قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثالث عشر - فرونو دي زولدو وزوبيه

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثالث عشر- فرونو دي زولدو وزوبيه
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
----
لا تزال أمامنا طلعة أخرى مهمة لنقوم بها من كابريل، قبل أن ننهي معسكرنا ونغادر. يجب علينا الذهاب إلى ممر الليغي، وزيارة وادي زولدو، ونحج إلى قرية بعينها تدعى زوبيه، والتي كان يتردد عليها تيتيان، ثم نعود مروراً بوادي فيورينتينو.
لم تظهر بعد المواقع الرئيسية لهذه الرحلة. وقد اجتزنا بالفعل عدداً من الممرات، وعبرناً أودية غير قليلة، وقد أذهلتنا بشدة أعمال تيتيان على اختلاف درجات أصالتها، ولكن ما كنا نود رؤيته حقاً هو منظر الجهة الأخرى من جبل سيفيتا، والنظر عن كثب إلى جبل بيلمو. ويمكن الوصول إلى كليهما باتباع خط السير الذي رسمناه مسبقاً، وبما أنّ الوقت المحدد والمؤكد للبعثة لا يتجاوز الأيام الثلاثة، حزمنا حقائبنا السوداء مرة أخرى، وعبأنا سلة الزاد، ونهضنا في باكورة صباح مشرق، وغادرنا. وفي هذه المرة قام الشاب سيزاري بيزيه، الغاريبالديّ السابق، والذي لديه أخت متزوجة في بياف دي زولدو، ويريد رؤيتها، بالسير معنا تطوعاً- وهو رجل وسيم طويل كالعسكريين، بمعطفه المعلق بخفة على أحد كتفيه، وبمنديل حريري أصفر يطوّق عنقه، وباقة من القرنفل في قبعته، حاملاً عصى التسلق في يده.
وفي هذه المرة، مثل سابقتها، يسير طريقنا في البداية بجانب البحيرة، ولكن يضرب حاليا وراء قرية الليغي، ويصعد في الوادي الصغير اللطيف، مثقلًا بأشجار الجوز والليمون، يشقه غدير صقيل يكثر في حوضه المكسو بالطحالب- والتي اكتسب قاعه بسببها لوناً بنيّاً يذكرنا بإطارات العجلات القديمة.
يصعد الدرب ويتشعب باستمرار، يمر عبر الأراضي الزراعية، وبيوت المزارع، والحظائر، والحقول، والحدائق، والمنحدرات الخضراء التي تتخللها صفوف من الكتان الأصفر المنشور ليبيضّ تحت أشعة الشمس، ومدرجات إثر أخرى: قمح، وشعير، وكتّان، وقنّب، وبطاطا، والذرة الهندية ذات الأوراق الذهبية، والبراعم المزدانة ذات الشعيرات الرقيقة.
وكل ما ازداد ارتفاع الطريق ازداد جبل سيفيتا بدوره ارتفاعاً، فقممه الدنيا تنفصل عن بعضها في تناسب كبير مع الكتلة الرئيسية، بينما تشمخ القمم الحادة المدببة في كبد السماء الصافية الزرقاء.
ويتعاظم هيكل الجبل بالتالي مع كل خطوة إلى الأعلى في ذاك الطريق. الرقع البيضاء التي بدت مثل انجرافات الجليد على الوادي، تبدو الآن كما لو أنها أنهار جليدية يغلفها الثلج، و يتخللها وميض أزرق فضي، ومن حين لآخر، ونحن نقترب منها، تطلّ علينا هوّة دائرية غريبة أخرى، أو اوتشي” occchi” كما يسمونها هنا، على مقربة من أعلى قمة صغيرة، مثل حفرة شُقت في شفرة خنجر. وهكذا خرجنا بعد طول مسير من المضيق، في محاذاة مناظر من صفحة البحيرة ذات اللون الأخضر المزرق. تسلقنا مرجاً زلقاً وعراً أجرداً ليس فيه شجرة واحدة تحجب عنا حرارة الشمس المحرقة.
فجأة انبرى من تحت أقدام نيسول الأبيض، ثعبان طويل بلون أزرق فولاذي مرّقط باللون الأبيض، فأطلق كليمنتي شهقة حرب شديدة- ول. صرخة- بينما أطلق البغل صوتاً كالشخير من شدة الرعب! وثب غوسيبي والصغير بيزيه إلى الأمام بعصّاتيهما، وفي ثانية واحدة سقط الثعبان المسكين (الذي كان في سمك رسغ الإنسان، وحوالي أربعة أقدام طولاً، لكني أثق بأنّه غير مؤذٍ) صريعاً على جانب الطريق.
دخل الطريق الصخري الآن عبر أحد دروب البغال المهجورة الخالية الذي يحيط بجوانب جبل فيرنازا الكالحة- جبل بشع المنظر سحقت الانهيارات الصخرية المتعاقبة قممه المنخفضة السوداء في الماضي، فتغطت منها المنحدرات الجرداء بالركام المبعثر، والكتل القرمزية الضخمة اكتست ببثور من الاشنات السامّة. ندور الآن حول رأس الوادي الصغير الذي صعدناه عندما جئنا من الليغي، فوصلنا أخيراً إلى هضبة معشوشبة في سفح منحدر صخري معلق هو في الحقيقة- وإن كان السكان المحليون يدعونه جبل كولداي- الجناح الشمالي الشرقي العظيم لجبل سيفيتا لا سواه. ويبدو المنظر جميلاً إلى الأعلى من هنا، حيث يختبيء في أحد الأغوار بين الصخور نهير صغير يدعى لاغو كولداي، لكنْ لم يكن لدينا ما يكفي من الوقت للتسلق لرؤيته.
ينتهي الطريق بعد جبل كولداي بمضيق جميل تتناثر عليه الصخور، مثل مضيق افيزيو، حيث يؤدي صاعداً إلى الفيداجا الألبية. وشيئاً فشيئاً تبدد منظر واجهة جبل سيفيتا الواجمة التي تقع خلف صخور كولداي، وبالنظر إلى الخلف نجد أنَّ البحيرة قد غابت بعيداً عن الأنظار.
هبط جبل ساسو بيانكو الذي كان حتى الآن سامقاً في قلب السماء فجأة بكامله تحت الأفق، وقد حجبته مرتفعات جبل مارمولاتا التي لا يبدو لارتفاعها حدٌ. وقد حضرت في المشهد: جبال البوي، والسيما دي بابي، وجبل فيرنالي وساسو دي فال فريدا، والعديد من القمم الآخرى التي أصبحت مألوفة الآن. ولكن كان المارمولاتا هو وحده المستأثر على انتباه المرء، فمن الواضح أنّه يسود المشهد. لزمت غيمة شموس الآن مكانها في أعلى القمة وبدت تنقشع قليلاً قليلاً وتغادر الصخرة النبيلة المميزة وهي تتنفس الصعداء في وجه السماء الغربية.
"انظرواّ" يقول بيزيه الصغير لدى رؤيته الرسم الذي ما زال قيد التحضير. "لقد ألقت المارمولاتا بوشاحها جانباً لتُرسم صورتها".
إنّه منظر بديع للجبل، حتى وإن كانت جميع أنهاره الجليدية وثلوجه خارج مدى البصر. ومن هنا، كما كان الأمر من ساسي بيانكو، يرى المرء شكله الحقيقي، وقمته الفعلية، بينما لم يكن بالإمكان تشكيل أية فكرة من الموقع الأول ولا التقاط أي أثر منظور من موقعي تري ساسي أو فيداجا. وكان بمقدور كليمنتي التعرف على رأس الركام الثلجي الذي وضع عليه ف. ف. ت. جهاز الباروميتر خاصته عندما بلغ هذا القمة.
جبل مارمولاتا كما يبدو من ممر الليغي
والآن يبرز ممر معشوشب، على بعد ربع ساعة تقريبا من هنا في نهاية الطريق. يفترض أن نشاهد جبال فال دي زولدو من هناك، ونأخذ راحة منتصف اليوم تحت أي ظل نصادفه هناك. وهنالك أيضاً- كما يتنبأ بيزيه الصغير في بهجة- سوف نكون على مقربة من كوخ صيفي حيث يمكن شراء الحليب والقشدة أيضاً.
تابعنا السير بصبر نافذ، ولكن توقفنا فجأة قبل القمة بقليل، في دهشة لرؤية جبل بيلمو الذي يغطيه الثلج، محصّن ومذهل- يشمخ مرة واحدة كما يبدو من خلف المنحدرات وغابات التنوب إلى يسار الممر، وهو في قرب جبل سيفيتا إلينا. تصعد كتل البخار الهائلة وتهبط حول تلك البروج العظيمة، ولا تنكشف عنها بالكامل ولو للحظة واحدة أبداً، وتبدو كلٌ منها هي الأقوى لأثر تلك اللمسة من الغموض.
والآن على بعد بضع ياردات صعوداً، تختفي جبال المارمولاتا، والساسو بيانكو، والبوي، والبقية معاً، ويمتد أمامنا تحت ضوء الشمس مرج أخضر جميل، تزينه الصخور المنثورة، وأجمات التنوب، ويحده خط من قمم الجبال في روعة وجموح كل ما رأينا حتى الآن. ووفقاً للخريطة لا بد أنّ هذه هي السلسلة الكبرى التي تسود فيها قمتا جبل برامبير وجبل بيسيديل (كلاهما من القمم غير الموطوءة).
سنعسكر هنا في الأعلى لساعة ونصف الساعة، وسيخرج الشباب لرعي البغال بينما نتناول غداءنا. اختفي كليمنتي على جانب الهضبة، وعاد متثاقلاً حاملاً طبقاً من القشدة في كلتا يديه، والتي خُفقت مع النبيذ والسكر، وأُكلت في حضرة ذلك المشهد، وقد كانت تضاهي في لذتها "الكريمة الحلوة" التي تقوم حواء بإعدادها لتسلية الملائكة على أقل تقدير. يمر بنا الآن قطيع من الأبقار من الكوخ ليحدق في وجوهنا الغريبة، لقد دفع كليمنتي مبلغ نصف ليرة وهو ثمن باهظ جداً حد أنني بدأت أخشى أننا لابد أن أعطيناه قطعة ذهبية دون قصد.
ويؤدي الممر الضيق العميق الآن من أدنى قمة المعبر بقليل إلى حيث يفتح جبل فال دي زولدو على المدى واسعاً أمام خطواتنا، مشمساً، مصقولاً ومرصعاً بالقرى والأبراج.
والآن، أخيرًا، نرى ظهر جبل سيفيتا. أصبح أليفاً مثلما جميع النواحي المختلفة التي يتجلى بها الدولمايت بغرابة من اتجاهات متباينة بأسلوب لا يخلو من غرابة. وهنا يحدث تحوّل قد لا تتنبأ به أكثر المخيّلات تفرداً على الإطلاق. وحدث ولا حرج عن استحالة التعرف على جبل سيفيتا من جانب الزولدو، لأنَّ الجبل لا يشبه نفسه إلى حد مدهش، حتى إنّه على الرغم من ذلك، لابد للمرء أن يقول- حتى عند الدوران حول زاويته فقط- أنّ التباين في الشكل، والمعالم، والامتداد أيضاً، يتجاوز الحد المقبول في أغلب الأحوال. فهو هاديء، عمودي، ومهيب على جانب الليغي، ولكنه هنا جامح ومضطرب، ومتفاوت. فيبدو من ناحية الليغي واسعاً، شامخاً، منتظماً- ويتكون هنا من تتابع طويل من الدعائم الضخمة المتراخية تفصلها عن بعضها البعض وديان وعرة، تنبع منها مياهه و تتدفق سيوله. أما من كابريل فيبدو الجبل كما قلت آنفاً مثل آلة أورغ عملاقة، أما من هنا فيبدو كما لو أنّ كل أنبوب عمودي في واجهة تلك الآلة ليس سوى القطعة الأخيرة الصخرية الضيقة التي تنتهي إليها كل من هذه الركائز. وهكذا عند النظر إليها من منظور جانبي، لا أستطيع مقارنة وحشيتها وبربريتها بأي شيء كان، ناهيك عن منظر الدعامات الطائرة المزدانة والمنقوشة على نحو بديع أسفل سقف كاتدرائية ميلانو، والتي تعرف بالحديقة النباتية.
وقد قام السيد ف. ف. تاكيت بأول رحلة تسلق لجبل سيفيتا، والذي يعطي قيمة لارتفاعه تناهز 10.440 قدماً. وتُرى القمة الوحيدة المتوجة بالثلوج بسهولة من هذا الجانب، وتبدو كما لو أنّ الوصول إليها سهل ولا يتطلب كبير عناء.
يتمتع وادي زولدو بثراء زراعي كبير، وتتميز منازله الزراعية بالقوة والمتانة، ويبتسم وجه المدينة كلها ازدهاراً ورخاءً: القرى الصغيرة الغبراء المعتادة بجصّياتها الدينية المألوفة في الواجهات الرئيسية للمنازل، الكنائس الصغيرة العادية، ونوافير القرية ذاتها، تتبع إحداها الأخرى بكثافة أكبر من معظم القرى الأخرى.
وفي سان نيكولو حيث يضيق الوادي وتتقارب الصخور من نهر مايه المتسارع على مسافة بعيدة أسفلنا، سرنا في طريق ممتاز من الطرق المخصصة للعربات التي تجرها الجياد والذي يبدأ من هذه النقطة إلى لانغاروني، عبر منعطف هائل. ولدى إحدى القرى والتي تدعى دونت، على مسافة ما أسفل سان نيكولو، اقترحنا أن نتوقف لقضاء الليل: ولكن لتحذيرنا من افتقار النُزل إلى النظافة، والنظام بشكل عام، واصلنا المسير صوب فورنو دي زولدو حيث يخبر دليل بول عن "الغرف المريحة في فندق سيرسينا."
وصلنا بعد مضي ثلاثة أرباع الساعة، وحططنا رحالنا لدى بوابة منزل كبير جداً، قديم جداً، وذي مظهر غاية في القذارة على قمة طريق صغير منحدر في قلب القرية. مررنا عبر مطبخ حجري كئيب حيث يجلس حوالي خمسة عشر أو عشرين من عمال الحصاد يأكلون عصيدة الذرة في أطباق خبية. أُرشدنا إلى غرفة واسعة عبر درج مظلم، كانت أرضية الغرفة التي تراكمت عليها قذارة القرون. الأريكة، والمقاعد، وستائر النوافذ تبدو كما لو أنّها تتساقط نتفاً من البلى، ولا يربط بين أسمالها سوى خيوط العنكبوت.
تفتح النوافذ على مرج جانبي منحدر يحتشد فيه الأطفال الآن من كل أنحاء البلدة، ليس لشيء سوى إلصاق أنوفهم مقابل الألواح الزجاجية والتحديق بنا، حتى جلبت الشموع، وسحبت وأسدلت الستائر لإبعادهم.
ونسبة لأنَّ بهو الاستقبال، الذي يكون في معظم الفنادق التيرولية أنظف وأفضل مكان في المنزل، وهو الأكثر كآبة في وحشية أثاثه العتيق، والنقوش القديمة، والسروج البالية، وحقائب عدة الفرس، والجلود العارية، والأغراض المبعثرة المغبرة من كل الأنواع التي صادفت الأسماع أو الأنظار خارج أرض القرية.
أمّا سكان سيرسينا أنفسهم أشخاص راقون يتسمون بجمال السلوك، وقد امتلك أجدادهم العقارات في وادي زولدو لأكثر من خمسمائة سنة. كانت كنة المنزل بانتظارنا وهي امرأة شابة وجميلة، وتبدو عليها مظاهر التهذيب، وقد أصابتها متطلباتنا المتواضعة القليلة بالحزن. أما نحن فلم نكن مسافرين غير واقعيين، كما أعتقد، ولكننا كنا على الطريق راكبين وراجلين لفترة تقارب الاثنتي عشرة ساعة، ونأمل في بعض الماء والمناشف والطعام والقهوة وهي أشياء لا تنافي الطبيعة بأي حال. وعلينا الانتظار إلى الأبد لنحصل على جميع هذه الأشياء. حتى إن طلبنا مفرشاً للطاولة يعد مشكلة خطيرة، وكوننا لا نستطيع مثل عمال الحصاد أن نتناول عصيدة الذرة هو أكبر مما تستطيع السيدة الشابة سيرسينا احتماله.
وبعد فترة غير قصيرة أحضرت لنا بضع قطع صغيرة من اللحم المسوّد بالدخان، وطبقاً من السلاطة غير المغسولة، وبعض الفطائر الدسمة: وهذه السيدة الصغيرة، أثناء صلواتها، كما أتخيل، بينما تنتظر بجانب الطاولة، ثم تسير بهدوء إلى منظار زجاجي في الطرف الأقصى، ثم تحاول جاهدةً تجربة قبعة ل. وجميع خواتمي وأساوري.
لقد كان عشاءً فظيعاً، في أعقاب ليلة رهيبة شديدة الحر وثقيلة، ساهرة، ومفعمة بالحياة بطريقة تربط في ذهني وللأبد بين جبل فورنو زولدو والمثل العربي الذي يصف "ملاغا" بأنّها مدينة: " يرقص فيها الذباب على ألحان يعزفها البعوض."
جُلبت البغال باكراً في الصباح التالي، فأمامنا يوم طويل، حيث زوبيه، على مسافة تفوق الساعات الثلاث من فورنو دي زولدو، وعلينا زيارتها في الصباح، وقد قطعنا وعداً بناءً على طلب السيدة بيزيه أن نتصل بابنتها المتزوجة التي تسكن في بياف زولدون حوالي ربع ساعة صعوداً من فورنوز. وبينما كنا نتناول إفطارنا وقد تجاوز الوقت الساعة الخامسة صباحاً بقليل، رنت أجراس الكنيسة بنغمة جزلى. مما يشير إلى أحد أعياد القديسين أو مراسم الزفاف، فاستفسرت عن المناسبة السعيدة وعلمت، ولم يفاجئني ذلك، أنَّ أحد السكان المسنين والمحترمين جداً قد أسلم الروح.
يدعى وادي زوبيه أحياناً وادي روتورتو، وهو يتفرغ من وادي زولدو في زاوية حادة من موقع أسفل جبل فورنو بقليل، ويجري باتجاه الشمال صوب بيلمو. ويقع طريقنا هناك في البداية عبر سلسلة من القرى، كامبو، والبياف، ودوزا، وبرا، وبراغاريزا. مروراً بالبياف، التقينا بسيزاري بيزيه الذي كان سيأخذنا إلى مرسم فالينتينو غامبا، أحد نحاتّي الخشب، تعلّم النحت بنفسه. وهو يعيش في براغاريزا- قرية بائسة، خربة على جانب الهضبة المنحدر على بعد ميل أو اثنين، حيث لمحنا مرآه للمرة الأولى جالساً في يأس على عتبة كوخ صغير.
وعندما خاطبه بيزيه الشاب، ودعاه ليريه مرسمه، نهض في ارتباك، وسبقنا إلى الحجرة الخلفية الصغيرة حيث يوجد إطار بيضاوي هائل من خشب الصنوبر المحفور مخصص لمعرض فيينا لهذه السنة (1873). وهو غير عملي، مبالغ فيه، ومليء بالزخارف، وأشكال الفاكهة والزهور والآلات الموسيقية، وآلهة الحب، وما شابه ذلك، وكبير الحجم جداً وثقيل أيضاً، غير ملائم لمرآة ولا صورة، ولكنه مدهش في ذاته كمحاولة لعبقري لم يحز من التعليم نصيباً. وتمثال نصفيّ لإيطاليا، من الخشب أيضاً، مفعم بالتعابير الرقيقة والعذبة، وقد سرني أكثر من الإطار. وانشغل فكري بضرورة الاستعلام عن ثمن التمثال. إنّه بالحجم الطبيعي، ويزن- الله وحده يعلم كم يزن، ولكن بكل تأكيد يكافيء في الوزن كل ما نحمل من متاع مجموعاً إلى بعضه. ولم يتسنَّ لي طرح السؤال المشؤوم في وقت أبكر من الآن، لدى رؤيتي وميض أمل في وجه الرجل المسكين. عاتبت نفسي على ذلك التصرف. وقد طلب مني مائتي ليرة فقط ثمناً له- أقل من عشر جنيهات- ولكني لم أستطع أن أتحمل عبئاً إضافياً أكبر في رحلة كهذه مما لو كنت في برج الكنيسة. لذا طلبت بطاقته التعريفية، ووعدته بإرسال أصدقائي الإنجليز ليبحثوا عن إطاره الصيف القادم في فيينا. وغادرت وأنا في حرج لإدراكي بأنني قلت أكثر مما أردت قوله.
من براغاريزا يسير الطريق بين هضباب تكسوها الغابات على وادٍ صاعد بلا نهاية. وكلما ابتعدنا أصبح الطريق أشد وعورة وانحداراً، وكلما أقفر الوادي زاد صخب النهر. ثم أخيراً تعيّن علينا الترجل وترك البغال تتسلق وحدها. وكما البارحة، يبزغ فجأة منظر البيلمو، وهو أسمر مصفر، وحصون مخددة بالثلوج تظهر، وراء صفحة هضبة قريبة- قريبة جداً حتى أنّها تبدو وكأنّها تعتلي رؤوسنا. حالياً- لأننا في اللحظة المناسبة تماماً لرؤيته بوضوح لدقائق قليلة- تبحر سحابة بيضاء عظيمة ببطء من مكان ما على البعد، فتغطي ناحية الجبل بعباءة، لم تبقَ لنا سوى لمحات سريعة الزوال منه بين الفينة والآخرى، من خلال الفُرج التي تلوح بين أوشحة الضباب.
وأخيراً وصلنا إلى زوبيه، قرية صغيرة بنية اللون وكنيسة بيضاء تشرئب عالياً على جانب من الجبل أخضر، يشرف علينا من قمة درب يبلغ ارتفاعه 400 قدمٍ كاملٍ فوق مستوى سطح الوادي.
وتتضم تلك الكنيسة البيضاء الصغيرة في جنباتها أعمال لتيتيان، والتي تعتبر الأفضل في كافة أرجاء هذا الإقليم. وبعد رحلة مضنية طويلة نحو قمة الهضبة في شمس حارقة، على الأقل إلى البيوت والكنيسة. كان الباب مفتوحاً، فعبرناه إلى المظلة الباردة في الداخل، يتبعنا جميع الرجال الذين خرجوا من فناءٍ خشبي مجاور. وهناك وحول المذبح المرتفع، تتدلى لوحة تيتيان، بلا ستار، معفرة بالغبار، وشاحبة من دخان الشمعدانات طيلة قرون من القداسات. إنها لوحة صغيرة لا تتجاوز أبعادها أربعة أقدام في ثلاثة، وتظهر فيها العذراء والطفل على العرش، في رعاية القديس مرقس والقديس غيرولامو، مع القديسة حنّا الجالسة على عتبات العرش. إنّها لوحة معقدة ككل، فالعذراء والطفل مرسومان بأسلوب واقعي وصعب يعود لبواكير عهد المدرسة الألمانية، ويبدو كما لو أنه لم يصدر عن فرشاة تيتيان. فرسم القديس غيرولامو والقديسة حنّا بالكاد يرتفع عن المتوسط، ولكن يتسم رأس وكفا القديس مرقس بالجمال حقاً، وقد فاقا بقية اللوحة بكثير. الألوان هي الأخرى كانت غنية وثابتة في جميع أجزاء العمل.
لقد تم تلوين قطعة المذبح هذه، كما قيل. بناء على تكليف واحد من أعضاء عائلة بالاتيني في عام 1526، وصنفها السيد جلبرت من بين " أعمال تيتيان القليلة جداً التي لا يتطرق إليها الشكّ"، كما إنّها حظيت بالحماية في بين جبال الموطن الأصلي للفنان، ولكن بغضِّ النظر عن صيتها، فقد وجدت من الصعب تصديق أنّ المعلم العظيم لم يلوّن منها أكثر من رأس وكفيّ القديس مرقس.
وعندما سمع راعي الأبرشية بوجود غرباء في الكنيسة، أتى فوراً ليقوم بواجبه تجاه فنانه تيتيان. لقد كان قسّاً متواضعاً وبديناً، وردي السحنة، ولطيفاً، تفوح منه رائحة الثوم، ويلبس رداءً قصيراً باللون الأزرق الفاتح، وصدرية باللون الأزرق الفاتح، وجوارب رمادية اللون من الصوف، ومعطفًا كنسيًا أسودَ طويلًا، وقنينة قديمة تحوّل لونها إلى الأخضر بفعل الزمن. لقد كان يتحدث بسرعة وكثافة، مخبراً كيف أنَّ تيتيان قد جاء في يوم ما إلى زوبيه لتمضية العطلة إبان انتشار الطاعون، وكيف أنّه عمل على تلوين اللوحة من وقت لآخر، بأمر من النبيل المذكور آنفاً، والذي رغب في أن يضعها في الكنيسة كقربان للشكر، وكيف عُلقت هناك في احترام وهدوء لقرون؛ حتى جاء الفرنسيون بهذا الطريق في عهد نابليون الأول، وهددوا بتجريد الكمونة من كنزها، حيث صنع رجال زوبيه أسطوانة خشبية، ولفوا اللوحة عليها، ودفنوها في صندوق أسفل شجرة في الغابة. قال راعي الأبرشية "وانظر!، قد ترى علامات الأسطوانة على القماش حتى هذا اليوم. وما زالت الأسطوانة بحوزتنا، سيدتي، ما زلنا نحتفظ بالأسطوانة!"
قلت أنا شيئاً، لم أعد أتذكره، لتأكيد أنّ تيتيان العبقري كان يستحق الاهتمام بها، وأنَّ الكمونة لم تقيمها بدرجة أكبر.
" تقييمها!" كرر هو العبارة، فقام بغير داعٍ. " تقييمها يا سيدتي؟ بالطبع نحن نقيّمها. لقد عرضت علينا حكومات كثيرة شراءها. وكان بوسعنا بيعها بثلاثة آلاف دوكات من الذهب غداً، إن قررنا ذلك. حسنًا! نحن ستمائة نسمة هنا في بايزي. رجالنا فقراء- جميعهم-فلاحون في الصيف، وملازمون في الشتاء، لكن أعمال تيتيان لا تشترى بالمال!"
ولقد عرفنا فيما بعد أنّ راعي الكنيسة ذا الحس الجمعي هذا كان من اكبر صائدي حيوانات الشامواه في شبابه، وواحدًا من أوائل من تسلقوا أقاصي جبل البيلمو.
نغادر الآن قرية زوبيه على جانب هضبتها وهبطنا إلى الوادي مرة أخرى، نقتنص بعض اللمحات الرائعة من القمم العجيبة التي يتكشف عنها الضباب والغيوم باتجاه جبل سفورنيوي، وسلسلة بريماجيوري. والآن بعد استراحة قصيرة في ظل مجموعة من الأشجار بجانب إحدى العيون، نستأنف المسير مرة أخرى، فننزل إلى آخر الطريق، حتى نجد أنفسنا مرة أخرى في بياف دي زولدو، ونقف ببوابة منزل أبيض كبير، حيث رحبت بنا أخت الشاب بيزيه، السيدة بيليغريني. لقد تزوجت السيدة بيليغريني من رجل حاز الغنى وشرف المحتد معاً، ويعيش حياة بطريركية، لا تخلو من سعة ورغد في العيش، مثل الطبقة العليا الإنجليزية التي عاشت في عهد أسرة تيودور المالكة. تحمل مفاتيحها في حزامها، وتقوم بنفسها على شئون ألبانها وأجبانها وأبقارها وخنازيرها، ودواجنها، ومطبخها. اقتادتنا من خلال درج فسيح، عبر بهو عُلقت فيه صور أفراد عائلة بيليغريني الذين كان منهم الأساقفة، والمأمورون، والقباطنة، والسادة الذين تجّملت سحناتهم بالمساحيق، في معاطف مزدانة بالكشكشات والدانتيل، حتى انتهينا إلى غرفة استقبال حيث كانت المائدة معدة لتناول وجبة الغداء.
كان سيد المنزل غائباً حتماً، فهو في معرض للماشية في لانغاروني، ولكن حلَّ سيزاري بيزيه محله في الطاولة، حيث كان كل شيء طازجاً ووفيراً، وبيتي الصنع وشهياً.
ذهبنا بعد الغداء لزيارة الكنيسة-وهي ذات هيكل كبير، وصحن قوطي جميل، يحتوي على لوحتين أو ثلاث من اللوحات الإيطالية العجيبة العتيقة، ولوحة مذبح مهمة من أعمال الحفر لأندريه بروسيتولون، وغرينلينغ جيبونز من جنوب تيرول، مولود في وادي زولدو هذا عام 1662. إنّه موضوع غريب، وطريف، وتم تجسيده بطريقة مثيرة للإعجاب لكن النظر إليه لا يبعث على السرور. وهم يسمونه مذبح الأرواح Altare degli Animi. تجسّد شخصيتان، المعاناةَ الإنسانية والأسى البشري، ويحرس كل منهما هيكل عظمي للتحذير، ودعم منصة المذبح. ويتوّجُه من الأعلى ملاكان ولوحة الرحمة. كان التنفيذ متقناً، بيد أنّ العمل كان يترك في النفس انطباعاً مؤلماً للغاية.
تسكعنا في المساء بين الحقول والمروج التي تقع وراء القرية، ورسمت الكاتبة بعض القمم الغريبة ( يدعوها البعض جبل سيراتا، والآخرون روكيتا) والتي تُرى من كل ناحية من نواحي المكان. وهنالك بالطبع الصعوبة المعتادة في الإفلات من فخ المتطفلين. وقد حدقت فيّ سيدة عجوز ترتدي قباقيب خشبية لفترة طويلة من الزمن، من عتبة باب كوخها، فاتت تعرج، وتمسح الرسم في ذهول يكاد يثير الضحك.
جبل سيراتا
" لم تفعلين ذلك؟" تتساءل وهي تشير إليَّ بأصبع معروق، وهي تمعن النظر في وجهي من الجانب مثل غراب.
فأجبتها بأنني أفعل ذلك حتى أتذكر الجبل عندما أكون بعيدة عن هنا.
"وهل سيجعلك ذلك تتذكرينه؟" قالت هي في نبرة لا تخلو من ريبة.
وعن هذا أجبت بأنّه سوف لن يؤدي هذا الغرض فقط، بل سيكون سبباً في أن يعرفه الكثير من أصدقائي الذين لم يأتوا إلى هنا. ولا بدّ أنّ هذا، على أية حال، يفوق قدرتها على التصديق.
"ومن أين أنت؟" سألت تالياً- بعد صمت طويل.
وأجبتها:" من بلد سمعتِ عنه مراراً بلا شك، من إنجلترا."
" من إنجلترا! يا يسوع ماريا! من إنجلترا! وأين هي إنجلترا؟ هل هي قريبة من ميلانو؟" ولدى إخبارها بأنّها على مسافة أبعد بكثير من ميلانو وفي الاتجاه المعاكس تماماً، لم تزد على أن تهز رأسها في صمت من فرط ارتباكها. وطفقت تعرج عائدة من حيث أتت.
وعندما وصلت إلى منتصف المسافة على الجهة المقابلة من الطريق، توقفت قليلاً، في لحظة استراحة للتأمل، ثم قفلت عائدة، مسلحة بسؤال أخير.
" هيا! هلا أخبرتيني- اصدقيني القول- لم تأتون إلى هنا جميعكم؟ لم تسافرون؟"
وأجبت عن هذا السؤال بالطبع بأننا نسافر لنرى البلاد. فكررت عبارتي " لتروا البلاد!" فعقدت أصابع يديها الذاويتين قائلة: " يا ربي العظيم! إذن أليس لديكم جبال ولا أشجار في إنجلترا؟"
وفي ذلك المساء عندما كنا نتناول عشاءنا جاء غوسيبي ليقول إنَّ النحات الصغير موجود في الأسفل، وقد أحضر التمثال من براغاريزا، ليعرف إن كنت سأقدم له عرضاً بخصوصه. أحضر التمثال النصفي إلى هنا؟ فتصورته يرزأ به طوال الطريق المغبر- وأراه كما رأيته هذا الصباح، شاحباً، يبدو على محيّاه القلق، بارز المرفقين، وفي هذه اللحظة شعرت كما لو أنّ من قدري أن أعود وأشتريه. وما كان من ل. عندما رأتني إلا وأن نعتتني بالمجنونة الخطيرة، وحتى غوسيبي اضطر إلى تحذيري بأدبٍ قائلاً إن كانت السنيورة تريد حقاً شراء "الرأس الخشبية" فلابد أن نطلب بغلاً إضافياً في المستقبل لحمله. وعليه- وبدون أن تواتيني الجرأة الكافية للقائه- فلا يجب أن أرتكب حماقة كهذه- أرسلت إليه رفضاً مهذباً، ولم أسمع عن الرجل المسكين مجدداً.
وبحلول الساعة الخامسة والنصف صباحاً غادرنا مرة أخرى، ممتنين لرؤية فورنو دي زولدو في النهاية بفندقه القذر، وصاغته، وتجارة الحديد الصاخبة فيه. وهبطنا بعيداً بمحازاة النهر في تجويف زلق أسفل القرية، هناك ربما تُرى صفوف طويلة من الورش حيث يتصاعد الدخان على الدوام من الحرائق الكثيرة. وهنا رجال زولدو الذين يمتهن السواد الأعظم منهم الحدادة، وكانوا يصنعون المسامير من زمن سحيق، ويرسلون بضائعهم على ظهور البغال إلى لانغاروني في الأسفل، ويتلقون بالطريقة ذاتها خزائن من الحديد القديم من سينيدا، وكونيغليانو، وحتى من البندقية.
وسنعود اليوم إلى كابريل عبر ممر يقود من رأس وادي دي زولدو إلى رأس وادي فيورينتينو، ويدور حول سفح جبل بيلمو بين ذلك الجبل وجبل كروت؛ لأنَنا لم نك نفعل شيئاً في الساعات الأربع الأولى من الرحلة، سوى اقتفاء آثار مسارنا ليوم أمس الأسبق ببساطة لمسافة قصيرة بعد دونت (حيث يوجد طريق سهل وجميل يؤدي إلى اغورو عبر وادي دورام). يرتفع جبل البيلمو، شاحباً، وظليلاً وأكثر "هيبة"، بينما في سان نيكولو يعود جبل سيفيتا إلى الأنظار مرة أخرى- نصف متوارٍ خلف الضباب الفضي المتدحرج. في ما بعد ماريزون، حوالي نصف المسافة بين تلك القرية وبيكول، تنقسم الطرق، وننعطف من وادي زولدو صاعدين في وادٍ طويل معشوشب، مموج يقع بين جبل بيلمو، وجبل كروت، وظهر جبل فيرنازا. يعرف هذا الوادي باسم وادي بالافافيرا، وهو ملكية عامة لكمونتي ماريزون وبيكول، اللتين تقتسمان المراعي بينهما مناصفة. وبين جبل كروت- جبل صغير بيد أنّه جبل يأخذ شكل الهرم إلى حدٍ كبيرٍ- وجبل البيلمو، والذي يبدو من هنا مثل برج من أبراج بابل ملفوفاً بقطع من السحاب، ويرتفع هناك منحدر أخضر طويل يقود إلى قمة المعبر. ونأخذ أولى فترات الراحة هنا تحت ظل شجرة كبيرة على تلة يكسوها العشب. وقد رفعت السروج، واستخدمت كمقاعد، ونهلنا من العين القريبة التي تلفها الشجيرات ماءً صافياً، وذهب كليمنتي مرة أخرى لجلب القشدة من مزرعة حليب على مسافة ليست بالبعيدة. وهكذا طفقنا- جلوساً في الهواء الطلق، تحت أشد السماوات زرقة- نأكل القشدة بملاعق خشبية ومن طبق خشبي، ونأخذ راحتنا على الطريقة الرعوية النقية التي يتمناها حتى قلب الجميلة سكودري.
رحلة اليوم من الرحلات الطويلة، وسوف يكون من الضروري أن ندع البغال تأخذ راحتها مرة أخرى بين كل فترة وأخرى، وعليه فسنواصل المسير الآن، وحوالي منتصف النهار سنصل إلى قمة المعبر، الذي يدعوه البعض باسم معبر دي بالافافيرا، والبعض الآخر يطلق عليه اسم فورسيلا ستاولانزا.
وهكذا كان الطريق يتجه إلى الأسفل بين أشجار الصنوبر واللاريس المتناثرة حتى قاعدة جبل البيلمو. ويبدو في بداية الدولمايت الكبرى كبرج واحد فقط لا يخلو من غرابة، ثم برج آخر مايزال حتى الآن مختبئاً وراء الأول، يتجلى للأنظار شيئاً فشيئاً، وأخيراً انقسما، فبدت لنا قطعة من السماء الزرقاء بينهما. وكل انثناءة في الطريق الآن صارت تقرّبنا، وبالتالي تبدو تلك الكتلة الضخمة وكأنّها معلقة فوق رؤوسنا، وقد سدت علينا نصف قبة السماء، صخرة وراء صخرة، ومنحدر تلو الآخر.
والآن، وبما أننا على مدى مائتي قدم من سفح الجبل ، فقد أدركنا- علماً بأنّه يمكن معرفة ذلك بدون البدء في التسلق حتى_ كم هو مذهل في الحجم والانحدار والوعورة. لقد اقتربنا كثيراً حتى إنَّ صياد الشامواه بالكاد يزحف دون أن يُشاهد على طول واحد من هذه الجروف الضيقة، على ارتفاع ثلاثة أو أربعة آلاف قدم، بيد أنّ مدى الجبل بكامله هائلٌ، حتى إنّ امرأة كانت تسير في طريق يؤدي عبر منحدر الركام هناك، بدت بالكاد كنقطة سوداء على سطح صخرة.
يسدّ جبل بيلمو مشهد نهاية وادي فيورينتينو بكامله. يسير الدرب فوق جرف منخفض يقع في الجهة المقابلة، وهو فورسيلا فورادا (6896 قدماً) ويؤدي مباشرة إلى سان فيتو على سفح جبل الانتيلاو في وادي الامبيزو. وهو يقابل في موقعه فورسيلا ساتولانزا التي أتينا عبرها من سفح جبل سيفيتا في وادي زولدو. ويبدو ارتفاع جبل البيلمو، وفق ما هو مؤكد حتى الآن، 10.377 قدماً، وهذا للقول بأنّه يساوي في ارتفاعه جبل سيفيتا بفارق أقدام قليلة، ودون قمة الانتيلاو بحوالي 200 قدم بالكاد. وقد تكرر تسلق الجبل من قبل صيادي حيوانات الشمواه الشجعان الذين لا تنقصهم الجراة والقادمين من وادي زولدو، فقد اكتشفوا أربعة طرق منفصلة يمكن عن طريقها الوصول إلى الهضبة الكائنة أعلاه. كما كان فوكس من متسلقيه أيضاً، وكذلك مؤلف كتاب "الدليل إلى الألب الشرقية" والذي بدأ الصعود من جانب بوركا، فوق وادي ناغاروني. وأفضل طريقين على أية حال يفترض أنهما يبدآن إما من زوبيه أو فويق سان نيكولو في وادي زولدو. يصف السيد بيل جبل بيلمو بأنّه " قلعة عملاقة من أكثر البنيات ضخامة، تحميها تحصينات خارجية انهارت أسوارها في عدد من المواقع على جروف يبلغ انحدارها 2000 قدماً." ويقول أيضاً : " وقد زاد شبهها بالبناء بحقيقة أنَّ الطبقات تقع في مسارات أفقية، حيث صدف أنَّ العديد من المناطق الأشد انحدارا من الجبل اُزيحت باتجاه الحواف بحيث يتسع المجال لمرور حيوانات الشمواه ومطارديها."
ومن فورسيلا ستاولانزا، جبل روكيتا في وادي الامبيزو، وقد تجلى مرأى الرصيف المتعرج لبيك دي ميزودي للعيان فوق منحدرات فورسيلا فورادا. وتبرز أعلى قمم جبل سيفيتا فوق غابات التنوب التي تحد الواجهة الشرقية لجبل كروت، وعلى مبعدة، وراء منظر وادي فيورينتينو المشمس، وقمة جبل مارمولاتا الزرقاء الشاحبة في مواجهة الأفق، والتي تضفي ثلوجها على المنحدر لون الجليد الفضي.
والآن وبمحازاة مسار غدير فيورينتينو اليافع، نسير تاركين جبل بيلمو وهو يبتعد إلى الوراء مع كل خطوة. وبدأت قرى بيسكول، وسيلفا، وكول دي سانتا لوشيا، وجبل فريزوليه، وساسو بيانكو، تظهر واحدة تلو الأخرى.
نزلنا للحظات قصيرة في بيسكول، فزرنا كنيستها الصغيرة لرؤية وعاء خبز القربان المنقوش من أعمال الفنان بروسيتولون- وهو شيء صغير مثل اللعبة- وثبت أنّه تذكار لبلاداتشينو في كنيسة سان بيتر، على دعامتين من الأعمدة المبرومة المزينة بالأزهار، ومكلل بغطاء مزين، ويضم مجموعة مشهد صلب المسيح التي يقارب ارتفاع شخوصها الثلاث بوصات. وحشد من بعض الملائكة الصغار وأجساد الأطفال خارج الغطاء، اتسم تصميمها وتنفيذها بالرقة ويحفز الذاكرة على استحضار تصميمات لوكا ديلا روبيا. ويقدّر أهل بيسكول معبدهم الصغير، تماماً مثلما يفعل أهل زوبيه تجاه أعمال تيتيان، وقد آثروا الاحتفاظ بها على بيعها بأثمان باهظة.
إنّها الساعة الواحدة، وقد كنا على الطريق منذ الساعة الخامسة والنصف صباحاً. نال الرهق من بغالنا كل منال وبدأت تتعثر مع كل خطوة. يمتد وادي فيورنتينو على مد البصر، وبدت قرية سيلفا، حيث سنأخذ قسطاً من الراحة لحوالي ساعتين كاملتين، كما لو أنّها تزداد ابتعاداً عنّا.
وأخيراً وصلنا على أية حال، ووقفنا بباب فندق صغير على جانب الطريق، وهو أشد ما رأينا تقشفاً، ولكنه نظيف وجيد التهوية. وسيحظى البغلان هنا بنصيب وافر من الذرة الهندية، والخبز والنبيذ للرجال، وأُخذنا نحن إلى حجرة علوية بيضاء، فأشعلنا موقدنا الغازي لتحضير أحد أطباق الأطعمة الجاهزة من علامة لايبيج.
تبعتنا نساء المنزل- ثمّة أربعُ منهن- إلى غرفتنا هذه حالما قدمن الذرة والنبيذ في الأسفل. ووقفن فاغرات أفواههن فاتحات أعينهن على وسعها من شدة الفضول، يراقبن كل ما نفعل، كما قد تفعل مجموعة من الأطفال يراقبون حركات بعض الوحوش البرية الحبيسة في أحد الأقفاص. لقد قمن بتفحص قبعاتنا، ومظلاتنا، ومعاطفنا وكل شيء وضعناه جانباً. وقد أصابهن السخان بالذهول دهشة. أما منظار ل. المقرّب الموضوع في النافذة، فقد كن يتطلعن إليه باستغراب كبير، ولابد أنّهن خلنه جهازاً من النوع الذي قد يفجر المبنى بكامله بغتة. وهن في الحقيقة، قرويات متوردات البشرة، حسنات الطبع، ولكنهن في جهلهن وافتقارهن للمدنية مثل سكان قارة استراليا الأصليين.
من الواضح أنّ أكبر الأربعة حجماً وأكثرهن تورداً – وهي عشيقة صاحب المنزل كما يبدو- هي من خرجت أولاً من حالة الذهول، وبدأت أسئلتها تنهمر مكررة إجاباتي في حس من الانتصار، كما لو أنّها تفسرها للبقية، وتستجوبني بتوق وبصورة غير مفاجئة كمجلس بايلي القديمة.
من أين جئناً؟ من فورنو دي زولدو! أجل أجل، فهي تعرف ذلك، فقد أخبرها الرجال في الطابق السفلي عن الكثير من الأمور. ولكن قبل فورنو دي زولدو. من أين جئنا قبل فورنو دي زولدو.
لقد جئنا بالتأكيد من مكان بعيد جداً- من lontana؟ على سبيل المثال. على سبيل المثال!- أين ولدنا! في إنجلترا! يا لمريم العذراء! في إنجلترا!
وهنا تلقي بأيديها إلى الأعلى، وتفعل الثلاث الأخريات الشيء نفسه! " ولكن هل أتيتن هكذا طوال الطريق من إنجلترا؟"
ماذا تعني بعبارتها "هكذا"، يستحيل الجزم بذلك. فهي على الأرجح تفترض أننا ركبنا البغلين طول المسافة براً وبحراً، مع حقيبة صغيرة سوداء لكلٍ على سبيل المتاع، ولكن الطريقة الأسهل هي هز الرأس نفياً.
" يا للروح القدس! ووحدكن؟ وحدكن تماماً؟"
مرة أخرى، لتجنب الشرح والتفسير، أومأت أن نعم.
" أيتها المسكينات! المسكيناتّ" " يا لصغيراتي! الصغيرات لصغيراتي!" هل انتن أخوات؟"
وهززنا الرأس هذه المرة بدلاً من الإيماءة.
" أمتزوجة أنتِ؟"
نفيٌ آخر، حيث تفاجأت حد الذعر في الغالب.
" هيا؟ الست متزوجة؟ كلتاكما؟"
" يا إلهي العظيم! وحدكما، ولستما متزوجتين؟ يا للمسكينات!، يا يا للمسكينات!"
وهنا صرن جميعاً يهتفن " مسكينات" في جوقة، بحس من الاهتمام الأصيل والعطف الذي شعرنا بالخزي من ضحكاتنا المستهترة التي لم نستطع كتمانها إثر سماع مواساتهن. وبما أنَّ التعب قد أخذ منا كل مأخذ، واشتدت رغبتنا في الراحة فقد اضطررت أخيراً إلى صرف الجوقة وقائدها، وعندما أيقنت من ذهابهم، أوصدت الباب من الداخل. وهكذا أخيراً استطعنا تناول وجبة الايبيج في سلام. وبما أننا كنا على بعد ساعتين فقط من الديار، وما زال لدينا النهار بطوله، نجحت الكاتبة في الحصول على رسم تمهيدي لجبل بيلمو كما يبدو من النافذة المفتوحة، إلى أسفل، في أقصى الوادي.
وما تبقى من الرحلة بشكل عام يمتد على طول شفير جبل فريزوليه، مروراً بكول دي سانتا لوشيا. وما بعد قرية سيلفا بقليل، دخلنا في الأراضي النمسوية، تاركيها مرة أخرى على جانب الهضبة فويق كابريل، ووصلنا إلى المنزل عبر طريق مألوف متعرج بعد الساعة السادسة مساء بقليل.
______________________________________
* تُلاحظ هذه القمم الثلجية بشكل عام على الجوانب قبالة قرية زوبي ووادي الامبيزو. والتي كنت أقارنها بدرجات العرش العملاق في مكان آخر. وتصعب ملاحظتها من وادي فيورينتينو.
______________________________________
.
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الثالث عشر- فرونو دي زولدو وزوبيه
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
----
لا تزال أمامنا طلعة أخرى مهمة لنقوم بها من كابريل، قبل أن ننهي معسكرنا ونغادر. يجب علينا الذهاب إلى ممر الليغي، وزيارة وادي زولدو، ونحج إلى قرية بعينها تدعى زوبيه، والتي كان يتردد عليها تيتيان، ثم نعود مروراً بوادي فيورينتينو.
لم تظهر بعد المواقع الرئيسية لهذه الرحلة. وقد اجتزنا بالفعل عدداً من الممرات، وعبرناً أودية غير قليلة، وقد أذهلتنا بشدة أعمال تيتيان على اختلاف درجات أصالتها، ولكن ما كنا نود رؤيته حقاً هو منظر الجهة الأخرى من جبل سيفيتا، والنظر عن كثب إلى جبل بيلمو. ويمكن الوصول إلى كليهما باتباع خط السير الذي رسمناه مسبقاً، وبما أنّ الوقت المحدد والمؤكد للبعثة لا يتجاوز الأيام الثلاثة، حزمنا حقائبنا السوداء مرة أخرى، وعبأنا سلة الزاد، ونهضنا في باكورة صباح مشرق، وغادرنا. وفي هذه المرة قام الشاب سيزاري بيزيه، الغاريبالديّ السابق، والذي لديه أخت متزوجة في بياف دي زولدو، ويريد رؤيتها، بالسير معنا تطوعاً- وهو رجل وسيم طويل كالعسكريين، بمعطفه المعلق بخفة على أحد كتفيه، وبمنديل حريري أصفر يطوّق عنقه، وباقة من القرنفل في قبعته، حاملاً عصى التسلق في يده.
وفي هذه المرة، مثل سابقتها، يسير طريقنا في البداية بجانب البحيرة، ولكن يضرب حاليا وراء قرية الليغي، ويصعد في الوادي الصغير اللطيف، مثقلًا بأشجار الجوز والليمون، يشقه غدير صقيل يكثر في حوضه المكسو بالطحالب- والتي اكتسب قاعه بسببها لوناً بنيّاً يذكرنا بإطارات العجلات القديمة.
يصعد الدرب ويتشعب باستمرار، يمر عبر الأراضي الزراعية، وبيوت المزارع، والحظائر، والحقول، والحدائق، والمنحدرات الخضراء التي تتخللها صفوف من الكتان الأصفر المنشور ليبيضّ تحت أشعة الشمس، ومدرجات إثر أخرى: قمح، وشعير، وكتّان، وقنّب، وبطاطا، والذرة الهندية ذات الأوراق الذهبية، والبراعم المزدانة ذات الشعيرات الرقيقة.
وكل ما ازداد ارتفاع الطريق ازداد جبل سيفيتا بدوره ارتفاعاً، فقممه الدنيا تنفصل عن بعضها في تناسب كبير مع الكتلة الرئيسية، بينما تشمخ القمم الحادة المدببة في كبد السماء الصافية الزرقاء.
ويتعاظم هيكل الجبل بالتالي مع كل خطوة إلى الأعلى في ذاك الطريق. الرقع البيضاء التي بدت مثل انجرافات الجليد على الوادي، تبدو الآن كما لو أنها أنهار جليدية يغلفها الثلج، و يتخللها وميض أزرق فضي، ومن حين لآخر، ونحن نقترب منها، تطلّ علينا هوّة دائرية غريبة أخرى، أو اوتشي” occchi” كما يسمونها هنا، على مقربة من أعلى قمة صغيرة، مثل حفرة شُقت في شفرة خنجر. وهكذا خرجنا بعد طول مسير من المضيق، في محاذاة مناظر من صفحة البحيرة ذات اللون الأخضر المزرق. تسلقنا مرجاً زلقاً وعراً أجرداً ليس فيه شجرة واحدة تحجب عنا حرارة الشمس المحرقة.
فجأة انبرى من تحت أقدام نيسول الأبيض، ثعبان طويل بلون أزرق فولاذي مرّقط باللون الأبيض، فأطلق كليمنتي شهقة حرب شديدة- ول. صرخة- بينما أطلق البغل صوتاً كالشخير من شدة الرعب! وثب غوسيبي والصغير بيزيه إلى الأمام بعصّاتيهما، وفي ثانية واحدة سقط الثعبان المسكين (الذي كان في سمك رسغ الإنسان، وحوالي أربعة أقدام طولاً، لكني أثق بأنّه غير مؤذٍ) صريعاً على جانب الطريق.
دخل الطريق الصخري الآن عبر أحد دروب البغال المهجورة الخالية الذي يحيط بجوانب جبل فيرنازا الكالحة- جبل بشع المنظر سحقت الانهيارات الصخرية المتعاقبة قممه المنخفضة السوداء في الماضي، فتغطت منها المنحدرات الجرداء بالركام المبعثر، والكتل القرمزية الضخمة اكتست ببثور من الاشنات السامّة. ندور الآن حول رأس الوادي الصغير الذي صعدناه عندما جئنا من الليغي، فوصلنا أخيراً إلى هضبة معشوشبة في سفح منحدر صخري معلق هو في الحقيقة- وإن كان السكان المحليون يدعونه جبل كولداي- الجناح الشمالي الشرقي العظيم لجبل سيفيتا لا سواه. ويبدو المنظر جميلاً إلى الأعلى من هنا، حيث يختبيء في أحد الأغوار بين الصخور نهير صغير يدعى لاغو كولداي، لكنْ لم يكن لدينا ما يكفي من الوقت للتسلق لرؤيته.
ينتهي الطريق بعد جبل كولداي بمضيق جميل تتناثر عليه الصخور، مثل مضيق افيزيو، حيث يؤدي صاعداً إلى الفيداجا الألبية. وشيئاً فشيئاً تبدد منظر واجهة جبل سيفيتا الواجمة التي تقع خلف صخور كولداي، وبالنظر إلى الخلف نجد أنَّ البحيرة قد غابت بعيداً عن الأنظار.
هبط جبل ساسو بيانكو الذي كان حتى الآن سامقاً في قلب السماء فجأة بكامله تحت الأفق، وقد حجبته مرتفعات جبل مارمولاتا التي لا يبدو لارتفاعها حدٌ. وقد حضرت في المشهد: جبال البوي، والسيما دي بابي، وجبل فيرنالي وساسو دي فال فريدا، والعديد من القمم الآخرى التي أصبحت مألوفة الآن. ولكن كان المارمولاتا هو وحده المستأثر على انتباه المرء، فمن الواضح أنّه يسود المشهد. لزمت غيمة شموس الآن مكانها في أعلى القمة وبدت تنقشع قليلاً قليلاً وتغادر الصخرة النبيلة المميزة وهي تتنفس الصعداء في وجه السماء الغربية.
"انظرواّ" يقول بيزيه الصغير لدى رؤيته الرسم الذي ما زال قيد التحضير. "لقد ألقت المارمولاتا بوشاحها جانباً لتُرسم صورتها".
إنّه منظر بديع للجبل، حتى وإن كانت جميع أنهاره الجليدية وثلوجه خارج مدى البصر. ومن هنا، كما كان الأمر من ساسي بيانكو، يرى المرء شكله الحقيقي، وقمته الفعلية، بينما لم يكن بالإمكان تشكيل أية فكرة من الموقع الأول ولا التقاط أي أثر منظور من موقعي تري ساسي أو فيداجا. وكان بمقدور كليمنتي التعرف على رأس الركام الثلجي الذي وضع عليه ف. ف. ت. جهاز الباروميتر خاصته عندما بلغ هذا القمة.
جبل مارمولاتا كما يبدو من ممر الليغي
والآن يبرز ممر معشوشب، على بعد ربع ساعة تقريبا من هنا في نهاية الطريق. يفترض أن نشاهد جبال فال دي زولدو من هناك، ونأخذ راحة منتصف اليوم تحت أي ظل نصادفه هناك. وهنالك أيضاً- كما يتنبأ بيزيه الصغير في بهجة- سوف نكون على مقربة من كوخ صيفي حيث يمكن شراء الحليب والقشدة أيضاً.
تابعنا السير بصبر نافذ، ولكن توقفنا فجأة قبل القمة بقليل، في دهشة لرؤية جبل بيلمو الذي يغطيه الثلج، محصّن ومذهل- يشمخ مرة واحدة كما يبدو من خلف المنحدرات وغابات التنوب إلى يسار الممر، وهو في قرب جبل سيفيتا إلينا. تصعد كتل البخار الهائلة وتهبط حول تلك البروج العظيمة، ولا تنكشف عنها بالكامل ولو للحظة واحدة أبداً، وتبدو كلٌ منها هي الأقوى لأثر تلك اللمسة من الغموض.
والآن على بعد بضع ياردات صعوداً، تختفي جبال المارمولاتا، والساسو بيانكو، والبوي، والبقية معاً، ويمتد أمامنا تحت ضوء الشمس مرج أخضر جميل، تزينه الصخور المنثورة، وأجمات التنوب، ويحده خط من قمم الجبال في روعة وجموح كل ما رأينا حتى الآن. ووفقاً للخريطة لا بد أنّ هذه هي السلسلة الكبرى التي تسود فيها قمتا جبل برامبير وجبل بيسيديل (كلاهما من القمم غير الموطوءة).
سنعسكر هنا في الأعلى لساعة ونصف الساعة، وسيخرج الشباب لرعي البغال بينما نتناول غداءنا. اختفي كليمنتي على جانب الهضبة، وعاد متثاقلاً حاملاً طبقاً من القشدة في كلتا يديه، والتي خُفقت مع النبيذ والسكر، وأُكلت في حضرة ذلك المشهد، وقد كانت تضاهي في لذتها "الكريمة الحلوة" التي تقوم حواء بإعدادها لتسلية الملائكة على أقل تقدير. يمر بنا الآن قطيع من الأبقار من الكوخ ليحدق في وجوهنا الغريبة، لقد دفع كليمنتي مبلغ نصف ليرة وهو ثمن باهظ جداً حد أنني بدأت أخشى أننا لابد أن أعطيناه قطعة ذهبية دون قصد.
ويؤدي الممر الضيق العميق الآن من أدنى قمة المعبر بقليل إلى حيث يفتح جبل فال دي زولدو على المدى واسعاً أمام خطواتنا، مشمساً، مصقولاً ومرصعاً بالقرى والأبراج.
والآن، أخيرًا، نرى ظهر جبل سيفيتا. أصبح أليفاً مثلما جميع النواحي المختلفة التي يتجلى بها الدولمايت بغرابة من اتجاهات متباينة بأسلوب لا يخلو من غرابة. وهنا يحدث تحوّل قد لا تتنبأ به أكثر المخيّلات تفرداً على الإطلاق. وحدث ولا حرج عن استحالة التعرف على جبل سيفيتا من جانب الزولدو، لأنَّ الجبل لا يشبه نفسه إلى حد مدهش، حتى إنّه على الرغم من ذلك، لابد للمرء أن يقول- حتى عند الدوران حول زاويته فقط- أنّ التباين في الشكل، والمعالم، والامتداد أيضاً، يتجاوز الحد المقبول في أغلب الأحوال. فهو هاديء، عمودي، ومهيب على جانب الليغي، ولكنه هنا جامح ومضطرب، ومتفاوت. فيبدو من ناحية الليغي واسعاً، شامخاً، منتظماً- ويتكون هنا من تتابع طويل من الدعائم الضخمة المتراخية تفصلها عن بعضها البعض وديان وعرة، تنبع منها مياهه و تتدفق سيوله. أما من كابريل فيبدو الجبل كما قلت آنفاً مثل آلة أورغ عملاقة، أما من هنا فيبدو كما لو أنّ كل أنبوب عمودي في واجهة تلك الآلة ليس سوى القطعة الأخيرة الصخرية الضيقة التي تنتهي إليها كل من هذه الركائز. وهكذا عند النظر إليها من منظور جانبي، لا أستطيع مقارنة وحشيتها وبربريتها بأي شيء كان، ناهيك عن منظر الدعامات الطائرة المزدانة والمنقوشة على نحو بديع أسفل سقف كاتدرائية ميلانو، والتي تعرف بالحديقة النباتية.
وقد قام السيد ف. ف. تاكيت بأول رحلة تسلق لجبل سيفيتا، والذي يعطي قيمة لارتفاعه تناهز 10.440 قدماً. وتُرى القمة الوحيدة المتوجة بالثلوج بسهولة من هذا الجانب، وتبدو كما لو أنّ الوصول إليها سهل ولا يتطلب كبير عناء.
يتمتع وادي زولدو بثراء زراعي كبير، وتتميز منازله الزراعية بالقوة والمتانة، ويبتسم وجه المدينة كلها ازدهاراً ورخاءً: القرى الصغيرة الغبراء المعتادة بجصّياتها الدينية المألوفة في الواجهات الرئيسية للمنازل، الكنائس الصغيرة العادية، ونوافير القرية ذاتها، تتبع إحداها الأخرى بكثافة أكبر من معظم القرى الأخرى.
وفي سان نيكولو حيث يضيق الوادي وتتقارب الصخور من نهر مايه المتسارع على مسافة بعيدة أسفلنا، سرنا في طريق ممتاز من الطرق المخصصة للعربات التي تجرها الجياد والذي يبدأ من هذه النقطة إلى لانغاروني، عبر منعطف هائل. ولدى إحدى القرى والتي تدعى دونت، على مسافة ما أسفل سان نيكولو، اقترحنا أن نتوقف لقضاء الليل: ولكن لتحذيرنا من افتقار النُزل إلى النظافة، والنظام بشكل عام، واصلنا المسير صوب فورنو دي زولدو حيث يخبر دليل بول عن "الغرف المريحة في فندق سيرسينا."
وصلنا بعد مضي ثلاثة أرباع الساعة، وحططنا رحالنا لدى بوابة منزل كبير جداً، قديم جداً، وذي مظهر غاية في القذارة على قمة طريق صغير منحدر في قلب القرية. مررنا عبر مطبخ حجري كئيب حيث يجلس حوالي خمسة عشر أو عشرين من عمال الحصاد يأكلون عصيدة الذرة في أطباق خبية. أُرشدنا إلى غرفة واسعة عبر درج مظلم، كانت أرضية الغرفة التي تراكمت عليها قذارة القرون. الأريكة، والمقاعد، وستائر النوافذ تبدو كما لو أنّها تتساقط نتفاً من البلى، ولا يربط بين أسمالها سوى خيوط العنكبوت.
تفتح النوافذ على مرج جانبي منحدر يحتشد فيه الأطفال الآن من كل أنحاء البلدة، ليس لشيء سوى إلصاق أنوفهم مقابل الألواح الزجاجية والتحديق بنا، حتى جلبت الشموع، وسحبت وأسدلت الستائر لإبعادهم.
ونسبة لأنَّ بهو الاستقبال، الذي يكون في معظم الفنادق التيرولية أنظف وأفضل مكان في المنزل، وهو الأكثر كآبة في وحشية أثاثه العتيق، والنقوش القديمة، والسروج البالية، وحقائب عدة الفرس، والجلود العارية، والأغراض المبعثرة المغبرة من كل الأنواع التي صادفت الأسماع أو الأنظار خارج أرض القرية.
أمّا سكان سيرسينا أنفسهم أشخاص راقون يتسمون بجمال السلوك، وقد امتلك أجدادهم العقارات في وادي زولدو لأكثر من خمسمائة سنة. كانت كنة المنزل بانتظارنا وهي امرأة شابة وجميلة، وتبدو عليها مظاهر التهذيب، وقد أصابتها متطلباتنا المتواضعة القليلة بالحزن. أما نحن فلم نكن مسافرين غير واقعيين، كما أعتقد، ولكننا كنا على الطريق راكبين وراجلين لفترة تقارب الاثنتي عشرة ساعة، ونأمل في بعض الماء والمناشف والطعام والقهوة وهي أشياء لا تنافي الطبيعة بأي حال. وعلينا الانتظار إلى الأبد لنحصل على جميع هذه الأشياء. حتى إن طلبنا مفرشاً للطاولة يعد مشكلة خطيرة، وكوننا لا نستطيع مثل عمال الحصاد أن نتناول عصيدة الذرة هو أكبر مما تستطيع السيدة الشابة سيرسينا احتماله.
وبعد فترة غير قصيرة أحضرت لنا بضع قطع صغيرة من اللحم المسوّد بالدخان، وطبقاً من السلاطة غير المغسولة، وبعض الفطائر الدسمة: وهذه السيدة الصغيرة، أثناء صلواتها، كما أتخيل، بينما تنتظر بجانب الطاولة، ثم تسير بهدوء إلى منظار زجاجي في الطرف الأقصى، ثم تحاول جاهدةً تجربة قبعة ل. وجميع خواتمي وأساوري.
لقد كان عشاءً فظيعاً، في أعقاب ليلة رهيبة شديدة الحر وثقيلة، ساهرة، ومفعمة بالحياة بطريقة تربط في ذهني وللأبد بين جبل فورنو زولدو والمثل العربي الذي يصف "ملاغا" بأنّها مدينة: " يرقص فيها الذباب على ألحان يعزفها البعوض."
جُلبت البغال باكراً في الصباح التالي، فأمامنا يوم طويل، حيث زوبيه، على مسافة تفوق الساعات الثلاث من فورنو دي زولدو، وعلينا زيارتها في الصباح، وقد قطعنا وعداً بناءً على طلب السيدة بيزيه أن نتصل بابنتها المتزوجة التي تسكن في بياف زولدون حوالي ربع ساعة صعوداً من فورنوز. وبينما كنا نتناول إفطارنا وقد تجاوز الوقت الساعة الخامسة صباحاً بقليل، رنت أجراس الكنيسة بنغمة جزلى. مما يشير إلى أحد أعياد القديسين أو مراسم الزفاف، فاستفسرت عن المناسبة السعيدة وعلمت، ولم يفاجئني ذلك، أنَّ أحد السكان المسنين والمحترمين جداً قد أسلم الروح.
يدعى وادي زوبيه أحياناً وادي روتورتو، وهو يتفرغ من وادي زولدو في زاوية حادة من موقع أسفل جبل فورنو بقليل، ويجري باتجاه الشمال صوب بيلمو. ويقع طريقنا هناك في البداية عبر سلسلة من القرى، كامبو، والبياف، ودوزا، وبرا، وبراغاريزا. مروراً بالبياف، التقينا بسيزاري بيزيه الذي كان سيأخذنا إلى مرسم فالينتينو غامبا، أحد نحاتّي الخشب، تعلّم النحت بنفسه. وهو يعيش في براغاريزا- قرية بائسة، خربة على جانب الهضبة المنحدر على بعد ميل أو اثنين، حيث لمحنا مرآه للمرة الأولى جالساً في يأس على عتبة كوخ صغير.
وعندما خاطبه بيزيه الشاب، ودعاه ليريه مرسمه، نهض في ارتباك، وسبقنا إلى الحجرة الخلفية الصغيرة حيث يوجد إطار بيضاوي هائل من خشب الصنوبر المحفور مخصص لمعرض فيينا لهذه السنة (1873). وهو غير عملي، مبالغ فيه، ومليء بالزخارف، وأشكال الفاكهة والزهور والآلات الموسيقية، وآلهة الحب، وما شابه ذلك، وكبير الحجم جداً وثقيل أيضاً، غير ملائم لمرآة ولا صورة، ولكنه مدهش في ذاته كمحاولة لعبقري لم يحز من التعليم نصيباً. وتمثال نصفيّ لإيطاليا، من الخشب أيضاً، مفعم بالتعابير الرقيقة والعذبة، وقد سرني أكثر من الإطار. وانشغل فكري بضرورة الاستعلام عن ثمن التمثال. إنّه بالحجم الطبيعي، ويزن- الله وحده يعلم كم يزن، ولكن بكل تأكيد يكافيء في الوزن كل ما نحمل من متاع مجموعاً إلى بعضه. ولم يتسنَّ لي طرح السؤال المشؤوم في وقت أبكر من الآن، لدى رؤيتي وميض أمل في وجه الرجل المسكين. عاتبت نفسي على ذلك التصرف. وقد طلب مني مائتي ليرة فقط ثمناً له- أقل من عشر جنيهات- ولكني لم أستطع أن أتحمل عبئاً إضافياً أكبر في رحلة كهذه مما لو كنت في برج الكنيسة. لذا طلبت بطاقته التعريفية، ووعدته بإرسال أصدقائي الإنجليز ليبحثوا عن إطاره الصيف القادم في فيينا. وغادرت وأنا في حرج لإدراكي بأنني قلت أكثر مما أردت قوله.
من براغاريزا يسير الطريق بين هضباب تكسوها الغابات على وادٍ صاعد بلا نهاية. وكلما ابتعدنا أصبح الطريق أشد وعورة وانحداراً، وكلما أقفر الوادي زاد صخب النهر. ثم أخيراً تعيّن علينا الترجل وترك البغال تتسلق وحدها. وكما البارحة، يبزغ فجأة منظر البيلمو، وهو أسمر مصفر، وحصون مخددة بالثلوج تظهر، وراء صفحة هضبة قريبة- قريبة جداً حتى أنّها تبدو وكأنّها تعتلي رؤوسنا. حالياً- لأننا في اللحظة المناسبة تماماً لرؤيته بوضوح لدقائق قليلة- تبحر سحابة بيضاء عظيمة ببطء من مكان ما على البعد، فتغطي ناحية الجبل بعباءة، لم تبقَ لنا سوى لمحات سريعة الزوال منه بين الفينة والآخرى، من خلال الفُرج التي تلوح بين أوشحة الضباب.
وأخيراً وصلنا إلى زوبيه، قرية صغيرة بنية اللون وكنيسة بيضاء تشرئب عالياً على جانب من الجبل أخضر، يشرف علينا من قمة درب يبلغ ارتفاعه 400 قدمٍ كاملٍ فوق مستوى سطح الوادي.
وتتضم تلك الكنيسة البيضاء الصغيرة في جنباتها أعمال لتيتيان، والتي تعتبر الأفضل في كافة أرجاء هذا الإقليم. وبعد رحلة مضنية طويلة نحو قمة الهضبة في شمس حارقة، على الأقل إلى البيوت والكنيسة. كان الباب مفتوحاً، فعبرناه إلى المظلة الباردة في الداخل، يتبعنا جميع الرجال الذين خرجوا من فناءٍ خشبي مجاور. وهناك وحول المذبح المرتفع، تتدلى لوحة تيتيان، بلا ستار، معفرة بالغبار، وشاحبة من دخان الشمعدانات طيلة قرون من القداسات. إنها لوحة صغيرة لا تتجاوز أبعادها أربعة أقدام في ثلاثة، وتظهر فيها العذراء والطفل على العرش، في رعاية القديس مرقس والقديس غيرولامو، مع القديسة حنّا الجالسة على عتبات العرش. إنّها لوحة معقدة ككل، فالعذراء والطفل مرسومان بأسلوب واقعي وصعب يعود لبواكير عهد المدرسة الألمانية، ويبدو كما لو أنه لم يصدر عن فرشاة تيتيان. فرسم القديس غيرولامو والقديسة حنّا بالكاد يرتفع عن المتوسط، ولكن يتسم رأس وكفا القديس مرقس بالجمال حقاً، وقد فاقا بقية اللوحة بكثير. الألوان هي الأخرى كانت غنية وثابتة في جميع أجزاء العمل.
لقد تم تلوين قطعة المذبح هذه، كما قيل. بناء على تكليف واحد من أعضاء عائلة بالاتيني في عام 1526، وصنفها السيد جلبرت من بين " أعمال تيتيان القليلة جداً التي لا يتطرق إليها الشكّ"، كما إنّها حظيت بالحماية في بين جبال الموطن الأصلي للفنان، ولكن بغضِّ النظر عن صيتها، فقد وجدت من الصعب تصديق أنّ المعلم العظيم لم يلوّن منها أكثر من رأس وكفيّ القديس مرقس.
وعندما سمع راعي الأبرشية بوجود غرباء في الكنيسة، أتى فوراً ليقوم بواجبه تجاه فنانه تيتيان. لقد كان قسّاً متواضعاً وبديناً، وردي السحنة، ولطيفاً، تفوح منه رائحة الثوم، ويلبس رداءً قصيراً باللون الأزرق الفاتح، وصدرية باللون الأزرق الفاتح، وجوارب رمادية اللون من الصوف، ومعطفًا كنسيًا أسودَ طويلًا، وقنينة قديمة تحوّل لونها إلى الأخضر بفعل الزمن. لقد كان يتحدث بسرعة وكثافة، مخبراً كيف أنَّ تيتيان قد جاء في يوم ما إلى زوبيه لتمضية العطلة إبان انتشار الطاعون، وكيف أنّه عمل على تلوين اللوحة من وقت لآخر، بأمر من النبيل المذكور آنفاً، والذي رغب في أن يضعها في الكنيسة كقربان للشكر، وكيف عُلقت هناك في احترام وهدوء لقرون؛ حتى جاء الفرنسيون بهذا الطريق في عهد نابليون الأول، وهددوا بتجريد الكمونة من كنزها، حيث صنع رجال زوبيه أسطوانة خشبية، ولفوا اللوحة عليها، ودفنوها في صندوق أسفل شجرة في الغابة. قال راعي الأبرشية "وانظر!، قد ترى علامات الأسطوانة على القماش حتى هذا اليوم. وما زالت الأسطوانة بحوزتنا، سيدتي، ما زلنا نحتفظ بالأسطوانة!"
قلت أنا شيئاً، لم أعد أتذكره، لتأكيد أنّ تيتيان العبقري كان يستحق الاهتمام بها، وأنَّ الكمونة لم تقيمها بدرجة أكبر.
" تقييمها!" كرر هو العبارة، فقام بغير داعٍ. " تقييمها يا سيدتي؟ بالطبع نحن نقيّمها. لقد عرضت علينا حكومات كثيرة شراءها. وكان بوسعنا بيعها بثلاثة آلاف دوكات من الذهب غداً، إن قررنا ذلك. حسنًا! نحن ستمائة نسمة هنا في بايزي. رجالنا فقراء- جميعهم-فلاحون في الصيف، وملازمون في الشتاء، لكن أعمال تيتيان لا تشترى بالمال!"
ولقد عرفنا فيما بعد أنّ راعي الكنيسة ذا الحس الجمعي هذا كان من اكبر صائدي حيوانات الشامواه في شبابه، وواحدًا من أوائل من تسلقوا أقاصي جبل البيلمو.
نغادر الآن قرية زوبيه على جانب هضبتها وهبطنا إلى الوادي مرة أخرى، نقتنص بعض اللمحات الرائعة من القمم العجيبة التي يتكشف عنها الضباب والغيوم باتجاه جبل سفورنيوي، وسلسلة بريماجيوري. والآن بعد استراحة قصيرة في ظل مجموعة من الأشجار بجانب إحدى العيون، نستأنف المسير مرة أخرى، فننزل إلى آخر الطريق، حتى نجد أنفسنا مرة أخرى في بياف دي زولدو، ونقف ببوابة منزل أبيض كبير، حيث رحبت بنا أخت الشاب بيزيه، السيدة بيليغريني. لقد تزوجت السيدة بيليغريني من رجل حاز الغنى وشرف المحتد معاً، ويعيش حياة بطريركية، لا تخلو من سعة ورغد في العيش، مثل الطبقة العليا الإنجليزية التي عاشت في عهد أسرة تيودور المالكة. تحمل مفاتيحها في حزامها، وتقوم بنفسها على شئون ألبانها وأجبانها وأبقارها وخنازيرها، ودواجنها، ومطبخها. اقتادتنا من خلال درج فسيح، عبر بهو عُلقت فيه صور أفراد عائلة بيليغريني الذين كان منهم الأساقفة، والمأمورون، والقباطنة، والسادة الذين تجّملت سحناتهم بالمساحيق، في معاطف مزدانة بالكشكشات والدانتيل، حتى انتهينا إلى غرفة استقبال حيث كانت المائدة معدة لتناول وجبة الغداء.
كان سيد المنزل غائباً حتماً، فهو في معرض للماشية في لانغاروني، ولكن حلَّ سيزاري بيزيه محله في الطاولة، حيث كان كل شيء طازجاً ووفيراً، وبيتي الصنع وشهياً.
ذهبنا بعد الغداء لزيارة الكنيسة-وهي ذات هيكل كبير، وصحن قوطي جميل، يحتوي على لوحتين أو ثلاث من اللوحات الإيطالية العجيبة العتيقة، ولوحة مذبح مهمة من أعمال الحفر لأندريه بروسيتولون، وغرينلينغ جيبونز من جنوب تيرول، مولود في وادي زولدو هذا عام 1662. إنّه موضوع غريب، وطريف، وتم تجسيده بطريقة مثيرة للإعجاب لكن النظر إليه لا يبعث على السرور. وهم يسمونه مذبح الأرواح Altare degli Animi. تجسّد شخصيتان، المعاناةَ الإنسانية والأسى البشري، ويحرس كل منهما هيكل عظمي للتحذير، ودعم منصة المذبح. ويتوّجُه من الأعلى ملاكان ولوحة الرحمة. كان التنفيذ متقناً، بيد أنّ العمل كان يترك في النفس انطباعاً مؤلماً للغاية.
تسكعنا في المساء بين الحقول والمروج التي تقع وراء القرية، ورسمت الكاتبة بعض القمم الغريبة ( يدعوها البعض جبل سيراتا، والآخرون روكيتا) والتي تُرى من كل ناحية من نواحي المكان. وهنالك بالطبع الصعوبة المعتادة في الإفلات من فخ المتطفلين. وقد حدقت فيّ سيدة عجوز ترتدي قباقيب خشبية لفترة طويلة من الزمن، من عتبة باب كوخها، فاتت تعرج، وتمسح الرسم في ذهول يكاد يثير الضحك.
جبل سيراتا
" لم تفعلين ذلك؟" تتساءل وهي تشير إليَّ بأصبع معروق، وهي تمعن النظر في وجهي من الجانب مثل غراب.
فأجبتها بأنني أفعل ذلك حتى أتذكر الجبل عندما أكون بعيدة عن هنا.
"وهل سيجعلك ذلك تتذكرينه؟" قالت هي في نبرة لا تخلو من ريبة.
وعن هذا أجبت بأنّه سوف لن يؤدي هذا الغرض فقط، بل سيكون سبباً في أن يعرفه الكثير من أصدقائي الذين لم يأتوا إلى هنا. ولا بدّ أنّ هذا، على أية حال، يفوق قدرتها على التصديق.
"ومن أين أنت؟" سألت تالياً- بعد صمت طويل.
وأجبتها:" من بلد سمعتِ عنه مراراً بلا شك، من إنجلترا."
" من إنجلترا! يا يسوع ماريا! من إنجلترا! وأين هي إنجلترا؟ هل هي قريبة من ميلانو؟" ولدى إخبارها بأنّها على مسافة أبعد بكثير من ميلانو وفي الاتجاه المعاكس تماماً، لم تزد على أن تهز رأسها في صمت من فرط ارتباكها. وطفقت تعرج عائدة من حيث أتت.
وعندما وصلت إلى منتصف المسافة على الجهة المقابلة من الطريق، توقفت قليلاً، في لحظة استراحة للتأمل، ثم قفلت عائدة، مسلحة بسؤال أخير.
" هيا! هلا أخبرتيني- اصدقيني القول- لم تأتون إلى هنا جميعكم؟ لم تسافرون؟"
وأجبت عن هذا السؤال بالطبع بأننا نسافر لنرى البلاد. فكررت عبارتي " لتروا البلاد!" فعقدت أصابع يديها الذاويتين قائلة: " يا ربي العظيم! إذن أليس لديكم جبال ولا أشجار في إنجلترا؟"
وفي ذلك المساء عندما كنا نتناول عشاءنا جاء غوسيبي ليقول إنَّ النحات الصغير موجود في الأسفل، وقد أحضر التمثال من براغاريزا، ليعرف إن كنت سأقدم له عرضاً بخصوصه. أحضر التمثال النصفي إلى هنا؟ فتصورته يرزأ به طوال الطريق المغبر- وأراه كما رأيته هذا الصباح، شاحباً، يبدو على محيّاه القلق، بارز المرفقين، وفي هذه اللحظة شعرت كما لو أنّ من قدري أن أعود وأشتريه. وما كان من ل. عندما رأتني إلا وأن نعتتني بالمجنونة الخطيرة، وحتى غوسيبي اضطر إلى تحذيري بأدبٍ قائلاً إن كانت السنيورة تريد حقاً شراء "الرأس الخشبية" فلابد أن نطلب بغلاً إضافياً في المستقبل لحمله. وعليه- وبدون أن تواتيني الجرأة الكافية للقائه- فلا يجب أن أرتكب حماقة كهذه- أرسلت إليه رفضاً مهذباً، ولم أسمع عن الرجل المسكين مجدداً.
وبحلول الساعة الخامسة والنصف صباحاً غادرنا مرة أخرى، ممتنين لرؤية فورنو دي زولدو في النهاية بفندقه القذر، وصاغته، وتجارة الحديد الصاخبة فيه. وهبطنا بعيداً بمحازاة النهر في تجويف زلق أسفل القرية، هناك ربما تُرى صفوف طويلة من الورش حيث يتصاعد الدخان على الدوام من الحرائق الكثيرة. وهنا رجال زولدو الذين يمتهن السواد الأعظم منهم الحدادة، وكانوا يصنعون المسامير من زمن سحيق، ويرسلون بضائعهم على ظهور البغال إلى لانغاروني في الأسفل، ويتلقون بالطريقة ذاتها خزائن من الحديد القديم من سينيدا، وكونيغليانو، وحتى من البندقية.
وسنعود اليوم إلى كابريل عبر ممر يقود من رأس وادي دي زولدو إلى رأس وادي فيورينتينو، ويدور حول سفح جبل بيلمو بين ذلك الجبل وجبل كروت؛ لأنَنا لم نك نفعل شيئاً في الساعات الأربع الأولى من الرحلة، سوى اقتفاء آثار مسارنا ليوم أمس الأسبق ببساطة لمسافة قصيرة بعد دونت (حيث يوجد طريق سهل وجميل يؤدي إلى اغورو عبر وادي دورام). يرتفع جبل البيلمو، شاحباً، وظليلاً وأكثر "هيبة"، بينما في سان نيكولو يعود جبل سيفيتا إلى الأنظار مرة أخرى- نصف متوارٍ خلف الضباب الفضي المتدحرج. في ما بعد ماريزون، حوالي نصف المسافة بين تلك القرية وبيكول، تنقسم الطرق، وننعطف من وادي زولدو صاعدين في وادٍ طويل معشوشب، مموج يقع بين جبل بيلمو، وجبل كروت، وظهر جبل فيرنازا. يعرف هذا الوادي باسم وادي بالافافيرا، وهو ملكية عامة لكمونتي ماريزون وبيكول، اللتين تقتسمان المراعي بينهما مناصفة. وبين جبل كروت- جبل صغير بيد أنّه جبل يأخذ شكل الهرم إلى حدٍ كبيرٍ- وجبل البيلمو، والذي يبدو من هنا مثل برج من أبراج بابل ملفوفاً بقطع من السحاب، ويرتفع هناك منحدر أخضر طويل يقود إلى قمة المعبر. ونأخذ أولى فترات الراحة هنا تحت ظل شجرة كبيرة على تلة يكسوها العشب. وقد رفعت السروج، واستخدمت كمقاعد، ونهلنا من العين القريبة التي تلفها الشجيرات ماءً صافياً، وذهب كليمنتي مرة أخرى لجلب القشدة من مزرعة حليب على مسافة ليست بالبعيدة. وهكذا طفقنا- جلوساً في الهواء الطلق، تحت أشد السماوات زرقة- نأكل القشدة بملاعق خشبية ومن طبق خشبي، ونأخذ راحتنا على الطريقة الرعوية النقية التي يتمناها حتى قلب الجميلة سكودري.
رحلة اليوم من الرحلات الطويلة، وسوف يكون من الضروري أن ندع البغال تأخذ راحتها مرة أخرى بين كل فترة وأخرى، وعليه فسنواصل المسير الآن، وحوالي منتصف النهار سنصل إلى قمة المعبر، الذي يدعوه البعض باسم معبر دي بالافافيرا، والبعض الآخر يطلق عليه اسم فورسيلا ستاولانزا.
وهكذا كان الطريق يتجه إلى الأسفل بين أشجار الصنوبر واللاريس المتناثرة حتى قاعدة جبل البيلمو. ويبدو في بداية الدولمايت الكبرى كبرج واحد فقط لا يخلو من غرابة، ثم برج آخر مايزال حتى الآن مختبئاً وراء الأول، يتجلى للأنظار شيئاً فشيئاً، وأخيراً انقسما، فبدت لنا قطعة من السماء الزرقاء بينهما. وكل انثناءة في الطريق الآن صارت تقرّبنا، وبالتالي تبدو تلك الكتلة الضخمة وكأنّها معلقة فوق رؤوسنا، وقد سدت علينا نصف قبة السماء، صخرة وراء صخرة، ومنحدر تلو الآخر.
والآن، وبما أننا على مدى مائتي قدم من سفح الجبل ، فقد أدركنا- علماً بأنّه يمكن معرفة ذلك بدون البدء في التسلق حتى_ كم هو مذهل في الحجم والانحدار والوعورة. لقد اقتربنا كثيراً حتى إنَّ صياد الشامواه بالكاد يزحف دون أن يُشاهد على طول واحد من هذه الجروف الضيقة، على ارتفاع ثلاثة أو أربعة آلاف قدم، بيد أنّ مدى الجبل بكامله هائلٌ، حتى إنّ امرأة كانت تسير في طريق يؤدي عبر منحدر الركام هناك، بدت بالكاد كنقطة سوداء على سطح صخرة.
يسدّ جبل بيلمو مشهد نهاية وادي فيورينتينو بكامله. يسير الدرب فوق جرف منخفض يقع في الجهة المقابلة، وهو فورسيلا فورادا (6896 قدماً) ويؤدي مباشرة إلى سان فيتو على سفح جبل الانتيلاو في وادي الامبيزو. وهو يقابل في موقعه فورسيلا ساتولانزا التي أتينا عبرها من سفح جبل سيفيتا في وادي زولدو. ويبدو ارتفاع جبل البيلمو، وفق ما هو مؤكد حتى الآن، 10.377 قدماً، وهذا للقول بأنّه يساوي في ارتفاعه جبل سيفيتا بفارق أقدام قليلة، ودون قمة الانتيلاو بحوالي 200 قدم بالكاد. وقد تكرر تسلق الجبل من قبل صيادي حيوانات الشمواه الشجعان الذين لا تنقصهم الجراة والقادمين من وادي زولدو، فقد اكتشفوا أربعة طرق منفصلة يمكن عن طريقها الوصول إلى الهضبة الكائنة أعلاه. كما كان فوكس من متسلقيه أيضاً، وكذلك مؤلف كتاب "الدليل إلى الألب الشرقية" والذي بدأ الصعود من جانب بوركا، فوق وادي ناغاروني. وأفضل طريقين على أية حال يفترض أنهما يبدآن إما من زوبيه أو فويق سان نيكولو في وادي زولدو. يصف السيد بيل جبل بيلمو بأنّه " قلعة عملاقة من أكثر البنيات ضخامة، تحميها تحصينات خارجية انهارت أسوارها في عدد من المواقع على جروف يبلغ انحدارها 2000 قدماً." ويقول أيضاً : " وقد زاد شبهها بالبناء بحقيقة أنَّ الطبقات تقع في مسارات أفقية، حيث صدف أنَّ العديد من المناطق الأشد انحدارا من الجبل اُزيحت باتجاه الحواف بحيث يتسع المجال لمرور حيوانات الشمواه ومطارديها."
ومن فورسيلا ستاولانزا، جبل روكيتا في وادي الامبيزو، وقد تجلى مرأى الرصيف المتعرج لبيك دي ميزودي للعيان فوق منحدرات فورسيلا فورادا. وتبرز أعلى قمم جبل سيفيتا فوق غابات التنوب التي تحد الواجهة الشرقية لجبل كروت، وعلى مبعدة، وراء منظر وادي فيورينتينو المشمس، وقمة جبل مارمولاتا الزرقاء الشاحبة في مواجهة الأفق، والتي تضفي ثلوجها على المنحدر لون الجليد الفضي.
والآن وبمحازاة مسار غدير فيورينتينو اليافع، نسير تاركين جبل بيلمو وهو يبتعد إلى الوراء مع كل خطوة. وبدأت قرى بيسكول، وسيلفا، وكول دي سانتا لوشيا، وجبل فريزوليه، وساسو بيانكو، تظهر واحدة تلو الأخرى.
نزلنا للحظات قصيرة في بيسكول، فزرنا كنيستها الصغيرة لرؤية وعاء خبز القربان المنقوش من أعمال الفنان بروسيتولون- وهو شيء صغير مثل اللعبة- وثبت أنّه تذكار لبلاداتشينو في كنيسة سان بيتر، على دعامتين من الأعمدة المبرومة المزينة بالأزهار، ومكلل بغطاء مزين، ويضم مجموعة مشهد صلب المسيح التي يقارب ارتفاع شخوصها الثلاث بوصات. وحشد من بعض الملائكة الصغار وأجساد الأطفال خارج الغطاء، اتسم تصميمها وتنفيذها بالرقة ويحفز الذاكرة على استحضار تصميمات لوكا ديلا روبيا. ويقدّر أهل بيسكول معبدهم الصغير، تماماً مثلما يفعل أهل زوبيه تجاه أعمال تيتيان، وقد آثروا الاحتفاظ بها على بيعها بأثمان باهظة.
إنّها الساعة الواحدة، وقد كنا على الطريق منذ الساعة الخامسة والنصف صباحاً. نال الرهق من بغالنا كل منال وبدأت تتعثر مع كل خطوة. يمتد وادي فيورنتينو على مد البصر، وبدت قرية سيلفا، حيث سنأخذ قسطاً من الراحة لحوالي ساعتين كاملتين، كما لو أنّها تزداد ابتعاداً عنّا.
وأخيراً وصلنا على أية حال، ووقفنا بباب فندق صغير على جانب الطريق، وهو أشد ما رأينا تقشفاً، ولكنه نظيف وجيد التهوية. وسيحظى البغلان هنا بنصيب وافر من الذرة الهندية، والخبز والنبيذ للرجال، وأُخذنا نحن إلى حجرة علوية بيضاء، فأشعلنا موقدنا الغازي لتحضير أحد أطباق الأطعمة الجاهزة من علامة لايبيج.
تبعتنا نساء المنزل- ثمّة أربعُ منهن- إلى غرفتنا هذه حالما قدمن الذرة والنبيذ في الأسفل. ووقفن فاغرات أفواههن فاتحات أعينهن على وسعها من شدة الفضول، يراقبن كل ما نفعل، كما قد تفعل مجموعة من الأطفال يراقبون حركات بعض الوحوش البرية الحبيسة في أحد الأقفاص. لقد قمن بتفحص قبعاتنا، ومظلاتنا، ومعاطفنا وكل شيء وضعناه جانباً. وقد أصابهن السخان بالذهول دهشة. أما منظار ل. المقرّب الموضوع في النافذة، فقد كن يتطلعن إليه باستغراب كبير، ولابد أنّهن خلنه جهازاً من النوع الذي قد يفجر المبنى بكامله بغتة. وهن في الحقيقة، قرويات متوردات البشرة، حسنات الطبع، ولكنهن في جهلهن وافتقارهن للمدنية مثل سكان قارة استراليا الأصليين.
من الواضح أنّ أكبر الأربعة حجماً وأكثرهن تورداً – وهي عشيقة صاحب المنزل كما يبدو- هي من خرجت أولاً من حالة الذهول، وبدأت أسئلتها تنهمر مكررة إجاباتي في حس من الانتصار، كما لو أنّها تفسرها للبقية، وتستجوبني بتوق وبصورة غير مفاجئة كمجلس بايلي القديمة.
من أين جئناً؟ من فورنو دي زولدو! أجل أجل، فهي تعرف ذلك، فقد أخبرها الرجال في الطابق السفلي عن الكثير من الأمور. ولكن قبل فورنو دي زولدو. من أين جئنا قبل فورنو دي زولدو.
لقد جئنا بالتأكيد من مكان بعيد جداً- من lontana؟ على سبيل المثال. على سبيل المثال!- أين ولدنا! في إنجلترا! يا لمريم العذراء! في إنجلترا!
وهنا تلقي بأيديها إلى الأعلى، وتفعل الثلاث الأخريات الشيء نفسه! " ولكن هل أتيتن هكذا طوال الطريق من إنجلترا؟"
ماذا تعني بعبارتها "هكذا"، يستحيل الجزم بذلك. فهي على الأرجح تفترض أننا ركبنا البغلين طول المسافة براً وبحراً، مع حقيبة صغيرة سوداء لكلٍ على سبيل المتاع، ولكن الطريقة الأسهل هي هز الرأس نفياً.
" يا للروح القدس! ووحدكن؟ وحدكن تماماً؟"
مرة أخرى، لتجنب الشرح والتفسير، أومأت أن نعم.
" أيتها المسكينات! المسكيناتّ" " يا لصغيراتي! الصغيرات لصغيراتي!" هل انتن أخوات؟"
وهززنا الرأس هذه المرة بدلاً من الإيماءة.
" أمتزوجة أنتِ؟"
نفيٌ آخر، حيث تفاجأت حد الذعر في الغالب.
" هيا؟ الست متزوجة؟ كلتاكما؟"
" يا إلهي العظيم! وحدكما، ولستما متزوجتين؟ يا للمسكينات!، يا يا للمسكينات!"
وهنا صرن جميعاً يهتفن " مسكينات" في جوقة، بحس من الاهتمام الأصيل والعطف الذي شعرنا بالخزي من ضحكاتنا المستهترة التي لم نستطع كتمانها إثر سماع مواساتهن. وبما أنَّ التعب قد أخذ منا كل مأخذ، واشتدت رغبتنا في الراحة فقد اضطررت أخيراً إلى صرف الجوقة وقائدها، وعندما أيقنت من ذهابهم، أوصدت الباب من الداخل. وهكذا أخيراً استطعنا تناول وجبة الايبيج في سلام. وبما أننا كنا على بعد ساعتين فقط من الديار، وما زال لدينا النهار بطوله، نجحت الكاتبة في الحصول على رسم تمهيدي لجبل بيلمو كما يبدو من النافذة المفتوحة، إلى أسفل، في أقصى الوادي.
وما تبقى من الرحلة بشكل عام يمتد على طول شفير جبل فريزوليه، مروراً بكول دي سانتا لوشيا. وما بعد قرية سيلفا بقليل، دخلنا في الأراضي النمسوية، تاركيها مرة أخرى على جانب الهضبة فويق كابريل، ووصلنا إلى المنزل عبر طريق مألوف متعرج بعد الساعة السادسة مساء بقليل.
______________________________________
* تُلاحظ هذه القمم الثلجية بشكل عام على الجوانب قبالة قرية زوبي ووادي الامبيزو. والتي كنت أقارنها بدرجات العرش العملاق في مكان آخر. وتصعب ملاحظتها من وادي فيورينتينو.
______________________________________
.
_______________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles