Arabic    

سان ميشيل - لأكسِل مونتي - استهلال


2019-05-05 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قصة سان ميشيل

 

 

 

سان ميشيل    لأكسِل مونتي
 
هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
(هذه الإشارة في هامش الغلاف الداخلي): 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أشرت إلى الهوامش التي وضعها المترجم بحرف (م)، وإلى معجم ويبستر بـ (W)، و(المورد) هكذا باسمه، وشبكة جوجل العالمية (G)؛ وتركت هوامش الكتاب على حالها، كما وردت في النص، مغفلة من أية إشارة. 
وألفت نظر القارئ إلى أني تركت بعض العبارات في الإيطالية كما وردت في نص الكاتب، التزاما بالأمانة واتساقا مع رغبة المؤلف، واكتفيت بترجمتها في الهامش، استئناسا بمعجم Collins الإيطالي–الإنجليزي. ونظرا لورود كثير من المفردات الإيطالية باللغة الدارجة (العامية)، وخاصة في الألقاب الساخرة، فقد وضعت ترجمتها في الهامش أو تركتها على حالها إلى جانب معناها العربي، تاركا بينهما هذا الخط المائل/. كما ألفت النظر إلى أن المؤلف يعامل الحيوانات معاملة البشر، ولذلك تركت ضمائر الجمع في صيغة العاقل، التزاما بأسلوبه. 
استهلال
"قصة سان ميشيل" لأكسِل مونتي
 
 رواية ملحمية بحق، كتبها أكسِل مونتي وهو طبيب سويدي مختص بالأمراض العصبية، منطلقا من الواقع الاجتماعي الجائر والمزري الذي كان سائدا في باريس خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان يتقن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، فضلا عن السويدية/ لغته الأم، كما أنه كان ملما بالألمانية. ولم تقتصر محبته ورعايته الإنسانية على البشر، والفقراء منهم بخاصة، لكن حسه الإنساني النبيل وإشفاقه الحميم اتسع حتى شمل الحيوان أيضا، ودفعه إلى التضحية بالكثير من وقته وماله وجهده من أجل إقامة محمية للطيور في آناكابري. 
يقول الكاتب في مقدمة إحدى الطبعات الأولى: 
"توجهت على عجل من فرنسا إلى لندن لأتدبر أمر جنسيتي، فقد بدا أن بلادي ستنجر إلى الحرب( 1) في صف ألمانيا. كنت أتوقع أن يصبح هنري جيمس أحد كفلائي، بعد أن حصل على جنسيته مؤخرا. وقال لي بصوته العميق: "أنا مواطن بريطاني"(2 ). وهو يعلم أني حاولت أن أقوم بدوري لكني فشلت، وأصبحت فاقد الأمل بأن أقدم أي عون للآخرين. وكان يعرف أي مصير ينتظرني. وضع يده على كتفي وسألني عما أنوي أن أفعل بنفسي؟ قلت له إني على وشك مغادرة فرنسا لأختبئ كمنبوذ في برجي القديم، وذلك خير لي، إذ إنه المكان الوحيد الصالح لي. ولما صافحني مودعا ذكَّرني كيف كان يشجعني، خلال إقامته معي في سان ميشيل قبل سنوات، على تأليف كتاب عن وطني، تلك الجزيرة التي دعاها أجمل مكان في العالم. فلماذا لا أكتب اليوم قصة سان ميشيل، إذا ساءت الحال وبدأت شجاعتي تتضاءل؟ من يستطيع أن يكتب عن سان ميشيل أفضل مني، وأنا الذي بنيتها بيديّ هاتين؟ من يستطيع أن يصف أفضل مني شظايا الرخام التي لا تقدر بثمن، وهي متناثرة على أرض الحديقة حيث كان يقع قصر تيبريوس في سالف الأيام؟ وكم ستكون مثيرة لرجل مثلي، مهتم بعلم النفس إلى أبعد الحدود، دراسة الإمبراطور العجوز الكئيب ذاته الذي مشى بقدميه المرهقتين على تلك الأرض الفسفسائية ذاتها، وقد جلوتها للعيان تحت عرائش العنب! ما من شيء آخر يعادل تأليف كتاب لإنسان يريد أن ينزوي بعيدا عن تعاسته، لا شيء مثل تأليف كتاب لإنسان لا يستطيع أن ينام. 
كانت تلك كلماته الأخيرة، ولم أرَ صديقي بعد ذلك أبدا. 
رجعت إلى عزلتي في البرج القديم ذليلا يائسا، وهي عزلة لا خير فيها. وفي حين كان كل امرئ آخر يقدم حياته لبلاده، كنت أمضي أيامي هائما صعودا وهبوطا في البرج المظلم، قلقا كحيوان في قفص، وكانت تردني حينئذ أنباء لا تنتهي من المعاناة والبلاء. ولقد تعودت أن أصعد إلى سان ميشيل لتسقط الأخبار في بعض الأمسيات، حين يتوقف الضوء الجارح عن إيلام عيني. كان علم الصليب الأحمر البريطاني خفاقا فوق سان ميشيل حيث كانوا يعالجون المصابين من أولئك الرجال الشجعان حتى يتماثلوا للشفاء بفضل الشمس التي طردتني بعيدا عن وطني الحبيب. يا حسرة لتلك الأنباء! كم كان الانتظار طويلا على أولئك العاجزين عن فعل أي شيء غير الانتظار!". 
إن اهتمامي بأدب السفر والترحال جعلني أرى كل رواية رحلة في مخيلة كاتبها، كما أن الأحداث التي تشغل الكاتب تغطي مسارح شتى في الفكر والمكان والعلاقات الإنسانية. وحين يكون الكاتب طبيبا ومختصا بعلاج أمراض حساسة كالأعصاب، فإن السرد الروائي يزداد متعة وطرافة وتأثيرا، ولا سيما أن مونتي هاجر من السويدي إلى باريس لدراسة الطب، ثم مارس مهنته سنوات هناك، وهو يمتاز بمشاعر مرهفة ورقة إنسانية جعلته يشمل حتى الحيوان بعاطفته. ولقد عجبت أنها لم تلفت نظر المترجمين حتى الآن.
إنها روايةٌ تجمع بين السيرة الذاتية وخيال الكاتب الذي يسرد أحداث الحياة اليومية بأسلوب مؤثر جميل. وبطل القصة وراوي أحداثها هو الطبيب السويدي "مونتي" ذاته، وتاريخ الطبعةِ الأولى يعود إلى عامِ 1929، ومواقع أحداثها تدور بين باريس وروما ونابلي وستوكهولم وبلاد اللاب في الشمال الاسكنديڤاني، إضافة إلى جزيرةِ كابري حيث بنى دارة له في آناكابري وعاش فيها آخر حياته يعالج الفقراء ويرعى الطيور المهاجرة. كان في الثامنة عشرة من عمرِه يوم زار كابري حيث عاش الإمبراطور الروماني "تيبريوس" سنواته الأخيرة. وسحرت الجزيرة مونتي بجمالها، فراح يحلم بشراء بيت هناك، بالقرب من كنيسة سان ميشيل الخربة.  ويستغرق الفتى بأحلامه حتى يختلط الواقع بالأسطورة، فيقول: "وانتصب أمامي شخص طويل يلتف بعباءة فاخرة... وقال: "ستكون هذه كلها لك، إنْ كنت راغباً بدفع الثمن!"
ويسأله الفتى مونتي: "من أنت، شبحٌ من الغيب؟" فيجيبه: "أنا روح المكان الخالدة". وكان الثمن المطلوب أن يتخلَّى الشاب عن طموحه، فيوافق بشرط أن يترك له (الرحمة) لأنه عازم على دراسة الطب... بهذه اللقطة الأسطورية تبدأ الرواية.
تابع أكسل دراسته الجامعية في باريس واختصَّ بالأمراضِ العصبيةِ، ومارس مهنتَه بنجاحٍ حتى نال شهرة واسعة جعلت المرضى، والمريضات بشكل خاص، يتوافدون إلى عيادته المزدحمة حتى من إنجلترا وأميركا. وقد عاصر بعد تخرجه الطبيب الفرنسي المشهور شاركو الذي كان يستخدم التنويم المغناطيسي في علاج الأمراض العصبية، كما استخدم مونتي هذه الطريقة، وإن لم يكن مقتنعاً بجدواها إلا في نطاق حدود. وقد اختلف مع شاركو فأدى ذلك الخلاف إلى طردِه من السَّلْبيتريير (Salpêtrière) وهو المركز الطبي الذي كان شاركو يعالج فيه المرضى.
والسبب في طرده أن مونتي حاول إنقاذ إحدى الفتيات الريفيات المخدوعات، وإعادتها إلى والديها بعد أن اكتشف أنهم خدعوها وادعوا بأنها ستعمل في مطبخِ المستشفى، لكنهم استخدموها في العروض الفنية والابتزاز الجنسي حتى أصيبت بالجنون، وكان شاركو يعالجها بالتنويم المغناطيسي. وهذه واحدة من عشرات المآسي التي يرويها مونتي عن الضحايا، إضافة إلى مآسي الأحياء الفقيرة البائسة في باريس، مع أن شهرته جعلت نساء الطبقة العليا في المجتمع يتزاحمن في عيادته طلباً للعلاج. وكانت أوهام الزائدة الدودية، وبعد ذلك القولنج (الكولون) من الأمراض التي تشغل أولئك النسوة إلى درجة الهوس، إضافة إلى الأمراض العصبية والحَمْل الكاذب.
ومن أبرز السمات الإنسانية النبيلة التي يرويها مونتي أنه كان ميَّالاً للعلاج المجاني حتى أثار نقمة زملائه، كما أنه كان عطوفاً على الطيور وسائر الحيوانات، وحتى الوحوش الضارية حظيت بعنايته وكانت تأنس لمعاملته اللطيفة. وأكثر من ذلك أنه جعل في آناكابري محمية للطيور المهاجرة التي كان جشع الصيد والتجارة يقضي على أسراب منها لتزويد المطاعم بلحومها، فاضطر لشراء تلك الأرض.
ومن الوقائع التي يرويها عن مآسي بنات الليل في باريس اللواتي يعانين الحرمان من رؤية أولادهن، وكيف كانت إحداهن تنتظره في الشارع ساعات لكي يخبرها عن حالة ابنتها المريضة، ولا يسمحون لها برؤيتها.. واضطر أن يعيرها يوما، وبالخفاء، لباس ممرضة لكي ترى ابنتها المحتضرة. ولم يكن مونتي متدينا، لذلك واجه صعوبة مع الراهبات اللواتي يعملن في المشافي، وكذلك مع رهبانِ الاعتراف، ثم جعلهم جميعاً يتفهمون امتناعه عن الصلاة.
ومن طرائف ما يرويه قيامه بزيارة شبه أسطورية لبلاد اللاَّب في أقصى الشمالِ الاسكنديفاني حيث يعيشون على تربية الأيائل ورعيها. وفي طريق العودة تكون بنت مضيفه دليلته، فيواجهان في الغابة دبًّا خطراً، لكن الفتاة تحميه لأن الدبّ لا يهاجم الأنثى- كما أخبرته. 
وأطرف ما مر به من مفارقات في مهنته أن شابًّا سويدياً مات، وكان عليه أن يصطحب جثمانه إلى بلاده، ولم يكن مع أمه كلفة التحنيط فقام أكسل بتحنيطه. ورافقه في الرحلة رجل من متعهدي دفن الموتى. وكان الرجل مكلَّفاً بمرافقة جثمان جنرال روسي إلى مدينة بطرسبورغ. لم يخبر مونتي ذلك الرجل أنه طبيب، وخلال الرحلة يحلق له لحيته ويخبره بفخر أنه الرجل الوحيد الذي حلق له من بين الأحياء، ويشكو له من الحلاقة للأموات لأنهم لا يجلسون!
وفي السويد، حين تصر الأم على فتح التابوت لترى ابنها وتودعه، يكتشف مونتي ليلاً أن في التابوت جثة الجنرال الروسي، وأن تابوت ابنها أخذه متعهد الدفن إلى روسيا، لذلك يبذل المستحيل حتى يمنع الأم من فتح التابوت ورؤية من بداخله. وفي رحلة أخرى، يرافق مونتي القنصل السويدي الذي يمر بنوبات هستيريا ويكاد يخنقه أثناء النوم. ومن الأحداثِ اللافتة صداقته مع الكاتبِ الفرنسي غي دي موباسان المصاب بالسل، وكان من ضحاياه أكثر من معشوقة ماتت بالداء ذاته.
هذه الملحمة الإنسانية يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، وخاصة حين يتحدث الكاتب عن عمله في مكافحة وباء الكوليرا في نابولي، وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة، إذ يقول:
"لقد رأيته في نابولي يقتل أكثر من ألف شخص أمام عينيّ هاتين. ورأيته في مسينا  يدفن ما يزيد عن مئة ألف من الرجال والنساء والأطفال تحت البيوت التي انهارت في دقيقة واحدة. ورأيته بعد ذلك في فيردون، وذراعاه محمرتان من الدم حتى المرفقين، ذابحا أربعمئة ألف رجل، ساحقا زهرة جيش بكامله على سهول الفلاندرز والسوم. ولم أفهم شيئا من تكتيكات الحرب إلا بعد أن رأيته يعمل على نطاق كبير. إنها دراسة طريفة، حافلة بالغموض والتناقض. وهي تبدو لأول وهلة فوضى مذهلة، مجزرة عمياء لا معنى لها ملأى بالاضطراب والأخطاء الفاحشة. والحياة لا تلوِّح بسلاح جديد في يدها متقدمة بانتصار في لحظة ما، إلا لتتراجع في اللحظة التالية، مهزومة أمام الموت المظفر. ليس الأمر هكذا. فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير..."
 وأترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت.
محمد أحمد السويدي
------------------------------------
( 1) المقصود: الحرب العالمية الأولى. 
( 2) العبارة واردة باللاتينية: Civis Britannicus sum 

      سان ميشيل    لأكسِل مونتي   هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة) صفحتنا الرسمية في فيس بوك : https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا  https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar (هذه الإشارة في هامش الغلاف الداخلي):  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * أشرت إلى الهوامش التي وضعها المترجم بحرف (م)، وإلى معجم ويبستر بـ (W)، و(المورد) هكذا باسمه، وشبكة جوجل العالمية (G)؛ وتركت هوامش الكتاب على حالها، كما وردت في النص، مغفلة من أية إشارة.  وألفت نظر القارئ إلى أني تركت بعض العبارات في الإيطالية كما وردت في نص الكاتب، التزاما بالأمانة واتساقا مع رغبة المؤلف، واكتفيت بترجمتها في الهامش، استئناسا بمعجم Collins الإيطالي–الإنجليزي. ونظرا لورود كثير من المفردات الإيطالية باللغة الدارجة (العامية)، وخاصة في الألقاب الساخرة، فقد وضعت ترجمتها في الهامش أو تركتها على حالها إلى جانب معناها العربي، تاركا بينهما هذا الخط المائل/. كما ألفت النظر إلى أن المؤلف يعامل الحيوانات معاملة البشر، ولذلك تركت ضمائر الجمع في صيغة العاقل، التزاما بأسلوبه.  استهلال "قصة سان ميشيل" لأكسِل مونتي    رواية ملحمية بحق، كتبها أكسِل مونتي وهو طبيب سويدي مختص بالأمراض العصبية، منطلقا من الواقع الاجتماعي الجائر والمزري الذي كان سائدا في باريس خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان يتقن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، فضلا عن السويدية/ لغته الأم، كما أنه كان ملما بالألمانية. ولم تقتصر محبته ورعايته الإنسانية على البشر، والفقراء منهم بخاصة، لكن حسه الإنساني النبيل وإشفاقه الحميم اتسع حتى شمل الحيوان أيضا، ودفعه إلى التضحية بالكثير من وقته وماله وجهده من أجل إقامة محمية للطيور في آناكابري.  يقول الكاتب في مقدمة إحدى الطبعات الأولى:  "توجهت على عجل من فرنسا إلى لندن لأتدبر أمر جنسيتي، فقد بدا أن بلادي ستنجر إلى الحرب( 1) في صف ألمانيا. كنت أتوقع أن يصبح هنري جيمس أحد كفلائي، بعد أن حصل على جنسيته مؤخرا. وقال لي بصوته العميق: "أنا مواطن بريطاني"(2 ). وهو يعلم أني حاولت أن أقوم بدوري لكني فشلت، وأصبحت فاقد الأمل بأن أقدم أي عون للآخرين. وكان يعرف أي مصير ينتظرني. وضع يده على كتفي وسألني عما أنوي أن أفعل بنفسي؟ قلت له إني على وشك مغادرة فرنسا لأختبئ كمنبوذ في برجي القديم، وذلك خير لي، إذ إنه المكان الوحيد الصالح لي. ولما صافحني مودعا ذكَّرني كيف كان يشجعني، خلال إقامته معي في سان ميشيل قبل سنوات، على تأليف كتاب عن وطني، تلك الجزيرة التي دعاها أجمل مكان في العالم. فلماذا لا أكتب اليوم قصة سان ميشيل، إذا ساءت الحال وبدأت شجاعتي تتضاءل؟ من يستطيع أن يكتب عن سان ميشيل أفضل مني، وأنا الذي بنيتها بيديّ هاتين؟ من يستطيع أن يصف أفضل مني شظايا الرخام التي لا تقدر بثمن، وهي متناثرة على أرض الحديقة حيث كان يقع قصر تيبريوس في سالف الأيام؟ وكم ستكون مثيرة لرجل مثلي، مهتم بعلم النفس إلى أبعد الحدود، دراسة الإمبراطور العجوز الكئيب ذاته الذي مشى بقدميه المرهقتين على تلك الأرض الفسفسائية ذاتها، وقد جلوتها للعيان تحت عرائش العنب! ما من شيء آخر يعادل تأليف كتاب لإنسان يريد أن ينزوي بعيدا عن تعاسته، لا شيء مثل تأليف كتاب لإنسان لا يستطيع أن ينام.  كانت تلك كلماته الأخيرة، ولم أرَ صديقي بعد ذلك أبدا.  رجعت إلى عزلتي في البرج القديم ذليلا يائسا، وهي عزلة لا خير فيها. وفي حين كان كل امرئ آخر يقدم حياته لبلاده، كنت أمضي أيامي هائما صعودا وهبوطا في البرج المظلم، قلقا كحيوان في قفص، وكانت تردني حينئذ أنباء لا تنتهي من المعاناة والبلاء. ولقد تعودت أن أصعد إلى سان ميشيل لتسقط الأخبار في بعض الأمسيات، حين يتوقف الضوء الجارح عن إيلام عيني. كان علم الصليب الأحمر البريطاني خفاقا فوق سان ميشيل حيث كانوا يعالجون المصابين من أولئك الرجال الشجعان حتى يتماثلوا للشفاء بفضل الشمس التي طردتني بعيدا عن وطني الحبيب. يا حسرة لتلك الأنباء! كم كان الانتظار طويلا على أولئك العاجزين عن فعل أي شيء غير الانتظار!".  إن اهتمامي بأدب السفر والترحال جعلني أرى كل رواية رحلة في مخيلة كاتبها، كما أن الأحداث التي تشغل الكاتب تغطي مسارح شتى في الفكر والمكان والعلاقات الإنسانية. وحين يكون الكاتب طبيبا ومختصا بعلاج أمراض حساسة كالأعصاب، فإن السرد الروائي يزداد متعة وطرافة وتأثيرا، ولا سيما أن مونتي هاجر من السويدي إلى باريس لدراسة الطب، ثم مارس مهنته سنوات هناك، وهو يمتاز بمشاعر مرهفة ورقة إنسانية جعلته يشمل حتى الحيوان بعاطفته. ولقد عجبت أنها لم تلفت نظر المترجمين حتى الآن. إنها روايةٌ تجمع بين السيرة الذاتية وخيال الكاتب الذي يسرد أحداث الحياة اليومية بأسلوب مؤثر جميل. وبطل القصة وراوي أحداثها هو الطبيب السويدي "مونتي" ذاته، وتاريخ الطبعةِ الأولى يعود إلى عامِ 1929، ومواقع أحداثها تدور بين باريس وروما ونابلي وستوكهولم وبلاد اللاب في الشمال الاسكنديڤاني، إضافة إلى جزيرةِ كابري حيث بنى دارة له في آناكابري وعاش فيها آخر حياته يعالج الفقراء ويرعى الطيور المهاجرة. كان في الثامنة عشرة من عمرِه يوم زار كابري حيث عاش الإمبراطور الروماني "تيبريوس" سنواته الأخيرة. وسحرت الجزيرة مونتي بجمالها، فراح يحلم بشراء بيت هناك، بالقرب من كنيسة سان ميشيل الخربة.  ويستغرق الفتى بأحلامه حتى يختلط الواقع بالأسطورة، فيقول: "وانتصب أمامي شخص طويل يلتف بعباءة فاخرة... وقال: "ستكون هذه كلها لك، إنْ كنت راغباً بدفع الثمن!" ويسأله الفتى مونتي: "من أنت، شبحٌ من الغيب؟" فيجيبه: "أنا روح المكان الخالدة". وكان الثمن المطلوب أن يتخلَّى الشاب عن طموحه، فيوافق بشرط أن يترك له (الرحمة) لأنه عازم على دراسة الطب... بهذه اللقطة الأسطورية تبدأ الرواية. تابع أكسل دراسته الجامعية في باريس واختصَّ بالأمراضِ العصبيةِ، ومارس مهنتَه بنجاحٍ حتى نال شهرة واسعة جعلت المرضى، والمريضات بشكل خاص، يتوافدون إلى عيادته المزدحمة حتى من إنجلترا وأميركا. وقد عاصر بعد تخرجه الطبيب الفرنسي المشهور شاركو الذي كان يستخدم التنويم المغناطيسي في علاج الأمراض العصبية، كما استخدم مونتي هذه الطريقة، وإن لم يكن مقتنعاً بجدواها إلا في نطاق حدود. وقد اختلف مع شاركو فأدى ذلك الخلاف إلى طردِه من السَّلْبيتريير (Salpêtrière) وهو المركز الطبي الذي كان شاركو يعالج فيه المرضى. والسبب في طرده أن مونتي حاول إنقاذ إحدى الفتيات الريفيات المخدوعات، وإعادتها إلى والديها بعد أن اكتشف أنهم خدعوها وادعوا بأنها ستعمل في مطبخِ المستشفى، لكنهم استخدموها في العروض الفنية والابتزاز الجنسي حتى أصيبت بالجنون، وكان شاركو يعالجها بالتنويم المغناطيسي. وهذه واحدة من عشرات المآسي التي يرويها مونتي عن الضحايا، إضافة إلى مآسي الأحياء الفقيرة البائسة في باريس، مع أن شهرته جعلت نساء الطبقة العليا في المجتمع يتزاحمن في عيادته طلباً للعلاج. وكانت أوهام الزائدة الدودية، وبعد ذلك القولنج (الكولون) من الأمراض التي تشغل أولئك النسوة إلى درجة الهوس، إضافة إلى الأمراض العصبية والحَمْل الكاذب. ومن أبرز السمات الإنسانية النبيلة التي يرويها مونتي أنه كان ميَّالاً للعلاج المجاني حتى أثار نقمة زملائه، كما أنه كان عطوفاً على الطيور وسائر الحيوانات، وحتى الوحوش الضارية حظيت بعنايته وكانت تأنس لمعاملته اللطيفة. وأكثر من ذلك أنه جعل في آناكابري محمية للطيور المهاجرة التي كان جشع الصيد والتجارة يقضي على أسراب منها لتزويد المطاعم بلحومها، فاضطر لشراء تلك الأرض. ومن الوقائع التي يرويها عن مآسي بنات الليل في باريس اللواتي يعانين الحرمان من رؤية أولادهن، وكيف كانت إحداهن تنتظره في الشارع ساعات لكي يخبرها عن حالة ابنتها المريضة، ولا يسمحون لها برؤيتها.. واضطر أن يعيرها يوما، وبالخفاء، لباس ممرضة لكي ترى ابنتها المحتضرة. ولم يكن مونتي متدينا، لذلك واجه صعوبة مع الراهبات اللواتي يعملن في المشافي، وكذلك مع رهبانِ الاعتراف، ثم جعلهم جميعاً يتفهمون امتناعه عن الصلاة. ومن طرائف ما يرويه قيامه بزيارة شبه أسطورية لبلاد اللاَّب في أقصى الشمالِ الاسكنديفاني حيث يعيشون على تربية الأيائل ورعيها. وفي طريق العودة تكون بنت مضيفه دليلته، فيواجهان في الغابة دبًّا خطراً، لكن الفتاة تحميه لأن الدبّ لا يهاجم الأنثى- كما أخبرته.  وأطرف ما مر به من مفارقات في مهنته أن شابًّا سويدياً مات، وكان عليه أن يصطحب جثمانه إلى بلاده، ولم يكن مع أمه كلفة التحنيط فقام أكسل بتحنيطه. ورافقه في الرحلة رجل من متعهدي دفن الموتى. وكان الرجل مكلَّفاً بمرافقة جثمان جنرال روسي إلى مدينة بطرسبورغ. لم يخبر مونتي ذلك الرجل أنه طبيب، وخلال الرحلة يحلق له لحيته ويخبره بفخر أنه الرجل الوحيد الذي حلق له من بين الأحياء، ويشكو له من الحلاقة للأموات لأنهم لا يجلسون! وفي السويد، حين تصر الأم على فتح التابوت لترى ابنها وتودعه، يكتشف مونتي ليلاً أن في التابوت جثة الجنرال الروسي، وأن تابوت ابنها أخذه متعهد الدفن إلى روسيا، لذلك يبذل المستحيل حتى يمنع الأم من فتح التابوت ورؤية من بداخله. وفي رحلة أخرى، يرافق مونتي القنصل السويدي الذي يمر بنوبات هستيريا ويكاد يخنقه أثناء النوم. ومن الأحداثِ اللافتة صداقته مع الكاتبِ الفرنسي غي دي موباسان المصاب بالسل، وكان من ضحاياه أكثر من معشوقة ماتت بالداء ذاته. هذه الملحمة الإنسانية يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، وخاصة حين يتحدث الكاتب عن عمله في مكافحة وباء الكوليرا في نابولي، وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة، إذ يقول: "لقد رأيته في نابولي يقتل أكثر من ألف شخص أمام عينيّ هاتين. ورأيته في مسينا  يدفن ما يزيد عن مئة ألف من الرجال والنساء والأطفال تحت البيوت التي انهارت في دقيقة واحدة. ورأيته بعد ذلك في فيردون، وذراعاه محمرتان من الدم حتى المرفقين، ذابحا أربعمئة ألف رجل، ساحقا زهرة جيش بكامله على سهول الفلاندرز والسوم. ولم أفهم شيئا من تكتيكات الحرب إلا بعد أن رأيته يعمل على نطاق كبير. إنها دراسة طريفة، حافلة بالغموض والتناقض. وهي تبدو لأول وهلة فوضى مذهلة، مجزرة عمياء لا معنى لها ملأى بالاضطراب والأخطاء الفاحشة. والحياة لا تلوِّح بسلاح جديد في يدها متقدمة بانتصار في لحظة ما، إلا لتتراجع في اللحظة التالية، مهزومة أمام الموت المظفر. ليس الأمر هكذا. فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير..."  وأترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي ------------------------------------ ( 1) المقصود: الحرب العالمية الأولى.  ( 2) العبارة واردة باللاتينية: Civis Britannicus sum  , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

سان ميشيل - لأكسِل مونتي - استهلال
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 1 - الصِّبا
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 2 - الحي اللاتيني
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 3 - شارع ڤيليير
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 4 - طبيب من أحدث طراز
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 5 - قصر رامو
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 7 - نابولي