Arabic    

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الرابع عشر - من كابريل إلى بوتزن


2019-07-05 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة

 

 

 

 

قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
الباب الرابع عشر- من كابريل إلى بوتزن
تأليف:إيمليا إدواردز
ترجمة: أميمة قاسم
--
وأخيراً آن الأوان لمغادرة كابريل- مغادرة كابريل والدولميت، والطرق غير المطروقة لجنوب شرق تيرول، والترحال مرة أخرى عائدين إلى طرق إيطاليا وسويسرا السريعة المزدحمة.
أصبح محتماً علينا دخول العالم من جديد عبر مدينة بوتزن. و ربما كانت جميع الطرق تؤدي إلى روما، عندما يكون حجر الزاوية الذهبي في مركز العالم المعروف. وعليه فربما كانت جميع أودية الدولميت وممراته  تقود إلى بوتزن بطريقة أو بأخرى. ولا عجب إن كانت لدينا عدة مسارات للتخير منها ما يناسبنا. ولم يكن هنالك طريق لعربات الجياد سوى الطريق الجديد الذي يقع بين جبل ليتمار، والروزنغارتن، المعروف بممر كاريسا. كان هنالك طريق يمر بليفينالونغو والغادر تال المؤدي إلى برونيك، والسكة الحديد، من برونيك إلى بوتزن. ربما سرنا مجدداً في محازاة الأفيزيو في طريق طويل يشق  أودية الفاسا، وفيمي، وسيمبرا حتى لافيز، حيث تلتقي السيول بإيزاك ويلتقي الطريق بالسكة الحديد، في مكان ليس ببعيد من ترينت. أو ربما نأخذ طريق الغرودنر تال والألب السويسرية، ونسير بمحازاة البرينر من أتزوانغ، على ارتفاع ضئيل فوق بوتزن.
لقد قررنا أن نتبع المسار الأخير. وهو يتميز على غيره من المسارات بعدة فوائد. فهو أولاً سيتيح لنا فرصة بامتداده على طول وادي ليفينالونغو، لرؤية ثلاثة جوانب من المحيط الدائري لجبل سيلا الضخم، فيأخذنا إلى بلدة سان أولريتش، التي لها من الأهمية  في منطقة جنوب إقليم تيرول ما لمدينتي انترلاكن وبرينز في سويسرا في مجال تجارة الحفر على الأخشاب. ثم يأخذنا الطريق عبر سلسلة الألب السويسرية على مقربة من ظل جبال لانغ كوفل، بلات كوغل، سكليرن، وهي سانحة لطيفة لزيارة حمامات راتزس، و يهبط بنا أخيراً في مدينة بوتزن بعد سبعة أيام أو أقل حتى من وقت بداية الرحلة تقريباً.
فارقنا آل بيزيه المضيافين كما لو كنا نفارق أصدقاءَ لنا، وسرنا بعيداً ونحن نعدهم وأنفسنا بالعودة إلى مدينة كابريل مرة أخرى في المستقبل القريب. كان الطقس في الساعة الخامسة صباحاً يتسم بالاعتدال والإشراق. بيد أننا لبثنا بالفعل أياماً عدة في انتظار طقس أفضل، ولكن السماء لم تزل في تقلبها. كانت أصوات رنين الأجراس تتبعنا ونحن في طريقنا للخروج من القرية، وكانت المسيرة الصاخبة المعتادة تهدر باتجاه الكنيسة. كانوا سيصلّون هذه المرة من أجل طقس صحو بلا أمطار. 
هتف كليمنتي، " هاهم! هاهم!" وفي صوته نبرة ازدراء " تلك هي الطريقة التي يتبعونها، سيدتي! يراقب القس مقياس الضغط، وعندما يقترب وقت هطول المطر، ينادي في الناس ليجمعهم لصلاة السقيا. وربما أُمطروا قبل أن ينتهي القدّاس. ثم يصرخ " إنّها معجزة!"- وهم يصدقونه – أولئك الشياطين المثيرون للشفقة." 
وقد تجاوز طريقنا الذي يرتفع عن الأرض بالفعل من المسافة ما يبلغ معه فندق فينازيرز الصغير في أندراز. ثم عبرنا النّهير، وتركنا وادي بوخنشتاين الذي يزداد اتساعه ناحية اليمين، ويحف الآن بمنحدرات مضيق لانا التي تبدأ في الارتفاع الآن. يمتد بنا الدرب صعوداً نحو منبع وادي ليفينالونغو الرئيسي. وتوقفنا لساعة من الزمن لإطعام البغال في القرية الكبرى المعروفة باسمي ليفينالونغو و بياف اندراز معاً. حيث قُدمت لنا القهوة الممتازة في أنظف الغرف الخشبية، حملتها إلينا أكثر صاحبات المنزل البهيجات بدانة. إنَّ هؤلاء الأشخاص أيضاً ينتمون إلى فينازرز، وجيرانهم الذين يسكنون في المنزل المقابل، والذين يديرون بدورهم فندقاً صغيراً هم من الفينازرز: الشيء الذي زاد من حيرتنا إذ أنَّ الفندق الوحيد كان مريحاً جدا، بينما اتسم الآخر بوجود تقارير تثير الشكوك حوله. كان أجودهما يقع إلى جهة الشرق، وهذا للقول بأنّه يقع إلى يمين المسافرين المتوجهين إلى كابريل. وتشرف القرية، اسمها كابولوجو، ومركز بريد الضاحية على حافة جرف شديد الانحدار، ويزيد ارتفاعها بنحو 1500 قدمٍ عن علو مدينة كابريل. كان المنظر من سطح الكنيسة رائعًا جداً، ولا يستحوذ عليه مجرى نُهير كورديفولي العميق وحده من منبعه في رأس الوادي نزولاً لغاية موقع مدينة كابريل، ولكنه يضم أيضاً جبل سيفيتا، والمارمولاتا، وجبل بادون (أو ميزولا)، وسيلا الهائل ومجموعة من القمم التي تقل عنها أهمية. 
 يرتفع الوادي ببطء وثبات من موقع نهر البياف باندراز حتى آرابا- قرية خشبية بائسة المنظر على سفح المنحدرات أدنى جروف جبل سيلا الجنوبية. وكلما ارتفع أصبح أكثر مَحْلاً وأقل إثارة للاهتمام.  والقمم المسننة لجبل بادون، تخرج تدريجياً من قلنسوتها التي نسجتها السحب العنيدة، فيظهر لونها القرمزي المسوّد مقابل السماء. وبين الفينة والأخرى يأخذنا الطريق المتعرج، على نحو ما، بمحازاة وادي فيورنتينو، وأكثر ارتفاعاً من منحدرات جبل فريزوليه المتشابكة، فنعانق-بشكل غير متوقع- طلعة جبل بيلمو الشبحية، الرائعة، النائية البعد، تغلق نهاية المشهد البديع في طوله وتألقه، فنراه للحظات قليلة فقط، وللمرة الأخيرة، إذ أنَّ الطريق باتجاهه للداخل، يتلاشى- مثل جبل سيفيتا ومارمولاتا اللذيْن تواريا عن الأنظار تماماً هذه اللحظة.  وسوف لن نحظى برؤيتهما بعد الآن في مسار رحلتنا الحالية، ومن يعلم متى سنراهما مجدداً – هذا إنْ كان ذلك مقدّرًا لنا من الأساس.
والآن يتمدد جبل سيلا العملاق على الأفق بطوله- وتتكدس مجموعة من أكثر من الأبراج السمراء المصفرة سُمكاً، مثل بضع عشرات من جبال البيلمو الفحمية اللون المتراصة على مسافات شديدة القرب من بعضها البعض. وتبدو الكتلة كما لو أنّها تقسّم نفسها بشكل طبيعي إلى خمسة أجزاء هي على التوالي، كمونة بويه، أو بوردوي سبيتز التي تسد رأس وادي الفاسا، وسيلا سبيتز، ويطلّ على وادي غرودنر، ويشرف البيسادو سبيتز من عل على ممر كولوسكو، وماسور سبيتز الذي يواجه كورفارا ووادي الغدير، وكومولونغو سبيتز، التي تفرض سيادتها على ممر كامبونغو، والذي نسير صوبه الآن.  وبينما نحث الخطى باتجاه الشمال صاعدين في المضيق المقفر إلى اليمين، تاركين آرابا ووادي ليفينالونو بعيداً وراءناً في الأسفل، تصادفنا هذه الحصون العملاقة القريبة في الجانب الأيسر على الدوام. والشجيرات هنا قليلة ومتقزمة. وقد اختفت أزهار الألب هنا مفسحة المجال للشجيرات الجافة الخالية من الأوراق. كما غابت عنه أيضاً أزهار الزنابق الذهبية، والجنتيانا، والزهور البرية اليانعة التي زينت معظم الممرات الأخرى وزادتها جمالاً: هذا عدا حفنة من براعم زهور اليديلويس الهزيلة التي تخبيء نفسها هنا وهناك بين الصخور المكسوّة بالطحالب. وقد كان الرجال يعملون في الحصاد ،على أية حال، فوق جميع المنحدرات، منهمكين في حصاد القش الهزيل وهم يغنون أثناء العمل. في البداية يصل إلى أسماعنا صوت واحد، ثم آخر، يلتقط اللحن. ويعود الصدى فيتردد بين جنبات الوادي، والآن يخفت شيئاً فشيئاً، ثم يتصاعد مرة أخرى، عذباً، منساباً، وجامحاً مثل تغريد الطيور - والتي قد ألقت بظلالها بلا شك في جميع هذه الألحان السويدية والتيرولية في الأصل. 
والآن بالقرب من قمة المعبر، والجبال الجديدة تتقدم صاعدة على الأفق الشمالي- الصليب المقدس، أو Heiligen Kreuz، وهو جبل طويل ينتهي باتجاه الغرب بقمتين توأمين، مثل كاتدرائية لها برجان اثنان قصيران: وقد اتخذت القبة شكل الكاتدرائية ذات البرجين القصيرين، وجرف فيريلا الذي يشبه القبة، وممر ساس انغار، أو ساسندر كوفيل الذي هو في الحقيقة مركز خارجي لجبل غويردينازا العملاق. 
حال وصولنا إلى قمة الممر وشروعنا في الهبوط، سمعناً دوياً طويلاً وهادراً للرعد من على البعد يصدر من جانب ليفينالونغو، وبالنظر إلى الخلف رأينا السحب تتجمع بسرعة تحت أقدامنا. وفي الأسفل، تقع كمونة كورفارا، في الأسفل، في قلب غور أخضر وموحش، وهي تتكون من حوالي عشرة منازل وكنيسة صغيرة. والطريق منحدر ورطب وزلق- ثبتت البغال حوافرها عليه بمشقة كبيرة- فالعاصفة قادمة. وعليه أسرعنا، وكنا ننزلق تارة ونتعثر تارة أخرى ونحن نسير بأقصى سرعة ممكنة، وصلنا الآن وسط الرعود والبروق إلى مدخل فندق روتينارا. ويتكون هذا النُزُل الصغير من منزلين، أحدهما حديث والآخر قديم. كان المنزل الجديد محجوزاً للطبقة الأرقى من المسافرين، وليس به غرفة عامة ولا مطبخ. تشغل العائلة المنزل القديم، وتطبخ به، ويستضاف فيه المرشدون والمزارعون المسافرون. وقد بني المنزل من خشب الصنوبر اللامع الجديد اللطيف، وأرضيات الطابق العلوي جميعها من الخشب، وكذلك الجدران والسقوف. أما الطابق الأرضي فقد جُصِّصت غرفه وطليت بالجير الأبيض. 
هل كنا لنحلم بأن نصادف شيئًا من الفن في مكان كهذا؟ من كان يحلم بأنّ الفلاح الشيخ الرزين الذي يغطيه غبار الطحين، والذي قاد لتوّه البغال إلى الإسطبل هو في الواقع أبٌ لفنان شاب ذي موهبة استثنائية؟ ولكنه كان كذلك. فرانز روتينارا، ابن مضيفنا، طالب فنون في فيينا. كان المنزل يعجّ برسوماته التمهيدية. وقد كان أول ما يراه المرء أثناء الصعود إلى الطابق الأعلى لوحة بالطول الكامل لشخصية هوفر في بهو، وقد تم تنفيذها على الجدران بالألوان، بالحجم الطبيعي، مرسومة بطريقة مثيرة للإعجاب، حيث كان يضع شعاراً على يده اليمنى، ورباط بندقيته معلقًا على كاهله. يستخدم أحد أطراف غرفة النوم الكبرى كغرفة معيشة، حيث عُلقت بعض الدراسات الأساسية للطبيعة الصامتة بألوان الزيت، وعدة رؤوس متقنة الرسم بالقلم الرصاص. وفي الطابق السفلي في غرفة تشبه المخزن إلى حد ما، حيث يتم نشر المعاطف المبللة لتجف، وقد تغطت كل بوصة من الجدار المطليّ بالجير الأبيض برسوم لرؤوس، وأذرع وأكف، ورسوم كاريكاتورية، ورسوم نصفية وكاملة لفريردرك الأكبر، وغوته، وشيلر، والمجنون، ومفستوفيليس، وهاملت، وجذع البلفيدير، قتال المصارع، والصياد المتوحش، والكثير مما أعجز عن إيفائه حقه ذكراً وعداً.
أجابت الفتاة الجميلة الصغيرة التي قدمت لنا العشاء على أسئلتنا حول" أخيها الذي في فيينا" دون كلل أو ملل. لقد قام بتلوين هاتين اللوحتين من الطبيعة الصامتة عندما كان هنا في الصيف الماضي، أما جصّية هوفر فمنذ أربع سنوات خلت. لقد كان دائماً يرسم، منذ صباه الباكر، وكان قد تلقى دروساً في ميونخ قبل أن يقصد فيينا. إنّه هنا الآن- لقد عاد ليلة البارحة ليؤدي شهر الخدمة السنوي مع سلاح البندقية في كورفارا، وقد ذهب إلى فوق التلة ليلتقي ببعض الأصدقاء في قرية مجاورة. 
وفي آخر اليوم، عندما يعود الفنان الشاب من "فوق التلة"، سيقوم بزيارتنا بطلب مني. إنّه لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره بعد، وهو حيّي كفتاة. تحدثنا قليلاً عن الفنون، ولكن بما إنَّ الهر فرانز ليس ماهراً في الحديث باللغة الإيطالية، ومستوى الكاتبة في اللغة الألمانية كان محدوداً، فقد ضاع جزء كبير بالضرورة من محتوى الحوار الفني الذي دار بيننا، ولكني خرجت منه بما يكفي لرؤية أنّه يمتلك ما يلزم لمهنة ثابتة في المجال، فلديه طموح يزينه الصبر، والحماسة العميقة لدارس الفن الألماني، وأؤمن بأنّ القدر سيكون إلى جانبه في وضع بصمته الخاصة بمرور الوقت.  
طبعا تقع قرية كورفارا، على الحدود النمساوية، وسكانها نمساويون جميعا كما لو أنَّ بلدتيْ كامبيديلو وكابريل ليستا على بعد سويعات قليلة من بعضهما البعض. لقد كان الهر فرانز هو الوحيد الذي يتحدث الإيطالية بين أفراد عائلته. فلا روتينارا العجوز ولا ابنته، ولا أي شخص في أنحاء القرية ما عدا القس يفهم أيَّ مقطع لفظي من أية لغة أخرى غير لغتهم الأم. 
مفاجأة كورفارا الكبرى، على أية حال، تكمن في كنيستها. وبعد ذلك كله لم يكن من المدهش رؤية عبقري منعزل يبرز هنا وهناك، حتى في أكثر البيئات صعوبة. وعلى بعد أميال قليلة من مسقط رأس تيتيان وجدنا آل غيدينا. وفي الوادي حيث ولد بروسيتولون، صادفنا الشاب نحات الخشب الذي من براغاريزا. وبالتالي لم يكن في إنتاج كورفارا لفنانها الخاص ما يثير الدهشة إلى حد كبير. ولكن من المؤكد أنّه أمر مذهل إلى حد ما، عندما تجولنا في الخارج هنا وهناك بعد هدوء العاصفة التي تمخضت عن رذاذ ممل- فحظينا ببعض لمحات هناك في الكنيسة الصغيرة المتواضعة المنظر، ووجدنا أنفسنا محاطين بأكثر الزخارف ترفاً. هنا، حيث على المرء ألا يتوقع سوى الجير الأبيض، تكسو الجدران زخارف العصور الوسطى المعقدة، والأضرحة، والمذابح، والألواح الثلاثية المليئة بنقوش وتصاوير القديسين، والتي زادها التذهيب القشيب روعة وجمالاً، الحوامل، وشُرُفات آلات الأورغ، والمقاعد التي نُحتت بعناية، وقد تم تنفيذ كل هذا وفق الأسلوب القوطي الألماني القديم، ويبدو كل شيء جديداً، ومتوهجاً بالذهب الصقيل ويزهو بالألوان.
كان من المذهل جداً رؤية هذه الروعة، لأننا لم نتمكن في الدقائق الأولى من فعل شيء سوى التسكع في صمت، وزادت تلك الدهشة عندما التقينا الآن بالقس صدفة. لقد عرفنا منه أنَّ جميع أشكال الزينة هذه من صنع أهل البلدة الفلاحين- بأيدي العاملين في حصاد القش ذاتهم الذين استمعنا لغنائهم هذا الصباح في الحقل- وقد صمموها بأنفسهم، ونقشوها بأناملهم، ولونوها بأيديهم، وهم الذين قاموا بعملية التذهيب، فهي قرابين مقدسة قدموها بأيديهم وبحرّ إرادتهم. إنّه مكان صغير، وعدد السكان لا يزيد على 260 أو 270 نسمة بما في ذلك الأطفال يقول القسيس مبتسماً: " ولكنهم جميعاً من الفنانين". 
إنّه قسٌّ نبيل، ويعبر عن نفسه بلغة "إيطالية منتقاة بعناية". ويصف كورفارا محتجاً بأسلوب يتسم بالتهذيب والأدب بأنّها: "بقعة منسية خارج العالم": وعن الكنيسة يقول- على الرغم من أنَّ المرء يخال أنّه لا محالة يشعر بالفخر حيالها- "جميلة بالنسبة لمكان فقير كهذا." وعندما مدحت الزينة، رفع كتفيه استهجاناً، الشيء الذي يشير إلى أنّه ربما كان من يُفضّل تنفيذها بإمكانيات أكبر.  
" إننا نملك شيئاً واحداً رائعاً، لم تره السيدات بعد، ولكنه شيء سيسرني أن أريهن إياه، إن لم يكن لديهن مانع في تكبد مشقة العودة."
عليه عدنا أدراجنا- لقد حدث هذا اللقاء أمام بوابة فناء الكنيسة- فدخلنا الكنيسة مرة أخرى، وتبعناه حتى ظهر المذبح، حيث كان هناك زوج من الأبواب الملونة والتي طويت الآن بعيداً عن النظر، ولكنها تعاد إلى الجانب الأمامي في فترة الصوم الكبير كما يقول. هذه اللوحات تجسّد قطع رأس القديسة كاثرين، التي كرُست لها هذه الكنيسة. ووفقاً للراعي، فإنها قد نُفذت في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر بأنامل فنان إيطالي يدعى تيشيني، والذي كما تقول القصة ( وهي القصة ذاتها دائماً عندما يتعلق الأمر بكنوز القرية) قد حبسته أحوال الطقس السيئة في كورفارا، فرسم هذه اللوحات وقدمها للكنيسة نظير حفاوة استقبال القس له وكرم ضيافته. وليس لدى راعينا ما يقوله أكثر من ذلك. فهو لا يعرف أكثر مما أعرفه، من كان هذا التشيني؟ ومتى عاش وأين؟ أو متى جاء. ليس هنالك ذكر له في الأجزاء الشاملة لكروي وكافالكاسيل في كتاب " التلوين في شمال إيطاليا،" وأعماله في كورفارا لم تحصل على سطر واحد من الاهتمام في صفحات دليل بول، أوكتاب السيدين جلبرت وتشيرشل:" جبال الدولمايت". وأنا، الذي لم أسمع عنه من قبل، أستطيع الحكم فقط من أسلوب عمله أنّه كان من شمال إيطاليا ويتبع المدرسة البيلنيسكية. وقد اتسمت اللوحات، والمنفذة على ألواح، بالأسلوب الكريستالي البراق القديم، وتذكرني بعمل ميملنغ حتى أكثر من أعمال الفنانين الفريوليين.  كانت القديسة كاثرين  نحيلة، مستديرة الوجه، شقراء، ذات سحنة ألمانية، بينما اللمسة النهائية المتقنة للأزياء، والاستخدام الرقيق للتذهيب، والمعالجة الدقيقة للنقوش والتراكيب، تذكرني بأحد أعمال كارلو كريفيلي.
هنالك أربع لوحات أخرى، مرسومة على الألواح أيضاً، للقديسة كاثرين وغيرها من القديسين تزين واجهة المذبح. كانت هذه الأعمال أكثر عمقاً في أسلوبها، ولكن من الواضح أنّها تنتمي إلى الفترة ذاتها، ويعتقد القس أنّها قد رُسمت بالأنامل ذاتها. وجميع هذه اللوحات مثيرة للاهتمام على كل المستويات: بينما اللوحة الأكبر في الخلف نادرة لدرجة لا يرقى إليها الشك من حيث الجمال والقيمة. 
وبينما كنا نغادر الكنيسة، أتت فتاتان صغيرتان جرياً وراء القس، لتقبِّلا يده: وهو فعل يدل على الاحترام، وقد طلب منا الإذن بطريقته الاعتذارية المبتسمة، قائلاً إنّها العادة هنا، وأنّ الأطفال "بسطاء ويتصفون بحسن النية".
وبما أننا وصلنا الآن إلى مفترق الطرق، فقد تمنى لنا رحلة سعيدة، ورفع قلنسوته الضيقة الصغيرة في تهذيب، واستدار عائداً إلى منزله- وهو منزل أبيض بهيج المنظر ذي ستائر أنيقة وأصص للزهور في النوافذ، وكلب بدين من نوع البودل يربض عند الباب. 
والآن ونحن في طريق عودتنا إلى الفندق، بدأت قطرات المطر تزداد سمكاً، والضوء يضعف شيئاً فشيئاً، نحن نواجه ظاهرة. تقف في الفناء الصغير بين الفندق والملحق، التصفيق والإيماء وسط مجموعة قوامها عائلة روتينارا، ومرشدينا، وثلة متنوعة من الرجال وصَبية الإسطبل وهي ترتدي  زوجاً من الأحذية القصيرة، وقبعة من القش المضروب، ورداءً بنياً ربما يجوز تشبيهه إما كتنورة طويلة، أو كأقصر الصدريات. كان شعرها رملياً ولونه قرمزيّ، وربما كانت في أي عمر بين الخامسة والأربعين والستين. وتحمل حقيبة ظهر على ظهرها، وعصا للتسلق في يدها. كان الصوت صوت رجل، والوجه مسمّر وعليه من غبار السفر ما عليه، وهو وجه امرأة. لقد كانت تثرثر بالألمانية- وكانت على ما يبدو تصف رحلة يومها الشاقة عبر الجبال- ويبدو أنّها راضية عن الضحكات المدوية التي تقاطع سردها الفينة بعد الأخرى. 
" مرشد؟" تستغرب، وهي تجيب على ملاحظة لأحد المتفرجين. " لا لست أنا! ما الذي أريده من مرشد؟ لقد حملت حقيبتي بنفسي، وسرت في طريقي من فرنسا، فسرت خلال إنجلترا، وعبر إيطاليا، وأنحاء فلسطين. ولم أستخدم مرشداً أبداً من قبل، ولم أتمنَّ أن يكون لدي واحد. أنتم جميعاً كسالى، وليس لدي علاقة بكم. فالتعب لا يعني لي شيئاً- والمسافة لا تسوى شيئاً بالنسبة لي- والخطر ليس بشيءٍ في قاموسي. لقد اختطفني اللصوص من قبل. ماذا عن ذلك؟ فإن كان معي مرشد فهل كان سيقاتلهم؟ محال أن يفعل ذلك! بل كان سيطلق ساقيه هرباً. 
حسناً لم أقاتل ولم أهرب. لقد صادقت خاطفيّ- وقمت بتلوين صور لهم- لقد أمضيت شهراً معهم، ثم افترقنا، كانوا أفضل رفاق في العالم. أف! المرشدون، بالله عليكم؟ فكلهم لا نفع لهم سوى مع العاجزين،  ليس معي. إنني لا أخشى شيئاً، لا البابا ولا الشيطان". 
تفاجأت إلى حد ما بسبب هذه الخطبة النارية، ودخلنا، وغادرت وهي تتحدث. وأنا لا أعرف إن كان قد خالجني هذا الشعور بالامتنان والراحة العميقين قط  أكثر من اللحظة التي عرفت فيها أنّ هذه السيدة ألمانية. إنّها ليست بالغريبة في كورفارا، على ما يبدو، ولكنها تظهر بين كل فترة وأخرى في هذا الزي المجنون، وفي بعض الأحيان تمكث في فندق روتينارا لعدة أسابيع معاً. فهي تلون، وتدرس النباتات، وأعتقد أنّها قالت إنّها تكتب أيضاً. غوسيبي الذي يصفها بالسيدة " القبيحة جداً والمبهجة جداً" يخبرنا في اليوم التالي كيف قد تناولت عشاءها في الليلة الماضية على مائدة المرشدين، حيث حظوا بالكثير من المتعة والمرح.
الطريق من كورفارا إلى سان اولريتش يقع على طول وادي غدير تال، عبر قرية كولفوسكو، وصعوداً في الوادي الموحش بين جبل الغويردينازا والسيلا العملاقين.* ولم تك ثمة نفس حية في كولفوسكو أثناء مرورنا خلالها- لم يكن هنالك شيء سوى المسيح الهزيل الشبحي على جانب أحد المنازل، يكاد يكون بالحجم الحقيقي، وهو ملطخ من الرأس إلى القدم بشكل مرعب برشاش يبدو كأنه دم. وكانت القرية قد خرجت عن بكرة أبيها إلى فوق التلال، - 
"الأكبر والأصغر 
يعملان مع الأقوى" 
في حصاد القش.
ومن فوق بلدة كورفارا وإلى غاية سطح الممر، يمرّ طريقنا قريباً تحت المنحدرات الهائلة لذلك الجزء من جبل سيلا المعروف بالبيسادو سبيتز. ويتمتع الجبل في هذا الجانب بتناسب رائع، ويحتفظ دوماً بشبهه غير المسبوق بقلعة عملاقة، وتظهر بين الحين والآخر من خلال الجروف في تلك الحصون العملاقة، لمحات من هضبة ثلجية رائعة بين جنباته، وطيات زرقاء من الجليد الذي يزحف إلى الأسفل هنا وهناك، أو هبوط غطاء من الضباب. وكلما صعدنا إلى الأعلى، أفسحت آخر حزم الذرة والكتان مكانها للفضاء الواسع النائي للمرج المائي الذي تقطنه شبكة من دروب الماشية غير المنتظمة، والمنتشرة في المكان مثلها مثل عدد من الصلبان الخشبية. كانت هذه العلامات حيث وُجد المسافرون وهم موتى. إنّهم يقولون ذلك في كورفارا إنَّ ممر كولفوسكو هذا هو الأخطر بين جميع ممرات الدولمايت، وإنَّ الريح  في الشتاء تهتاج هنا بغضب حتى أنّها تسوق الثلج والبرد في سحب عظيمة تدفن وتخنق الرجال والماشية أثناء حركتها. وليس ثمة طريق محدد هناك أيضاً، كما إنَّ الغدر من شيم المستنقعات أينما كانت. 
والآن بلغنا القمة وتجاوزناها، ويرتفع جبل لانغ كوفيل إلى اليسار فوق الغابات وقمم الهضاب، والبرج المنعزل بصخوره العديدة. المضيق المسقوف يكسوه غطاء رقيق من غابات أشجار التنوب التي تتسع أمامنا، والمطر الوشيك الطويل الذي يبدأ مرة أخرى غزيراً وسريعاً، والطريق الذي استحال فجأة إلى آخر شديد الانحدار على نحو تصعب معه القيادة فيه، فكان علينا الترجل والمشي في عاصفة تشتد، هبوطاً في جانب شديد الانحدار من الجبل حتى حديقة القديسة مريم. أولى القرى في رأس وادي غرودنر تال. وهنا جلسنا في استراحة صغيرة حتى استعادت السماء صفوها من جديد، ثم حثثنا الخطى متجهين إلى قرية القديس اولريتش. 
أصبح طريقنا الآن يقع على طول وادي الغرودنر تال: أخضر ومكسو بالغابات، مطهم بمناظر القرى. كان جبل سيلا يتلاشى من المشهد تدريجياً وهو يتجه إلى الوراء جهة اليسار. وأصبح جبل لانغ كوفيل الآن أكثر ارتفاعاً وشموخاً. وأضحى جبل بلات كوغل مرتفعاً مثل نصف قبة ليأخذ مكانه في المشهد. ومنحدرات مرج سيسر الألبية المغطاة بالأشجار والقريبة من الوادي إلى اليسار، وجبل الاسكليرن، الذي يرى للمرة الأولى ضمن مشهد الوادي، الذي يظهر كجدار صخري أسود منحدر عليه بقع من الجليد هنا وهناك. 
لقد غاب الآن آخر أثر لإيطاليا. غدت جميع المناظر الطبيعية والبيوت والأشخاص والأسماء واللافتات فوق الأبواب ألمانية الطابع. أصبح الفلاحون يلتقون في الطريق في مجموعات رباعية، شُقرٌ، زرق العيون وأجلاف. يحمل الرجال المشغولات الخشبية على ظهورهم، كما في سويسرا. وقد بدت اللافتات والرموز المميزة التي لا تكاد تخطئها العين تنبئ باقترابنا من سان اولريتش. ازداد حجم الصلبان التي على الطريق، وحسُنت نقوشها و زهت ألوانها وقد تميز البعض منها بالذهب. وبعد كل فترة والأخرى نمر بكوخ ينتصب بالقرب من مدخله قفص تتكدس فيه الخيول الخشبية الصغيرة. وفي بوابة منزل آخر كان أحد العمال يقوم بتلميع كرسيّ منحوت بعناية. و نمر الآن بعربة محمّلة بسيقان العرائس فقط لا سواها، وقد لونت كل ساق بجورب أبيض أنيق وصندل أخضر زمردي اللون!
وها قد ظهرت عاصمة أرض الألعاب تظهر للعيان- قرية فخمة الهيئة، كثيفة المنازل تتناثر على مساحة عريضة طويلة على امتداد منحدرات الضفة الغربية للغدير. كانت المنازل عبارة عن مساكن ألمانية تيرولية حقيقية، واسعة، كثيرة النوافذ، عريضة المزاريب وذات أبواب لامعة الخضرة، وواجهات الحدائق تعجّ بالأزهار. وهنالك كنيستان- واحدة صغيرة عتيقة تقع في الجزء الأدنى، والأخرى كبيرة أنيقة وتقع في  الجزء الأعلى، وبرج جرس بصَليّ مطلي باللون الأحمر. وبها نصف دزينة على الأقل من الفنادق، تبدو عليها جميعا مظاهر النظافة والازدهار. باختصار كان المكان بشكل عام  ذا سمت تجاري مشرق ورائج، مثل بلدة صناعية سويسرية. وهنا في فندق الحصان الأبيض، استقبلتنا مجموعة من الفتيات الباسمات بحفاوة بالغة، كن جميعهن شقيقات، أخذننا إلى غرفنا التي كانت ممتازة، وقدمن لنا اللحم المشوي وثمار الأجاص المجففة للعشاء، ثم تقاسمن أداء بعض مقاطع الأغاني والعزف على القانون في تلك الأمسية للترويح عنّا.
وقد هبت في تلك الليلة عاصفة رعدية أخرى، تلتها ثلاثة أيام سيئة الطقس، كان لدينا أثناءها من الوقت ما يكفي للسؤال عن الحرفة العجيبة لهذه البلدة، ورؤية الناس في العمل. 
ونظراً لأنّ هذه البلدة هي عاصمة أرض الألعاب كما قلت من قبل. لم نكن نعرف عن سان اولريتش شيئاً قبل عدة أسابيع فقط، وحتى عندها لم تكن المعلومة دقيقة، كقرية تصنع فيها الألعاب الخشبية وتماثيل المسيح التي تنصب على الأرصفة، والآن وجدنا أنّنا كنا على علاقة حميمة بالمكان منذ طفولتنا الباكرة. إنَّ الحيوان الجميل على المنصة المدولبة الصغيرة التي كنا نعتبرها حصاناً أسودَ، تنتشر على جسده بقع على هيئة أقراص قرمزية اللون، وله عُرفٌ وذيل مصنوعان من وشاح من الفرو العتيق- من سلالة غرودنر تال النقية. وهذه الدمى الخشبية المجمعة من كل الأحجام، من أطفال لا يزيد طولها عن نصف بوصة، إلى أمهات لعائلات يصل ارتفاعها إلى قدمين، والتي تزول سحناتها دائما عند غسل وجوهها- إنهم سكان الأرض الأصليين. تلك الأعضاء الصغيرة المبهجة ذات الأنابيب الحمراء والبراميل المسننة، التي تديرها أشد الدمى التي عرفناها احتمالاً للأعمال الشاقة في العمل. وصناديق المناظر الطبيعية هذه التي تقف أشجارها المجعدة المخروطية الشكل، ومنازلها ذات السقوف الحمراء تجسيداً صادقاً "لتيمبي ووديان الأركاديا": إنّ سفينة نوح (منزل تيرولي في زورق) تكون فيه الحيوانات أصدق طبيعة من أصولها التي تعيش في حدائق الحيوان، وإنّ القرود بلا شك مرحلة انتقالية بين الإنسان والقرد، وإنّه يمضي حياته منكباً على طرف عصا، وتلك الأحصنة الهزازة التي تشبه جوانبها الأمامية والخلفية كرسيًّا بمسندين للذراعين. إنّ تلك العربة ذات البراميل الثابتة، وأولئك الجنود الخشبيين ذوي الخصر الصغير والأنوف المثلثة بشكل خارق للطبيعة- جميع هذه الأشياء- كل كنوز طفولتك وطفولتي الأولى الغريبة المألوفة الرخيصة- جميعها أتت، أيها القاريء، من سان اولريتش. وهي ما زالت تصدر من سان اولريتش إلى يومنا هذا- وسوف تظل كذلك، عندما نصبح أنا وأنت في طي النسيان. لأننا محض بشرٍ فانين، ولكنَّ هؤلاء المحاربين الخشبيين وتلك العرائس المجمعة تحمل حيواتٍ سحرية، ويظل شبابها عصياً على البلى، متجدداً إلى الأبد. 
أما أكبر مستودعين للبيع بالجملة في القرية فتعود ملكيتهما للهر بيرجر والسيدين إنسام وبرينوت، وهما يبرزان مؤسستيهما في استعداد وتمدن. إنني لا أعرف حقاً متى رأيت مشهداً هكذا يجمع بين الغرابة الفائقة والتسلية الممتعة. ففي متجر إنسام وبرينوت وحده، طوّف بنا حول أكثر من ثلاثين من غرف العرض الكبيرة، وقد كانت اثنتا عشرة غرفة منها ملأى بالدمى،  لا أعرف متى رأيت منظراً غاية في الغرابة والترفيه معاً- الملايين منها، الكبيرة والصغيرة، والملونة وغير الملونة، في سلال وحقائب وعلى الأرفف، وفي طرود محزومة ومعدة للتصدير. وفي إحدى الغرف التي خصصت للأقزام بحجم بوصة ونصف طولاً، تكدست العرائس في كومة بشكل عشوائي من الأرض حتى السقف حرفياً. وقد بدت كما لو أنّها قد ألقيت على الأرض من العربات المحملة. وغرفة أخرى تحتوي فقط على الأحصنة: وغرفتين أخريان مخصصتان للعربات التي تجرها الجياد، وممر طويل مكدس بالمنصات الخشبية دون سواها ليتم تركيبها مع الأحصنة تباعاً. وغرفة خرى تحتوي على رؤوس الدمى. أما العلية الكبيرة المظلمة في سطح المنزل فهي مجهزة بالكامل بالسلال الهائلة الحجم، مثل قبو النبيذ، وقد امتلأت كل سلة إلى حدها بنوع مختلف من اللعب، جميعها من الخشب فقط، بانتظار التلوين. وقد كانت الأقبية هي الأخرى مملوءة ببضائع من النوع ذاته، ملونة وجاهزة للبيع. والآن، جميع سكان البلدة، رجالاً ونساءً سواءً، تربوا على أحد أقسام هذه الصناعة في قناعة وافتقار للطموح، وبدأوا العمل من عمر السادسة أو السابعة، وقد كان العمل مستمراً بلا انقطاع على مدار السنة. ولم يتوقف بائعو التجزئة عن طلب هذه المنتجات. وقد أظهرت نتيجة آخر تعداد سكاني أنَّ  عدد العاملين في الحفر على الخشب يبلغ 2000 شخصاً من مجمل عدد السكان البالغ 3493 نسمة فقط. وحدث ولا حرج عن نسبة العاملين في التلوين والتذهيب. وبعض هؤلاء المشتغلين في الحفر على الخشب والتلوين فنانون بالمعنى الأصيل للكلمة، أما الآخرون فمجرد آلات بشرية تضطلع بصنع الدمى، بينما تقوم آلات بشرية أرى بصنع علب الكبريت وأعواد الثقاب. ويتوقع من صانع الدمى "البارع" أن ينهي عمل عشرين دزينة من الدمى المصغرة المركبة التي يبلغ طولها بوصة ونصف في اليوم، ومن هذا الحجم وحده يشتري إنسام وبرينوت 30 ألفاً في الأسبوع طوال السنة. أما النظام الدوري فهو بالنسبة لبائعي الجملة الذين يشترون البضائع مباشرة من الصانعين، ليقوموا بتخزينها لديهم حتى يتم طلبها ولا يخرجونها إلا إلى التلوين، لأنّ الطلب يكون من لندن أو أي مكان آخر. وعليه فإنّ عمل النحات يكون منتظماً ومتقناً، ولكن يفتقر عمل الملّون إلى الاستقرار لاعتماده على طلب التلوين من عدمه.
أما مخازن الهر بيرجر، على الرغم من امتلائها بالدمى وغيرها من الألعاب، فتحتوي معظم أجزائها على منتجات تفوق تلك التي تباع في محلات السيدين إنسام وبرينوت من حيث القيمة والمستوى الفني. جميع الاستديوهات في أوروبا مزينة بالرسوم التشكيلية لشخصيات بأحجام كبيرة أو صغيرة من متاجر الهر بيرجر، بل أيضاً تحتضن نماذج لأحصنة أنيقة البنية. وهنا أيضاً، تتدرج بشكل كبير جميع أطوال الممرات خافتة الإضاءة، وتقف صفوف من القديسات الجميلات، بالحجم الطبيعي، و ملونة بجمال، يرتدين الثياب الغنية بالنقوش والحفر بالذهب:- القديسة سيسيليا، مع نموذج  مصغر لآلة الأورغ، والقديس ثيودور البطولي بدرعه المتلأليء، والقديس الوقور الوسيم كريستوفر مع الأطفال المسحاء على أكتافهم، والقديسون الفلوريانز بدلائِهم، ونماذج السيدة العذراء المتوجة بالنجوم، والراهبات مثل الأم دولوروساس، والإنجيليون بشعاراتهم، القديس بطرس بمفاتيحه، ومجموعة من القديسين الآخرين، والملائكة والشهداء. وجدنا في الممرات الأخرى نسخاً لذات الشركة الكبرى بجميع درجات الصغر.  وفي غرفة أخرى لدينا مسحاء بجميع الأحجام، ولجميع الأغراض، ملونة وغير ملونة، بالعاج والأبنوس والخشب، من أجل تزيين جرن الماء المقدس، ومن أجل المصلى، ومذبح الكنيسة، والأضرحة على جانب الطريق. بعض هذه الأعمال تستوفي شروط العمل الفنيّ، وقد تمت قولبتها بدقة، وفي أحوال كثيرة يتم تلوينها بشكل متقن للغاية. وهنالك محاكاة بالحجم الكامل لتمثال الرحمة تم صنعه بواقعية متقنة، ليس من أجل الحياة بل من أجل الموت، وكان ذلك أمراً مذهلاً للغاية. وربما خشيت من الجزم بعدد الغرف التي تمتليء بالمسحاء الصغار التي مررنا بها بينما كنا نصعد إلى الطوابق العليا لدار الهر بيرجر الواسعة. لقد كانت موجودة في جميع الأحوا ، تعدّ بمئات الآلاف، من جميع الأنواع، وكل الأثمان، وكل مراحل التنفيذ. وفي العلية رأينا أتلالاً من السلال المخصصة فقط لتخزين أكاليل الشوك. 
وقد خصصنا يوم واحد لزيارة المنازل واحداً واحداً، ورؤية الناس وهم يعملون. وبما أنّ المئات منهم يقومون بفعل الأشياء ذاتها في الواقع، وقد كانوا يقومون بها طوال حياتهم، بدون أية أفكار تتجاوز القسم الذي يعملون فيه الآن، فقد سادت حالة من التشابه الحتمي في هذا الجزء من الجولة والتي كان من الممل تكرارها. وسوف أقدم على أية حال مثالاً أو اثنين. 
وفي منزل واحد وجدنا امرأة متقدمة في السن جداً تعمل، واسمها ماجدلينا بالدوف. لقد كانت تنحت القطط، والكلاب، والذئاب والخراف، والماعز والأفيال. وظلت طوال عمرها تصنع هذه الحيوانات الستة، وليس لديها أية فكرة عن كيفية نحت أي شيء آخر. وهي تصنعها بقياسين، وتنتج ما يقارب الألف قطعة كل سنة. ليس لها نموذج ولا رسم لأي نوع منها لتعمل وفقاً له، ولكنها تمضي في عملها بإتقان وأناة، مستخدمة  قطع الخشب من شتى الأحجام، وتشكّل قططها وكلابها وذئابها وأغنامها ومعزاتها، وأفيالها بسهولة وقدر من الصدق تجاه الطبيعة إلى حد يمكن وصفه بالعبقرية إن لم تكن غاية في الآلية. لقد تعلمت ماجدلينا بالدوف من والدتها طريقة نحت هذه الحيوانات الستة، وقد تعلمت أمها، بالطريقة ذاتها من جدتها. وقامت ماجدلينا الآن بتدريس الفن لحفيدتها، وهكذا سوف يتم توارث الفن عبر الأجيال.
في المنزل المجاور، الويس سينونر، رجل بني السحنة، وسيم، وقوي البنية يرتدي قميصاً أزرق، وينحت تماثيل المسيح الكبيرة للكنائس. لقد وجدناه يعمل على واحد بثلاثة أرباع الحجم الطبيعي. وكان الشكل الكامل عدا الذراعين في قطعة واحدة، مثبتة على قضيب حديدي بين عمودين اثنين، حتى يستطيع إدارته وفق رغبته. إنّها لا تزال قطعة خام، نصف جذع شجرة، ونصف إله، وبها جمال غريب مثير للشفقة ينبثق من القسمات التي لم تكتمل بعد. إنّ رؤية الهر سينونر في العمل لمشهد بديع. ولم يكن لديه هو الآخر، مثالٌ، ولم تكن قد عُلّمت بالنقاط حتى كما هو متعارف عليه عند الحفر على الرخام. لم يكن لديه دليل من أي نوع، ماعدا معرفته التامة ولكنه ينهمك في العمل بطريقة رائعة. يقوم بتجريف الخشب إلى قشور طويلة في كل من ضرباته السريعة، ويبعث بالقطع الطائرة في كل اتجاه. بيد أنّ الويس سينونر هنا فنان. ويتطلب منه صنع تمثال بثلاثة أرباع الحجم الكامل عشرة أيام من العمل، وخمسة عشر يوماً لتنفيذ واحد بالحجم الطبيعي. وبالنسبة لهذا الأخير فإنَّ تكلفة الخشب تصل إلى خمسة عشر فلوريناً، والثمن الذي يطلبه للتمثال من الحجم الطبيعي خمسة وأربعون فلورينا، أي حوالي أربعة جنيهات وعشرة شلنات إنجليزية. 
ووجدنا في منزل آخر، أسرة بكاملها تنحت الجماجم والعظام المتقاطعة، ليتم تركيبها على قواعد الصلب- ومن الواضح أنّه ليس قسماً مبهجاً من هذه الحرفة. وتنحت الأسر في منازل أخرى الأحصنة الهزازة، والدمى، وجميع اللعب المذكورة آنفاً، وفي غيرها أسر من الرسامين. وتقوم النساء بتلوين اللعب العادية بشكل رئيسي. وفي أحد المنازل وجدنا حوالي عشر فتيات يلونّ الأحصنة الرمادية بنقط سوداء. وفي منزل آخر قمن بتلوين الأحصنة الحمراء فقط بنقط بيضاء. إنّه قسم مستقل من الصنعة لتلوين السروج واللُجُم. بوسع اليد الخبيرة تلوين اثنتي عشرة دزينة من الأحصنة في اليوم، ويبلغ طول كل حصان حوالي قدم واحد.  وعلى هذا فهي تكسب خمسة وخمسين سولدي، أي ما يعادل شِلنين وثلاث بنسات إنجليزية.  
لقد تأملت لفترة ما في تفاصيل هذه الصنعة الغريبة، وذلك بسبب أنه رغم ممارستها في مكان ناء وبعيد، وبطريقة غاية في التقليدية، إلا أنّها ما تزال تزود شريحة كبيرة من المشترين في العالم بدمىً من إنتاجها. ويقال إنَّ هذا الفن قد دخل إلى الوادي في بداية القرن الماضي، بشهادة الإمدادات التي لا تنضب من أخشاب الصنوبر الحجري، أو pinus cembra  الذي تنتجه غابات الغرودنر تال، وهو الخشب الذي يستخدم بشكل خاص للنحت الزهيد، كونه ناصع البياض، ناعم النسيج، وصلبًا، ومع ذلك فهو طري وسهل العمل عليه.  
وقد قام سكان سان اولريتش مؤخراً بترميم كنيستهم الرئيسية وتزيينها. وقد أصبحت الأجمل في جنوب تيرول الآن. إنَّ النحت على الحجر والتزيين الخارجي تم ترميمه بواسطة الهر بليز اوفينتورا من بريكستن، أما النوافذ الملونة فقد نفذها ناكايزر من إنسبروك. والزخرفة المتعددة الألوان بواسطة الهر بارت من سان اولريتش، والتماثيل الخشبية الكبيرة بيد الهر موشنيت، وهو أيضاً من سان اولريتش والشخصيات الأصغر حجماً على المذابح والمنبر، مثلها مثل النحت الخشبي بشكل عام نفذت جميعها بواسطة فنانين محليين. وقد استخدمت الألوان وتقنية التذهيب بسخاء بالطبع في جميع الأجزاء الداخلية، ولكن الأثر العام كان يتمثل في الترف والانسجام وليس في المغالاة على أقل تقدير. تتدلى من فوق المذبح العالي، نسخة ممتازة من عذراء سيمابويه الفلورنسية الشهيرة. 
تسمى لهجة غرودنر تال بلغة لادين، ومن المفترض أنّها مشتقة بشكل مباشر من اللاتينية الأصلية في وقت يتزامن مع فترة الحكم الروماني. وهي تختلف بشكل واسع عن لهجات اللغة الإيطالية الحديثة، وعلى الرغم من أنّها في بعض المواقع تكون أقرب تجسيداً للغة الريتو رومانسك المتحدثة في كريسونس، والرومانية الدنيا لإنجادين، فهي لا تتميز بعد، كما قيل لنا،  بشكل منفصل من الاثنتين عن طريق " فروق محددة جيداً في كل من النحو والمعجمية،" كما تشير " إلى القرابة أكثر من هوية المخزون" وأولئك الذين يقرون مع شتايب بوحدة اللغتين الريتيكية  والترورية، ومن يتفق ونيبوهر في التصديق بأنَّ الريتيكية في هذه المناطق من الألب عبارة عن المخزون التروري الأصلي، يعزز القول بوجود أصل أبعد لهذا الجزء المفرد من إحدى اللغات القديمة. 
وبلا شك يبدو أنه من المعقول جداً افتراض أن اتجاه موجة الهجرة في الأصل كان من الجبال إلى السهول، بدلاً عن القول بأنّ سكان مسطحات اللومباردي الخصيبة الأصليين قد استعمروا بالضرورة تلك المعاقل الألبية القاحلة نسبياً. ويلقى هذا الرأي- تجازف الكاتبة بالاعتقاد- دعماً كبيراً من حقيقة أنَّ عدداً كبيراً من البرونز المدفون، الذي يتسم بالصفات الأترورية، قد تم اكتشافه في عدة مناسبات خلال السنوات الخمس الأخيرة في ضاحية سان اولريتش الحالية. وقد جمعت هذه الأشياء واضطلع الهر بيرجعر  بتنظيمها على نحو يتسم بالذكاء، وترى الآن في معرضه. فهي تعبيء خزانتين اثنتين، وتضم الأدوات العادية المكتشفة في مقابر تعود لتأريخ مبكر، مثل الأساور، والخواتم، والأبازيم، وآلات عزم الدوران، والأقراط، والأسلحة، وغيرها وغيرها.  
وربما اهتم علماء فقه اللغة بمعرفة وجود كتاب عجيب هناك حول غرودنر تال، ولغته، مع المخزون وقواعد النحو للغة ذاتها، لدان جوزيف ويان، وهو من سكان فاسا تال، ويعمل الآن راعياً لكنيسة سان اولريتش.
ومن سان اولريتش إلى مرج السيسر الألبي، يقودنا الطريق صعوداً عبر وادٍ تكسوه الغابات يعرف باسم مضيق بافلر. وفي مزاج يعكره الملل من الانتظار الطويل لطقس أكثر ملاءمة للسفر، بدأنا أخيراً في صباح يتأرجح صفوه بين الشك واليقين، فوجدنا الطرقات مبللة وزلقة، وتعكرت جداول الجبال من المطر الذي ظل يهطل طوال الأيام الثلاثة الماضية. وانتشرت المساكن النظيفة المزدانة بجصّيات للقديسين والسيدة العذراء بكثافة على المنحدرات الدنيا باتجاه سان اولريتش، تحفها الحدائق الغنية بالمناحل والزهور مثل الأكواخ الإنجليزية. وتضمحل تدريجياً بينما نواصل الهبوط على المضيق، ويصل المشهد إلى نهايته باجتياز الكنيسة الصغيرة الوحيدة وقرية سان بيترو. 
ومن ثم أصبح الطريق طويلاً وزلقاً لبضع ساعات، ووصلنا أخيراً إلى مستوى تلك الهضبة الشاسعة الخصيبة المعروفة باسم سيسزر الألب- وهي الأكبر والأجمل بالتأكيد بين جميع المراعي الجبلية بأقليم تيرول الأعلى. تتناثر عليها مجموعات من أشجار التنوب الداكنة اللون، وأكواخ صغيرة بنّية وقطعان من الماشية الوديعة، وجماعات التبانين. وتحرسها نصف دائرة من الجبال العملاقة المهيبة، تموج مبتعدة، ومعها عشبها الأشد خضرة، وزهورها البرية الأغنى، لأميال وأميال حولنا. وهناك إلى الجنوب الغربي، تتدحرج الهضبة العظمى حتى سفح جبل سكليرن، والذي يتجلى على هذا الجانب بشموخ وهيبة من بين غيوم الضباب الكثيفة. وثمة قمة منخفضة من الصخور المهشمة السوداء تدعى روس-زان أو فك الحصان، وقد اشتق الاسم من شبهها بصف من الأسنان المتساقطة في عظم فك صخري، وهي تربط جبل سكليرن بالطرف الشمالي من سلسلة روزينغارتن، من جهة والطرف الجنوبي من مرج السيسر الألبي، وبالقمة التي يبرز منها جبلا بلات كوغل ولانغ كوفيل. ولكن الروزينغارتن متوارية جدا وسط الضباب الذي لا يفتأ يحلّق مع الريح من جانب مدينة بوتزن. 
وعلى أية حال فإنَّ جبل لانغ كوفل كئيب وموحش، يحده برواز متعرج من الجليد المعلق فوق صدع عميق في وسط قممه المشرئبة، وجبل  بلات كوغل* يربض مثل علجوم عملاق، مديرًا  ظهره ناحية جبل سكيلرن، الذي يظهر وحيداً، وفي بعض الأحيان كلاهما معاً، تحت الشمس المشرقة أو في الظل، كما تتجمع الأبخرة وتتفرق. 
إنّه منظر عريض متجدد، يستوعب جبل المارمولاتا وجبل توفانا والكثير من القمم الشهيرة أيضاً، ويمكن رؤيته من هنا، ولكن الغمام يلف ذلك الجانب بالكامل اليوم، ولا يفلت من ستار الضباب سوى جبلي سيلا وغيردينازا الهائلين الشامخين. وبين الفينة والأخرى يُرفع الستار للحظة باتجاه الغرب، فنحصل على لمحات وجيزة من الهضاب المكسوة بالغابات، والأودية المتألقة تحدها سلاسل الجبال البعيدة، الزرقاء والرقيقة والحالمة، كما لو أنّها مرسومة على الجو المشمس. 
ولكن (فضلاً عن امتياز المنظر على ثلاثة من الجيران، جبل لانغ كوفيل، وجبل بلات كوغل، وجبل سكليرن). فإنّ روعة مرج سيسر الألبية تكمن في مرآه- مرأى مرج سيسر الألبية- تخيل أحد البراري الأمريكية قد ارتفع بشكل فعلي إلى ما فوق هضبة يتراوح ارتفاعها ما بين  5.500  إلى6000 قدم- تخيل أنَّ بحراً مائجا من العشب الطويل قد حاز على  طوفان عاتٍ من أشعة الشمس الصيفية، والظلال الطافية للسحب- لاحظ كيف يتسنى لهذا العالم العلوي من المراعي إطعام الف وثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة رأس من الماشية القرْناء، بما في ذلك ثلاثمائة من مساكن الرعاة وأربعمائة من شاليهات القش، لدعم العدد الصيفي الكبير من التبانة، وقطعان الماشية، وهو لا يزيد في المساحة عن ستة وثلاثين ميلاً إنجليزياً في محيطه، ثم بعد كل ذلك، أشك في عدالة أي صورة ذهنية قد تتشكل في مخيلتك. إنَّ الهواء هنا نقي لحد لا يوصف، ومنعش وزكي. الشيء الذي يوفر لنا طريقاً يقود إلى الأعلى من سويسرا أو كمونة كاستيلروث، وفندق جيد إلى حد ما على رأسه، أما مرج سيسر باعتباره منتجعاً جبلياً، فسوف يتفوق على مونتي جينيروسو، والبيسبرون، وسيليسبيرغ، وكل البلدات "الصيفية" في هذا الجانب من إيطاليا خارج المنافسة. 
يحفظ مزارعو هذه الأجزاء أساطير كثيرة عن بحيرة تعود لما قبل التأريخ، يقال إنّها كانت في الزمان القديم تحتل مركز هذه الهضبة الألبية، وهي أسطورة تكتسب بعض لونها من حقيقة أنها دون فجوة مضيق بافلر في الأسفل التي يجري ماؤها إلى وادي غرودنر، وسوف تكون هنالك بحيرة في هذا الوقت في منطقة الضغط الجوي المنخفض على القمة. 
وبعد التسكع والبقاء هنا لبضع ساعات تقريباً، بدأنا أخيراً الهبوط باتجاه مجرى الشيبيتاك، وهو نهر يجري في قاع الصدع العميق الذي يقسم مرج السيسر الألبي من الواجهة الشمالية الغربية لجبل سكليرن.* ونأتي الآن لكوخ بائع جبن على بعد بضع مئات من الأقدام تحت حافة الهضبة، لقد طلبنا استراحة منتصف النهار. وهكذا قدمت لنا طاولة وأريكة ووضعتا في الظل، كانت السيدة الطيبة تمدنا بأطباق خشبية غنية بالقشدة ذهبية اللون، أما البغال فتركت ترعى.  ودلف المرشدون إلى الداخل لاحتساء كأس من النبيذ الأحمر رفقة الراعي وابنائه، كان الضباب ينقشع بعيداً، كتل جبل سكليرن الضخمة بدأت بشكل رائع من فوق الغابات وراء الشاليه- كما لو أنها تتهيأ  لتُرسم. 
ومن هذه النقطة إلى الأسفل حتى دار الحمام في راتزيس، كان الطريق يسير عبر غابات التنوب التي تحجب بدورها الجبال القريبة والمشهد البعيد. وحوالي منتصف الطريق هبوطاً، مررنا بمنظر القذيفة المحطمة لقلعة شسلوس هاوينشتاين، التي كانت في يوم من الأيام سكناً لأوسالد الذي جاء من فولكينشتاين، وهو فارس معروف ورحالة وكاتب أغانٍ، ولد في عام 1367، وقاتل ضد الترك في نيكولوليس في 1396، وشهد اقتحام سبتة عام 1415، ولقي مخاطر عظيمة في البر والبحر في شبه جزيرة القرم، وفي أرمينيا، وفي فارس، وآسيا الصغرى، وإيطاليا، واسبانيا، وانجلترا، والبرتغال، والأراضي المقدسة، ومات هنا في قلعة هاوينشتاين في عام 1445، ووري جسده الثرى في كنيسة آبي الشهيرة بنيوستيفت بالقرب من بريكزين، حيث يمكن رؤية مقبرته حتى هذا اليوم. نُشرت أغنياته العاطفية، وترانيمه، وحكاياته الشعرية التأريخية في إنسبرونك، وقد تم تجميعها من نسخ المخطوطات القديمة الثلاث الموجودة، واحدة منها تعود للكونت فولكيشتاين الحالي، وثانية تملكها المكتبة الإمبريالية في فيينا، والأخيرة  في متحف الدولة التيرولية في إنسبروك. 
 
رؤوس جبل سكليرن
إنّه لمن الصعب تخيل وجود مكان أكثر وعورة وبدائية من دار حمّام راتزيس. إنّه يقع على سفح تلك القمم الهائلة التي رأيناها للتو من كوخ الراعي، ولكننا هبطنا نحو 1800 قدم مذاك، ووجدنا أنفسنا الآن على عتبة مبنى لا يمكن وصفه إلا بأنّه كوخان خشبيان يربط بينهما ممر مسقوف. كانت الحمامات في الدور الأرضي، وغرف النوم في الطابقين العلويين. وهنالك معبد صغير، وملعب للبولينغ، وغرفة معيشة واحدة كبيرة، حيث تناول الطعام والتدخين واللعب بالورق يجري على قدم وساق طوال اليوم، وملحق أكثر انخفاضاً بحوالي ثلاثمائة ياردة للطبقة المتواضعة من المرضى، فيكتمل كاتلوج عوامل الجذب والمصادر المتنوعة لآل راتزيس. أما ما يكون عليه السكن في ذلك الملحق فهو شيء يستحيل تصوره، لأنّ في المبنى الرئيسي هنا توجد غرف صغيرة تبلغ أبعادها عشرة أقدام × ثمانية، وتحتوي على سرير محشو بالقش، وحوض استحمام خشبي، ومقعد، وطاولة، ومقراب في حجم كتاب قياسه ثمن صفحة، وليس ثمة قطعة من السجاد أو الستائر من أي نوع، إنّها أفضل إقامة بوسعهم توفيرها.                                                     
كانت عشيقة آل راتزيس، أرملة نشطة، صافية الفكر تجارية الذهنية، لها تسعة أطفال، الشيء الذي يرفع عدد الأسرة في دار الحمام إلى سبعين سريراً، ولربما زاد عدد النزلاء إن وُجد في المكان متسع لذلك. وأكثر عملائها من الحرفيين الصغار وعائلاتهم من بوتزين والمزارعين الفلاحين من القرى المجاورة. وهنالك عينان من المياه، واحدة مطعمة بالحديد والأخرى بالكبريت، لتزويد الزوار بالحمامات والعلاج. وثمة قس يحضر يومياً، ولكن ليس هناك طبيب، ويبدو أنّ المرضى يختارون العيون وفق هواهم. والحمامات من أبسط الأنواع، عبارة عن صناديق من خشب الصنوبر على هيئة الأكفان، ذات أغطية خشبية لتصل إلى ذقن شاغلها، وبداخلها رف خشبي لدعم رأسه من الخلف. كانت هذه الصناديق قد صفت جنباً إلى جنب في صفوف من ثمانية أو عشرة صناديق، تملأ مجموعة من غرف الطابق السفلي منخفضة السقف شديدة العتمة، وتشبه بالضبط صفوفاً من الأكفان في سلسلة من الأقبية الكئيبة. وقد تصاعد هذا الأثر حد الرعب عندما قام أحد الغرباء الغافلين الذي ينظر بخجل، كما فعلت، من خلال الباب المفتوح على مصراعية، لرؤية رأس  يطل من غطاء كفن في ركن مظلم، ويسمع صوتاً عميقاً يقول في لهجة جنائزية:-
"مساء الخير"              
ليلة واحدة في راتزس أكثر من كافية لإرضاء أغلب المسافرين الذين يغلب عليهم حب الاستطلاع. ولا يملك أي شخص الحق في التذمر من ضوضائها، أو دخان التبغ الذي يعبق به هواؤها، أو الزحام المزعج، أو مساكنها الخشنة. إنَّ المكان كما هو يناسب أولئك الذين اعتادوا على ارتياده. فنحن لا نذهب هناك من أجل الكبريت أو الحديد ولا من أجل الهرب من الحرارة القائظة في بوتزن، فنحن فوق كل ذلك دخلاء، ويجب أن نقبل بالأمور كما هي.                                                         
سنغادر راتزس صباح الغد في الساعة التاسعة والنصف، حيث علينا أن نكون في أتزوانغ بحلول الساعة الثانية بعد الظهر للحاق بالقطار المتوجه إلى بوتزن. كان الصباح جميلاً ولكن الحزن كان يعتصرنا طوال اليوم، لأنّها كانت آخر رحلة لنا مع البغلين نيسول الأبيض ونيسول الأسود. كان الدرب يمتد في البداية خلال غابات التنوب، ويدور حول قاعدة القمم العظيمة، ويمر بصدع رهيب في مصب نهر حيث سقط قسم كبير من جبل سكليرن فجأة قبل اثنتي عشرة سنة فقط، فانتشرت كتل الركام الضخمة في المضيق والمراعي، وجانب الجبل بكامله.                       
والآن ما زلنا في رحلة الهبوط، نمر بالمزارع والقرى والكنائس، وحقول الأجاص والكرز، وأحزمة من القمح المحمّر، والشعير ذي اللحى، ووصلنا أخيراً إلى فتحة يتسنى لنا من خلالها رؤية منظر شهير. من هنا ننظر إلى ثلاثة مشاهد عظيمة للوادي- ناحية الشمال طريق الصيادين الذي يمتد حتى مدينة بريكستن، و ممر برينر، وإلى الجنوب باتجاه بلدية ترينت، ووادي نون، والشمال الغربي على طول الطريق العريض لوادي إيتش الأعلى في اتجاه بلدة ميرانو. وفي قاع خندق عميق بين الجدران الهائلة للجرف، قريباً من المنطقة التي تقع أسفل أقدامنا كما تبدو، يتدفق نهر إيزاك العريض بتياره السريع ومياهه الرمادية. أما الطريق السريع الذي يقود مباشرة إلى مدينة فيرونا فيبدو كخط أبيض عريض على هذا الجانب من النهر، وتمتد السكة الحديدية بطول الضفة الأخرى كخط أسود ضيق ينقب هنا وهناك عبر فتحات النفق الصغير التي تشبه جحور الأرانب. عالم علوي كامل من الهضاب الخضراء والمراعي الألبية، والقرى والكنائس وحقول الذرة، وغابات الصنوبر، يقع على مد البصر كخريطة على طول الهضبة، بترت منها هذه الوديان الثلاثة، ووراء هذا العالم العلوي، تزداد قمم الجبال البعيدة الشبحية شموخاً بعد.                    
 ومن هذا الموقع يصبح الطريق زلقاً ومتعرجاً فجأة. فهو متحدر إلى الأسفل طبقة بعد الأخرى. وألفينا الآن أول مزرعة للأعناب، وسمعنا صرخة زيز الحصاد الداوية لأول مرة. والآن يتناهى إلى أسماعنا صوت نهر إيزاك السريع يأتينا من خلال الأشجار. نعبر الآن الجسر المسقوف في الوادي، ونترجل عند المحطة. هذه هي أتزوانغ، هنا السكة الحديدية، فنحن مجدداً في قاع عالم الأرض المشتركة، القائظة الحر، والكثيرة الغبار والحركة.                                                           
وفي اتزوانغ فارقنا كليمنتي والبغال، بينما يمضي غوسيبي معنا حتى بوتزن، كان كليمنتي يودعنا على مضض، ول. "على الرغم من حداثة عهدها بالمزاج العاطفي،" تبادلت إيماءات الوداع المؤثرة جداً مع نيسول الأبيض. أما بخصوص نيسول الداكن، فقد كان جلداً قاسي القلب حتى النهاية، لقد هز أذنيه ووثب بقائمتيه بسرور، فلابد قد أدرك أنّه تخلص مني أخيراً، ويبتهج لمعرفة ذلك.                                  
والآن ونحن قد وصلنا إلى مدينة بوتزن، ألفينا أيضاً نهاية جولتنا لمنتصف الصيف هذا. وسنتسكع لمدة أسبوع في هذه البلدة العتيقة الطريفة التي تنتمي إلى عهد العصور الوسطى. لأسبوع كانت قمم سكليرن، والواجهة الكبرى لجبل روزنغارتن تنظر لينا من عل من وراء إيزاك. وطوال ما استطعنا التسكع في كل مساء حتى الجسر القديم الذي يقع إلى الأسفل وراء الكاتدرائية، وانظر ضوء الغروب يطبع على تلك القمم الشامخة لوناً قرمزياً رائعاً، فنحن نشعر بأننا لم نغادرهم بعد على الإطلاق. لقد كانت هذه آخر جبال الدولميت. ولوحنا لهم مودعين من ذلك البرج. 
النهاية.
 
ملاحظات: 
* تقدر منطقة جبل غيردينازا العملاق بالكامل  بحوالي اثنين وعشرين ميلاً مربعاً، وارتفاعها يزيد على 9000 قدم فوق سطح البحر. أما جبل سيلا العملاق فهو يحتل مساحة لا تقل عن أربعة عشر ميلا مربعاً. القمة الأساسية للجبل الأخير، أي بويه، أو بوردويه سبتز، الذي صعده د. غرومان، والتي قدر ارتفاعها ب10.341 قدماً. ولا علم لدي إن كانت أي من القمم الأربعة الأخرى قد قيست من قبل. وإلى مدى بسيط تجاوزت كتلتا الغيردينازا والسيلا جميع كتل الدولمايت الأخرى. 
يقدر بول ارتفاع جبل لانغ كوفل ب10.392 قدماً، وجبل بلات كوغل ب 9.702 قدماً. 
وقد قال عن الأخير إنّه :" يسهل الوصول إليه من سيز، أو بصورة مريحة أكثر من سانتا كريستينا في وادي غرودنر تال." أما جبل لانغ كوفل فأول من تسلقه هو الدكتور غرومان في عام 1869. وتسلقه السيد وايتويل دون أن يصل إلى قمته في عام 1870، ومرة أخرى صعد السيد كيلسو إلى أعلى قممه في اليوم الحادي عشر من شهر يوليو عام 1872، وكان يرافقه سانتو سيوربايز من كورتينا.
* ارتفاع جبل سكليرن يصل إلى 8.405 فقط، ولكنه يشهق في وحدة عظيمة، وقممه قاحلة جداً ورأسية. حتى أنّ العديد من جبال الدولمايت التي تفوقه طولاً تبدو أقصر منه.  
ويمكن التمتع بتسلق سلس وسهل من فولز، والمنظر من فوق القمة جميل للغاية، على الرغم مما قيل بأنّه ليس أفضل من ريترهورن الأقرب إلى بوتزن، ويشمل جبل اداميلو، واورتيلر، واويتزال، وانولزر الألبية. أما الأفق الجنوبي الشرقي، على أية حال، وبالتالي جميع الدولمايت الأساسية تتوارى خلف أقرب كتلة لجبل روزينغارتن. " ليس هنالك جبل في الألب قد حاز هذا الصيت العظيم بين علماء النبات نسبة لغناه  بالزهور، وعدد النباتات النادرة التي ينتجها مثل سكليرن." بول في كتابه جبال الألب الشرقية. ص 484.--
----
_________________________
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب 
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(جميع الحقوق محفوظة

        قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة الباب الرابع عشر- من كابريل إلى بوتزن تأليف:إيمليا إدواردز ترجمة: أميمة قاسم -- وأخيراً آن الأوان لمغادرة كابريل- مغادرة كابريل والدولميت، والطرق غير المطروقة لجنوب شرق تيرول، والترحال مرة أخرى عائدين إلى طرق إيطاليا وسويسرا السريعة المزدحمة. أصبح محتماً علينا دخول العالم من جديد عبر مدينة بوتزن. و ربما كانت جميع الطرق تؤدي إلى روما، عندما يكون حجر الزاوية الذهبي في مركز العالم المعروف. وعليه فربما كانت جميع أودية الدولميت وممراته  تقود إلى بوتزن بطريقة أو بأخرى. ولا عجب إن كانت لدينا عدة مسارات للتخير منها ما يناسبنا. ولم يكن هنالك طريق لعربات الجياد سوى الطريق الجديد الذي يقع بين جبل ليتمار، والروزنغارتن، المعروف بممر كاريسا. كان هنالك طريق يمر بليفينالونغو والغادر تال المؤدي إلى برونيك، والسكة الحديد، من برونيك إلى بوتزن. ربما سرنا مجدداً في محازاة الأفيزيو في طريق طويل يشق  أودية الفاسا، وفيمي، وسيمبرا حتى لافيز، حيث تلتقي السيول بإيزاك ويلتقي الطريق بالسكة الحديد، في مكان ليس ببعيد من ترينت. أو ربما نأخذ طريق الغرودنر تال والألب السويسرية، ونسير بمحازاة البرينر من أتزوانغ، على ارتفاع ضئيل فوق بوتزن. لقد قررنا أن نتبع المسار الأخير. وهو يتميز على غيره من المسارات بعدة فوائد. فهو أولاً سيتيح لنا فرصة بامتداده على طول وادي ليفينالونغو، لرؤية ثلاثة جوانب من المحيط الدائري لجبل سيلا الضخم، فيأخذنا إلى بلدة سان أولريتش، التي لها من الأهمية  في منطقة جنوب إقليم تيرول ما لمدينتي انترلاكن وبرينز في سويسرا في مجال تجارة الحفر على الأخشاب. ثم يأخذنا الطريق عبر سلسلة الألب السويسرية على مقربة من ظل جبال لانغ كوفل، بلات كوغل، سكليرن، وهي سانحة لطيفة لزيارة حمامات راتزس، و يهبط بنا أخيراً في مدينة بوتزن بعد سبعة أيام أو أقل حتى من وقت بداية الرحلة تقريباً. فارقنا آل بيزيه المضيافين كما لو كنا نفارق أصدقاءَ لنا، وسرنا بعيداً ونحن نعدهم وأنفسنا بالعودة إلى مدينة كابريل مرة أخرى في المستقبل القريب. كان الطقس في الساعة الخامسة صباحاً يتسم بالاعتدال والإشراق. بيد أننا لبثنا بالفعل أياماً عدة في انتظار طقس أفضل، ولكن السماء لم تزل في تقلبها. كانت أصوات رنين الأجراس تتبعنا ونحن في طريقنا للخروج من القرية، وكانت المسيرة الصاخبة المعتادة تهدر باتجاه الكنيسة. كانوا سيصلّون هذه المرة من أجل طقس صحو بلا أمطار.  هتف كليمنتي، " هاهم! هاهم!" وفي صوته نبرة ازدراء " تلك هي الطريقة التي يتبعونها، سيدتي! يراقب القس مقياس الضغط، وعندما يقترب وقت هطول المطر، ينادي في الناس ليجمعهم لصلاة السقيا. وربما أُمطروا قبل أن ينتهي القدّاس. ثم يصرخ " إنّها معجزة!"- وهم يصدقونه – أولئك الشياطين المثيرون للشفقة."  وقد تجاوز طريقنا الذي يرتفع عن الأرض بالفعل من المسافة ما يبلغ معه فندق فينازيرز الصغير في أندراز. ثم عبرنا النّهير، وتركنا وادي بوخنشتاين الذي يزداد اتساعه ناحية اليمين، ويحف الآن بمنحدرات مضيق لانا التي تبدأ في الارتفاع الآن. يمتد بنا الدرب صعوداً نحو منبع وادي ليفينالونغو الرئيسي. وتوقفنا لساعة من الزمن لإطعام البغال في القرية الكبرى المعروفة باسمي ليفينالونغو و بياف اندراز معاً. حيث قُدمت لنا القهوة الممتازة في أنظف الغرف الخشبية، حملتها إلينا أكثر صاحبات المنزل البهيجات بدانة. إنَّ هؤلاء الأشخاص أيضاً ينتمون إلى فينازرز، وجيرانهم الذين يسكنون في المنزل المقابل، والذين يديرون بدورهم فندقاً صغيراً هم من الفينازرز: الشيء الذي زاد من حيرتنا إذ أنَّ الفندق الوحيد كان مريحاً جدا، بينما اتسم الآخر بوجود تقارير تثير الشكوك حوله. كان أجودهما يقع إلى جهة الشرق، وهذا للقول بأنّه يقع إلى يمين المسافرين المتوجهين إلى كابريل. وتشرف القرية، اسمها كابولوجو، ومركز بريد الضاحية على حافة جرف شديد الانحدار، ويزيد ارتفاعها بنحو 1500 قدمٍ عن علو مدينة كابريل. كان المنظر من سطح الكنيسة رائعًا جداً، ولا يستحوذ عليه مجرى نُهير كورديفولي العميق وحده من منبعه في رأس الوادي نزولاً لغاية موقع مدينة كابريل، ولكنه يضم أيضاً جبل سيفيتا، والمارمولاتا، وجبل بادون (أو ميزولا)، وسيلا الهائل ومجموعة من القمم التي تقل عنها أهمية.   يرتفع الوادي ببطء وثبات من موقع نهر البياف باندراز حتى آرابا- قرية خشبية بائسة المنظر على سفح المنحدرات أدنى جروف جبل سيلا الجنوبية. وكلما ارتفع أصبح أكثر مَحْلاً وأقل إثارة للاهتمام.  والقمم المسننة لجبل بادون، تخرج تدريجياً من قلنسوتها التي نسجتها السحب العنيدة، فيظهر لونها القرمزي المسوّد مقابل السماء. وبين الفينة والأخرى يأخذنا الطريق المتعرج، على نحو ما، بمحازاة وادي فيورنتينو، وأكثر ارتفاعاً من منحدرات جبل فريزوليه المتشابكة، فنعانق-بشكل غير متوقع- طلعة جبل بيلمو الشبحية، الرائعة، النائية البعد، تغلق نهاية المشهد البديع في طوله وتألقه، فنراه للحظات قليلة فقط، وللمرة الأخيرة، إذ أنَّ الطريق باتجاهه للداخل، يتلاشى- مثل جبل سيفيتا ومارمولاتا اللذيْن تواريا عن الأنظار تماماً هذه اللحظة.  وسوف لن نحظى برؤيتهما بعد الآن في مسار رحلتنا الحالية، ومن يعلم متى سنراهما مجدداً – هذا إنْ كان ذلك مقدّرًا لنا من الأساس. والآن يتمدد جبل سيلا العملاق على الأفق بطوله- وتتكدس مجموعة من أكثر من الأبراج السمراء المصفرة سُمكاً، مثل بضع عشرات من جبال البيلمو الفحمية اللون المتراصة على مسافات شديدة القرب من بعضها البعض. وتبدو الكتلة كما لو أنّها تقسّم نفسها بشكل طبيعي إلى خمسة أجزاء هي على التوالي، كمونة بويه، أو بوردوي سبيتز التي تسد رأس وادي الفاسا، وسيلا سبيتز، ويطلّ على وادي غرودنر، ويشرف البيسادو سبيتز من عل على ممر كولوسكو، وماسور سبيتز الذي يواجه كورفارا ووادي الغدير، وكومولونغو سبيتز، التي تفرض سيادتها على ممر كامبونغو، والذي نسير صوبه الآن.  وبينما نحث الخطى باتجاه الشمال صاعدين في المضيق المقفر إلى اليمين، تاركين آرابا ووادي ليفينالونو بعيداً وراءناً في الأسفل، تصادفنا هذه الحصون العملاقة القريبة في الجانب الأيسر على الدوام. والشجيرات هنا قليلة ومتقزمة. وقد اختفت أزهار الألب هنا مفسحة المجال للشجيرات الجافة الخالية من الأوراق. كما غابت عنه أيضاً أزهار الزنابق الذهبية، والجنتيانا، والزهور البرية اليانعة التي زينت معظم الممرات الأخرى وزادتها جمالاً: هذا عدا حفنة من براعم زهور اليديلويس الهزيلة التي تخبيء نفسها هنا وهناك بين الصخور المكسوّة بالطحالب. وقد كان الرجال يعملون في الحصاد ،على أية حال، فوق جميع المنحدرات، منهمكين في حصاد القش الهزيل وهم يغنون أثناء العمل. في البداية يصل إلى أسماعنا صوت واحد، ثم آخر، يلتقط اللحن. ويعود الصدى فيتردد بين جنبات الوادي، والآن يخفت شيئاً فشيئاً، ثم يتصاعد مرة أخرى، عذباً، منساباً، وجامحاً مثل تغريد الطيور - والتي قد ألقت بظلالها بلا شك في جميع هذه الألحان السويدية والتيرولية في الأصل.  والآن بالقرب من قمة المعبر، والجبال الجديدة تتقدم صاعدة على الأفق الشمالي- الصليب المقدس، أو Heiligen Kreuz، وهو جبل طويل ينتهي باتجاه الغرب بقمتين توأمين، مثل كاتدرائية لها برجان اثنان قصيران: وقد اتخذت القبة شكل الكاتدرائية ذات البرجين القصيرين، وجرف فيريلا الذي يشبه القبة، وممر ساس انغار، أو ساسندر كوفيل الذي هو في الحقيقة مركز خارجي لجبل غويردينازا العملاق.  حال وصولنا إلى قمة الممر وشروعنا في الهبوط، سمعناً دوياً طويلاً وهادراً للرعد من على البعد يصدر من جانب ليفينالونغو، وبالنظر إلى الخلف رأينا السحب تتجمع بسرعة تحت أقدامنا. وفي الأسفل، تقع كمونة كورفارا، في الأسفل، في قلب غور أخضر وموحش، وهي تتكون من حوالي عشرة منازل وكنيسة صغيرة. والطريق منحدر ورطب وزلق- ثبتت البغال حوافرها عليه بمشقة كبيرة- فالعاصفة قادمة. وعليه أسرعنا، وكنا ننزلق تارة ونتعثر تارة أخرى ونحن نسير بأقصى سرعة ممكنة، وصلنا الآن وسط الرعود والبروق إلى مدخل فندق روتينارا. ويتكون هذا النُزُل الصغير من منزلين، أحدهما حديث والآخر قديم. كان المنزل الجديد محجوزاً للطبقة الأرقى من المسافرين، وليس به غرفة عامة ولا مطبخ. تشغل العائلة المنزل القديم، وتطبخ به، ويستضاف فيه المرشدون والمزارعون المسافرون. وقد بني المنزل من خشب الصنوبر اللامع الجديد اللطيف، وأرضيات الطابق العلوي جميعها من الخشب، وكذلك الجدران والسقوف. أما الطابق الأرضي فقد جُصِّصت غرفه وطليت بالجير الأبيض.  هل كنا لنحلم بأن نصادف شيئًا من الفن في مكان كهذا؟ من كان يحلم بأنّ الفلاح الشيخ الرزين الذي يغطيه غبار الطحين، والذي قاد لتوّه البغال إلى الإسطبل هو في الواقع أبٌ لفنان شاب ذي موهبة استثنائية؟ ولكنه كان كذلك. فرانز روتينارا، ابن مضيفنا، طالب فنون في فيينا. كان المنزل يعجّ برسوماته التمهيدية. وقد كان أول ما يراه المرء أثناء الصعود إلى الطابق الأعلى لوحة بالطول الكامل لشخصية هوفر في بهو، وقد تم تنفيذها على الجدران بالألوان، بالحجم الطبيعي، مرسومة بطريقة مثيرة للإعجاب، حيث كان يضع شعاراً على يده اليمنى، ورباط بندقيته معلقًا على كاهله. يستخدم أحد أطراف غرفة النوم الكبرى كغرفة معيشة، حيث عُلقت بعض الدراسات الأساسية للطبيعة الصامتة بألوان الزيت، وعدة رؤوس متقنة الرسم بالقلم الرصاص. وفي الطابق السفلي في غرفة تشبه المخزن إلى حد ما، حيث يتم نشر المعاطف المبللة لتجف، وقد تغطت كل بوصة من الجدار المطليّ بالجير الأبيض برسوم لرؤوس، وأذرع وأكف، ورسوم كاريكاتورية، ورسوم نصفية وكاملة لفريردرك الأكبر، وغوته، وشيلر، والمجنون، ومفستوفيليس، وهاملت، وجذع البلفيدير، قتال المصارع، والصياد المتوحش، والكثير مما أعجز عن إيفائه حقه ذكراً وعداً. أجابت الفتاة الجميلة الصغيرة التي قدمت لنا العشاء على أسئلتنا حول" أخيها الذي في فيينا" دون كلل أو ملل. لقد قام بتلوين هاتين اللوحتين من الطبيعة الصامتة عندما كان هنا في الصيف الماضي، أما جصّية هوفر فمنذ أربع سنوات خلت. لقد كان دائماً يرسم، منذ صباه الباكر، وكان قد تلقى دروساً في ميونخ قبل أن يقصد فيينا. إنّه هنا الآن- لقد عاد ليلة البارحة ليؤدي شهر الخدمة السنوي مع سلاح البندقية في كورفارا، وقد ذهب إلى فوق التلة ليلتقي ببعض الأصدقاء في قرية مجاورة.  وفي آخر اليوم، عندما يعود الفنان الشاب من "فوق التلة"، سيقوم بزيارتنا بطلب مني. إنّه لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره بعد، وهو حيّي كفتاة. تحدثنا قليلاً عن الفنون، ولكن بما إنَّ الهر فرانز ليس ماهراً في الحديث باللغة الإيطالية، ومستوى الكاتبة في اللغة الألمانية كان محدوداً، فقد ضاع جزء كبير بالضرورة من محتوى الحوار الفني الذي دار بيننا، ولكني خرجت منه بما يكفي لرؤية أنّه يمتلك ما يلزم لمهنة ثابتة في المجال، فلديه طموح يزينه الصبر، والحماسة العميقة لدارس الفن الألماني، وأؤمن بأنّ القدر سيكون إلى جانبه في وضع بصمته الخاصة بمرور الوقت.   طبعا تقع قرية كورفارا، على الحدود النمساوية، وسكانها نمساويون جميعا كما لو أنَّ بلدتيْ كامبيديلو وكابريل ليستا على بعد سويعات قليلة من بعضهما البعض. لقد كان الهر فرانز هو الوحيد الذي يتحدث الإيطالية بين أفراد عائلته. فلا روتينارا العجوز ولا ابنته، ولا أي شخص في أنحاء القرية ما عدا القس يفهم أيَّ مقطع لفظي من أية لغة أخرى غير لغتهم الأم.  مفاجأة كورفارا الكبرى، على أية حال، تكمن في كنيستها. وبعد ذلك كله لم يكن من المدهش رؤية عبقري منعزل يبرز هنا وهناك، حتى في أكثر البيئات صعوبة. وعلى بعد أميال قليلة من مسقط رأس تيتيان وجدنا آل غيدينا. وفي الوادي حيث ولد بروسيتولون، صادفنا الشاب نحات الخشب الذي من براغاريزا. وبالتالي لم يكن في إنتاج كورفارا لفنانها الخاص ما يثير الدهشة إلى حد كبير. ولكن من المؤكد أنّه أمر مذهل إلى حد ما، عندما تجولنا في الخارج هنا وهناك بعد هدوء العاصفة التي تمخضت عن رذاذ ممل- فحظينا ببعض لمحات هناك في الكنيسة الصغيرة المتواضعة المنظر، ووجدنا أنفسنا محاطين بأكثر الزخارف ترفاً. هنا، حيث على المرء ألا يتوقع سوى الجير الأبيض، تكسو الجدران زخارف العصور الوسطى المعقدة، والأضرحة، والمذابح، والألواح الثلاثية المليئة بنقوش وتصاوير القديسين، والتي زادها التذهيب القشيب روعة وجمالاً، الحوامل، وشُرُفات آلات الأورغ، والمقاعد التي نُحتت بعناية، وقد تم تنفيذ كل هذا وفق الأسلوب القوطي الألماني القديم، ويبدو كل شيء جديداً، ومتوهجاً بالذهب الصقيل ويزهو بالألوان. كان من المذهل جداً رؤية هذه الروعة، لأننا لم نتمكن في الدقائق الأولى من فعل شيء سوى التسكع في صمت، وزادت تلك الدهشة عندما التقينا الآن بالقس صدفة. لقد عرفنا منه أنَّ جميع أشكال الزينة هذه من صنع أهل البلدة الفلاحين- بأيدي العاملين في حصاد القش ذاتهم الذين استمعنا لغنائهم هذا الصباح في الحقل- وقد صمموها بأنفسهم، ونقشوها بأناملهم، ولونوها بأيديهم، وهم الذين قاموا بعملية التذهيب، فهي قرابين مقدسة قدموها بأيديهم وبحرّ إرادتهم. إنّه مكان صغير، وعدد السكان لا يزيد على 260 أو 270 نسمة بما في ذلك الأطفال يقول القسيس مبتسماً: " ولكنهم جميعاً من الفنانين".  إنّه قسٌّ نبيل، ويعبر عن نفسه بلغة "إيطالية منتقاة بعناية". ويصف كورفارا محتجاً بأسلوب يتسم بالتهذيب والأدب بأنّها: "بقعة منسية خارج العالم": وعن الكنيسة يقول- على الرغم من أنَّ المرء يخال أنّه لا محالة يشعر بالفخر حيالها- "جميلة بالنسبة لمكان فقير كهذا." وعندما مدحت الزينة، رفع كتفيه استهجاناً، الشيء الذي يشير إلى أنّه ربما كان من يُفضّل تنفيذها بإمكانيات أكبر.   " إننا نملك شيئاً واحداً رائعاً، لم تره السيدات بعد، ولكنه شيء سيسرني أن أريهن إياه، إن لم يكن لديهن مانع في تكبد مشقة العودة." عليه عدنا أدراجنا- لقد حدث هذا اللقاء أمام بوابة فناء الكنيسة- فدخلنا الكنيسة مرة أخرى، وتبعناه حتى ظهر المذبح، حيث كان هناك زوج من الأبواب الملونة والتي طويت الآن بعيداً عن النظر، ولكنها تعاد إلى الجانب الأمامي في فترة الصوم الكبير كما يقول. هذه اللوحات تجسّد قطع رأس القديسة كاثرين، التي كرُست لها هذه الكنيسة. ووفقاً للراعي، فإنها قد نُفذت في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر بأنامل فنان إيطالي يدعى تيشيني، والذي كما تقول القصة ( وهي القصة ذاتها دائماً عندما يتعلق الأمر بكنوز القرية) قد حبسته أحوال الطقس السيئة في كورفارا، فرسم هذه اللوحات وقدمها للكنيسة نظير حفاوة استقبال القس له وكرم ضيافته. وليس لدى راعينا ما يقوله أكثر من ذلك. فهو لا يعرف أكثر مما أعرفه، من كان هذا التشيني؟ ومتى عاش وأين؟ أو متى جاء. ليس هنالك ذكر له في الأجزاء الشاملة لكروي وكافالكاسيل في كتاب " التلوين في شمال إيطاليا،" وأعماله في كورفارا لم تحصل على سطر واحد من الاهتمام في صفحات دليل بول، أوكتاب السيدين جلبرت وتشيرشل:" جبال الدولمايت". وأنا، الذي لم أسمع عنه من قبل، أستطيع الحكم فقط من أسلوب عمله أنّه كان من شمال إيطاليا ويتبع المدرسة البيلنيسكية. وقد اتسمت اللوحات، والمنفذة على ألواح، بالأسلوب الكريستالي البراق القديم، وتذكرني بعمل ميملنغ حتى أكثر من أعمال الفنانين الفريوليين.  كانت القديسة كاثرين  نحيلة، مستديرة الوجه، شقراء، ذات سحنة ألمانية، بينما اللمسة النهائية المتقنة للأزياء، والاستخدام الرقيق للتذهيب، والمعالجة الدقيقة للنقوش والتراكيب، تذكرني بأحد أعمال كارلو كريفيلي. هنالك أربع لوحات أخرى، مرسومة على الألواح أيضاً، للقديسة كاثرين وغيرها من القديسين تزين واجهة المذبح. كانت هذه الأعمال أكثر عمقاً في أسلوبها، ولكن من الواضح أنّها تنتمي إلى الفترة ذاتها، ويعتقد القس أنّها قد رُسمت بالأنامل ذاتها. وجميع هذه اللوحات مثيرة للاهتمام على كل المستويات: بينما اللوحة الأكبر في الخلف نادرة لدرجة لا يرقى إليها الشك من حيث الجمال والقيمة.  وبينما كنا نغادر الكنيسة، أتت فتاتان صغيرتان جرياً وراء القس، لتقبِّلا يده: وهو فعل يدل على الاحترام، وقد طلب منا الإذن بطريقته الاعتذارية المبتسمة، قائلاً إنّها العادة هنا، وأنّ الأطفال "بسطاء ويتصفون بحسن النية". وبما أننا وصلنا الآن إلى مفترق الطرق، فقد تمنى لنا رحلة سعيدة، ورفع قلنسوته الضيقة الصغيرة في تهذيب، واستدار عائداً إلى منزله- وهو منزل أبيض بهيج المنظر ذي ستائر أنيقة وأصص للزهور في النوافذ، وكلب بدين من نوع البودل يربض عند الباب.  والآن ونحن في طريق عودتنا إلى الفندق، بدأت قطرات المطر تزداد سمكاً، والضوء يضعف شيئاً فشيئاً، نحن نواجه ظاهرة. تقف في الفناء الصغير بين الفندق والملحق، التصفيق والإيماء وسط مجموعة قوامها عائلة روتينارا، ومرشدينا، وثلة متنوعة من الرجال وصَبية الإسطبل وهي ترتدي  زوجاً من الأحذية القصيرة، وقبعة من القش المضروب، ورداءً بنياً ربما يجوز تشبيهه إما كتنورة طويلة، أو كأقصر الصدريات. كان شعرها رملياً ولونه قرمزيّ، وربما كانت في أي عمر بين الخامسة والأربعين والستين. وتحمل حقيبة ظهر على ظهرها، وعصا للتسلق في يدها. كان الصوت صوت رجل، والوجه مسمّر وعليه من غبار السفر ما عليه، وهو وجه امرأة. لقد كانت تثرثر بالألمانية- وكانت على ما يبدو تصف رحلة يومها الشاقة عبر الجبال- ويبدو أنّها راضية عن الضحكات المدوية التي تقاطع سردها الفينة بعد الأخرى.  " مرشد؟" تستغرب، وهي تجيب على ملاحظة لأحد المتفرجين. " لا لست أنا! ما الذي أريده من مرشد؟ لقد حملت حقيبتي بنفسي، وسرت في طريقي من فرنسا، فسرت خلال إنجلترا، وعبر إيطاليا، وأنحاء فلسطين. ولم أستخدم مرشداً أبداً من قبل، ولم أتمنَّ أن يكون لدي واحد. أنتم جميعاً كسالى، وليس لدي علاقة بكم. فالتعب لا يعني لي شيئاً- والمسافة لا تسوى شيئاً بالنسبة لي- والخطر ليس بشيءٍ في قاموسي. لقد اختطفني اللصوص من قبل. ماذا عن ذلك؟ فإن كان معي مرشد فهل كان سيقاتلهم؟ محال أن يفعل ذلك! بل كان سيطلق ساقيه هرباً.  حسناً لم أقاتل ولم أهرب. لقد صادقت خاطفيّ- وقمت بتلوين صور لهم- لقد أمضيت شهراً معهم، ثم افترقنا، كانوا أفضل رفاق في العالم. أف! المرشدون، بالله عليكم؟ فكلهم لا نفع لهم سوى مع العاجزين،  ليس معي. إنني لا أخشى شيئاً، لا البابا ولا الشيطان".  تفاجأت إلى حد ما بسبب هذه الخطبة النارية، ودخلنا، وغادرت وهي تتحدث. وأنا لا أعرف إن كان قد خالجني هذا الشعور بالامتنان والراحة العميقين قط  أكثر من اللحظة التي عرفت فيها أنّ هذه السيدة ألمانية. إنّها ليست بالغريبة في كورفارا، على ما يبدو، ولكنها تظهر بين كل فترة وأخرى في هذا الزي المجنون، وفي بعض الأحيان تمكث في فندق روتينارا لعدة أسابيع معاً. فهي تلون، وتدرس النباتات، وأعتقد أنّها قالت إنّها تكتب أيضاً. غوسيبي الذي يصفها بالسيدة " القبيحة جداً والمبهجة جداً" يخبرنا في اليوم التالي كيف قد تناولت عشاءها في الليلة الماضية على مائدة المرشدين، حيث حظوا بالكثير من المتعة والمرح. الطريق من كورفارا إلى سان اولريتش يقع على طول وادي غدير تال، عبر قرية كولفوسكو، وصعوداً في الوادي الموحش بين جبل الغويردينازا والسيلا العملاقين.* ولم تك ثمة نفس حية في كولفوسكو أثناء مرورنا خلالها- لم يكن هنالك شيء سوى المسيح الهزيل الشبحي على جانب أحد المنازل، يكاد يكون بالحجم الحقيقي، وهو ملطخ من الرأس إلى القدم بشكل مرعب برشاش يبدو كأنه دم. وكانت القرية قد خرجت عن بكرة أبيها إلى فوق التلال، -  "الأكبر والأصغر  يعملان مع الأقوى"  في حصاد القش. ومن فوق بلدة كورفارا وإلى غاية سطح الممر، يمرّ طريقنا قريباً تحت المنحدرات الهائلة لذلك الجزء من جبل سيلا المعروف بالبيسادو سبيتز. ويتمتع الجبل في هذا الجانب بتناسب رائع، ويحتفظ دوماً بشبهه غير المسبوق بقلعة عملاقة، وتظهر بين الحين والآخر من خلال الجروف في تلك الحصون العملاقة، لمحات من هضبة ثلجية رائعة بين جنباته، وطيات زرقاء من الجليد الذي يزحف إلى الأسفل هنا وهناك، أو هبوط غطاء من الضباب. وكلما صعدنا إلى الأعلى، أفسحت آخر حزم الذرة والكتان مكانها للفضاء الواسع النائي للمرج المائي الذي تقطنه شبكة من دروب الماشية غير المنتظمة، والمنتشرة في المكان مثلها مثل عدد من الصلبان الخشبية. كانت هذه العلامات حيث وُجد المسافرون وهم موتى. إنّهم يقولون ذلك في كورفارا إنَّ ممر كولفوسكو هذا هو الأخطر بين جميع ممرات الدولمايت، وإنَّ الريح  في الشتاء تهتاج هنا بغضب حتى أنّها تسوق الثلج والبرد في سحب عظيمة تدفن وتخنق الرجال والماشية أثناء حركتها. وليس ثمة طريق محدد هناك أيضاً، كما إنَّ الغدر من شيم المستنقعات أينما كانت.  والآن بلغنا القمة وتجاوزناها، ويرتفع جبل لانغ كوفيل إلى اليسار فوق الغابات وقمم الهضاب، والبرج المنعزل بصخوره العديدة. المضيق المسقوف يكسوه غطاء رقيق من غابات أشجار التنوب التي تتسع أمامنا، والمطر الوشيك الطويل الذي يبدأ مرة أخرى غزيراً وسريعاً، والطريق الذي استحال فجأة إلى آخر شديد الانحدار على نحو تصعب معه القيادة فيه، فكان علينا الترجل والمشي في عاصفة تشتد، هبوطاً في جانب شديد الانحدار من الجبل حتى حديقة القديسة مريم. أولى القرى في رأس وادي غرودنر تال. وهنا جلسنا في استراحة صغيرة حتى استعادت السماء صفوها من جديد، ثم حثثنا الخطى متجهين إلى قرية القديس اولريتش.  أصبح طريقنا الآن يقع على طول وادي الغرودنر تال: أخضر ومكسو بالغابات، مطهم بمناظر القرى. كان جبل سيلا يتلاشى من المشهد تدريجياً وهو يتجه إلى الوراء جهة اليسار. وأصبح جبل لانغ كوفيل الآن أكثر ارتفاعاً وشموخاً. وأضحى جبل بلات كوغل مرتفعاً مثل نصف قبة ليأخذ مكانه في المشهد. ومنحدرات مرج سيسر الألبية المغطاة بالأشجار والقريبة من الوادي إلى اليسار، وجبل الاسكليرن، الذي يرى للمرة الأولى ضمن مشهد الوادي، الذي يظهر كجدار صخري أسود منحدر عليه بقع من الجليد هنا وهناك.  لقد غاب الآن آخر أثر لإيطاليا. غدت جميع المناظر الطبيعية والبيوت والأشخاص والأسماء واللافتات فوق الأبواب ألمانية الطابع. أصبح الفلاحون يلتقون في الطريق في مجموعات رباعية، شُقرٌ، زرق العيون وأجلاف. يحمل الرجال المشغولات الخشبية على ظهورهم، كما في سويسرا. وقد بدت اللافتات والرموز المميزة التي لا تكاد تخطئها العين تنبئ باقترابنا من سان اولريتش. ازداد حجم الصلبان التي على الطريق، وحسُنت نقوشها و زهت ألوانها وقد تميز البعض منها بالذهب. وبعد كل فترة والأخرى نمر بكوخ ينتصب بالقرب من مدخله قفص تتكدس فيه الخيول الخشبية الصغيرة. وفي بوابة منزل آخر كان أحد العمال يقوم بتلميع كرسيّ منحوت بعناية. و نمر الآن بعربة محمّلة بسيقان العرائس فقط لا سواها، وقد لونت كل ساق بجورب أبيض أنيق وصندل أخضر زمردي اللون! وها قد ظهرت عاصمة أرض الألعاب تظهر للعيان- قرية فخمة الهيئة، كثيفة المنازل تتناثر على مساحة عريضة طويلة على امتداد منحدرات الضفة الغربية للغدير. كانت المنازل عبارة عن مساكن ألمانية تيرولية حقيقية، واسعة، كثيرة النوافذ، عريضة المزاريب وذات أبواب لامعة الخضرة، وواجهات الحدائق تعجّ بالأزهار. وهنالك كنيستان- واحدة صغيرة عتيقة تقع في الجزء الأدنى، والأخرى كبيرة أنيقة وتقع في  الجزء الأعلى، وبرج جرس بصَليّ مطلي باللون الأحمر. وبها نصف دزينة على الأقل من الفنادق، تبدو عليها جميعا مظاهر النظافة والازدهار. باختصار كان المكان بشكل عام  ذا سمت تجاري مشرق ورائج، مثل بلدة صناعية سويسرية. وهنا في فندق الحصان الأبيض، استقبلتنا مجموعة من الفتيات الباسمات بحفاوة بالغة، كن جميعهن شقيقات، أخذننا إلى غرفنا التي كانت ممتازة، وقدمن لنا اللحم المشوي وثمار الأجاص المجففة للعشاء، ثم تقاسمن أداء بعض مقاطع الأغاني والعزف على القانون في تلك الأمسية للترويح عنّا. وقد هبت في تلك الليلة عاصفة رعدية أخرى، تلتها ثلاثة أيام سيئة الطقس، كان لدينا أثناءها من الوقت ما يكفي للسؤال عن الحرفة العجيبة لهذه البلدة، ورؤية الناس في العمل.  ونظراً لأنّ هذه البلدة هي عاصمة أرض الألعاب كما قلت من قبل. لم نكن نعرف عن سان اولريتش شيئاً قبل عدة أسابيع فقط، وحتى عندها لم تكن المعلومة دقيقة، كقرية تصنع فيها الألعاب الخشبية وتماثيل المسيح التي تنصب على الأرصفة، والآن وجدنا أنّنا كنا على علاقة حميمة بالمكان منذ طفولتنا الباكرة. إنَّ الحيوان الجميل على المنصة المدولبة الصغيرة التي كنا نعتبرها حصاناً أسودَ، تنتشر على جسده بقع على هيئة أقراص قرمزية اللون، وله عُرفٌ وذيل مصنوعان من وشاح من الفرو العتيق- من سلالة غرودنر تال النقية. وهذه الدمى الخشبية المجمعة من كل الأحجام، من أطفال لا يزيد طولها عن نصف بوصة، إلى أمهات لعائلات يصل ارتفاعها إلى قدمين، والتي تزول سحناتها دائما عند غسل وجوهها- إنهم سكان الأرض الأصليين. تلك الأعضاء الصغيرة المبهجة ذات الأنابيب الحمراء والبراميل المسننة، التي تديرها أشد الدمى التي عرفناها احتمالاً للأعمال الشاقة في العمل. وصناديق المناظر الطبيعية هذه التي تقف أشجارها المجعدة المخروطية الشكل، ومنازلها ذات السقوف الحمراء تجسيداً صادقاً "لتيمبي ووديان الأركاديا": إنّ سفينة نوح (منزل تيرولي في زورق) تكون فيه الحيوانات أصدق طبيعة من أصولها التي تعيش في حدائق الحيوان، وإنّ القرود بلا شك مرحلة انتقالية بين الإنسان والقرد، وإنّه يمضي حياته منكباً على طرف عصا، وتلك الأحصنة الهزازة التي تشبه جوانبها الأمامية والخلفية كرسيًّا بمسندين للذراعين. إنّ تلك العربة ذات البراميل الثابتة، وأولئك الجنود الخشبيين ذوي الخصر الصغير والأنوف المثلثة بشكل خارق للطبيعة- جميع هذه الأشياء- كل كنوز طفولتك وطفولتي الأولى الغريبة المألوفة الرخيصة- جميعها أتت، أيها القاريء، من سان اولريتش. وهي ما زالت تصدر من سان اولريتش إلى يومنا هذا- وسوف تظل كذلك، عندما نصبح أنا وأنت في طي النسيان. لأننا محض بشرٍ فانين، ولكنَّ هؤلاء المحاربين الخشبيين وتلك العرائس المجمعة تحمل حيواتٍ سحرية، ويظل شبابها عصياً على البلى، متجدداً إلى الأبد.  أما أكبر مستودعين للبيع بالجملة في القرية فتعود ملكيتهما للهر بيرجر والسيدين إنسام وبرينوت، وهما يبرزان مؤسستيهما في استعداد وتمدن. إنني لا أعرف حقاً متى رأيت مشهداً هكذا يجمع بين الغرابة الفائقة والتسلية الممتعة. ففي متجر إنسام وبرينوت وحده، طوّف بنا حول أكثر من ثلاثين من غرف العرض الكبيرة، وقد كانت اثنتا عشرة غرفة منها ملأى بالدمى،  لا أعرف متى رأيت منظراً غاية في الغرابة والترفيه معاً- الملايين منها، الكبيرة والصغيرة، والملونة وغير الملونة، في سلال وحقائب وعلى الأرفف، وفي طرود محزومة ومعدة للتصدير. وفي إحدى الغرف التي خصصت للأقزام بحجم بوصة ونصف طولاً، تكدست العرائس في كومة بشكل عشوائي من الأرض حتى السقف حرفياً. وقد بدت كما لو أنّها قد ألقيت على الأرض من العربات المحملة. وغرفة أخرى تحتوي فقط على الأحصنة: وغرفتين أخريان مخصصتان للعربات التي تجرها الجياد، وممر طويل مكدس بالمنصات الخشبية دون سواها ليتم تركيبها مع الأحصنة تباعاً. وغرفة خرى تحتوي على رؤوس الدمى. أما العلية الكبيرة المظلمة في سطح المنزل فهي مجهزة بالكامل بالسلال الهائلة الحجم، مثل قبو النبيذ، وقد امتلأت كل سلة إلى حدها بنوع مختلف من اللعب، جميعها من الخشب فقط، بانتظار التلوين. وقد كانت الأقبية هي الأخرى مملوءة ببضائع من النوع ذاته، ملونة وجاهزة للبيع. والآن، جميع سكان البلدة، رجالاً ونساءً سواءً، تربوا على أحد أقسام هذه الصناعة في قناعة وافتقار للطموح، وبدأوا العمل من عمر السادسة أو السابعة، وقد كان العمل مستمراً بلا انقطاع على مدار السنة. ولم يتوقف بائعو التجزئة عن طلب هذه المنتجات. وقد أظهرت نتيجة آخر تعداد سكاني أنَّ  عدد العاملين في الحفر على الخشب يبلغ 2000 شخصاً من مجمل عدد السكان البالغ 3493 نسمة فقط. وحدث ولا حرج عن نسبة العاملين في التلوين والتذهيب. وبعض هؤلاء المشتغلين في الحفر على الخشب والتلوين فنانون بالمعنى الأصيل للكلمة، أما الآخرون فمجرد آلات بشرية تضطلع بصنع الدمى، بينما تقوم آلات بشرية أرى بصنع علب الكبريت وأعواد الثقاب. ويتوقع من صانع الدمى "البارع" أن ينهي عمل عشرين دزينة من الدمى المصغرة المركبة التي يبلغ طولها بوصة ونصف في اليوم، ومن هذا الحجم وحده يشتري إنسام وبرينوت 30 ألفاً في الأسبوع طوال السنة. أما النظام الدوري فهو بالنسبة لبائعي الجملة الذين يشترون البضائع مباشرة من الصانعين، ليقوموا بتخزينها لديهم حتى يتم طلبها ولا يخرجونها إلا إلى التلوين، لأنّ الطلب يكون من لندن أو أي مكان آخر. وعليه فإنّ عمل النحات يكون منتظماً ومتقناً، ولكن يفتقر عمل الملّون إلى الاستقرار لاعتماده على طلب التلوين من عدمه. أما مخازن الهر بيرجر، على الرغم من امتلائها بالدمى وغيرها من الألعاب، فتحتوي معظم أجزائها على منتجات تفوق تلك التي تباع في محلات السيدين إنسام وبرينوت من حيث القيمة والمستوى الفني. جميع الاستديوهات في أوروبا مزينة بالرسوم التشكيلية لشخصيات بأحجام كبيرة أو صغيرة من متاجر الهر بيرجر، بل أيضاً تحتضن نماذج لأحصنة أنيقة البنية. وهنا أيضاً، تتدرج بشكل كبير جميع أطوال الممرات خافتة الإضاءة، وتقف صفوف من القديسات الجميلات، بالحجم الطبيعي، و ملونة بجمال، يرتدين الثياب الغنية بالنقوش والحفر بالذهب:- القديسة سيسيليا، مع نموذج  مصغر لآلة الأورغ، والقديس ثيودور البطولي بدرعه المتلأليء، والقديس الوقور الوسيم كريستوفر مع الأطفال المسحاء على أكتافهم، والقديسون الفلوريانز بدلائِهم، ونماذج السيدة العذراء المتوجة بالنجوم، والراهبات مثل الأم دولوروساس، والإنجيليون بشعاراتهم، القديس بطرس بمفاتيحه، ومجموعة من القديسين الآخرين، والملائكة والشهداء. وجدنا في الممرات الأخرى نسخاً لذات الشركة الكبرى بجميع درجات الصغر.  وفي غرفة أخرى لدينا مسحاء بجميع الأحجام، ولجميع الأغراض، ملونة وغير ملونة، بالعاج والأبنوس والخشب، من أجل تزيين جرن الماء المقدس، ومن أجل المصلى، ومذبح الكنيسة، والأضرحة على جانب الطريق. بعض هذه الأعمال تستوفي شروط العمل الفنيّ، وقد تمت قولبتها بدقة، وفي أحوال كثيرة يتم تلوينها بشكل متقن للغاية. وهنالك محاكاة بالحجم الكامل لتمثال الرحمة تم صنعه بواقعية متقنة، ليس من أجل الحياة بل من أجل الموت، وكان ذلك أمراً مذهلاً للغاية. وربما خشيت من الجزم بعدد الغرف التي تمتليء بالمسحاء الصغار التي مررنا بها بينما كنا نصعد إلى الطوابق العليا لدار الهر بيرجر الواسعة. لقد كانت موجودة في جميع الأحوا ، تعدّ بمئات الآلاف، من جميع الأنواع، وكل الأثمان، وكل مراحل التنفيذ. وفي العلية رأينا أتلالاً من السلال المخصصة فقط لتخزين أكاليل الشوك.  وقد خصصنا يوم واحد لزيارة المنازل واحداً واحداً، ورؤية الناس وهم يعملون. وبما أنّ المئات منهم يقومون بفعل الأشياء ذاتها في الواقع، وقد كانوا يقومون بها طوال حياتهم، بدون أية أفكار تتجاوز القسم الذي يعملون فيه الآن، فقد سادت حالة من التشابه الحتمي في هذا الجزء من الجولة والتي كان من الممل تكرارها. وسوف أقدم على أية حال مثالاً أو اثنين.  وفي منزل واحد وجدنا امرأة متقدمة في السن جداً تعمل، واسمها ماجدلينا بالدوف. لقد كانت تنحت القطط، والكلاب، والذئاب والخراف، والماعز والأفيال. وظلت طوال عمرها تصنع هذه الحيوانات الستة، وليس لديها أية فكرة عن كيفية نحت أي شيء آخر. وهي تصنعها بقياسين، وتنتج ما يقارب الألف قطعة كل سنة. ليس لها نموذج ولا رسم لأي نوع منها لتعمل وفقاً له، ولكنها تمضي في عملها بإتقان وأناة، مستخدمة  قطع الخشب من شتى الأحجام، وتشكّل قططها وكلابها وذئابها وأغنامها ومعزاتها، وأفيالها بسهولة وقدر من الصدق تجاه الطبيعة إلى حد يمكن وصفه بالعبقرية إن لم تكن غاية في الآلية. لقد تعلمت ماجدلينا بالدوف من والدتها طريقة نحت هذه الحيوانات الستة، وقد تعلمت أمها، بالطريقة ذاتها من جدتها. وقامت ماجدلينا الآن بتدريس الفن لحفيدتها، وهكذا سوف يتم توارث الفن عبر الأجيال. في المنزل المجاور، الويس سينونر، رجل بني السحنة، وسيم، وقوي البنية يرتدي قميصاً أزرق، وينحت تماثيل المسيح الكبيرة للكنائس. لقد وجدناه يعمل على واحد بثلاثة أرباع الحجم الطبيعي. وكان الشكل الكامل عدا الذراعين في قطعة واحدة، مثبتة على قضيب حديدي بين عمودين اثنين، حتى يستطيع إدارته وفق رغبته. إنّها لا تزال قطعة خام، نصف جذع شجرة، ونصف إله، وبها جمال غريب مثير للشفقة ينبثق من القسمات التي لم تكتمل بعد. إنّ رؤية الهر سينونر في العمل لمشهد بديع. ولم يكن لديه هو الآخر، مثالٌ، ولم تكن قد عُلّمت بالنقاط حتى كما هو متعارف عليه عند الحفر على الرخام. لم يكن لديه دليل من أي نوع، ماعدا معرفته التامة ولكنه ينهمك في العمل بطريقة رائعة. يقوم بتجريف الخشب إلى قشور طويلة في كل من ضرباته السريعة، ويبعث بالقطع الطائرة في كل اتجاه. بيد أنّ الويس سينونر هنا فنان. ويتطلب منه صنع تمثال بثلاثة أرباع الحجم الكامل عشرة أيام من العمل، وخمسة عشر يوماً لتنفيذ واحد بالحجم الطبيعي. وبالنسبة لهذا الأخير فإنَّ تكلفة الخشب تصل إلى خمسة عشر فلوريناً، والثمن الذي يطلبه للتمثال من الحجم الطبيعي خمسة وأربعون فلورينا، أي حوالي أربعة جنيهات وعشرة شلنات إنجليزية.  ووجدنا في منزل آخر، أسرة بكاملها تنحت الجماجم والعظام المتقاطعة، ليتم تركيبها على قواعد الصلب- ومن الواضح أنّه ليس قسماً مبهجاً من هذه الحرفة. وتنحت الأسر في منازل أخرى الأحصنة الهزازة، والدمى، وجميع اللعب المذكورة آنفاً، وفي غيرها أسر من الرسامين. وتقوم النساء بتلوين اللعب العادية بشكل رئيسي. وفي أحد المنازل وجدنا حوالي عشر فتيات يلونّ الأحصنة الرمادية بنقط سوداء. وفي منزل آخر قمن بتلوين الأحصنة الحمراء فقط بنقط بيضاء. إنّه قسم مستقل من الصنعة لتلوين السروج واللُجُم. بوسع اليد الخبيرة تلوين اثنتي عشرة دزينة من الأحصنة في اليوم، ويبلغ طول كل حصان حوالي قدم واحد.  وعلى هذا فهي تكسب خمسة وخمسين سولدي، أي ما يعادل شِلنين وثلاث بنسات إنجليزية.   لقد تأملت لفترة ما في تفاصيل هذه الصنعة الغريبة، وذلك بسبب أنه رغم ممارستها في مكان ناء وبعيد، وبطريقة غاية في التقليدية، إلا أنّها ما تزال تزود شريحة كبيرة من المشترين في العالم بدمىً من إنتاجها. ويقال إنَّ هذا الفن قد دخل إلى الوادي في بداية القرن الماضي، بشهادة الإمدادات التي لا تنضب من أخشاب الصنوبر الحجري، أو pinus cembra  الذي تنتجه غابات الغرودنر تال، وهو الخشب الذي يستخدم بشكل خاص للنحت الزهيد، كونه ناصع البياض، ناعم النسيج، وصلبًا، ومع ذلك فهو طري وسهل العمل عليه.   وقد قام سكان سان اولريتش مؤخراً بترميم كنيستهم الرئيسية وتزيينها. وقد أصبحت الأجمل في جنوب تيرول الآن. إنَّ النحت على الحجر والتزيين الخارجي تم ترميمه بواسطة الهر بليز اوفينتورا من بريكستن، أما النوافذ الملونة فقد نفذها ناكايزر من إنسبروك. والزخرفة المتعددة الألوان بواسطة الهر بارت من سان اولريتش، والتماثيل الخشبية الكبيرة بيد الهر موشنيت، وهو أيضاً من سان اولريتش والشخصيات الأصغر حجماً على المذابح والمنبر، مثلها مثل النحت الخشبي بشكل عام نفذت جميعها بواسطة فنانين محليين. وقد استخدمت الألوان وتقنية التذهيب بسخاء بالطبع في جميع الأجزاء الداخلية، ولكن الأثر العام كان يتمثل في الترف والانسجام وليس في المغالاة على أقل تقدير. تتدلى من فوق المذبح العالي، نسخة ممتازة من عذراء سيمابويه الفلورنسية الشهيرة.  تسمى لهجة غرودنر تال بلغة لادين، ومن المفترض أنّها مشتقة بشكل مباشر من اللاتينية الأصلية في وقت يتزامن مع فترة الحكم الروماني. وهي تختلف بشكل واسع عن لهجات اللغة الإيطالية الحديثة، وعلى الرغم من أنّها في بعض المواقع تكون أقرب تجسيداً للغة الريتو رومانسك المتحدثة في كريسونس، والرومانية الدنيا لإنجادين، فهي لا تتميز بعد، كما قيل لنا،  بشكل منفصل من الاثنتين عن طريق " فروق محددة جيداً في كل من النحو والمعجمية،" كما تشير " إلى القرابة أكثر من هوية المخزون" وأولئك الذين يقرون مع شتايب بوحدة اللغتين الريتيكية  والترورية، ومن يتفق ونيبوهر في التصديق بأنَّ الريتيكية في هذه المناطق من الألب عبارة عن المخزون التروري الأصلي، يعزز القول بوجود أصل أبعد لهذا الجزء المفرد من إحدى اللغات القديمة.  وبلا شك يبدو أنه من المعقول جداً افتراض أن اتجاه موجة الهجرة في الأصل كان من الجبال إلى السهول، بدلاً عن القول بأنّ سكان مسطحات اللومباردي الخصيبة الأصليين قد استعمروا بالضرورة تلك المعاقل الألبية القاحلة نسبياً. ويلقى هذا الرأي- تجازف الكاتبة بالاعتقاد- دعماً كبيراً من حقيقة أنَّ عدداً كبيراً من البرونز المدفون، الذي يتسم بالصفات الأترورية، قد تم اكتشافه في عدة مناسبات خلال السنوات الخمس الأخيرة في ضاحية سان اولريتش الحالية. وقد جمعت هذه الأشياء واضطلع الهر بيرجعر  بتنظيمها على نحو يتسم بالذكاء، وترى الآن في معرضه. فهي تعبيء خزانتين اثنتين، وتضم الأدوات العادية المكتشفة في مقابر تعود لتأريخ مبكر، مثل الأساور، والخواتم، والأبازيم، وآلات عزم الدوران، والأقراط، والأسلحة، وغيرها وغيرها.   وربما اهتم علماء فقه اللغة بمعرفة وجود كتاب عجيب هناك حول غرودنر تال، ولغته، مع المخزون وقواعد النحو للغة ذاتها، لدان جوزيف ويان، وهو من سكان فاسا تال، ويعمل الآن راعياً لكنيسة سان اولريتش. ومن سان اولريتش إلى مرج السيسر الألبي، يقودنا الطريق صعوداً عبر وادٍ تكسوه الغابات يعرف باسم مضيق بافلر. وفي مزاج يعكره الملل من الانتظار الطويل لطقس أكثر ملاءمة للسفر، بدأنا أخيراً في صباح يتأرجح صفوه بين الشك واليقين، فوجدنا الطرقات مبللة وزلقة، وتعكرت جداول الجبال من المطر الذي ظل يهطل طوال الأيام الثلاثة الماضية. وانتشرت المساكن النظيفة المزدانة بجصّيات للقديسين والسيدة العذراء بكثافة على المنحدرات الدنيا باتجاه سان اولريتش، تحفها الحدائق الغنية بالمناحل والزهور مثل الأكواخ الإنجليزية. وتضمحل تدريجياً بينما نواصل الهبوط على المضيق، ويصل المشهد إلى نهايته باجتياز الكنيسة الصغيرة الوحيدة وقرية سان بيترو.  ومن ثم أصبح الطريق طويلاً وزلقاً لبضع ساعات، ووصلنا أخيراً إلى مستوى تلك الهضبة الشاسعة الخصيبة المعروفة باسم سيسزر الألب- وهي الأكبر والأجمل بالتأكيد بين جميع المراعي الجبلية بأقليم تيرول الأعلى. تتناثر عليها مجموعات من أشجار التنوب الداكنة اللون، وأكواخ صغيرة بنّية وقطعان من الماشية الوديعة، وجماعات التبانين. وتحرسها نصف دائرة من الجبال العملاقة المهيبة، تموج مبتعدة، ومعها عشبها الأشد خضرة، وزهورها البرية الأغنى، لأميال وأميال حولنا. وهناك إلى الجنوب الغربي، تتدحرج الهضبة العظمى حتى سفح جبل سكليرن، والذي يتجلى على هذا الجانب بشموخ وهيبة من بين غيوم الضباب الكثيفة. وثمة قمة منخفضة من الصخور المهشمة السوداء تدعى روس-زان أو فك الحصان، وقد اشتق الاسم من شبهها بصف من الأسنان المتساقطة في عظم فك صخري، وهي تربط جبل سكليرن بالطرف الشمالي من سلسلة روزينغارتن، من جهة والطرف الجنوبي من مرج السيسر الألبي، وبالقمة التي يبرز منها جبلا بلات كوغل ولانغ كوفيل. ولكن الروزينغارتن متوارية جدا وسط الضباب الذي لا يفتأ يحلّق مع الريح من جانب مدينة بوتزن.  وعلى أية حال فإنَّ جبل لانغ كوفل كئيب وموحش، يحده برواز متعرج من الجليد المعلق فوق صدع عميق في وسط قممه المشرئبة، وجبل  بلات كوغل* يربض مثل علجوم عملاق، مديرًا  ظهره ناحية جبل سكيلرن، الذي يظهر وحيداً، وفي بعض الأحيان كلاهما معاً، تحت الشمس المشرقة أو في الظل، كما تتجمع الأبخرة وتتفرق.  إنّه منظر عريض متجدد، يستوعب جبل المارمولاتا وجبل توفانا والكثير من القمم الشهيرة أيضاً، ويمكن رؤيته من هنا، ولكن الغمام يلف ذلك الجانب بالكامل اليوم، ولا يفلت من ستار الضباب سوى جبلي سيلا وغيردينازا الهائلين الشامخين. وبين الفينة والأخرى يُرفع الستار للحظة باتجاه الغرب، فنحصل على لمحات وجيزة من الهضاب المكسوة بالغابات، والأودية المتألقة تحدها سلاسل الجبال البعيدة، الزرقاء والرقيقة والحالمة، كما لو أنّها مرسومة على الجو المشمس.  ولكن (فضلاً عن امتياز المنظر على ثلاثة من الجيران، جبل لانغ كوفيل، وجبل بلات كوغل، وجبل سكليرن). فإنّ روعة مرج سيسر الألبية تكمن في مرآه- مرأى مرج سيسر الألبية- تخيل أحد البراري الأمريكية قد ارتفع بشكل فعلي إلى ما فوق هضبة يتراوح ارتفاعها ما بين  5.500  إلى6000 قدم- تخيل أنَّ بحراً مائجا من العشب الطويل قد حاز على  طوفان عاتٍ من أشعة الشمس الصيفية، والظلال الطافية للسحب- لاحظ كيف يتسنى لهذا العالم العلوي من المراعي إطعام الف وثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة رأس من الماشية القرْناء، بما في ذلك ثلاثمائة من مساكن الرعاة وأربعمائة من شاليهات القش، لدعم العدد الصيفي الكبير من التبانة، وقطعان الماشية، وهو لا يزيد في المساحة عن ستة وثلاثين ميلاً إنجليزياً في محيطه، ثم بعد كل ذلك، أشك في عدالة أي صورة ذهنية قد تتشكل في مخيلتك. إنَّ الهواء هنا نقي لحد لا يوصف، ومنعش وزكي. الشيء الذي يوفر لنا طريقاً يقود إلى الأعلى من سويسرا أو كمونة كاستيلروث، وفندق جيد إلى حد ما على رأسه، أما مرج سيسر باعتباره منتجعاً جبلياً، فسوف يتفوق على مونتي جينيروسو، والبيسبرون، وسيليسبيرغ، وكل البلدات "الصيفية" في هذا الجانب من إيطاليا خارج المنافسة.  يحفظ مزارعو هذه الأجزاء أساطير كثيرة عن بحيرة تعود لما قبل التأريخ، يقال إنّها كانت في الزمان القديم تحتل مركز هذه الهضبة الألبية، وهي أسطورة تكتسب بعض لونها من حقيقة أنها دون فجوة مضيق بافلر في الأسفل التي يجري ماؤها إلى وادي غرودنر، وسوف تكون هنالك بحيرة في هذا الوقت في منطقة الضغط الجوي المنخفض على القمة.  وبعد التسكع والبقاء هنا لبضع ساعات تقريباً، بدأنا أخيراً الهبوط باتجاه مجرى الشيبيتاك، وهو نهر يجري في قاع الصدع العميق الذي يقسم مرج السيسر الألبي من الواجهة الشمالية الغربية لجبل سكليرن.* ونأتي الآن لكوخ بائع جبن على بعد بضع مئات من الأقدام تحت حافة الهضبة، لقد طلبنا استراحة منتصف النهار. وهكذا قدمت لنا طاولة وأريكة ووضعتا في الظل، كانت السيدة الطيبة تمدنا بأطباق خشبية غنية بالقشدة ذهبية اللون، أما البغال فتركت ترعى.  ودلف المرشدون إلى الداخل لاحتساء كأس من النبيذ الأحمر رفقة الراعي وابنائه، كان الضباب ينقشع بعيداً، كتل جبل سكليرن الضخمة بدأت بشكل رائع من فوق الغابات وراء الشاليه- كما لو أنها تتهيأ  لتُرسم.  ومن هذه النقطة إلى الأسفل حتى دار الحمام في راتزيس، كان الطريق يسير عبر غابات التنوب التي تحجب بدورها الجبال القريبة والمشهد البعيد. وحوالي منتصف الطريق هبوطاً، مررنا بمنظر القذيفة المحطمة لقلعة شسلوس هاوينشتاين، التي كانت في يوم من الأيام سكناً لأوسالد الذي جاء من فولكينشتاين، وهو فارس معروف ورحالة وكاتب أغانٍ، ولد في عام 1367، وقاتل ضد الترك في نيكولوليس في 1396، وشهد اقتحام سبتة عام 1415، ولقي مخاطر عظيمة في البر والبحر في شبه جزيرة القرم، وفي أرمينيا، وفي فارس، وآسيا الصغرى، وإيطاليا، واسبانيا، وانجلترا، والبرتغال، والأراضي المقدسة، ومات هنا في قلعة هاوينشتاين في عام 1445، ووري جسده الثرى في كنيسة آبي الشهيرة بنيوستيفت بالقرب من بريكزين، حيث يمكن رؤية مقبرته حتى هذا اليوم. نُشرت أغنياته العاطفية، وترانيمه، وحكاياته الشعرية التأريخية في إنسبرونك، وقد تم تجميعها من نسخ المخطوطات القديمة الثلاث الموجودة، واحدة منها تعود للكونت فولكيشتاين الحالي، وثانية تملكها المكتبة الإمبريالية في فيينا، والأخيرة  في متحف الدولة التيرولية في إنسبروك.    رؤوس جبل سكليرن إنّه لمن الصعب تخيل وجود مكان أكثر وعورة وبدائية من دار حمّام راتزيس. إنّه يقع على سفح تلك القمم الهائلة التي رأيناها للتو من كوخ الراعي، ولكننا هبطنا نحو 1800 قدم مذاك، ووجدنا أنفسنا الآن على عتبة مبنى لا يمكن وصفه إلا بأنّه كوخان خشبيان يربط بينهما ممر مسقوف. كانت الحمامات في الدور الأرضي، وغرف النوم في الطابقين العلويين. وهنالك معبد صغير، وملعب للبولينغ، وغرفة معيشة واحدة كبيرة، حيث تناول الطعام والتدخين واللعب بالورق يجري على قدم وساق طوال اليوم، وملحق أكثر انخفاضاً بحوالي ثلاثمائة ياردة للطبقة المتواضعة من المرضى، فيكتمل كاتلوج عوامل الجذب والمصادر المتنوعة لآل راتزيس. أما ما يكون عليه السكن في ذلك الملحق فهو شيء يستحيل تصوره، لأنّ في المبنى الرئيسي هنا توجد غرف صغيرة تبلغ أبعادها عشرة أقدام × ثمانية، وتحتوي على سرير محشو بالقش، وحوض استحمام خشبي، ومقعد، وطاولة، ومقراب في حجم كتاب قياسه ثمن صفحة، وليس ثمة قطعة من السجاد أو الستائر من أي نوع، إنّها أفضل إقامة بوسعهم توفيرها.                                                      كانت عشيقة آل راتزيس، أرملة نشطة، صافية الفكر تجارية الذهنية، لها تسعة أطفال، الشيء الذي يرفع عدد الأسرة في دار الحمام إلى سبعين سريراً، ولربما زاد عدد النزلاء إن وُجد في المكان متسع لذلك. وأكثر عملائها من الحرفيين الصغار وعائلاتهم من بوتزين والمزارعين الفلاحين من القرى المجاورة. وهنالك عينان من المياه، واحدة مطعمة بالحديد والأخرى بالكبريت، لتزويد الزوار بالحمامات والعلاج. وثمة قس يحضر يومياً، ولكن ليس هناك طبيب، ويبدو أنّ المرضى يختارون العيون وفق هواهم. والحمامات من أبسط الأنواع، عبارة عن صناديق من خشب الصنوبر على هيئة الأكفان، ذات أغطية خشبية لتصل إلى ذقن شاغلها، وبداخلها رف خشبي لدعم رأسه من الخلف. كانت هذه الصناديق قد صفت جنباً إلى جنب في صفوف من ثمانية أو عشرة صناديق، تملأ مجموعة من غرف الطابق السفلي منخفضة السقف شديدة العتمة، وتشبه بالضبط صفوفاً من الأكفان في سلسلة من الأقبية الكئيبة. وقد تصاعد هذا الأثر حد الرعب عندما قام أحد الغرباء الغافلين الذي ينظر بخجل، كما فعلت، من خلال الباب المفتوح على مصراعية، لرؤية رأس  يطل من غطاء كفن في ركن مظلم، ويسمع صوتاً عميقاً يقول في لهجة جنائزية:- "مساء الخير"               ليلة واحدة في راتزس أكثر من كافية لإرضاء أغلب المسافرين الذين يغلب عليهم حب الاستطلاع. ولا يملك أي شخص الحق في التذمر من ضوضائها، أو دخان التبغ الذي يعبق به هواؤها، أو الزحام المزعج، أو مساكنها الخشنة. إنَّ المكان كما هو يناسب أولئك الذين اعتادوا على ارتياده. فنحن لا نذهب هناك من أجل الكبريت أو الحديد ولا من أجل الهرب من الحرارة القائظة في بوتزن، فنحن فوق كل ذلك دخلاء، ويجب أن نقبل بالأمور كما هي.                                                          سنغادر راتزس صباح الغد في الساعة التاسعة والنصف، حيث علينا أن نكون في أتزوانغ بحلول الساعة الثانية بعد الظهر للحاق بالقطار المتوجه إلى بوتزن. كان الصباح جميلاً ولكن الحزن كان يعتصرنا طوال اليوم، لأنّها كانت آخر رحلة لنا مع البغلين نيسول الأبيض ونيسول الأسود. كان الدرب يمتد في البداية خلال غابات التنوب، ويدور حول قاعدة القمم العظيمة، ويمر بصدع رهيب في مصب نهر حيث سقط قسم كبير من جبل سكليرن فجأة قبل اثنتي عشرة سنة فقط، فانتشرت كتل الركام الضخمة في المضيق والمراعي، وجانب الجبل بكامله.                        والآن ما زلنا في رحلة الهبوط، نمر بالمزارع والقرى والكنائس، وحقول الأجاص والكرز، وأحزمة من القمح المحمّر، والشعير ذي اللحى، ووصلنا أخيراً إلى فتحة يتسنى لنا من خلالها رؤية منظر شهير. من هنا ننظر إلى ثلاثة مشاهد عظيمة للوادي- ناحية الشمال طريق الصيادين الذي يمتد حتى مدينة بريكستن، و ممر برينر، وإلى الجنوب باتجاه بلدية ترينت، ووادي نون، والشمال الغربي على طول الطريق العريض لوادي إيتش الأعلى في اتجاه بلدة ميرانو. وفي قاع خندق عميق بين الجدران الهائلة للجرف، قريباً من المنطقة التي تقع أسفل أقدامنا كما تبدو، يتدفق نهر إيزاك العريض بتياره السريع ومياهه الرمادية. أما الطريق السريع الذي يقود مباشرة إلى مدينة فيرونا فيبدو كخط أبيض عريض على هذا الجانب من النهر، وتمتد السكة الحديدية بطول الضفة الأخرى كخط أسود ضيق ينقب هنا وهناك عبر فتحات النفق الصغير التي تشبه جحور الأرانب. عالم علوي كامل من الهضاب الخضراء والمراعي الألبية، والقرى والكنائس وحقول الذرة، وغابات الصنوبر، يقع على مد البصر كخريطة على طول الهضبة، بترت منها هذه الوديان الثلاثة، ووراء هذا العالم العلوي، تزداد قمم الجبال البعيدة الشبحية شموخاً بعد.                      ومن هذا الموقع يصبح الطريق زلقاً ومتعرجاً فجأة. فهو متحدر إلى الأسفل طبقة بعد الأخرى. وألفينا الآن أول مزرعة للأعناب، وسمعنا صرخة زيز الحصاد الداوية لأول مرة. والآن يتناهى إلى أسماعنا صوت نهر إيزاك السريع يأتينا من خلال الأشجار. نعبر الآن الجسر المسقوف في الوادي، ونترجل عند المحطة. هذه هي أتزوانغ، هنا السكة الحديدية، فنحن مجدداً في قاع عالم الأرض المشتركة، القائظة الحر، والكثيرة الغبار والحركة.                                                            وفي اتزوانغ فارقنا كليمنتي والبغال، بينما يمضي غوسيبي معنا حتى بوتزن، كان كليمنتي يودعنا على مضض، ول. "على الرغم من حداثة عهدها بالمزاج العاطفي،" تبادلت إيماءات الوداع المؤثرة جداً مع نيسول الأبيض. أما بخصوص نيسول الداكن، فقد كان جلداً قاسي القلب حتى النهاية، لقد هز أذنيه ووثب بقائمتيه بسرور، فلابد قد أدرك أنّه تخلص مني أخيراً، ويبتهج لمعرفة ذلك.                                   والآن ونحن قد وصلنا إلى مدينة بوتزن، ألفينا أيضاً نهاية جولتنا لمنتصف الصيف هذا. وسنتسكع لمدة أسبوع في هذه البلدة العتيقة الطريفة التي تنتمي إلى عهد العصور الوسطى. لأسبوع كانت قمم سكليرن، والواجهة الكبرى لجبل روزنغارتن تنظر لينا من عل من وراء إيزاك. وطوال ما استطعنا التسكع في كل مساء حتى الجسر القديم الذي يقع إلى الأسفل وراء الكاتدرائية، وانظر ضوء الغروب يطبع على تلك القمم الشامخة لوناً قرمزياً رائعاً، فنحن نشعر بأننا لم نغادرهم بعد على الإطلاق. لقد كانت هذه آخر جبال الدولميت. ولوحنا لهم مودعين من ذلك البرج.  النهاية.   ملاحظات:  * تقدر منطقة جبل غيردينازا العملاق بالكامل  بحوالي اثنين وعشرين ميلاً مربعاً، وارتفاعها يزيد على 9000 قدم فوق سطح البحر. أما جبل سيلا العملاق فهو يحتل مساحة لا تقل عن أربعة عشر ميلا مربعاً. القمة الأساسية للجبل الأخير، أي بويه، أو بوردويه سبتز، الذي صعده د. غرومان، والتي قدر ارتفاعها ب10.341 قدماً. ولا علم لدي إن كانت أي من القمم الأربعة الأخرى قد قيست من قبل. وإلى مدى بسيط تجاوزت كتلتا الغيردينازا والسيلا جميع كتل الدولمايت الأخرى.  يقدر بول ارتفاع جبل لانغ كوفل ب10.392 قدماً، وجبل بلات كوغل ب 9.702 قدماً.  وقد قال عن الأخير إنّه :" يسهل الوصول إليه من سيز، أو بصورة مريحة أكثر من سانتا كريستينا في وادي غرودنر تال." أما جبل لانغ كوفل فأول من تسلقه هو الدكتور غرومان في عام 1869. وتسلقه السيد وايتويل دون أن يصل إلى قمته في عام 1870، ومرة أخرى صعد السيد كيلسو إلى أعلى قممه في اليوم الحادي عشر من شهر يوليو عام 1872، وكان يرافقه سانتو سيوربايز من كورتينا. * ارتفاع جبل سكليرن يصل إلى 8.405 فقط، ولكنه يشهق في وحدة عظيمة، وقممه قاحلة جداً ورأسية. حتى أنّ العديد من جبال الدولمايت التي تفوقه طولاً تبدو أقصر منه.   ويمكن التمتع بتسلق سلس وسهل من فولز، والمنظر من فوق القمة جميل للغاية، على الرغم مما قيل بأنّه ليس أفضل من ريترهورن الأقرب إلى بوتزن، ويشمل جبل اداميلو، واورتيلر، واويتزال، وانولزر الألبية. أما الأفق الجنوبي الشرقي، على أية حال، وبالتالي جميع الدولمايت الأساسية تتوارى خلف أقرب كتلة لجبل روزينغارتن. " ليس هنالك جبل في الألب قد حاز هذا الصيت العظيم بين علماء النبات نسبة لغناه  بالزهور، وعدد النباتات النادرة التي ينتجها مثل سكليرن." بول في كتابه جبال الألب الشرقية. ص 484.-- ---- .  _________________________ بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من الكتاب  وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة صفحتنا الرسمية في فيس بوك : https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar (جميع الحقوق محفوظة , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

متى سيصل؟ - قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - إيمليا إدواردز - تعريف بالكتاب
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الأول - من جبل جينيروسو إلى مدينة البندقية
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثاني - من البندقية إلى لونغاروني
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الثالث - من لانغاروني إلى كورتينا
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الرابع - في كورتينا
قمم غير موطوءة وأودية غير مطروقة - الباب الخامس - من كورتينا إلى بياف دي كادوري