر تتناثر المياه على الطريق، ويضطر المشاة إلى القفز من صخرة إلى أخرى بحسب قدرتهم. وتغدو أشجار التنوب واللاريس الداكنة أكثر سمكاً وأقرب كلما ازداد عمق الوادي، فتضفي على الفضاء من فوقنا لوناً داكن الخضرة. وتنمو السراخس والطحالب والزهور البرية في مهرجان من الخضرة الوارفة على طول الضفاف المنحدرة، وتفترش كل الأغوار والقيعان. وتبدو القمم الرفيعة الآن لكل ذي نظر، ثم من خلال فرجات الأغصان، كما لو أنّها معلقة عالياً في الهواء الريان، أينما اتجه الطريق المنحدر إلى الأسفل بين الصخور العملاقة المغطاة بالشجيرات والآشنات الملونة.
والآن، بينما نمضي في رحلتنا، تزداد حلكة السماء أكثر فأكثر. ثم يبدأ الضباب الخفيف يحفّ المكان، يتحول الضباب إلى مطر، والمطر إلى عاصفة، وتردد الجبال صدى دوي الرعد من بعيد. وفي هذه الأثناء يشتد انحدار الطريق وانزلاقه، وتثبت الخيول حوافرها بصعوبة. ثم ينثني الوادي، ويتسع، وتظهر قلعة اندراز- أطلال خاوية متناثرة تقف على قاعدة من الركام- فجأة للعيان. جروف زلقة تحيط بالأطلال من جانب واحد، ومن الجانب الآخر مراعي الهضبة، ويمتد الوادي الأخضر إلى البعيد، والمنحدر المعشوشب بجانب طريق راكبي الخيول يعجّ بالزنابق البرتقالية البرّية، وورود الكلبية ذات اللون القرمزي التي تبرق مثل الجواهر في أشعة الشمس المشرقة التي تتكسر في هذه اللحظة خلال الغيوم. ولا تستطيع حتى زخات المطر التي ما تزال تنهمر بلا هوادة أن تطمس جمال المنظر الرائع، أو تقنعني باستحالة التوقف هنا وهناك لرسمه.
استأنفنا رحلتنا، على أية حال، لفترة أخرى تناهز ثلاثة أرباع الساعة، نتعثر فوق الحجارة الرطبة، فتنطبع الخطوات المنزلقة على الصخر الصلب، حتى قرية اندراز الصغيرة،* نصف متوارية بين الأشجار وحواف الصخور، وتحفها من الأعلى أجزاءُ رائعة من أقواس قزح، تظهر وتبدو في قرب محبب وهي تدنو من أسفل أقدامنا. ينعطف بنا الطريق مرة أخرى فنجد أنفسنا هناك. الرجال مصابون بالبلل، والخيول تعدو، يتصبب الماء أنهاراً من معاطفنا المقاومة للماء، أما مظلاتنا فميازيب متنقلة. نزلنا ونحن على هذه الحال بباب مضيفة فينازر الصغير، و "خمارة الجعة"- مكان صغير جداً، ونظيف ومتواضع، حيث وضعنا ملابسنا الخارجية المبتلة، وجففنا أنفسنا تماماً عند مدفأة المطبخ المشتعلة، طلبنا القهوة الساخنة، وأعددنا العدة لتحقيق أقصى استفادة من وضعنا الحالي ريثما تصفو السماء من جديد. و لم تكن هنالك أي من ألعاب القاعات في المكان حتى تغرينا بالخروج من المطبخ! ليس في المكان سوى أخشاب الصنوبر، جديدة، ولامعة، وزكية، خشب صنوبر بلون القرفة، يلمع كالذهب. الجردان، الأرضية، السقف جميعها سواء. والمكان مربعٌ تامٌ، أيضاً وبكل الصور، يشبه صندوقاً صغيراً جميلاً جديداً من علامة سورينتو أوتونبردج. وربما تديره إلى الأعلى طولياً أو على جانبه، أو رأساً على عقب، وسوى موقع الباب المتغير، فإني أتحدى أكثر المهندسين المعماريين عبقرية أن يجد فرقاً واحداً. ثم إنّ المقاعد، والطاولات، وخزانات الزوايا، وبيت الساعة جميعها صنعت من المادة نفسها: باختصار، كل مافي الغرفة هو خشب الصنوبر، ما عدا الموقد. وثمة أكشاك لبيع الألعاب في بازار سوهو حيث يتسنى للمرء في أي وقت شراء مثل هذا الأثاث الخشبي على هيئة مجسمات مصغرة، وبحفنة من الشلنات.
توقف المطر قليلاً فقليلاً، تفرقت السحب، وطلعت الشمس من جديد، أُحضرت الخيول، وعدنا للمرة الثالثة في ذلك اليوم إلى طريقنا نحث الخطى نحو كابريل.
والآن، ليس بعيداً تحت هذه البقعة، من وادي كورديفول- بجماله وكثافة أشجاره التي لم نر مثلها من قبل، وهو وادٍ أقل إيطاليّة في سماته عن واد اورونزو. وأكثر سويسريّة من الأمبيزو تال. غنيّ بالحنطة والذرة الصفراء، والقنّب، والكتّان، والمراعي، وتحدّه بعد مسافة بعيدة جبال عظيمة باهتة اللون، عليها من الجليد خطوطٌ وبقع، وتسوق الرياح إلى جوانبه سحب العاصفة الممزقة فتتجمع هناك مثل أمواج بحر هائج.
و تلك هي البوي، واحدة منها (والتي عرفنا فيما بعد أنّها حصن هضبة سيلا)، وتلك الأخرى هي جبل بادون، تعد معلومات موثوقة في الوقت الراهن. والمارمولاتا هو الآخر يمكن التعرف على أثره الضعيف بين الوقت والآخر، وحالياً كتلة عملاقة مبهمة يكتنفها الضباب لا يعرف لها شكلاً محددا، وقد أُشير إليها باعتبارها سيفيتا.
في هذه الأثناء، يرتفع طريق الخيالة عالياً بمحازاة كتف جبل فريزوليه، يتعرج مع تضاريس الجبل، والآن يشرف على واد ليفينالونغو إلى الشمال الغربي- ثم تظهر للعيان زاوية البحيرة الزرقاء وراء كابريل إلى الجنوب- وينطلق الآن بطول وجه الجرف الذي يكاد يكون رأسياً، ويحيط الآن بحدود غابة الصنوبر، نضرب عبر منحدر من أشد المراعي خضرة، ومع كل منعطف يظهر لنا مشهد أكثر جمالاً مما سبقه. قرىً صغيرة، بعضها على بعد ألف قدم إلى الأسفل، وبعضها على ارتفاع ألف قدم من مستوى طريقنا، متناثرة، ومتباعدة ومتسعة، ولكل منها كنيسة بيضاء صغيرة، وبرج جرس رائع الجمال. في بعض الأحيان واحد، وفي أحيان أخرى نجد واحداً منها يبرز بعد لحظات قليلة في ضوء الشمس البهيّ. ثم تمر الغيوم فيغرق مرة أخرى في الظل. لحظات مرور الضوء والظل الحيّة المتعاقبة هذه يتبعها كدر عاصفة أخرى تتجمع، وتأتي الآن على عجل من صوب الوديان التي تقع خلف مارمولاتا، وأمام كل هذا يعجز القلم عن الوصف.
وفي هذه اللحظة، يسود القلق فهل يمكننا الإفلات من طوفان آخر، نسرع تحت نظرات جميع من يقابلنا، كما لو لم تصل قافلة غيرنا إلى هذا الطريق الجبلي من قبل. ونمر الآن خلال قرية كولاز الصغيرة، ونلفت انتباه جميع السكان فيلتصقون بالأبواب والنوافذ، وكاهنان متقدمان في السن جداً يقفان لدى باب الكنيسة، يرفعان قبعتيهما وينحنيان أثناء مرورنا.
ثم كما حدث من قبل، بدأ ضباب خفيف في الهطول، وتحول إلى عاصفة هوجاء غزيرة المطر، أكثر غزارة وأطول عمراً. ثم أصبح الطريق هو الآخر زلقاً ووعراً، وصارت الخيول التي بدت عليها علامات الإعياء منذ فترة تتعثر وتتزحلق في كل خطوة. وقد أخاف لمع برق قوي الحصان الأسود، فحرن فجأة، وفي قفزة واحدة رمى بنفسه في الخليج والكاتبة على ظهره. وهنا ترجلنا وتركنا الخيول تهبط على الطريق، وطفقنا نسير وسط المطر، والرياح، والرعد والبرق، في طريق متعرج منحدر في آخره على بعد 300 قدم تبدو السقوف وبرج كنيسة كابريل.
يئس آل بيزيه من وصولنا قبل ساعات خلت، ولكن عندما رأوا قافلتنا الصغيرة المنكوبة تسير في الطريق إلى القرية، بائسة، تتصبب منها قطرات المطر، وتجرجر أقدامها، أسرعوا جميعاً للقائنا والترحيب بنا وأولهم السيدة بيزيه التي التقيناها سابقاً، وما زالت السيدة بيزيه بوردة على شعرها، والولدان اللذان نعرف، وجميع الخدمات والمساعدات في المبنى. لحق بنا الرجال والخيول، ولكن العربة كانت أبطأ بكثير في الطريق، فلم تظهر قبل ساعتين من وصولنا، وذلك نسبة لانقلابها تماماً فوق حافة الجرف، فسقطت جميع حقائبنا وفُرشنا في قعر وادٍ زلق وطيني، ولم نستعدها إلا بشق الأنفس.
في هذه الأثناء أوقدت المدفأة بسرعة، وأُخذت الملابس المبتلة إلى المطبخ لتجفيفها، وبدأت عملية إعداد العشاء، وصار نصب الرحلة وتعبها طي النسيان.
والآن، دار آل بيزيه، وهو منزل حجري كبير قديم مجزأ، ويتكون في الحقيقة من ثلاثة منازل ضمت إلى بعضها البعض. بعض الأرضيات مبنية بالحجر وبعضها من الأخشاب، بينما جميع الغرف على مستوىً واحد إلى حد ما، النوافذ غاية في الصغر، وملأى بالزهور. واللافتة المعدنية القديمة على ما يبدو قديمة قدم عهد آل فاليري- تتأرجح على الزاوية بالخارج، وشرفة من الحديد المطاوع الإيطالي العتيق بارزة فوق مدخل الباب. وقد كسيت القاعة العامة في الطابق الأول بالصنوبر، وتضم سقفاً جميل النقش، بينما جُهزت ردهات الاستقبال كالعادة لتناول الطعام. وقد خصصت لنا مجموعة من الغرف في الطابق الثاني، على أية حال، بوسائل الرفاهية النادرة هنا مثل غرفة الجلوس الوثيرة الخاصة. وقد اعتبرناها مقراً رئيسياً لنا طوال فترة إقامتنا في كابريل.
لدينا في غرفة الجلوس أريكة وطاولة مستديرة، وخزانة بجوارير، بل ولدينا مكتبة تضم تأريخ إيطاليا غويتشارديني، والمسرح الفرنسي في ثلاثين مجلداً. وهنا أيضاً كانت كتيبات بول الاسترشادية، وجبال الدولميت لجلبرت أهداها الكتاب إلى السنيورة بيزيه.
وعلى الجدران ضمن مجموعة منوعة من المطبوعات والصور الصغيرة المؤطرة، وجدنا لوحات لوجوه بريشة ف. ف. ت. وأخواته، وفي كتاب الزوار خط ج. أ. س، ون.، وو. وغيرهم من الأصدقاء الذي مروا في السنوات السابقة. كان المكان باختصار دافئاً بذكرياته الجميلة. ولا عجب إن بدا أليفاً منذ الوهلة الأولى، وقد كان فعلا أليفاً حتى النهاية.
يجد المسافر في كابريل نفسه في إيطاليا من جديد. جئنا على أقدامنا في العاصفة الهوجاء، وعبرنا الحدود، حيث بدا الطريق صغيراً فوق الطريق المتعرج. يصل على قدميه في العاصفة الهوجاء.
لم تبعد القرية عن الحدود قيد أنملة، بيد أنَّ المنازل والأشخاص كانوا إيطاليين بالكامل كما لو أنّهم دفنوا أحياء في قلب سلسلة جبال الأبنين، وفي ملتقى أربعة وديان. كانت الجبال الأربعة هي: جبل فريزوليه، وجبل ميجيون، وجبل بيزا، وجبل فيرنازا، والمعروف بين السكان المحليين باسم جبل توس. كانت الوديان الأربعة هي وادي ليفينالونغو، ووادي فيورينتينو، ووادي بيتورينا، ووادي اليغي أو كورديفولي. يسهم كل من الوديان الثلاثة الأولى( بصرف النظر عن الرابع وهو نهر بدون اسم على ما يبدو يجري منحدراً على المضيق الوعر وراء القرية) بسيل مياه فيضان الكورديفول، على مسافة بضع أميال تحته، يتجه صوب الجنوب عبر بحيرة اليغي في طريقه لينضم إلى البياف في وادي ميل. أما القرية فتسودها العتمة، ولا تلفت الانتباه للوهلة الأولى، تتكون من شارع واحد مائل، وقد شيّد جزء منه على أقواس. الكنيسة (لا يُلحظ وجودها لولا زينة الشرفة العلوية، والتي عليها رصيعة ملونة لرأس ابولو البلفيدير، محاطة بباقات من آلات الناي والكمان والدف) تستقر على أرضية مرتفعة بالقرب من السفح المتعرج.
وفي الطرف الأقصى لقرية الليغي ينتصب عمود للقديس مرقس، إحياء لذكرى عهد كانت فيه كابريل، مثل كادوري، تتمتع بسيادة الدوق ومجلس العشرة. الأسد الفينسي على القمة أطلال قطعة برونزية من العصور الوسطى- جرده اللصوص من جناحيه قبل بضعة سنوات، وقد ناقشت الكمونة أمر صنع أجنحة بديلة مذّاك. وثمة درع منقوش في واجهة العمود محمل بأسلحة كابريل، وتحته قرص حجري مربع عليه النقش التالي:-
SCIPIONI . BENZONO . PATS . VENS . SERI . SENATI .
VENE . COMISS . SUPER . FINIBUS . BENEFICENTISS.
CAPRILENSES . AERE . PVB . POS . ANNO . MDCIX .
[الصولجان، لبان جاوي، ضربات، حجرات ، السيد. مجلس الشيوخ.
الموقر. لجنة. الأعلى. الغايات. رحمة. الكابريلينيين. الهواء ب. ف. ب. الموقع. العام 1609]
أسد فينيسي في كابريل
ويدعى الميدان الصغير الذي يقف على شارعه الجانبي هذا الصرح: منطقة القديس مرقس. ويجري الغدير على مسافة قريبة خلفه من أحد الجوانب. وتطلّ عليها مصلحة الجمارك الدولية من الجانب الآخر. وفي هذه المساحة الواسعة يلعب شباب القرية كرة البالو [Pallo]طوال اليوم. وهذه اللعبة لمن يحب البحث، تصبح في الصيف الشغل الشاغل الممتع لنصف شباب الطبقة الوسطى في إيطليا، ولا يبدو أنّ لعبها يخضع لأية قواعد سوى ركل الكرة ببساطة وتمريرها من لاعب إلى آخر، فلا يستخدمون مضرباً من أي نوع، ولا يضعون حدوداً كما لا يركضون خلال اللعبة. واهتمامهم بها على أية حال وحماسهم بلا حد. يبدأون بعد الإفطار مباشرة ويستمرون حتى الغسق، وفي الأوقات الأخرى يدخنون السجائر ويتفرجون.
ويفتخر الإيطاليون والنمساويون بأنَّ الصداقة التي تجمعهما هي الأوثق في العالم، خاصة في تلك المواقع الحدودية حيث يتسنى لهم التواصل الدائم، ولكني لاحظت أنّ شباب كابريل، على الرغم من وجود ملعبهم المفضل تحت نافذة الجمارك مباشرة لم يسبق لهم أن دعوا الجنود النمساويين للمشاركة في اللعبة. ويقف الآخرون على مقربة وأيديهم في جيوبهم، أو جلوساً على درجات العمود، يتفرجون على اللاعبين بطريقة حزينة، وينظرون كما لو أنّهم يتحسرون على حياتهم المملة في كابريل.
أول منظر تقع عليه عين المرء وهو خارج من الأبواب، بالطبع، هو جبل سيفيتا، وأولى الرحلات سواءً على الأقدام أو بالعربة تكون باتجاه بحيرة الليغي. وبينما يقع كلاهما في الاتجاه نفسه، فإنَّ وأفضل مشهد للجبل يتأتى من الطريق الذي يقود للبحيرة، إن لم يكن من الحدود الفعلية للبحيرة، نجد أن معظم المسافرين المسافرين الذين سلكوا هذا الطريق- على قلتهم- كانوا مسرورين بزيارة البحيرة والجبل في صباح واحد، على اعتقاد أنّهم ظفروا بمشاهدة كل ما يستحق في كابريل.
واجهة جبل سيفيتا الكبيرة- جدار رائع شاهق لجرف رأسي، مدرّز من القمة للسفح بآلاف الشقوق الطولية، وترتفع في قوس عملاق يتجه نحو المركز ويقابل الشمال الغربي ناظراً إلى كورديفول باتجاه كابريل، ويملأ نهاية الوادي كواجهة عضو كبير يحشد آخره بممر الكاتدرائية. ويكتسي بضوء الغروب كله بينما يقترب المساء. وفي الصباح، بينما الشمس ما تزال في قعر الشرق، تحفه غلالة ناعمة من الظلال الزرقاء، فيبدو مبهماً وخيالياً كالحلم. وقد كان هكذا عندما رأيته لأول مرة. لقد خرجت للتسكع في القرية قبل الإفطار، وفجأة ارتفع جبل سيفيتا أمامي مثل شبح رائع الجمال، مكسواً برقيق الضباب في تباين مع الضوء في الخلفية. فاعتبرته حينها، لبساطة عرضه وارتفاعه، وانتظام تضاريسه، ووحدة التأثير، أكثر ما رأيت من الجبال هيبة وكمالاً، وما زلت أعتقد ذلك.
جبل سيفيتا
تقع بحيرة الليغي على بعد ميلين تقريباً إلى الجنوب الجنوبي الشرقي من كابريل، في مدرج أخضر على سفوح جبال سيفيتا، وبيزا وفيرنازا. ويقع الطريق إليه على طول الضفة اليسرى لغدير الكورديفول، والذي يجري هنا في تيار واسع وقوي ويحده من جانب طريق العربات التي تجرها الجياد، قناة مهجورة وعرة وتنمو فيها الطحالب والشجيرات بكثافة.
النهر عميق ومظلم وبنيّ اللون، والبحيرة ليست سوى امتداد للنهر، ذات زرقة مخضرة مدهشة- ياقوت تزينه خطوط من الزمرد. ودائما ما يكون النهر سريع الجريان، و تياره لا يقاوم، وفيما عدا الحالات التي تشتد فيها الرياح على الوادي، فإنَّ البحيرة رائقة صافية كالمرآة. والنهر- تراكم لمياه العديد من الروافد، قديم ربما بقدم الجبال، حيث تنبع روافده العديدة، أما البحيرة فحديثة العهد كما لو أنّها تكونت بالأمس فقط. لأنَّ مئات السنوات تبدو مثل البارحة في تأريخ العالم، وحيث بحيرة الليغي الآن تعكس الجبال والسحب، كانت هنالك بساتين تفاح وحقول ذرة، ومزارع، وقرى، فقط منذ مائة أو مائتي سنة.
وقد كان انهيارٌ صخريٌ عظيمٌ من جبل بيزا- أو ربما انهياران لاحقان- سبباً في كل هذا الحطام، ومنهما نشأ كل هذا الجمال. هذه النكبات المروعة، كما يعلم جميع المسافرين، شائعة في البلاد الجبلية، ولكن بين وديان الدولميات هذه تبدو الانهيارات الصخرية أكثر تكراراً، وما زالت تتكرر، بدرجة أكبر مما في غيرها. لا يمكنك السير أو القيادة لعشرة أميال في أي اتجاه بدون المرور بمشهد حطام كهذا. والكثير منها وقع في السنة الماضية، أو قبل عشر سنوات، أو خمسين، أو مائة سنة، أو ربما حدثت في عصور ما قبل التأريخ. وقد لا يعلم دليلك عنها شيئاً. فتساله عن أوان وقوعها. فيهز كتفيه ويجيبك "Chi lo sa" أي من يدري! ولكن في كل الأحوال ثمة أكوام من الصخور بأسرارها المدفونة، وكثيراً ما لا يكون هنالك أي فرق في الشكل بين ما تستوعبه ذاكرة الإنسان وما كان سابقاً للخليقة.
وعلى أية حال تم توثيق تأريخ بحيرة الليغي بدقة غير عادية. تأريخ الكارثة، ومدى الضرر الناجم عنها مسجلان في كتب الأبرشية وسجلات البلدية، وقد عُززت هذه الوثائق مرة أخرى بمراسيم وأوراق محفوظة لدى بعض الأسر في القرى المحيطة. وبوسع معظم هذه العائلات ومن بينها آل بيزيه سكان كابريل، التحدث عن أجدادهم الذين طمر انهيار عام 1771 العظيم منازلهم وأراضيهم.
وقد وقع الأمر هكذا:
يقع جبل بيزا - الذي لديَّ الكثير لأقوله عنه- في ما يلي الغرب من البحيرة، وهو أكبر الجبال الأربعة المذكورة آنفا، والمحيطة بالغور الذي بنيت عليه كابريل. وهو ينقسم باتجاه الشمال إلى جروف شديدة الانحدار، تبلغ ذروتها في قمة صخرية بديعة يبلغ ارتفاعها حوالي 8000 قدم فوق مستوى البحر، ولكن على الجانب الأقرب إلى البحيرة تنحدر في تسلسل للغابات والمراعي الغنية والوديان الخلابة. وعند الدوران حول الضفة المقابلة، يرى المرء منحدراً واسعاً صقيلاً من الصخور الرمادية الداكنة مثل بقع جرداء ضخمة، تمتد بطول السطح على هذا الجانب. وهذا هو أصل الانهيار، لقد كانت هذه القمة هي التي انزلقت، ببطء في البداية ثم بسرعة هائلة إلى الوادي في الأسفل.
لقد حدثت الكارثة الأولى في شهر يناير من عام 1771. ويقال إنَّ حارق الفحم الذي كان يعمل فوق في الغابات، نزل في وقت قريب من نهاية اليوم، أبيضَ عاجزاً عن التنفس، كان ينادي على المتواجدين بالوادي أن ينجوا بأنفسهم، لأنَّ الجبل كان يتحرك. وكان عداءً سريعاً يخشى الموت خلفه، لقد هرب من قرية إلى أخرى يرفع صوته بالنداء أثناء عدوه. ولكن لم يصدقه أحد. كانت هنالك أربع قرى آنذاك، والآن ترقد البحيرة في مكانها. وفي شك بالخطر نام سكان هذه القرى الأربع ذلك المساء كالمعتاد، وفي سكون الليل انهار جانب الجبل بأكمله في سرعة كبيرة وطمر أهل القرى وهم نيام، لم يفلت منهم أحد. وقد دفنت اثنتنان من القرى، وغرقت الأخريان، لأنَّ مياه نهر كورديفول تراجعت فجأة وانتشرت كما في حالة نهر البياف، وشكلت بحيرة كالتي نراها اليوم. تقع القريتان المطمورتان بجانب بعضهما البعض تحت سفح الجبل في الطرف الجنوبي للحوض، حيث تربض كتل الركام الهائلة الآن مكدسة في فوضى كبيرة.
وقد كانت الليغي، القرية الرئيسية في المقاطعة، تقع في مكان ما حول مركز البحيرة، وقد غابت تماماً عن الأنظار. وقفت القرية الرابعة على المنحدر في الطرف الشمالي بالقرب من الجهة المقابلة لموقع تدفق نهر الكوريدفول في البحيرة.
وقد مرت أربعة أشهر ثم في الحادي والعشرين من شهر مايو، وقع انهيار آخر. وفي هذه المرة فاضت مياه البحيرة في الوادي بعنف، وقد نجم عن ذلك من الدمار ما فاق في حجمه خسائر الانهيار السابق. وفي القرية الصغيرة التي تدعى الآن الليغي، وقد صارت تدعى كذلك منذ أن انمحت القرية الأولى من الوجود، فإنَّ كامل الجزء الشرقي ومجلس منشديّ الكنيسة الحالية قد جرفا بعيداً، وقد أزيحت آلة الأورغ لمسافة بعيدة فوق الوادي. وفي اللحظة ذاتها- بدت البحيرة كلها ترتفع كموجة واحدة- وقد سقطت إحدى الأشجار عبر نافذة الغرفة التي كان يجلس فيها راعي الأبرشية يتناول وجبة العشاء، وكان الخادم واقفاً بانتظاره عندما قتل في مكانه. وقد أعيد بناء مجلس المنشدين مذاك، وتم إصلاح الأورغ واستبداله، وما زال يؤدي وظيفته حتى الآن. ولم يُقمْ أي نصب أو لوحة تذكارية- على حد علمي، لإحياء ذكرى أولئك الذين قضوا نحبهم في هاتين الكارثتين الفادحتين، ولكن يتم تجهيز تابوت للنعش، وتوقد الشموع، ويقام قداس تذكاري احتفالي من أجل أرواح المفقودين والموتى في الكنيسة في قرية الليغي في اليوم الحادي والعشرين من شهر مايو سنوياً.
ولقد قيل لنا إنّه في الشتاء عندما تكون البحيرة متجمدة والثلج رقيقًا، وفي الصيف في الأيام شديدة الهدوء، لا يزال بالإمكان رؤية جدران وأسقف واحدة من القرى الغارقة، مثل الأبراج التقليدية لقرية ليونيس الغارقة تحت سطح المياه.
وبحسب إفادة واحد من شباب عائلة بيزيه، فهنالك فرن وبضع درجات حجرية في سلم بادية للعيان، ولنتجاهل القصص الأخرى الأقل مصداقية. في النهاية، وفي ظهيرة كسلى، ومشرقة، حيث لم يكن لدينا أي شيء مهم لنفعله في أي مكان آخر، أخذنا قارباً وخرجنا إلى البحيرة، فقط للتأكد من حقيقة هذه القصص بأعيننا. كان الهواء ساكناً تماماً عندما خرجنا من كابريل، ولكن عندما عثرنا على القارب، وأبحرنا به، هبت نسمة خفيفة، وصارت صفحة المياه كلها تموج. وفي كل لحظة تتجدد فيها النسائم، تزداد حركة المياه قوة. المرأة العجوز النحيلة الهزيلة والفتاة متوردة الخدين التي كانت تجدف انكفأتا على مجدافيهما وسحبتا بكل قوتهما، ولكن لدى عبورهما مصب النهر، أعلنتا عجزهما عن سحبنا حول لسان الشاطيء. فقد كانت المياه هذه المرة هائجة للغاية، وهبطنا بصعوبة في أقرب مكان. صاعدين إلى الأعلى وعلى طول الساحل لمسافة ما، ووصلنا الآن إلى نتوء خليجي نستطيع منه- بغضِّ النظر عن خشونة السطح، تمييز وتحسس جدار طويل وثلاثة أو أربعة ملحقات مربعة- يبدو أنّها أساسات لعدة منازل.
" إن كان أملسَ بما يكفي فربما استطعنا متابعته إلى هناك،" قالت السيدة العجوز، مشيرة باتجاه نقطة على مسافة أبعد، " يجب أن تكون للسيدات منازلُ مسقوفة ومداخن سليمة. فهي كلها عميقة هناك،"
"هل رأيتهن بنفسك؟" سألتها أنا.
" رأيتها؟ يا سيدتي، لقد رأيتها بعينيّ هاتين، مئات المرات. يا إلهي! وهناك في الليغي من رأوا أشياء أغرب مما رأيت. هنالك يعيش من رأوا الكنيسة الأبرشية القديمة وبرج جرسها عندما كانت بخير، هناك في وسط البحيرة حيث المياه العميقة. هناك يعيش من (انخفض صوتها إلى همس من وقع الصدمة) سمعوا الأجراس ترن تحت الماء في منتصف الليل من أجل الموتى الذين لم يُدفنوا!"
لقد رويت لي قصة هذه البعثة الصغيرة خارج مكانها المرسوم، بهدف جمع كل ما نجحت في جمعه في عدد من الطلعات حول موضوع الانهيار الصخري لعام 1771. وهو بالتأكيد لم يتأتى قبل إقامتنا لأسبوعين أو ثلاثة في كابريل، وغبنا مرة أو مرتين في رحلتين بعيدتين.
كان أول أيامنا في منزل بيزيه قد انقضى في التسكع في المنطقة، ورعاية البغال. كما تخلصنا أيضاً من فردين اثنين من عائلة غيدينا، عادا إلى كورتينا على خيولهما، ولكن دون سرجهما إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً. كيف لم يتم تناول هذه المسألة الحرجة والمهمة في نهاية الأمر إلا قليلاً؟ ويكفي أنهم تحدثوا كثيراً عن قناعاتهم، رغم أنّهم رجال بسيطون إلا من بضع كلمات محسوبة، وعليه فقد غادروا تاركين الغرض الثمين خلفهم. وقد وعدناهم بالطبع بدفع مبلغ من المال على سبيل الأيجار، وكذلك بإعادة حالما نجحنا في إيجاد آخر، وعدنا بكل شيء ممكن ومستحيل، وحققنا ذلك النجاح الذي لم يكن دائماً ذلك الجزاء الوفاق للفضيلة.
" سيغضب بادري منّا جداً،" قال الأخ الأصغر في شيء من الأسى، بينما اضطره حسن السلوك إلى التزام الصمت، واستدار مغادراً الغرفة. لقد خيل لي أنّ هذا الأمر كان محتملاً بشكل كبير، وربما لم يكن والد غيدينا رجلاً لطيفاً للغاية بما يكفي للتعامل معه في ظل هذه الظروف.
انصرف الرفاق الفقراء بعيداً بتلكؤ واضح، ولحق بهم جيوفاني والبغل. لقد راقبناهم على طول الطريق، ولم نتنفس الصعداء حتى تجاوزوا مدى البصر.
في تلك الظهيرة نفسها، وبالاشتراك في الخدمات الحصرية لأحد المرشدين المحليين وزوج من البغال لفترة طويلة كما كنا نحتاج إليهم أثناء رحلاتنا في هذه الأجزاء، فقد سرنا إلى مضيف سانتا لوشيا، وهو موقع شهير في حي فال فيورينتينو. وقد كان طريقنا إلى هناك هو درب الأمس المتعرج- وهو أخدود رطب موحل في مواجهة جانب الهضبة المنحدر، وهو يتسع بسهولة لسير حبيبين اثنين لا غير. حالما وصلنا إلى القمة غادرنا وادي اندراز إلى اليسار، واستدرنا بمواجهة اليمين، ما زلنا كما كنا بالأمس، نيمم شطر منحدرات جبل فريزوليه الصنوبرية العملاقة، ولكن عند السير في اتجاه الشرق بدلاً عن الواجهة الغربية للجبل.
لقد كان الطريق عبارة عن هضبة طوال الوقت. وقد أحضر غوسيبي اثنتين من عصيّ التسلق القوية التي قطعها بنفسه، واستطعنا التقدم بسرعة أكبر بفضل هذه المساعدة الجليلة. ينقسم الطريق إلى نصفين واحد في الظل والآخر مضاء بنور الشمس، فيمنحنا نظرة إلى أعماق الوادي في الأسفل، الآن مشهد "الانزلاق" العظيف* على الكتف القابل لجبل فيرنازا، وهاهي لمحة باتجاه الوراء إلى جبل سيسيتا فوق حشد من قمم الهضاب المتشابكة. وهكذا في ختام رحلة طويلة تربو على الساعة ونصف الساعة وجدنا أنفسنا على ارتفاع 1500 قدم فوق المستوى الذي بدأنا منه، وقريباً من مضيق سانتا لوشيا- هضبة غريبة ذات ظهر كالسرج، مثل أسد رابض، حارساً أميناً على منحنى وادي فيورينتينو. في عنقه عُرْفٌ ذو خط متعرج من المنازل الخشبية سويسرية الطابع، ورأسه متوج بكنيسة صغيرة بديعة. ينظر إلى الأسفل مباشرة باتجاه البيلمو الذي يسد نهاية الوادي في مهابة، كقلعة مذهلة ببرجين توأمين يناطحان الغيوم. وليود المرء أن يعرف صغير الآلهة الذي قام بتكديس هذه الحصون، ولم ربط الأسد هناك، منتظراً للأبد أن يثب عليه عندما يحين وقت خروجه من معقله، وما إذا كان لا يزال مسجوناً في قلب الجبل. ولكن يجب البحث عن إجابات هذه الأسئلة في أرض أحلام الأساطير التي لم تخلق.
شققنا طريقنا إلى داخل فناء الكنيسة متبوعين بجميع الأطفال الذين كانوا هناك، وفي الطرف الآخر من ذلك النتوء الصخري الصغير، جلسنا على السور للاستمتاع بالمنظر. وقد بينت لنا لمحة على الخارطة أنَّ الأمبيزو تال يقع بالضبط وراء البيلو، وأننا الآن ننظر إلى الجبل من الجهة المعاكسة بالضبط. وقد كان عند النظر إليه من الجهة الأخرى يشبه العرش، من هنا، كما قلت كان مثل برجين هائلين برتقاليين في تباين مع السماء ذات اللون الأزرق الداكن. وقد استقرت سحابة بيضاء صغيرة بخفة قبالة قمة البرج الأقصى فبدت مثل راية استسلام وسلام ترفرف من الحصون. وبعدها إلى اليسار، قمة انتيلاو المقوسة، كمقدمة سفينة رومانية، تلوح وتخبو، وتبتعد فوق ضفة من القزع المتراكم.
أما وادي فيورينتينو فهو أخضر ومشمس، تتناثر فيه القرى البيضاء، واسع مثل جادة طريق رائعة المنظر، حتى سفح البيلمو، بينما يلتقي وادي كودالونيا على الجهة الشمالية بالمنحدرات جبل غوزيلان وقد أظهر خطاً من الطريق المتفرع الذي يهبط من الممر. ويتعين على المسافرين السالكين ذاك الطريق من كورتينا بدلاً عن طريق تري ساسيه أن يتسلقوا طريقاً وعراً ومضجراً، ومن أجل هذا المنظر وحده الذي يمكن الوصول إليه بسهولة على نحو ما من كابريل، يضحي بمشهد وادي كورديفول الاعلى الذي يتسم بالجمال- وربما كان أجمل وديان الدولمايت على الإطلاق.
وانطلقنا، مبتعدين عن المشهد على الاقل، في بحث عن منزل راعي ابرشية سانتا لوشيا، وعلى أسوارها الخارجية، كما تقول القصة، كانت هنالك جصيّة لتيتيان- التي نُفذت عرفاناً بالضيافة التي قوبل بها هنا عندما اضطره الطقس في الشتاء بينما كان يسير في طريقه إلى مدينة البندقية.
ويخبرنا شاوباخ كيف أنها جسّدت " الموت بمنجله، محاط برموز الغرور الدنيوي": ويضيف أيضاً أنها رممت بصعوبة، بعد ما لحق بها من تدمير بربري على يد كاهن ما من القرن الماضي. حيث أخفق كل من السيد بول والسيد جلبرت، كما حدثانا، وبالكاد تأمل الكاتبة الحالية في النجاح. ولم يكن على الشخص أن يُظهر سوى "درعٍ منقوش "Stemma" على أحد الأبواب الجانبية، وليس ثمة ما ينبيء عن الجصيّة في أي مكان.
وسوف لن أنسى بسهولة في تلك النزهة المسائية في طريق العودة إلى كابريل- المنظر الذهبي الرائع للسماء- وعذوبة شذى القش المقصوص لتوه. ولن أنسى أيضاً اثنين من المشاة المتعبين، وجميع الحقائب، واللحى، والبناطيل القصيرة، في الطريق إلى كابريل، ولا الخادمة الصغيرة الخجولة في حذائها ذي المسامير الحديدية، حيية وصامتة، تحرص على ألا تخرج معزاتها عن جانب الطريق، ولا المعزات نفسها، التي كانت حسنة الطباع، وودودة أيضاً.، ولا فوق كل ذلك منظر الورود الملونة التي بدت لنا عندما انثنينا إلى الأسفل مرة أخرى عند الوادي- منظر سيفيتا ذاك، وهو يبدو أكثر من أي وقت مضى مثل آلة أورغ ضخمة، بأنابيبه المليون التي كستها أشعة الشمس لوناً ذهبياً. كانت السماء تضج بالنور فوقنا، وظللت الغابات الهضاب في اتجاه السفح. يرتفع جبل بيزا من بين أبخرة الضباب القرمزي، فتزدهي قمته الصخرية بلونٍ شديد التوهج.
استقرت كابريل بارتياح في قاع الغور. وقرية روكا الصغيرة عالياً على هضبة خضراء، تشق ببرج الجرس عنان الأفق، بينما تشمخ في قلب السماء الشرقية من بعيد، اثنتان من القممم الرمادية الرقيقة، مثل راهبتين مقنّعتي الرأس، كما لو كانتا في انتظار ظهور نجمة المساء.
ثم انقشع اللون الزهري عن الركام السفليّ، وحام إكليل غيوم متوهج في منتصف الطريق عبر واجهة جبل السيفيتا مثل وشاح كهرماني وذهبي، واستحال مثل الطيف بعدما صار لونه رمادياً. بعد لحيظات قليلة، توقفت آخر زخة. وأصبحت السماء رقيقة، في لون رمادي مخضر، تتخللها خطوط ذهبية. غدت الطيور صامتة في أعشاشها. وبرزت الجنادب في جوقة مزغردة.
ويتسارع ماء الغدير- الذي اكتسى بلون الفولاذ الآن، مع خيوط من الفضة- ينشد أغنية جامحة، ويحث الخطى في شوق للبحر. قدم الآن فلاح عجوز نحيل عبر جسر جذوع الصنوبر، ينوء تحت وطأة حمل من القش الذي وارى كامل جسده ما عدا ساقيه، وتتبعه زوجته، وهي سيدة مسنّة رشيقة تضع على رأسها خمس قبعات، واحدة فوق الأخرى، وحزمة من المجارف والمناجل تحت ذراعها. وهكذا لبثنا مسحورين حتى حل الغسق أخيراً، فأعادنا إلى الديار سوقاً. وبعد سويعات قليلة، أظلتنا السحب التي رأيناها تتجمع حول جبل أنتيلاو، وجلبت معها المطر والرعود، حيث صعد قارعو الجرس وقارعو أجراس الكنيسة طوال مدة العاصفة التي استغرقت الليل بطوله.
______________________________________
* قلعة وقرية اندراز[ Andraz] معروفتان أيضاً وكثيراً ما يطلق عليهما اسم بوشينشتاين[ Buchenstein]
* "انهيار" الجبل في بعض الأحيان (كما في حالة الانزلاق الشهير في البناخت) يتكوّن علمياً من انحدار معبّد بجذوع أشجار الصنوبر التي سقطت تحتها جذوع أشجار من الغابات العليا، وقذفت في الوادي بدون أي جهد أو تكلفة نقل. كان انحدار جبل فيرنازا، على أية حال، عبارة عن إزالة للغابة في مساحة يبلغ عرضها 40 وطولها 800 أو 900 قدماً، دحرجت إلى الأسفل في واجهة أحد جوانب الهضبة ذات البنية الرأسية في الغالب.
______________________________________
ساسو رونش
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب السابع- كابريل
تأليف:إيمليا إدواردز | ترجمة: أميمة قاسم
--
آن الأوان- أخيراً- لتوديع كورتينا. لقد كانت بقعة تستحق قضاء الأيام الطويلة في زيارتها التي تجمع بين الفائدة والبهجة في وقت واحد. كانت المشاوير لا حد لها، ولا للرسم غاية، وكان الطقس رائعاً. ولقد لبثنا بالفعل وقتاً أطول من الفترة التي حددناها مسبقاً ضمن برنامج مقاطعة الأمبيزو. لقد قمنا بكل الطلعات الممكنة في تلك الأنحاء، ومع ذلك لم نستكشف بعد جميع أجزاء مركز الدولمايت الإيطالي البديع الذي يقع وراء حافة تري ساسيه. لقد كان من الواضح أننا لم نستطع تحمل نفقة البقاء على الحدود النمساوية.
وفي الوقت ذاته، كانت كورتينا معرضة للتجاوز من قبل المسافرين القادمين من جانب كونيليانو، وذلك فقط بسبب وقوعها على الحدود. وكونه والجبال المحيطة به على ذات الدرجة من الجمال، فلا يسع الزائرين الا اعتبارها ليست سوى البداية لمزيد من الروائع، ويرون أنّ الأمبيزو تال ليس الا بوابة لبلاد العجائب.
حتى السيد جلبرت عندما زار كورتينا للمرة الأولى عام 1861، كما يقول هو نفسه، فقد ظل هناك لليلة واحدة فقط، ولم تنقضِ حسرته على تلك الخسارة حتى مكنته جولة تيرولية أخرى من تعويضها.
وعن نفسي، عندما أعود بذاكرتي لأعبر ذلك الخضم المتلاطم من القمم والممرات التي تقع بين بوتزون وكورتينا، فإنّي أميل إلى وضع دولمايت الأمبيزو في أعلى مكانة من حيث الموقع والبنية كليهما. لقد كانت جبال بريميرو فائقة الروعة من حيث الشكل العام، وتحمل مارمولاتا قدراً أكبر من الثلج والجليد، بينما كانت سيفيتا هي الأكثر جمالاً، والأكثر رهبةً هي جبال الألب السيسيرية العملاقة المهجورة، بيد أنّها عندما تؤخذ كمجموعة، فلا أعلم شيئاً، سواء في الحجم، أو النوع، أو الصورية، يضاهي تلك الدائرة العظيمة التي لا يتجاوز قطرها إثني عشر ميلاً من بوابة أكيلا نيرا، والتي تتضمن البيلمو، والانتيلاو، والمارمارول، والكرودا مالكورا، والكريستالو وتوفانا.
وعلى أية حال، لقد كان ذلك هو الوقت، كما قلت آنفاً، لنمضي قدماً. وإنّ الخبير بالجبال ليشكّ في العثور على عمل أكثر من كاف للموسم بطوله في هذه المنطقة، ولكننا، الذين لم نكن من الخبراء بالجبال بالمعنى الفعلي للمفردة، قد قمنا بواجبنا على أتم وجه مروراً بالمكان، وبالتالي علينا (ونحن نجر أقدامنا جراً) أن ننطلق بحثاً عن غابات بكر، ومراعٍ جديدة. وباختصار ليس ثمة ماهو أجمل من البقاء سوى الرحيل.
كابريل هي محطتنا القادمة، ولقد تم الترتيب بحيث علينا أن نجتاز ممر تري ساسيه على الخيول ونرسل متاعنا بالعربة. وقد اقترح غوسيبي الذي يدأب دائماً على الاقتصاد في النفقات استخدام عربة أخرى للسيدات، مضيفاً أنَّ طريق العربات "وعرٌ بعض الشيء" على جانب كابريل. نحن على أية حال، وجدناه أكثر قليلاً مما قد تتحمله عبارة " وعرٌ بعض الشيء" في الجانب المتاخم لكورتينا، وآثرنا السلامة عن الاستمرار في التجربة تأثراً بالذكريات الحيّة لتلك الرحلة المرعبة.
وقد كان من الضروري أيضاً اختبار السرج الجانبي الخاص بآل غيدينا. وذلك بركوب الخيول عبر الممر، حيث كان علينا السير حتى كابريل على الأقل. فحيازته مضمونة حتى الآن. وعليَّ أن أعترف بأنّ نوايانا لم تخلُ بعد تلك المسافة، من السوء- رغم غموضها.
كان الصبح بديعاً عندما بدأنا الرحلة. وسبقتنا العربة- التي يقودها صديقنا المهذب كالمرة السابقة، ثم تبعناه بعد نصف ساعة. كانت القافلة تتكون من حصانين للركوب (فوكس الكميّت، ومورو الأسود)، وبغل للخادمة، واثنين من أكبر أبناء غيدينا، وغوسيبي وجيوفاني. كانت مشاركة أبناء غيدينا في الرحلة تنحصر في قيادة الجياد إن دعت الحاجة لذلك، وأن يعيداها إلى المنزل في الغد بينما تلقى جيوفاني- نظراً لأنَّ راكب البغل الحالي لم يسبق له اعتلاء أي شيء أنشط من حمير سورينتو- تعليمات صارمة بأن يلزم موقعه بالقرب من رأس ذلك الحيوان ولا يبارحه ولا للحظة واحدة. وفي الحقيقة لا تثريب على حديثي العهد بركوب البغال إن اعتراهم بعض التوتر، لما يتخلل الطريق من منحدرات زلقة، وما يحفه من حواف حادة لا تسر الناظرين، بينما "الحشية" الموعودة بائسة مثلها مثل السرج والمقبض، والتي ثبت أنّها هي الأخرى ليست سوى حزمة من الوسائد والحشايا وجلد الخراف مربوطة على سرج بشري، بدون توفير أدنى أسباب السلامة لراكبها.
وبهذا الترتيب انطلقنا أخيراً، عبر مسارنا السابق باتجاه فالزاريغو، وقد حانت منا التفاتات ولمحات صوب الجبال التي نتركها الآن وراء ظهورنا.
ووصلنا مرة أخرى إلى الفندق الصغير، واستُقبلِت "السنيورة الشيفة" بالهتاف والتصفيق. مرة أخرى تركنا الغرفة العامة مؤثرين عليها مطبخ السيدة الصغير المبهج، ومرة أخرى جُلب البيض والزبد، ومقلاة النحاس اللامعة، ومغرفة النحاس الطويلة، والمريلة الواسعة. مجدداً تحيط الكاتبة نفسها بهالة من الأبهة. ربما هي السمة الغريبة التي يتسم بها طقس هذا الممر، أو ربما كان هذا نتيجة المبالغة في الاعتداد بالذات، ولكن في هذه المرة والمرة السابقة أيضاً بدا بيض فلازاريغو تحديداً متفوقاً من حيث رقة وغنى النكهة على ما سواه من أنواع البيض التي سعدت الكاتبة بالتعرف عليها من قبل.
وضعنا القدر تحت رحمة المطر والضباب على طريق تري ساسيه. وقد شهدنا قبل مغادرنا النُزُل بدء نزول بعض قطرات المطر التي لا تنبيء عن شيء، وفي وقت وصولنا للقمة، كان المارمولاتا يلمع في غموض كما كان في المرة السابقة، تحفه الأبخرة التي تتجمع بسرعة كبيرة.
ومن هذا المكان، يبدو كل شيء جديداً. تبدو أمامنا حافة سفح جبل لاغازوي، ثم يظهر فجأة جرف شديد الانحدار يعرف باسم صخرة استريا[Sasso d'Istria ]. فنعبر قريباً منه على كتلة هائلة من الركام الجليدي الصلب، ثم نهبط إلى وادٍ ساحر الجمال يشقه نهير صافٍ " ويصدر خريراً منّغم الخطوات هبوطاً"، تتناثر على امتداده بعض الجسور البدائية الضيقة المصنوعة من ألواح أشجار الصنوبر . وأحياناً عندما لا يكون هنالك جسر تتناثر المياه على الطريق، ويضطر المشاة إلى القفز من صخرة إلى أخرى بحسب قدرتهم. وتغدو أشجار التنوب واللاريس الداكنة أكثر سمكاً وأقرب كلما ازداد عمق الوادي، فتضفي على الفضاء من فوقنا لوناً داكن الخضرة. وتنمو السراخس والطحالب والزهور البرية في مهرجان من الخضرة الوارفة على طول الضفاف المنحدرة، وتفترش كل الأغوار والقيعان. وتبدو القمم الرفيعة الآن لكل ذي نظر، ثم من خلال فرجات الأغصان، كما لو أنّها معلقة عالياً في الهواء الريان، أينما اتجه الطريق المنحدر إلى الأسفل بين الصخور العملاقة المغطاة بالشجيرات والآشنات الملونة.
والآن، بينما نمضي في رحلتنا، تزداد حلكة السماء أكثر فأكثر. ثم يبدأ الضباب الخفيف يحفّ المكان، يتحول الضباب إلى مطر، والمطر إلى عاصفة، وتردد الجبال صدى دوي الرعد من بعيد. وفي هذه الأثناء يشتد انحدار الطريق وانزلاقه، وتثبت الخيول حوافرها بصعوبة. ثم ينثني الوادي، ويتسع، وتظهر قلعة اندراز- أطلال خاوية متناثرة تقف على قاعدة من الركام- فجأة للعيان. جروف زلقة تحيط بالأطلال من جانب واحد، ومن الجانب الآخر مراعي الهضبة، ويمتد الوادي الأخضر إلى البعيد، والمنحدر المعشوشب بجانب طريق راكبي الخيول يعجّ بالزنابق البرتقالية البرّية، وورود الكلبية ذات اللون القرمزي التي تبرق مثل الجواهر في أشعة الشمس المشرقة التي تتكسر في هذه اللحظة خلال الغيوم. ولا تستطيع حتى زخات المطر التي ما تزال تنهمر بلا هوادة أن تطمس جمال المنظر الرائع، أو تقنعني باستحالة التوقف هنا وهناك لرسمه.
استأنفنا رحلتنا، على أية حال، لفترة أخرى تناهز ثلاثة أرباع الساعة، نتعثر فوق الحجارة الرطبة، فتنطبع الخطوات المنزلقة على الصخر الصلب، حتى قرية اندراز الصغيرة،* نصف متوارية بين الأشجار وحواف الصخور، وتحفها من الأعلى أجزاءُ رائعة من أقواس قزح، تظهر وتبدو في قرب محبب وهي تدنو من أسفل أقدامنا. ينعطف بنا الطريق مرة أخرى فنجد أنفسنا هناك. الرجال مصابون بالبلل، والخيول تعدو، يتصبب الماء أنهاراً من معاطفنا المقاومة للماء، أما مظلاتنا فميازيب متنقلة. نزلنا ونحن على هذه الحال بباب مضيفة فينازر الصغير، و "خمارة الجعة"- مكان صغير جداً، ونظيف ومتواضع، حيث وضعنا ملابسنا الخارجية المبتلة، وجففنا أنفسنا تماماً عند مدفأة المطبخ المشتعلة، طلبنا القهوة الساخنة، وأعددنا العدة لتحقيق أقصى استفادة من وضعنا الحالي ريثما تصفو السماء من جديد. و لم تكن هنالك أي من ألعاب القاعات في المكان حتى تغرينا بالخروج من المطبخ! ليس في المكان سوى أخشاب الصنوبر، جديدة، ولامعة، وزكية، خشب صنوبر بلون القرفة، يلمع كالذهب. الجردان، الأرضية، السقف جميعها سواء. والمكان مربعٌ تامٌ، أيضاً وبكل الصور، يشبه صندوقاً صغيراً جميلاً جديداً من علامة سورينتو أوتونبردج. وربما تديره إلى الأعلى طولياً أو على جانبه، أو رأساً على عقب، وسوى موقع الباب المتغير، فإني أتحدى أكثر المهندسين المعماريين عبقرية أن يجد فرقاً واحداً. ثم إنّ المقاعد، والطاولات، وخزانات الزوايا، وبيت الساعة جميعها صنعت من المادة نفسها: باختصار، كل مافي الغرفة هو خشب الصنوبر، ما عدا الموقد. وثمة أكشاك لبيع الألعاب في بازار سوهو حيث يتسنى للمرء في أي وقت شراء مثل هذا الأثاث الخشبي على هيئة مجسمات مصغرة، وبحفنة من الشلنات.
توقف المطر قليلاً فقليلاً، تفرقت السحب، وطلعت الشمس من جديد، أُحضرت الخيول، وعدنا للمرة الثالثة في ذلك اليوم إلى طريقنا نحث الخطى نحو كابريل.
والآن، ليس بعيداً تحت هذه البقعة، من وادي كورديفول- بجماله وكثافة أشجاره التي لم نر مثلها من قبل، وهو وادٍ أقل إيطاليّة في سماته عن واد اورونزو. وأكثر سويسريّة من الأمبيزو تال. غنيّ بالحنطة والذرة الصفراء، والقنّب، والكتّان، والمراعي، وتحدّه بعد مسافة بعيدة جبال عظيمة باهتة اللون، عليها من الجليد خطوطٌ وبقع، وتسوق الرياح إلى جوانبه سحب العاصفة الممزقة فتتجمع هناك مثل أمواج بحر هائج.
و تلك هي البوي، واحدة منها (والتي عرفنا فيما بعد أنّها حصن هضبة سيلا)، وتلك الأخرى هي جبل بادون، تعد معلومات موثوقة في الوقت الراهن. والمارمولاتا هو الآخر يمكن التعرف على أثره الضعيف بين الوقت والآخر، وحالياً كتلة عملاقة مبهمة يكتنفها الضباب لا يعرف لها شكلاً محددا، وقد أُشير إليها باعتبارها سيفيتا.
في هذه الأثناء، يرتفع طريق الخيالة عالياً بمحازاة كتف جبل فريزوليه، يتعرج مع تضاريس الجبل، والآن يشرف على واد ليفينالونغو إلى الشمال الغربي- ثم تظهر للعيان زاوية البحيرة الزرقاء وراء كابريل إلى الجنوب- وينطلق الآن بطول وجه الجرف الذي يكاد يكون رأسياً، ويحيط الآن بحدود غابة الصنوبر، نضرب عبر منحدر من أشد المراعي خضرة، ومع كل منعطف يظهر لنا مشهد أكثر جمالاً مما سبقه. قرىً صغيرة، بعضها على بعد ألف قدم إلى الأسفل، وبعضها على ارتفاع ألف قدم من مستوى طريقنا، متناثرة، ومتباعدة ومتسعة، ولكل منها كنيسة بيضاء صغيرة، وبرج جرس رائع الجمال. في بعض الأحيان واحد، وفي أحيان أخرى نجد واحداً منها يبرز بعد لحظات قليلة في ضوء الشمس البهيّ. ثم تمر الغيوم فيغرق مرة أخرى في الظل. لحظات مرور الضوء والظل الحيّة المتعاقبة هذه يتبعها كدر عاصفة أخرى تتجمع، وتأتي الآن على عجل من صوب الوديان التي تقع خلف مارمولاتا، وأمام كل هذا يعجز القلم عن الوصف.
وفي هذه اللحظة، يسود القلق فهل يمكننا الإفلات من طوفان آخر، نسرع تحت نظرات جميع من يقابلنا، كما لو لم تصل قافلة غيرنا إلى هذا الطريق الجبلي من قبل. ونمر الآن خلال قرية كولاز الصغيرة، ونلفت انتباه جميع السكان فيلتصقون بالأبواب والنوافذ، وكاهنان متقدمان في السن جداً يقفان لدى باب الكنيسة، يرفعان قبعتيهما وينحنيان أثناء مرورنا.
ثم كما حدث من قبل، بدأ ضباب خفيف في الهطول، وتحول إلى عاصفة هوجاء غزيرة المطر، أكثر غزارة وأطول عمراً. ثم أصبح الطريق هو الآخر زلقاً ووعراً، وصارت الخيول التي بدت عليها علامات الإعياء منذ فترة تتعثر وتتزحلق في كل خطوة. وقد أخاف لمع برق قوي الحصان الأسود، فحرن فجأة، وفي قفزة واحدة رمى بنفسه في الخليج والكاتبة على ظهره. وهنا ترجلنا وتركنا الخيول تهبط على الطريق، وطفقنا نسير وسط المطر، والرياح، والرعد والبرق، في طريق متعرج منحدر في آخره على بعد 300 قدم تبدو السقوف وبرج كنيسة كابريل.
يئس آل بيزيه من وصولنا قبل ساعات خلت، ولكن عندما رأوا قافلتنا الصغيرة المنكوبة تسير في الطريق إلى القرية، بائسة، تتصبب منها قطرات المطر، وتجرجر أقدامها، أسرعوا جميعاً للقائنا والترحيب بنا وأولهم السيدة بيزيه التي التقيناها سابقاً، وما زالت السيدة بيزيه بوردة على شعرها، والولدان اللذان نعرف، وجميع الخدمات والمساعدات في المبنى. لحق بنا الرجال والخيول، ولكن العربة كانت أبطأ بكثير في الطريق، فلم تظهر قبل ساعتين من وصولنا، وذلك نسبة لانقلابها تماماً فوق حافة الجرف، فسقطت جميع حقائبنا وفُرشنا في قعر وادٍ زلق وطيني، ولم نستعدها إلا بشق الأنفس.
في هذه الأثناء أوقدت المدفأة بسرعة، وأُخذت الملابس المبتلة إلى المطبخ لتجفيفها، وبدأت عملية إعداد العشاء، وصار نصب الرحلة وتعبها طي النسيان.
والآن، دار آل بيزيه، وهو منزل حجري كبير قديم مجزأ، ويتكون في الحقيقة من ثلاثة منازل ضمت إلى بعضها البعض. بعض الأرضيات مبنية بالحجر وبعضها من الأخشاب، بينما جميع الغرف على مستوىً واحد إلى حد ما، النوافذ غاية في الصغر، وملأى بالزهور. واللافتة المعدنية القديمة على ما يبدو قديمة قدم عهد آل فاليري- تتأرجح على الزاوية بالخارج، وشرفة من الحديد المطاوع الإيطالي العتيق بارزة فوق مدخل الباب. وقد كسيت القاعة العامة في الطابق الأول بالصنوبر، وتضم سقفاً جميل النقش، بينما جُهزت ردهات الاستقبال كالعادة لتناول الطعام. وقد خصصت لنا مجموعة من الغرف في الطابق الثاني، على أية حال، بوسائل الرفاهية النادرة هنا مثل غرفة الجلوس الوثيرة الخاصة. وقد اعتبرناها مقراً رئيسياً لنا طوال فترة إقامتنا في كابريل.
لدينا في غرفة الجلوس أريكة وطاولة مستديرة، وخزانة بجوارير، بل ولدينا مكتبة تضم تأريخ إيطاليا غويتشارديني، والمسرح الفرنسي في ثلاثين مجلداً. وهنا أيضاً كانت كتيبات بول الاسترشادية، وجبال الدولميت لجلبرت أهداها الكتاب إلى السنيورة بيزيه.
وعلى الجدران ضمن مجموعة منوعة من المطبوعات والصور الصغيرة المؤطرة، وجدنا لوحات لوجوه بريشة ف. ف. ت. وأخواته، وفي كتاب الزوار خط ج. أ. س، ون.، وو. وغيرهم من الأصدقاء الذي مروا في السنوات السابقة. كان المكان باختصار دافئاً بذكرياته الجميلة. ولا عجب إن بدا أليفاً منذ الوهلة الأولى، وقد كان فعلا أليفاً حتى النهاية.
يجد المسافر في كابريل نفسه في إيطاليا من جديد. جئنا على أقدامنا في العاصفة الهوجاء، وعبرنا الحدود، حيث بدا الطريق صغيراً فوق الطريق المتعرج. يصل على قدميه في العاصفة الهوجاء.
لم تبعد القرية عن الحدود قيد أنملة، بيد أنَّ المنازل والأشخاص كانوا إيطاليين بالكامل كما لو أنّهم دفنوا أحياء في قلب سلسلة جبال الأبنين، وفي ملتقى أربعة وديان. كانت الجبال الأربعة هي: جبل فريزوليه، وجبل ميجيون، وجبل بيزا، وجبل فيرنازا، والمعروف بين السكان المحليين باسم جبل توس. كانت الوديان الأربعة هي وادي ليفينالونغو، ووادي فيورينتينو، ووادي بيتورينا، ووادي اليغي أو كورديفولي. يسهم كل من الوديان الثلاثة الأولى( بصرف النظر عن الرابع وهو نهر بدون اسم على ما يبدو يجري منحدراً على المضيق الوعر وراء القرية) بسيل مياه فيضان الكورديفول، على مسافة بضع أميال تحته، يتجه صوب الجنوب عبر بحيرة اليغي في طريقه لينضم إلى البياف في وادي ميل. أما القرية فتسودها العتمة، ولا تلفت الانتباه للوهلة الأولى، تتكون من شارع واحد مائل، وقد شيّد جزء منه على أقواس. الكنيسة (لا يُلحظ وجودها لولا زينة الشرفة العلوية، والتي عليها رصيعة ملونة لرأس ابولو البلفيدير، محاطة بباقات من آلات الناي والكمان والدف) تستقر على أرضية مرتفعة بالقرب من السفح المتعرج.
وفي الطرف الأقصى لقرية الليغي ينتصب عمود للقديس مرقس، إحياء لذكرى عهد كانت فيه كابريل، مثل كادوري، تتمتع بسيادة الدوق ومجلس العشرة. الأسد الفينسي على القمة أطلال قطعة برونزية من العصور الوسطى- جرده اللصوص من جناحيه قبل بضعة سنوات، وقد ناقشت الكمونة أمر صنع أجنحة بديلة مذّاك. وثمة درع منقوش في واجهة العمود محمل بأسلحة كابريل، وتحته قرص حجري مربع عليه النقش التالي:-
SCIPIONI . BENZONO . PATS . VENS . SERI . SENATI .
VENE . COMISS . SUPER . FINIBUS . BENEFICENTISS.
CAPRILENSES . AERE . PVB . POS . ANNO . MDCIX .
[الصولجان، لبان جاوي، ضربات، حجرات ، السيد. مجلس الشيوخ.
الموقر. لجنة. الأعلى. الغايات. رحمة. الكابريلينيين. الهواء ب. ف. ب. الموقع. العام 1609]
أسد فينيسي في كابريل
ويدعى الميدان الصغير الذي يقف على شارعه الجانبي هذا الصرح: منطقة القديس مرقس. ويجري الغدير على مسافة قريبة خلفه من أحد الجوانب. وتطلّ عليها مصلحة الجمارك الدولية من الجانب الآخر. وفي هذه المساحة الواسعة يلعب شباب القرية كرة البالو [Pallo]طوال اليوم. وهذه اللعبة لمن يحب البحث، تصبح في الصيف الشغل الشاغل الممتع لنصف شباب الطبقة الوسطى في إيطليا، ولا يبدو أنّ لعبها يخضع لأية قواعد سوى ركل الكرة ببساطة وتمريرها من لاعب إلى آخر، فلا يستخدمون مضرباً من أي نوع، ولا يضعون حدوداً كما لا يركضون خلال اللعبة. واهتمامهم بها على أية حال وحماسهم بلا حد. يبدأون بعد الإفطار مباشرة ويستمرون حتى الغسق، وفي الأوقات الأخرى يدخنون السجائر ويتفرجون.
ويفتخر الإيطاليون والنمساويون بأنَّ الصداقة التي تجمعهما هي الأوثق في العالم، خاصة في تلك المواقع الحدودية حيث يتسنى لهم التواصل الدائم، ولكني لاحظت أنّ شباب كابريل، على الرغم من وجود ملعبهم المفضل تحت نافذة الجمارك مباشرة لم يسبق لهم أن دعوا الجنود النمساويين للمشاركة في اللعبة. ويقف الآخرون على مقربة وأيديهم في جيوبهم، أو جلوساً على درجات العمود، يتفرجون على اللاعبين بطريقة حزينة، وينظرون كما لو أنّهم يتحسرون على حياتهم المملة في كابريل.
أول منظر تقع عليه عين المرء وهو خارج من الأبواب، بالطبع، هو جبل سيفيتا، وأولى الرحلات سواءً على الأقدام أو بالعربة تكون باتجاه بحيرة الليغي. وبينما يقع كلاهما في الاتجاه نفسه، فإنَّ وأفضل مشهد للجبل يتأتى من الطريق الذي يقود للبحيرة، إن لم يكن من الحدود الفعلية للبحيرة، نجد أن معظم المسافرين المسافرين الذين سلكوا هذا الطريق- على قلتهم- كانوا مسرورين بزيارة البحيرة والجبل في صباح واحد، على اعتقاد أنّهم ظفروا بمشاهدة كل ما يستحق في كابريل.
واجهة جبل سيفيتا الكبيرة- جدار رائع شاهق لجرف رأسي، مدرّز من القمة للسفح بآلاف الشقوق الطولية، وترتفع في قوس عملاق يتجه نحو المركز ويقابل الشمال الغربي ناظراً إلى كورديفول باتجاه كابريل، ويملأ نهاية الوادي كواجهة عضو كبير يحشد آخره بممر الكاتدرائية. ويكتسي بضوء الغروب كله بينما يقترب المساء. وفي الصباح، بينما الشمس ما تزال في قعر الشرق، تحفه غلالة ناعمة من الظلال الزرقاء، فيبدو مبهماً وخيالياً كالحلم. وقد كان هكذا عندما رأيته لأول مرة. لقد خرجت للتسكع في القرية قبل الإفطار، وفجأة ارتفع جبل سيفيتا أمامي مثل شبح رائع الجمال، مكسواً برقيق الضباب في تباين مع الضوء في الخلفية. فاعتبرته حينها، لبساطة عرضه وارتفاعه، وانتظام تضاريسه، ووحدة التأثير، أكثر ما رأيت من الجبال هيبة وكمالاً، وما زلت أعتقد ذلك.
جبل سيفيتا
تقع بحيرة الليغي على بعد ميلين تقريباً إلى الجنوب الجنوبي الشرقي من كابريل، في مدرج أخضر على سفوح جبال سيفيتا، وبيزا وفيرنازا. ويقع الطريق إليه على طول الضفة اليسرى لغدير الكورديفول، والذي يجري هنا في تيار واسع وقوي ويحده من جانب طريق العربات التي تجرها الجياد، قناة مهجورة وعرة وتنمو فيها الطحالب والشجيرات بكثافة.
النهر عميق ومظلم وبنيّ اللون، والبحيرة ليست سوى امتداد للنهر، ذات زرقة مخضرة مدهشة- ياقوت تزينه خطوط من الزمرد. ودائما ما يكون النهر سريع الجريان، و تياره لا يقاوم، وفيما عدا الحالات التي تشتد فيها الرياح على الوادي، فإنَّ البحيرة رائقة صافية كالمرآة. والنهر- تراكم لمياه العديد من الروافد، قديم ربما بقدم الجبال، حيث تنبع روافده العديدة، أما البحيرة فحديثة العهد كما لو أنّها تكونت بالأمس فقط. لأنَّ مئات السنوات تبدو مثل البارحة في تأريخ العالم، وحيث بحيرة الليغي الآن تعكس الجبال والسحب، كانت هنالك بساتين تفاح وحقول ذرة، ومزارع، وقرى، فقط منذ مائة أو مائتي سنة.
وقد كان انهيارٌ صخريٌ عظيمٌ من جبل بيزا- أو ربما انهياران لاحقان- سبباً في كل هذا الحطام، ومنهما نشأ كل هذا الجمال. هذه النكبات المروعة، كما يعلم جميع المسافرين، شائعة في البلاد الجبلية، ولكن بين وديان الدولميات هذه تبدو الانهيارات الصخرية أكثر تكراراً، وما زالت تتكرر، بدرجة أكبر مما في غيرها. لا يمكنك السير أو القيادة لعشرة أميال في أي اتجاه بدون المرور بمشهد حطام كهذا. والكثير منها وقع في السنة الماضية، أو قبل عشر سنوات، أو خمسين، أو مائة سنة، أو ربما حدثت في عصور ما قبل التأريخ. وقد لا يعلم دليلك عنها شيئاً. فتساله عن أوان وقوعها. فيهز كتفيه ويجيبك "Chi lo sa" أي من يدري! ولكن في كل الأحوال ثمة أكوام من الصخور بأسرارها المدفونة، وكثيراً ما لا يكون هنالك أي فرق في الشكل بين ما تستوعبه ذاكرة الإنسان وما كان سابقاً للخليقة.
وعلى أية حال تم توثيق تأريخ بحيرة الليغي بدقة غير عادية. تأريخ الكارثة، ومدى الضرر الناجم عنها مسجلان في كتب الأبرشية وسجلات البلدية، وقد عُززت هذه الوثائق مرة أخرى بمراسيم وأوراق محفوظة لدى بعض الأسر في القرى المحيطة. وبوسع معظم هذه العائلات ومن بينها آل بيزيه سكان كابريل، التحدث عن أجدادهم الذين طمر انهيار عام 1771 العظيم منازلهم وأراضيهم.
وقد وقع الأمر هكذا:
يقع جبل بيزا - الذي لديَّ الكثير لأقوله عنه- في ما يلي الغرب من البحيرة، وهو أكبر الجبال الأربعة المذكورة آنفا، والمحيطة بالغور الذي بنيت عليه كابريل. وهو ينقسم باتجاه الشمال إلى جروف شديدة الانحدار، تبلغ ذروتها في قمة صخرية بديعة يبلغ ارتفاعها حوالي 8000 قدم فوق مستوى البحر، ولكن على الجانب الأقرب إلى البحيرة تنحدر في تسلسل للغابات والمراعي الغنية والوديان الخلابة. وعند الدوران حول الضفة المقابلة، يرى المرء منحدراً واسعاً صقيلاً من الصخور الرمادية الداكنة مثل بقع جرداء ضخمة، تمتد بطول السطح على هذا الجانب. وهذا هو أصل الانهيار، لقد كانت هذه القمة هي التي انزلقت، ببطء في البداية ثم بسرعة هائلة إلى الوادي في الأسفل.
لقد حدثت الكارثة الأولى في شهر يناير من عام 1771. ويقال إنَّ حارق الفحم الذي كان يعمل فوق في الغابات، نزل في وقت قريب من نهاية اليوم، أبيضَ عاجزاً عن التنفس، كان ينادي على المتواجدين بالوادي أن ينجوا بأنفسهم، لأنَّ الجبل كان يتحرك. وكان عداءً سريعاً يخشى الموت خلفه، لقد هرب من قرية إلى أخرى يرفع صوته بالنداء أثناء عدوه. ولكن لم يصدقه أحد. كانت هنالك أربع قرى آنذاك، والآن ترقد البحيرة في مكانها. وفي شك بالخطر نام سكان هذه القرى الأربع ذلك المساء كالمعتاد، وفي سكون الليل انهار جانب الجبل بأكمله في سرعة كبيرة وطمر أهل القرى وهم نيام، لم يفلت منهم أحد. وقد دفنت اثنتنان من القرى، وغرقت الأخريان، لأنَّ مياه نهر كورديفول تراجعت فجأة وانتشرت كما في حالة نهر البياف، وشكلت بحيرة كالتي نراها اليوم. تقع القريتان المطمورتان بجانب بعضهما البعض تحت سفح الجبل في الطرف الجنوبي للحوض، حيث تربض كتل الركام الهائلة الآن مكدسة في فوضى كبيرة.
وقد كانت الليغي، القرية الرئيسية في المقاطعة، تقع في مكان ما حول مركز البحيرة، وقد غابت تماماً عن الأنظار. وقفت القرية الرابعة على المنحدر في الطرف الشمالي بالقرب من الجهة المقابلة لموقع تدفق نهر الكوريدفول في البحيرة.
وقد مرت أربعة أشهر ثم في الحادي والعشرين من شهر مايو، وقع انهيار آخر. وفي هذه المرة فاضت مياه البحيرة في الوادي بعنف، وقد نجم عن ذلك من الدمار ما فاق في حجمه خسائر الانهيار السابق. وفي القرية الصغيرة التي تدعى الآن الليغي، وقد صارت تدعى كذلك منذ أن انمحت القرية الأولى من الوجود، فإنَّ كامل الجزء الشرقي ومجلس منشديّ الكنيسة الحالية قد جرفا بعيداً، وقد أزيحت آلة الأورغ لمسافة بعيدة فوق الوادي. وفي اللحظة ذاتها- بدت البحيرة كلها ترتفع كموجة واحدة- وقد سقطت إحدى الأشجار عبر نافذة الغرفة التي كان يجلس فيها راعي الأبرشية يتناول وجبة العشاء، وكان الخادم واقفاً بانتظاره عندما قتل في مكانه. وقد أعيد بناء مجلس المنشدين مذاك، وتم إصلاح الأورغ واستبداله، وما زال يؤدي وظيفته حتى الآن. ولم يُقمْ أي نصب أو لوحة تذكارية- على حد علمي، لإحياء ذكرى أولئك الذين قضوا نحبهم في هاتين الكارثتين الفادحتين، ولكن يتم تجهيز تابوت للنعش، وتوقد الشموع، ويقام قداس تذكاري احتفالي من أجل أرواح المفقودين والموتى في الكنيسة في قرية الليغي في اليوم الحادي والعشرين من شهر مايو سنوياً.
ولقد قيل لنا إنّه في الشتاء عندما تكون البحيرة متجمدة والثلج رقيقًا، وفي الصيف في الأيام شديدة الهدوء، لا يزال بالإمكان رؤية جدران وأسقف واحدة من القرى الغارقة، مثل الأبراج التقليدية لقرية ليونيس الغارقة تحت سطح المياه.
وبحسب إفادة واحد من شباب عائلة بيزيه، فهنالك فرن وبضع درجات حجرية في سلم بادية للعيان، ولنتجاهل القصص الأخرى الأقل مصداقية. في النهاية، وفي ظهيرة كسلى، ومشرقة، حيث لم يكن لدينا أي شيء مهم لنفعله في أي مكان آخر، أخذنا قارباً وخرجنا إلى البحيرة، فقط للتأكد من حقيقة هذه القصص بأعيننا. كان الهواء ساكناً تماماً عندما خرجنا من كابريل، ولكن عندما عثرنا على القارب، وأبحرنا به، هبت نسمة خفيفة، وصارت صفحة المياه كلها تموج. وفي كل لحظة تتجدد فيها النسائم، تزداد حركة المياه قوة. المرأة العجوز النحيلة الهزيلة والفتاة متوردة الخدين التي كانت تجدف انكفأتا على مجدافيهما وسحبتا بكل قوتهما، ولكن لدى عبورهما مصب النهر، أعلنتا عجزهما عن سحبنا حول لسان الشاطيء. فقد كانت المياه هذه المرة هائجة للغاية، وهبطنا بصعوبة في أقرب مكان. صاعدين إلى الأعلى وعلى طول الساحل لمسافة ما، ووصلنا الآن إلى نتوء خليجي نستطيع منه- بغضِّ النظر عن خشونة السطح، تمييز وتحسس جدار طويل وثلاثة أو أربعة ملحقات مربعة- يبدو أنّها أساسات لعدة منازل.
" إن كان أملسَ بما يكفي فربما استطعنا متابعته إلى هناك،" قالت السيدة العجوز، مشيرة باتجاه نقطة على مسافة أبعد، " يجب أن تكون للسيدات منازلُ مسقوفة ومداخن سليمة. فهي كلها عميقة هناك،"
"هل رأيتهن بنفسك؟" سألتها أنا.
" رأيتها؟ يا سيدتي، لقد رأيتها بعينيّ هاتين، مئات المرات. يا إلهي! وهناك في الليغي من رأوا أشياء أغرب مما رأيت. هنالك يعيش من رأوا الكنيسة الأبرشية القديمة وبرج جرسها عندما كانت بخير، هناك في وسط البحيرة حيث المياه العميقة. هناك يعيش من (انخفض صوتها إلى همس من وقع الصدمة) سمعوا الأجراس ترن تحت الماء في منتصف الليل من أجل الموتى الذين لم يُدفنوا!"
لقد رويت لي قصة هذه البعثة الصغيرة خارج مكانها المرسوم، بهدف جمع كل ما نجحت في جمعه في عدد من الطلعات حول موضوع الانهيار الصخري لعام 1771. وهو بالتأكيد لم يتأتى قبل إقامتنا لأسبوعين أو ثلاثة في كابريل، وغبنا مرة أو مرتين في رحلتين بعيدتين.
كان أول أيامنا في منزل بيزيه قد انقضى في التسكع في المنطقة، ورعاية البغال. كما تخلصنا أيضاً من فردين اثنين من عائلة غيدينا، عادا إلى كورتينا على خيولهما، ولكن دون سرجهما إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً. كيف لم يتم تناول هذه المسألة الحرجة والمهمة في نهاية الأمر إلا قليلاً؟ ويكفي أنهم تحدثوا كثيراً عن قناعاتهم، رغم أنّهم رجال بسيطون إلا من بضع كلمات محسوبة، وعليه فقد غادروا تاركين الغرض الثمين خلفهم. وقد وعدناهم بالطبع بدفع مبلغ من المال على سبيل الأيجار، وكذلك بإعادة حالما نجحنا في إيجاد آخر، وعدنا بكل شيء ممكن ومستحيل، وحققنا ذلك النجاح الذي لم يكن دائماً ذلك الجزاء الوفاق للفضيلة.
" سيغضب بادري منّا جداً،" قال الأخ الأصغر في شيء من الأسى، بينما اضطره حسن السلوك إلى التزام الصمت، واستدار مغادراً الغرفة. لقد خيل لي أنّ هذا الأمر كان محتملاً بشكل كبير، وربما لم يكن والد غيدينا رجلاً لطيفاً للغاية بما يكفي للتعامل معه في ظل هذه الظروف.
انصرف الرفاق الفقراء بعيداً بتلكؤ واضح، ولحق بهم جيوفاني والبغل. لقد راقبناهم على طول الطريق، ولم نتنفس الصعداء حتى تجاوزوا مدى البصر.
في تلك الظهيرة نفسها، وبالاشتراك في الخدمات الحصرية لأحد المرشدين المحليين وزوج من البغال لفترة طويلة كما كنا نحتاج إليهم أثناء رحلاتنا في هذه الأجزاء، فقد سرنا إلى مضيف سانتا لوشيا، وهو موقع شهير في حي فال فيورينتينو. وقد كان طريقنا إلى هناك هو درب الأمس المتعرج- وهو أخدود رطب موحل في مواجهة جانب الهضبة المنحدر، وهو يتسع بسهولة لسير حبيبين اثنين لا غير. حالما وصلنا إلى القمة غادرنا وادي اندراز إلى اليسار، واستدرنا بمواجهة اليمين، ما زلنا كما كنا بالأمس، نيمم شطر منحدرات جبل فريزوليه الصنوبرية العملاقة، ولكن عند السير في اتجاه الشرق بدلاً عن الواجهة الغربية للجبل.
لقد كان الطريق عبارة عن هضبة طوال الوقت. وقد أحضر غوسيبي اثنتين من عصيّ التسلق القوية التي قطعها بنفسه، واستطعنا التقدم بسرعة أكبر بفضل هذه المساعدة الجليلة. ينقسم الطريق إلى نصفين واحد في الظل والآخر مضاء بنور الشمس، فيمنحنا نظرة إلى أعماق الوادي في الأسفل، الآن مشهد "الانزلاق" العظيف* على الكتف القابل لجبل فيرنازا، وهاهي لمحة باتجاه الوراء إلى جبل سيسيتا فوق حشد من قمم الهضاب المتشابكة. وهكذا في ختام رحلة طويلة تربو على الساعة ونصف الساعة وجدنا أنفسنا على ارتفاع 1500 قدم فوق المستوى الذي بدأنا منه، وقريباً من مضيق سانتا لوشيا- هضبة غريبة ذات ظهر كالسرج، مثل أسد رابض، حارساً أميناً على منحنى وادي فيورينتينو. في عنقه عُرْفٌ ذو خط متعرج من المنازل الخشبية سويسرية الطابع، ورأسه متوج بكنيسة صغيرة بديعة. ينظر إلى الأسفل مباشرة باتجاه البيلمو الذي يسد نهاية الوادي في مهابة، كقلعة مذهلة ببرجين توأمين يناطحان الغيوم. وليود المرء أن يعرف صغير الآلهة الذي قام بتكديس هذه الحصون، ولم ربط الأسد هناك، منتظراً للأبد أن يثب عليه عندما يحين وقت خروجه من معقله، وما إذا كان لا يزال مسجوناً في قلب الجبل. ولكن يجب البحث عن إجابات هذه الأسئلة في أرض أحلام الأساطير التي لم تخلق.
شققنا طريقنا إلى داخل فناء الكنيسة متبوعين بجميع الأطفال الذين كانوا هناك، وفي الطرف الآخر من ذلك النتوء الصخري الصغير، جلسنا على السور للاستمتاع بالمنظر. وقد بينت لنا لمحة على الخارطة أنَّ الأمبيزو تال يقع بالضبط وراء البيلو، وأننا الآن ننظر إلى الجبل من الجهة المعاكسة بالضبط. وقد كان عند النظر إليه من الجهة الأخرى يشبه العرش، من هنا، كما قلت كان مثل برجين هائلين برتقاليين في تباين مع السماء ذات اللون الأزرق الداكن. وقد استقرت سحابة بيضاء صغيرة بخفة قبالة قمة البرج الأقصى فبدت مثل راية استسلام وسلام ترفرف من الحصون. وبعدها إلى اليسار، قمة انتيلاو المقوسة، كمقدمة سفينة رومانية، تلوح وتخبو، وتبتعد فوق ضفة من القزع المتراكم.
أما وادي فيورينتينو فهو أخضر ومشمس، تتناثر فيه القرى البيضاء، واسع مثل جادة طريق رائعة المنظر، حتى سفح البيلمو، بينما يلتقي وادي كودالونيا على الجهة الشمالية بالمنحدرات جبل غوزيلان وقد أظهر خطاً من الطريق المتفرع الذي يهبط من الممر. ويتعين على المسافرين السالكين ذاك الطريق من كورتينا بدلاً عن طريق تري ساسيه أن يتسلقوا طريقاً وعراً ومضجراً، ومن أجل هذا المنظر وحده الذي يمكن الوصول إليه بسهولة على نحو ما من كابريل، يضحي بمشهد وادي كورديفول الاعلى الذي يتسم بالجمال- وربما كان أجمل وديان الدولمايت على الإطلاق.
وانطلقنا، مبتعدين عن المشهد على الاقل، في بحث عن منزل راعي ابرشية سانتا لوشيا، وعلى أسوارها الخارجية، كما تقول القصة، كانت هنالك جصيّة لتيتيان- التي نُفذت عرفاناً بالضيافة التي قوبل بها هنا عندما اضطره الطقس في الشتاء بينما كان يسير في طريقه إلى مدينة البندقية.
ويخبرنا شاوباخ كيف أنها جسّدت " الموت بمنجله، محاط برموز الغرور الدنيوي": ويضيف أيضاً أنها رممت بصعوبة، بعد ما لحق بها من تدمير بربري على يد كاهن ما من القرن الماضي. حيث أخفق كل من السيد بول والسيد جلبرت، كما حدثانا، وبالكاد تأمل الكاتبة الحالية في النجاح. ولم يكن على الشخص أن يُظهر سوى "درعٍ منقوش "Stemma" على أحد الأبواب الجانبية، وليس ثمة ما ينبيء عن الجصيّة في أي مكان.
وسوف لن أنسى بسهولة في تلك النزهة المسائية في طريق العودة إلى كابريل- المنظر الذهبي الرائع للسماء- وعذوبة شذى القش المقصوص لتوه. ولن أنسى أيضاً اثنين من المشاة المتعبين، وجميع الحقائب، واللحى، والبناطيل القصيرة، في الطريق إلى كابريل، ولا الخادمة الصغيرة الخجولة في حذائها ذي المسامير الحديدية، حيية وصامتة، تحرص على ألا تخرج معزاتها عن جانب الطريق، ولا المعزات نفسها، التي كانت حسنة الطباع، وودودة أيضاً.، ولا فوق كل ذلك منظر الورود الملونة التي بدت لنا عندما انثنينا إلى الأسفل مرة أخرى عند الوادي- منظر سيفيتا ذاك، وهو يبدو أكثر من أي وقت مضى مثل آلة أورغ ضخمة، بأنابيبه المليون التي كستها أشعة الشمس لوناً ذهبياً. كانت السماء تضج بالنور فوقنا، وظللت الغابات الهضاب في اتجاه السفح. يرتفع جبل بيزا من بين أبخرة الضباب القرمزي، فتزدهي قمته الصخرية بلونٍ شديد التوهج.
استقرت كابريل بارتياح في قاع الغور. وقرية روكا الصغيرة عالياً على هضبة خضراء، تشق ببرج الجرس عنان الأفق، بينما تشمخ في قلب السماء الشرقية من بعيد، اثنتان من القممم الرمادية الرقيقة، مثل راهبتين مقنّعتي الرأس، كما لو كانتا في انتظار ظهور نجمة المساء.
ثم انقشع اللون الزهري عن الركام السفليّ، وحام إكليل غيوم متوهج في منتصف الطريق عبر واجهة جبل السيفيتا مثل وشاح كهرماني وذهبي، واستحال مثل الطيف بعدما صار لونه رمادياً. بعد لحيظات قليلة، توقفت آخر زخة. وأصبحت السماء رقيقة، في لون رمادي مخضر، تتخللها خطوط ذهبية. غدت الطيور صامتة في أعشاشها. وبرزت الجنادب في جوقة مزغردة.
ويتسارع ماء الغدير- الذي اكتسى بلون الفولاذ الآن، مع خيوط من الفضة- ينشد أغنية جامحة، ويحث الخطى في شوق للبحر. قدم الآن فلاح عجوز نحيل عبر جسر جذوع الصنوبر، ينوء تحت وطأة حمل من القش الذي وارى كامل جسده ما عدا ساقيه، وتتبعه زوجته، وهي سيدة مسنّة رشيقة تضع على رأسها خمس قبعات، واحدة فوق الأخرى، وحزمة من المجارف والمناجل تحت ذراعها. وهكذا لبثنا مسحورين حتى حل الغسق أخيراً، فأعادنا إلى الديار سوقاً. وبعد سويعات قليلة، أظلتنا السحب التي رأيناها تتجمع حول جبل أنتيلاو، وجلبت معها المطر والرعود، حيث صعد قارعو الجرس وقارعو أجراس الكنيسة طوال مدة العاصفة التي استغرقت الليل بطوله.
______________________________________
* قلعة وقرية اندراز[ Andraz] معروفتان أيضاً وكثيراً ما يطلق عليهما اسم بوشينشتاين[ Buchenstein]
* "انهيار" الجبل في بعض الأحيان (كما في حالة الانزلاق الشهير في البناخت) يتكوّن علمياً من انحدار معبّد بجذوع أشجار الصنوبر التي سقطت تحتها جذوع أشجار من الغابات العليا، وقذفت في الوادي بدون أي جهد أو تكلفة نقل. كان انحدار جبل فيرنازا، على أية حال، عبارة عن إزالة للغابة في مساحة يبلغ عرضها 40 وطولها 800 أو 900 قدماً، دحرجت إلى الأسفل في واجهة أحد جوانب الهضبة ذات البنية الرأسية في الغالب.
______________________________________
ساسو رونش
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة)
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles