Arabic    

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 1 - الصِّبا


2019-06-11 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قصة سان ميشيل

 

 

 

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم ( 1 )
 
I
 
الصِّبا
 
قفزت من المركب الشراعي "سورينتو" إلى المرسى الصغير. كان سرب من صبية يلعبون هنا وهناك بين القوارب المقلوبة أو يغسلون أجسادهم البرونزية اللامعة في الأمواج، بينما جلس صيادو سمك مسنّون يرتدون قبعات فريجية  (1)حمرا، يرتقون شباكهم خارج مراسي قواربهم. وقف مقابل المرسى نصف دزينة من الحمير وعلى ظهورها البرادع، وفي أرسانها باقات من الورد، وحولها عدد مماثل من فتيات وقفن يثرثرن ويغنين، وقد شبكن غدائرهن السوداء بزنابق (سباديلا) فضية اللون، وعقدن مناديل حمرا حول أكتافهن. الأتان الهزيلة التي  ستحملني إلى كابري  (2)كان اسمها روزينا، وكان اسم الفتاة جويا. كانت عيناها السوداوان البراقتان تتألقان بصباً وهّاج، شفتاها ورديتان كعقد المرجان الملفوف حول عنقها، وفي ضحكتها المرحة تتلألأ أسنانها البيض المنضّدة كصف من اللآلئ. قالت إن عمرها خمسة عشر عاما، وقلت إني أصغر مما كنت في أي وقت مضى. لكن روزينا عجوز، "أنتيكا"، كما قالت جويا. لذا نزلت عن البردعة وصعدت الطريق المتعرج على مهل نحو القرية. رقصت جويا أمامي حافية القدمين، وحول رأسها إكليل من الزهور مثل كاهنة باخوسية صغيرة، وخلفي تترنح روزينا العجوز بنعالها السود الأنيقة، ورأسها منكّس وأذناها متهدلتان، وهي مستغرقة في التفكير. لم يكن لدي وقت للتفكير، فرأسي ممتلئ بنشوة رائعة، وقلبي مفعم ببهجة الحياة، والعالم جميل وأنا في الثامنة عشرة. شققنا طريقنا بين شجيرات من الرتَم والآس وهي في أوج إزهارها، وهنا وهناك بين الحشائش العطرة رفعت زهور صغيرة كثيرة، رؤوسها الرائعة ترمقنا ونحن نمر، ولم أرَ مثيلاً لها أبداً في أرض لينايوس (3).
قلت لجويا: "ما اسم هذه الزهرة؟"، فأخذَتها من يدي ونظرَت إليها بحنوّ وقالت: "فيوري!".
"وما اسم هذه؟". نظرَت إليها بالاهتمام الرقيق ذاته، وقالت: "فيوري!".
"وماذا تسمين هذه؟"  
"فيوري! بيللو! بيللو!"
قطفَت باقة من الآس العطر، لكنها لم تشأ أن تعطيني إياها. قالت إن الزهور كانت لـلقديس "سان كوستانزو"، شفيع  كابري, الذي كان كله من الفضة الخالصة وقام بمعجزات كثيرة جدا، سان كوستانزو، بيللو! بيللو!
تقدم نحونا على مهل صف طويل من فتيات يحملن فوق رؤوسهن أحجار التوفة البركانية في موكب جليل مثل كاهنات أرتميس في معبد إيريكتوم (4). بادرتني إحدى الفتيات بابتسامة ودية ووضعت برتقالة في يدي. كانت أخت جويا، بل كانت أجمل منها، على ما أظن. نعم، كانوا ثمانية إخوة وأخوات في المنزل، واثنان في ذمة الله (5). كان والدهم غائباً يصطاد المرجان في "بارباريا"."انظر إلى عقد المرجان الذي أرسله لها تشي بيللا كوللانا (6). بيللا! وهي بيللا، بيللا!". 
"وأنتِ أيضا بيللا يا جويا، جميلة، جميلة!".
قالت: "نعم".
تعثرت قدمي بعمود رخام مكسور، فأوضحت جويا: "هذا من مخلفات تيمبريو، روبا دي تيمبريو (7)، تيمبريو كاتِّيڤو (8). تيمبريو مالوتشيو (9)، تيمبريو كاموريستا (10)!". وبصقت على الرخام. 
قلت:  "نعم، تيبريو اللئيم"، مستحضراً في ذاكرتي المؤرخيْن تاتشيتوس (11) وسوتونيوس (12).
ظهرنا من الطريق الرئيس، ووصلنا إلى الميدان (13) وكان هناك بحاران واقفان قرب الحاجز المطل على الميناء الصغير. وكان نفر من أبناء كابري يجلسون نعسانين أمام نزل دون أنطونيو، ولفيف من القساوسة في طريقهم إلى الكنيسة يلوِّحون بأديهم في مناقشات صاخبة: "مونيتا (14)! مونيتا! مولتا (15) مونيتا؛ نيينتي (16)مونيتا!": "فلوس، فلوس! نعم، كثير من الفلوس! لا شيء من الفلوس!". هرولت جويا لتقبل يد دون چاشينتو الذي كان كاهن الاعتراف، وهو تقي فاضل، مع أنه لا يبدو كذلك. كانت تذهب للاعتراف مرتين شهرياً. وأنا، كم مرة ذهبتُ للاعتراف؟ 
ـ لم أذهب أبداً!
ـ كَتِّيڤو! كَتِّيڤو! (17)!
هل كانت ستخبر دون چاشينتو أنني قبّلت خديْها تحت أشجار الليمون؟
ـ بالطبع، لا.
مررنا عبر القرية وتوقفنا عند نزل بونتا تراجاراأشرت إلى الصخرة الأشد انحداراً من بين صخور الفاراليوني الثلاث المتلألئة مثل حجر الجمشت الأرجواني عند أقدامنا، قائلا: "سأتسلق إلى قمة تلك الصخرة". لكن جويا كانت واثقة أنني لا أستطيع القيام بذلك. حاول صياد أن يصعد إلى هناك بحثاً عن بيض النورس، فقذفته إلى البحر روح شريرة كانت تعيش هناك على شكل سحلية زرقاء، زرقتها كزرقة كهف "بلو جروتو"، لتحرس الكنز الذهبي الذي أخفاه هناك تميبيريو ذاته.
ومن وراء القرية الصغيرة الأليفة ترتفع شاهقة، في وجه السماء الغربية، تلك الملامح الداكنة لجبل سولارو بصخوره القاسية وجروفه المنيعة.
قلت: "أريد أن أتسلق ذلك الجبل في الحال".
لم ترق هذه الفكرة لجويا إطلاقاً، فالممر شديد الانحدار على مدى سبعمئة وسبع وسبعين درجة، شقه تيمبيريو بنفسه في الصخر صعدا عبر خاصرة الجبل. وفي كهف مظلم في منتصف الطريق، عاش ذئب بشري ضارٍ التهم الكثير من المسيحيين. كانت أناكابري في أعلى الدرج يقطنها فقط جبليون من أشد الناس شرًّا. ما من أجنبي ذهب إلى هناك قطّ. وهي نفسها لم تذهب إلى هناك قطّ. ومن الأفضل أن تصعد إلى ڤيللا تيمبريو، أو أركو ناتورالي( 18)، أو غروتا ماترومانيا!( 19) 
"لا, لا وقت لدي، لا بد أن أتسلّق ذلك الجبل في الحال".
عدنا إلى الساحة في الساعة الثانية عشرة تماماً، مع دقات أجراس البرج القديم الصدئة معلنة أن المعكرونة جاهزة. أما كان يجدر بي، على الأقل، أن أتناول الغداء أولاً تحت النخلة الكبيرة لنزل ألبيرغو باغانو؟( 20) ثلاثة أطباق، وخمر مما تحب، وبسعر لير واحد.
لا, لا وقت لدي، عليّ أن أتسلق الجبل في الحال. "وداعاً، جويا بيللا، أيتها الجميلة!"
"وداعاً، روزينا!" وداعاً، وداعاً... سأرجع حالا!"
يا حسرة.. على العودة السريعة!
"يا له من إنجليزي أرعن!" كانت هذه آخر الكلمات التي سمعتها من شفتي جويا الورديتين، وأنا أثب فوق الدرج الفينيقي يقودني قدري إلى أناكابري. وفي منتصف الطريق صعوداً، تجاوزت امرأة عجوزاً وعلى رأسها سلة كبيرة ملأى بالبرتقال: "نهارك سعيد، يا سنيور". 
وضعت سلتها أرضاً وناولتني برتقالة، وفوق البرتقال رزمة من الصحف والرسائل مربوطة بمنديل أحمر. إنها ماريا موزعة الرسائل العجوز التي تحمل البريد إلى أناكابري مرتين أسبوعياً، وأصبحت لاحقاً صديقة العمر، ورأيتها تموت في الخامسة والتسعين من عمرها. أخذت تقلب المكاتيب، واختارت أكبر مغلف، ورجتني أن أخبرها إذا لم يكن لـ"ـنانينا لا كرابارا/ المعزاة"( 21) التي كانت تنتظر بشوق رسالة من زوجها في أميركا. لا، ليس لها. ربما هذه؟ لا، هذه لـلسنيورة "ديدمونة ڤاكا/ البقرة"( 22). 
"السنيورة ديدمونة البقرة"، رددت ماريا العجوز بارتياب، ثم قالت بتفكر عميق: "ربما يقصدون زوجة "ديللو سكارتيللوتسو/(23 ) الأحدب". المكتوب التالي كان للسنيور"أوليسي ديسيديريو/ الشهواني"(24 ). وقالت ماريا العجوز: أظن أنهم يقصدون "كابوليموني/ رأس الليمونة"( 25). استلم رسالة مثل هذه تماماً قبل شهر". الرسالة التالية كانت لـلسنيورة العزيزة "روزينا ماتساريللا". بدا من الصعب العثور على هذه السيدة. أهي للست/ جبنة( 26)؟  أم للمرأة/ العرجاء(27 )؟ أم للرأس اليابس( 28)؟ أم للمرأة/ الأنتيكا( 29)؟ أم لروزينيللا/ الخبز البايت(30 )؟ أو لعلها للبلهاء( 31)، كما اقترحت امرأة أخرى كانت قد لحقت بنا للتو، وهي تحمل على رأسها سلة سمك. نعم، ربما تكون لـلبلهاء إن لم تكن لـزوجة "الخبز والبصل"( 32). لكن، ألم يكن هناك رسالة لـ"بيبينيللا ما فوق المقبرة"( 33)؟ أو لـ"ماريوتشيللا/ الجزرة"( 34)، أو لـ"جيوفانينا/ قاتلة الكلاب"( 35)؟ هؤلاء كن جميعاً ينتظرن رسائل من أمريكا؟ لا، للأسف لم تكن هناك رسائل. 
أما الصحيفتان فكانتا لراعي الأبرشية المحترم دون أنطونيو دي جيوسيبي ولقس الكاتدرائية دون ناتالي دي توماسو.
كانت تعرف ذلك جيداً لأنهما الوحيدان في القرية اللذان لديهما اشتراك في الصحيفة. كان راعي الأبرشية رجلاً متعلماً، وهو الذي كان يكتشف دائماً لمن كانت المكاتيب، لكنه اليوم غائب في سورينتو في زيارة لرئيس الأساقفة، وهذا ما جعلها تطلب مني أن أقرأ لها المغلفات. لم تكن ماريا العجوز تعرف عمرها، لكنها تذكر أنها بدأت تحمل البريد منذ أن كانت في الخامسة عشرة عندما اضطرت والدتها للتخلي عن ذلك. لم تكن تعرف القراءة، بطبيعة الحال. وعندما أخبرتها أنني أبحرت هذا الصباح بقارب البريد من سورينتو ولم يكن لدي ما آكله منذ ذلك الوقت، أعطتني برتقالة أخرى التهمتها بقشرتها، وفي الحال ناولتني المرأة الأخرى من سلتها بعضاً من فاكهة البحر التي جعلتني أشعر بعطش رهيب. هل كان هناك نزل في أناكابري؟ لا، لكن أناريلا زوجة حارس الكنيسة يمكن أن تزودني بجبن الماعز الفاخر وكأس من النبيذ الممتاز من الكرم الذي يمتلكه عمها القس دون ديونيسيو ، وهو نبيذ رائع. إضافة إلى ذلك، كانت هناك مارغريتا الجميلة، عرفتها بالاسم طبعاً، ولم أكن أعرف أن خالتها تزوجت "لورداً إنجليزياً". لا، لم أعرفها، لكن كنت متلهفا جدًّا للتعرف إلى مارغريتا الجميلة. 
وصلنا أخيرا إلى آخر الدرجات السبعمئة وسبع وسبعين، ومررنا عبر بوابة مقوّسة ما تزال وصلات الحديد الضخمة لجسرها المتحرك القديم مشدودة إلى الصخر. ها نحن في أناكابري. كان خليج نابولي بكامله ملك أيدينا، محاطاً بإيسكيا(36) وبروتشيدا( 37) وبوسيليبو( 38) المكسوة بأشجار الصنوبر، وساحل نابولي الأبيض المتلألئ، وجبل فيزوفيوس( 39) بسحابة دخانه الوردي، وسهل سورينتو المحتمي تحت مونتي سانت-أنجلو( 40). وفي البعيد، ما زالت جبال أبينين مغطاة بالثلوج. وفوق رؤوسنا مباشرة، تقبع كنيسة مهدمة معلقة على المنحدر الصخري كعش نسر. سطحها المحدب منهار، لكن جدرانها المتداعية كانت ما تزال مسنودة بكتل ضخمة من حجارة تشكل نمطاً غريباً من شبكة متماثلة.
أوضحت ماريا العجوز:  مخلفات تيمبريو. 
فسألت بلهفة: "ما اسم تلك الكنيسة الصغيرة؟" 
"سان ميشيل".
"سان ميشيل!"، "سان ميشيل!". 
تردد صداها في قلبي. في الكرم أسفل الكنيسة، كان رجل عجوز يحفر في التربة أخاديد عميقة للدوالي الجديدة. "صباح الخير، سيد فنسينزو!"
كان الكرم ملكه، وكذلك المنزل الصغير المجاور له، بناه كله بيديه أساساً من مخلفات تيمبريو من الحجارة والآجر المتناثرة في كل مكان من الحديقة. أخبرته ماريا موزعة الرسائل بكل ما عرفته عني، ودعاني  السيد فنسينزو للجلوس في حديقته وتناول كأس من النبيذ. نظرت إلى المنزل الصغير والكنيسة. وبدأ قلبي يخفق بشدة حتى كدت لا أقوى على الكلام.
قلت لماريا موزعة الرسائل: "لا بد أن أصعد إلى هناك في الحال". لكنها قالت إن من الأفضل لي أن آتي معها أولا لأتناول شيئاً من الطعام، وإلا فلن أجد هناك أي شيء، فقررت على مضض أن أتبع نصيحتها، مدفوعاً بجوعي وعطشي. لوحت بيدي للسيد فنسينزو وقلت إنني سأعود في الحال. مشينا في بعض الممرات الخالية، وتوقفنا في ساحة صغيرة.
انظر، ها هي بيللا مارغريتا!
وضعت مارغريتا الجميلة  قارورة من نبيذ وردي اللون وباقة من الزهور على الطاولة في حديقتها وأعلنت أن المعكرونة ستكون جاهزة خلال خمس دقائق. كانت جميلة مثل فلورا لتيتيان( 41)، شكل وجهها رائع، وصورتها الجانبية يونانية خالصة. وضعت أمامي طبقاً ضخماً من المعكرونة وجلست بجانبي تراقبني بفضول باسم. وفي كل مرة ملأت فيها كأسي، كانت تصرخ بفخر: "إنه نبيذ القسيس".
 
شربت نخب القسيس ونخبها ونخب أختها ذات العينين الداكنتين، جوليا الجميلة التي لحقت بالحفلة ومعها برتقالات شاهدتها تقطفها من شجرة بالحديقة. كان والداهما ميتين وأخوهما أندريا بحاراً، ويعلم الله أين كان. خالتها كانت تعيش في دارتها( 42) الخاصة في كابري، وهل علمت طبعاً أنها تزوجت بلورد إنجليزي؟ نعم، طبعاً علمت، لكني لم أتذكر اسمها. قالت مارغريتا الجميلة بفخر "السيدة جي-"، تذكرت في الوقت المناسب أن أشرب نخبها، لكن بعد ذلك لم أتذكر شيئاً سوى أن السماء من فوقي كانت زرقاء كالزبرجد، وأن نبيذ القسيس كان أحمر كالياقوت، وأن مارغريتا الجميلة جلست إلى جانبي بشعر ذهبي وشفتين باسمتين.
"سان ميشيل!" رنّت فجأة في أذني. "سان ميشيل!" تردد صداها عميقاً في قلبي.
وداعاً، مارغريتا الجميلة! وداعاً، وعودة سريعة! يا حسرة على العودة السريعة!
قفلت راجعاً عبر الممرات الخالية متجهاً مباشرة قدر استطاعتي نحو هدفي. كانت ساعة القيلولة المقدسة، وكانت القرية الصغيرة كلها نائمة. الساحة التي التهبت بالشمس كانت مقفرة. الكنيسة مغلقة، ووحده الصوت الجهوري للكاهن المحترم دون ناتالي كان يدوي مخترقاً الصمت عبر الباب الموارب لمدرسة البلدية، بوقع رتيب ناعس: 
"lo mi ammazzo, tu ti amazzi, egli si ammazza, 
noi ci ammazziamo, voi vi ammazzate, loro si am- mazzano,"   
هذه العبارة( 43) كانت ترددها بإيقاع رتيب جوقة من اثني عشر صبيًّا، عراة السيقان يشكلون دائرة على الأرض عند قدمَيْ معلمهم.
وعلى مسافة أبعد في المنحدر، وقفت سيدة رومانية مهيبة. إنها أناريلا بذاتها، تومئ لي وهي تلوّح يدها بمودة وتدعوني للدخول. لماذا ذهبتُ إلى مارغريتا الجميلة بدلاً منها؟ ألم أكن أعرف، أن جبنة "كاتشياكاڤالو"( 44) التي تصنعها كانت أفضل جبنة في القرية كلها؟ أما بالنسبة إلى النبيذ، فكلهم كان يعرف أن نبيذ القسيس لا يضاهي نبيذ المحترم دون ديونيسيو. وأضافت وهي تهز كتفيْها القويتيْن بهزة استهجانية ذات مغزى: "نبيذ القسيس مختلف!" وبينما كنت جالسا تحت سقيفتها أمام دورق النبيذ الأبيض للدون ديونيسيو، بدأ يخطر لي أنها ربما كانت على حق، لكني أردت أن أكون لطيفاً وأن أفرغ الدورق كله قبل أن أبدي رأيي النهائي. وعندما أسعفتني جوكوندا، ابنتها المبتسمة، بكأس ثانية من الدورق الجديد، كنت قد حسمت رأيي. نعم، إن نبيذ الدون ديونيسيو الأبيض هو الأفضل! 
بدا كأشعة شمس براقة مُذابة، ومذاقه كرحيق الآلهة، وجوكوندا بدت مثل هيبي(45) فتية وهي تملأ كأسي الفارغة. ضحكت أناريلا قائلة: "لم أخبرك أنه نبيذ القسيس؟". إنه نبيذ معجزة،  معجزة حقاً، ذلك أني أخذت فجأة أتحدث الإيطالية بطلاقة، وبلسان ثقيل وسط قهقهة الأم والابنة. بدأت أشعر بالمودة تجاه السيد ديونيسيو، أحببت اسمه وأحببت نبيذه، وخطر لي أني أود التعرف إليه. لم يكن هناك ما هو أسهل من ذلك لأنه كان سيعظ  ذلك المساء لـ"بنات مريم"( 46) في الكنيسة.
قالت أناريلا: "إنه رجل مطلع جدا"، كان يعرف عن ظهر قلب أسماء الشهداء والقديسين، بل وكان قد ذهب إلى روما ليقبل يد البابا. هل سبق أن ذهبت إلى روما؟ لا. وإلى نابولي؟ لا. ذهبَتْ مرة إلى كابري، كان ذلك يوم زفافها، لكن جوكوندا لم يسبق لها أن ذهبت إلى هناك. كانت كابري ملأى بـ"الناس السيئين"( 47) أخبرت أناريلا أنني أعرف طبعاً كل شيء عن قديسهم، وعدد المعجزات التي قام بها، وكم كان جميلا، كله من الفضة الخالصة. ساد صمت غير مريح.
@ 19 @
اندفعت الكلمات من أناريلا بقوة وهي تهز كتفيها العريضتين في ازدراء: "نعم، يقولون إن قديسهم سان كوستانزو من الفضة الخالصة، لكن من يعلم، فمعجزاته يمكن عدها على أصابعك بينما سان أنطونيو، شفيع أناكابري، قام بأكثر من مئة معجزة.  و"هو مختلف عن سان كوستنزو"( 48).
فجأة انحزت الى سان أنطونيو، آملا من كل قلبي في معجزة جديدة من معجزاته تعيدني بأسرع ما يمكن إلى قريته الساحرة.
كانت ثقة أناريلا الطيبة في معجزات القديس أنطونيو كبيرة جدًّا لدرجة أنها رفضت بشكل صريح أن تقبل أي نقود.
"ستدفع لي في مرة ثانية".
"وداعاً أناريلا، وداعاً جوكوندا".
"إلى اللقاء، وعودة سريعة، وليرعَك سان أنطونيو، ولتصحبْك العذراء مريم".
كان السيد ڤنسنزو الكبير ما يزال يعمل بجد في كرمه، يحفر أخاديد عميقة في التربة العطرة للدوالي الجديدة. وبين الحين والآخر، كان يرفع لوحاً من الرخام الملوّن أو قطعة من الجبس الأحمر، ويرميها على الحائط ويقول: "مخلفات تيمبيريو"( 49). جلست على عمود مكسور من الغرانيت الأحمر إلى جوار صديقي الجديد. قال السيد ڤنسنزو:  إنه قاس جدا( 50)، من الصعب كسره. وعند قدمي، كانت دجاجة تنبش الأرض بحثاً عن دودة، وتحت عيني ظهرت قطعة نقدية. التقطتها، وفي لمحة تعرفت على رأس أغسطس رفيع المقام، "الأب أغسطس المقدس". وقال السيد ڤنسنزو إنها لم تكن تساوي فلسا( 51) وهي ما تزال لدي. لقد سوَّى الحديقة كلها بنفسه، وبيديه غرسها بالدوالي وأشجار التين. قال السيد ڤنسنزو: "عمل شاق"، مظهراً لي يديه الكبيرتين الخشنتين، لأن الأرض كلها كانت ملأى بمخلفات تيمبيريو وأعمدة وتيجان أعمدة وأجزاء من تماثيل وشواهد مسيحية(52). وكان عليه أن يحفر وينقل كل تلك النفايات قبل أن يتمكن من زراعة كرمه. الأعمدة  قطعها إلى درجات للحديقة، وطبعاً استطاع أن ينتفع بكثير من قطع الرخام أثناء بناء منزله، ورمى الباقي على الجرف. لقد حالفه الحظ عندما عثر بالصدفة على حجرة سرية كبيرة تحت منزله مباشرة، لها حيطان حمراء تشبه تماماً تلك القطعة التي هناك تحت شجرة الخوخ المرسوم عليها كثير من الناس، وكلهم عراة تماما( 53) يرقصون كالمجانين، وأيديهم ملأى بالزهور وعناقيد العنب. لقد استغرق منه كشط هذه الرسومات وكساء الحائط بالملاط أياماً عدة، لكن هذا كان عملاً بسيطاً إذا ما قورن بما يعنيه نسف الصخرة وبناء حوض جديد، كما قال السيد ڤنسنزو- بابتسامة ماكرة. بدأ الآن يهرم ولم يعد قادراً على الاعتناء بكرمه أكثر من ذلك، ودعاه ابنه الذي يعيش في البر الرئيسي مع اثني عشر طفلاً وثلاث بقرات، إلى أن يبيع المنزل ويأتي للعيش معه. ومن جديد بدأ قلبي يخفق. هل كانت الكنيسة ملكه أيضاً؟ لا، لم تكن ملك أحد، وقال الناس إنها كانت مسكونة بالأشباح. وهو نفسه عندما كان صبياً رأى راهباً طويلاً متكئاً على حاجز الشرفة، كما سمع بحارة كانوا يصعدون الدرج في وقت متأخر ذات ليلة أجراساً تدق في الكنيسة. وسبب ذلك، كما أوضح السيد ڤنسنزو، أن تيمبريو عندما كان قصره هناك  حكم بإعدام عيسى المسيح، ومنذ ذلك الوقت تأتي روحه الملعونة بين حين وآخر لتطلب المغفرة من الرهبان المدفونين تحت أرض الكنيسة. وقال الناس أيضا إنه كان يأتي إلى هناك على هيئة ثعبان أسود كبير. الرهبان أُعدموا على يد قرصان اسمه بربروسا كان قد هاجم الجزيرة بسفنه وعمد إلى استعباد كل النساء اللواتي احتمين في القلعة هناك في الأعلى، لذا سميت بقلعة بربروسا. الأب أنسيلمو، الناسك الذي كان رجلاً مطلعاً، وأحد أقربائه أيضا، أخبراه بكل هذا، كما أخبراه عن الإنجليز الذين حولوا الكنيسة إلى حصن وقُتلوا بدورهم على أيدي الفرنسيين.
قال السيد ڤنسنزو: "انظر!"، مشيرا إلى ركام من الرصاص قرب سور الحديقة. وأضاف وهو يلتقط زراً نحاسياً لجندي إنجليزي: "انظر". واستطرد: "الفرنسيون وضعوا مدفعاً قريباً من الكنيسة  وأطلقوا النار على قرية كابري التي يسيطر عليها الإنجليز". ضحك ضحكة مكتومة قائلاً: "حسنا فعلوا. أبناء كابري كلهم أناس سيئون". في ذلك الحين حوّل الفرنسيون الكنيسة الى مخزن ذخيرة، وكان هذا سبباً في تسميتها بمستودع البارود.( 54) أصبح الآن خراباً، لكن ثبت أنه مفيد جدًّا له، إذ أنه أخذ منه معظم الحجارة التي بنى بها أسوار حديقته.
عبرت السور ومشيت في الممر الضيق إلى الكنيسة. كانت الأرض مغطاة بحطام المدفن المتهدم نحو ارتفاع قامة رجل، والجدران مغطاة باللبلاب وصريمة الجدي البري، ومئات السحالي تلعب هنا وهناك في مرح بين شجيرات الآس وإكليل الجبل، وتتوقف بين الحين والآخر في لهوها تنظر إلي بأعين لامعة وصدور لاهثة. ظهرت بومة من ركن مظلم دون أن تصدر أجنحتها صوتاً، وأخذ ثعبان كبير نائم على أرضية الشرفة الفسيفسائية المشمسة يتلوى ساحباً أطواقه السوداء ببطء، وانسلّ عائداً إلى الكنيسة محذراً بفحيحه الدخلاء. هل ما زال شبح الإمبراطور الكبير البائس يسكن الخراب حيث كان قصره الإمبرطوري قائماً ذات يوم؟
تطلعت إلى الجزيرة الجميلة تحت ناظري وأنا أفكر:  كيف استطاع أن يعيش في مثل هذا المكان ويكون قاسياً إلى ذلك المدى! كيف لروحه أن تكون قاتمة إلى هذه الدرجة، وحوله كل هذا النور المجيد في السماء والأرض! وكيف استطاع أن يغادر مثل هذا المكان لينزوي في تلك البقعة حيث قصره الذي ما زال يحمل اسمه، ولا يمكن الوصول إليه فوق الجرف الشرقي، حيث أمضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته؟
أن تعيش في مكان كهذا، أن تموت في مثل هذا المكان، فهل كان في وسع الموت أن يقهر  الغبطة السرمدية لمثل هذه الحياة! أي حلم جريء جعل قلبي يدق بمثل ذلك العنف قبل قليل حين أخبرني السيد ڤنسنزو أنه تقدم في السن وهده التعب، وأن ابنه يريد منه أن يبيع بيته؟ أية أفكار وحشية لمعت في ذهني المضطرب حين قال إن الكنيسة ليست لأحد؟ لمَ لا تكون لي؟ لمَ لا أشتري بيت السيد فنسينزو وأقيم بين الكنيسة والبيت أكاليل من عرائش الكرمة وممرات مغروسة بالسرو وأعمدة تدعم أروقة بيضاء مأهولة بتماثيل رخامية لآلهة وأباطرة من البرونز و... أغمضت عيني مخافة أن تختفي الرؤيا، وشيئاً فشيئاً تلاشى واقع الحياة في غبش من عالم الأحلام.
وانتصب أمامي شخص طويل يلتف بعباءة فاخرة.
"ستكون هذه كلها لك" قال بصوت شجي، وهو يلوّح بذراعيه عبر الأفق: "الكنيسة والحديقة والبيت والجبل مع قلعته، كلها ستكون لك، إن كنت راغباً بدفع الثمن!"
"من أنت، شبح من الغيب؟"
"أنا روح المكان الخالدة. الزمن لا معنى له لدي. قبل ألفي سنة وقفت هنا، حيث نقف الآن، أمام رجل آخر، ساقه قدره إلى هنا مثلما ساقك قدرك إلى هنا. لم يكن يلتمس السعادة كما تفعل، لكنه كان يلتمس النسيان والسلام، وكان يعتقد أن في مقدوره أن يجدهما هنا على هذه الجزيرة الموحشة. ولقد أخبرته بالثمن الذي ينبغي عليه أن يدفعه: أن يوصم باسم لا يخبو بريقه من سوء السمعة على مدى الأجيال.
"وافق على الصفقة، ودفع الثمن. عاش هنا إحدى عشرة سنة محاطا بقلة من الأصحاب المخلصين، وكلهم رجال من ذوي الشرف والنزاهة. حاول الرجوع مرتين وأخذ طريقه إلى قصره على تل بالاتين. لكن شجاعته خانته في المرتين؛ ولم تره روما أبدا بعد ذلك. مات في طريق عودته في قصر صديقه لوكولوس( 55) هناك في أعلى ذلك السفح. وكانت آخر كلماته أنه ينبغي أن ينقل من محفته إلى القارب الذي سيحمله إلى بيته على الجزيرة.
"وما الثمن الذي تطلبه؟"
"أن تتخلى عن طموحك في أن تجعل لك اسما مرموقا في مهنتك، أن تضحي بمستقبلك".
"وماذا علي أن أصبح عندئذ؟"
"مجرد فاشل".
"أنت تسلبني كل ما يستحق أن أعيش من أجله".
"أنت مخطئ، إني أمنحك كل ما يستحق أن تعيش من أجله".
"هلاّ تركت لي الرحمة على الأقل. لا يمكن أن أعيش بلا رحمة إذا كنت سأغدو طبيباً".
"سأدعها لك، لكن أمورك ستسير بصورة أفضل بكثير من دونها".
 "أتطلب أي شيء آخر أكثر من ذلك؟"
"قبل موتك عليك أن تدفع ثمنا آخر، إنه ثمن باهظ. لكن قبل وجوب دفع الثمن، ستشاهد طوال سنوات من هذا المكان الشمس وهي تغرب في أيام من السعادة لا غيم فيها والقمر يرتفع في ليال من الأحلام مضاءة بالنجوم. 
"هل سأموت هنا؟"
 إياك أن تبحث عن جواب لسؤالك؛ الإنسان لا يطيق الحياة إذا اطلع على ساعة موته". 
وضع يده على كتفي، فشعرت برعشة خفيفة تسري في جسدي. "سأكون معك مرة ثانية في هذا المكان عند غروب الشمس غدا؛ لعلك تفكر في الأمر إلى ذلك الحين".
"لا جدوى من التفكير طويلا، إجازتي في نهايتها، وعليَّ أن أرجع هذه الليلة تماما إلى عملي اليومي بعيدا جدًّا عن هذه البقعة الجميلة. أنا لا أحسن التفكير، أقبل الصفقة، وسأدفع الثمن، أيا كان. ولكن كيف يمكن أن أشتري هذا البيت ويداي فارغتان؟"
"يداك فارغتان لكنهما قويتان، ذهنك صاخب لكنه واضح، إرادتك شديدة وسوف تنجح".
"كيف يمكن أن أبني بيتي؟ لا أعرف شيئا عن العمارة".
"سأساعدك. أي طراز تريد؟ لمَ لا يكون القوطي؟ أنا أفضل القوطي بإضاءته الشاحبة وغموضه الآسر".
سأبتدع طرازا خاصا بي، من ذلك النوع الذي حتى أنت لن تستطيع أن تعطيه اسما. غبش القرون الوسطى لا يليق بي! أريد بيتي أن يكون مشرعا للشمس والريح وصوت البحر كمعبد إغريقي، والنور، النور، النور في كل مكان!"
"إياك من النور! إياك من النور! النور الزائد عن الحد لا يصلح للكائن البشري".
أريد أعمدة من رخام لا تقدر بثمن، تدعم الأروقة والشرفات، لقى جميلة من عصور غابرة متناثرة في حديقتي، وتغدو الكنيسة مكتبة هادئة بمقاعد معزولة عن بعضها حول الجدران، وأجراس ذات رنين عذب تترنم بالسلام الملائكي(56) في كل يوم سعيد".
"أنا لا أحب الأجراس".
"وهنا حيث نقف على هذه الجزيرة الجميلة الطالعة مثل أبي الهول من البحر تحت أقدامنا، هنا أريد تمثالاً من الغرانيت لأبي الهول من أرض الفراعنة. ولكن، أنى لي أن أجد كل ذلك؟"
"أنت تقف على موقع واحد من قصور تيبريو. كنوز من العصور الغابرة لا تقدر بثمن تترامى  مدفونة تحت الدوالي، تحت الكنيسة، وتحت البيت. لقد مشت قدم الإمبراطور العجوز فوق ألواح الرخام الملون التي رأيت الفلاح العجوز يلقي بها على سور حديقته، القطع الجصية المصورة للكاهنات الراقصات والباخوسيات المتوجات بالأزهار، واللواتي كن يزينَّ أسوار قصره في ذلك الحين. وقال وهو يشير إلى أعماق البحر المترامية تحت أقدامنا آلاف الأقدام: "انظر، ألم يخبرك معلمك  تاسيوس في المدرسة أن قصور الإمبراطور قذفت في البحر بقوة حين وصل نبأ وفاته إلى الجزيرة؟"
أردت أن أقفز من فوق الجرف الصخري في الحال وأغوص في البحر بحثاً عن أعمدتي.
وتضاحك: "لا حاجة لهذه العجلة، فطوال ألفي سنة والشعب المرجانية تغزل حولها شباكها العنكبوتية وقد دفنتها الأمواج أعمق فأعمق في الرمال، وهي في انتظارك حتى يجيء وقتك".
"وأبو الهول؟ أين سأجد أبا الهول؟"
"بعيداً جدًّا من حياتنا اليوم، وعلى سهل موحش، كان ينتصب في وقت ما قصر فخم لإمبراطور آخر، هو الذي جلب أبا الهول من ضفاف النيل ليزين به حديقته. لم يبق من القصر إلا ركام من الحجارة، ولكن أبا الهول لا يزال يمكث عميقا في أحشاء الأرض. ابحث وسوف تجده، وإحضاره إلى هنا سوف يكلفك حياتك أو يكاد، لكنك ستقوم بذلك".
"يبدو أنك تعرف المستقبل تماما كما تعرف الماضي".
"الماضي والمستقبل سيان عندي، فأنا أعرف كل شيء".
"وأنا لا أحسدك على هذه المعرفة".
"كلماتك أكبر من عمرك؛ من أين حصلت على ذلك القول المأثور؟"
"مما تعلمته اليوم على هذه الجزيرة، لأني تعلمت أن هؤلاء الناس الودودين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة هم أسعد مني بكثير، مع أني مذ كنت طفلا وأنا أرهق عيني بتحصيل الحكمة. وأنت كذلك، كما أستخلص من حديثك. أنت مثقف عظيم، وأنت تحفظ معلمك تاسيتوس( 57) عن ظهر قلب".
"أنا فيلسوف".
"أتعرف اللاتينية جيدا؟"
"إنني دكتور في علم اللاهوت من جامعة جينا".
"هه! إذن هذا هو السبب في أني أحسست بنبرة ألمانية في صوتك. أتعرف الألمانية؟"
تضاحك: "نوعا ما".
حدقت فيه بانتباه. كان سلوكه وأسلوبه يدلان على أنه سيد وجيه، ولاحظت للمرة الأولى أنه يحمل سيفا تحت عباءته الحمراء، وكانت ثمة نبرة خشنة في صوته بدا لي أني سمعتها من قبل.
"معذرة، يا سيدي، أظن أننا التقينا من قبل في أورباخ كيللر في لايبزيغ، أليس اسمك هو...؟" وحالما تفوَّهت بتلك الكلمات طفقت أجراس الكنيسة تدق ترنيمة السلام الملائكي. أدرت رأسي لأتطلع إليه، لكنه اختفى". 
 
--------------------------------
( 1) نسبة إلي مملكة فريجيا القديمة (W)
( 2) جزيرة في إيطاليا (م)
( 3)  Carolus Linnaeus 1707) - 1778):  عالم نبات سويدي. (W)
( 4) Erechtheum  : معبد الربة أثينا في الجانب الشمالي من الأكروبول، وفيه تماثيل الكاهنات. (م)
( 5) في النص: Paradiso تعني:  الجنة، الفردوس.. ولئلا يلتبس المعنى برغد العيش، وضعت العبارة الدارجة بين الناس عند ذكر الميت. (م)
( 6) العبارة تعني أنه عقد جميل، وكلمة Bella مؤنثة. (م)
( 7) Roba di Timberio: أشياء من تيبريو، الإمبراطور العجوز الذي عاش الأعوام الأحد عشر الأخيرة من حياته على جزيرة كابري، ولا يزال يتردد ذكره كثيرا على شفاه سكانها, وهم يتحدثون عنه بـاسم تيمبريو. والشتائم الملحقة به ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي زخارف لفظية من طبيعة العامية الإيطالية، كما نقول في أحاديثنا العادية:  هذا المسكين، المأفون، اللئيم، المنحوس.. إلخ. (م)
( 8) Timberio cattivo :  تيمبريو الوغد، اللئيم. (م)
( 9) Timberio mal’occhio :  تيمبريو ذو العين الشريرة. (م)
( 10) Timberio camorrista :  تيمبريو.. مافيا، من عملاء المافيا. (م)
( 11) Tacitus :  مؤرخ روماني (56 -  120 م). (W)
( 12) Suetonius :  مؤرخ روماني (69 – 122 م). (W)
( 13)  Piazza 
( 14) Moneta :  فلوس، أموال. (م)
( 15) Molta moneta:  كثير من المال (وباللغة المحكية):  كومة من المال. (م)
( 16) Niete moneta:  لا شيء من الفلوس. (م)
( 17)  Cattivo! Cattivo!:  لئيم! لئيم! (م)
( 18) Arco Naturale:  قوس قزح. 
( 19) Grotta Matromania:  كهف الحياة الزوجية. 
وهذه الأسماء شائعة في الريف لتحديد الأمكنة، لا أكثر.. وكذلك الأمر في ألقاب الناس.
(20 )  Albergo Pagano:  النزل أو الفندق الوثني.
(21 ) The Goat-woman :  Nannina la Crapara
(22 ) Signora Desdemona Vacca
(23 ) la moglie dello Scarteluzzo
(24 ) Signor Ulisse Desiderio 
 25)  Capolimone
(26 )  Cacciacavallara
(27 )  La Zopparella
(28 )  Cappatosta
(29 ) La Femmina Antica   
(30 )  Pane Ascitto
(31 )  La Fesseria
(32 )  La moglie di Pane e Cipolla
(33 ) ‘n’ coppo u camposanto
(34 )  Caparossa
(35 )  Ammazzacane
(36 ) Ischia جزيرة بركانية في الجانب الشمالي من خليج نابولي. (م)
(37 )  Procidaجزيرة علي مقربة من ساحل نابولي جنوبي إيطاليا. (م)
(38 ) Posilipo  حي سكني على الساحل الشمالي لخليج نابولي. (م)
(39 ) Vesuvius جبل بركاني يقع شرقي مدينة نابولي. (م)
(40 ) Monte Sant’Angelo مدينة في جنوب إيطاليا. (م)
(41 )  Flora:  ربة الزهور في الأساطير الرومانية، Titian:  تيتيان:  رسام إيطالي.. وفلورا لوحة له (م).
(42 )  Villa:  آثرت ترجمتها (دارة) وكذلك وردت في (المورد).
(43 ) العبارة تعني تصريف فعل Ammazzare:  يقتل، مع الضمائر الثلاثة، مفردا وجمعا:  أقتل نفسي، تقتل نفسك.. إلخ. (م)
(44 ) Cacciacavallo
(45 ) Hebe هيبي:  ابنة زيوس وهيرا، إلهة الشباب في الأساطير الإغريقية وساقية الآلهة، وقد تزوجت هرقل (م).
( 46) le Figlie di Maria
( 47)  gente malamente
( 48) Altro che San Costanzo 
( 49)  Roba di Timberio
( 50) Era molto duro 
( 51)  a baiocco : قطعة نقود صغيرة من عملة الدولة البابوية القديمة تعادل السنت. (م)
( 52)  teste di cristiani
( 53) tutti spogliati, ballando come dei pazzi, K cristiani
( 54)  La Polveriera
( 55) Lucius Lucinius (117 58): قائد روماني، أبيقوري. (W)
( 56)  Ave Maria:  صلاة العذراء أو السلام الملائكي. (م)
( 57) C. Tacitus (حوالي 65 – حوالي 120م):  مؤرخ روماني. (W)
 
--------------------
 
هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
 

      قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي ترجمة:  علي كنعان الحلقة رقم ( 1 )   I   الصِّبا   قفزت من المركب الشراعي "سورينتو" إلى المرسى الصغير. كان سرب من صبية يلعبون هنا وهناك بين القوارب المقلوبة أو يغسلون أجسادهم البرونزية اللامعة في الأمواج، بينما جلس صيادو سمك مسنّون يرتدون قبعات فريجية  (1)حمرا، يرتقون شباكهم خارج مراسي قواربهم. وقف مقابل المرسى نصف دزينة من الحمير وعلى ظهورها البرادع، وفي أرسانها باقات من الورد، وحولها عدد مماثل من فتيات وقفن يثرثرن ويغنين، وقد شبكن غدائرهن السوداء بزنابق (سباديلا) فضية اللون، وعقدن مناديل حمرا حول أكتافهن. الأتان الهزيلة التي  ستحملني إلى كابري  (2)كان اسمها روزينا، وكان اسم الفتاة جويا. كانت عيناها السوداوان البراقتان تتألقان بصباً وهّاج، شفتاها ورديتان كعقد المرجان الملفوف حول عنقها، وفي ضحكتها المرحة تتلألأ أسنانها البيض المنضّدة كصف من اللآلئ. قالت إن عمرها خمسة عشر عاما، وقلت إني أصغر مما كنت في أي وقت مضى. لكن روزينا عجوز، "أنتيكا"، كما قالت جويا. لذا نزلت عن البردعة وصعدت الطريق المتعرج على مهل نحو القرية. رقصت جويا أمامي حافية القدمين، وحول رأسها إكليل من الزهور مثل كاهنة باخوسية صغيرة، وخلفي تترنح روزينا العجوز بنعالها السود الأنيقة، ورأسها منكّس وأذناها متهدلتان، وهي مستغرقة في التفكير. لم يكن لدي وقت للتفكير، فرأسي ممتلئ بنشوة رائعة، وقلبي مفعم ببهجة الحياة، والعالم جميل وأنا في الثامنة عشرة. شققنا طريقنا بين شجيرات من الرتَم والآس وهي في أوج إزهارها، وهنا وهناك بين الحشائش العطرة رفعت زهور صغيرة كثيرة، رؤوسها الرائعة ترمقنا ونحن نمر، ولم أرَ مثيلاً لها أبداً في أرض لينايوس (3). قلت لجويا: "ما اسم هذه الزهرة؟"، فأخذَتها من يدي ونظرَت إليها بحنوّ وقالت: "فيوري!". "وما اسم هذه؟". نظرَت إليها بالاهتمام الرقيق ذاته، وقالت: "فيوري!". "وماذا تسمين هذه؟"   "فيوري! بيللو! بيللو!" قطفَت باقة من الآس العطر، لكنها لم تشأ أن تعطيني إياها. قالت إن الزهور كانت لـلقديس "سان كوستانزو"، شفيع  كابري, الذي كان كله من الفضة الخالصة وقام بمعجزات كثيرة جدا، سان كوستانزو، بيللو! بيللو! تقدم نحونا على مهل صف طويل من فتيات يحملن فوق رؤوسهن أحجار التوفة البركانية في موكب جليل مثل كاهنات أرتميس في معبد إيريكتوم (4). بادرتني إحدى الفتيات بابتسامة ودية ووضعت برتقالة في يدي. كانت أخت جويا، بل كانت أجمل منها، على ما أظن. نعم، كانوا ثمانية إخوة وأخوات في المنزل، واثنان في ذمة الله (5). كان والدهم غائباً يصطاد المرجان في "بارباريا"."انظر إلى عقد المرجان الذي أرسله لها تشي بيللا كوللانا (6). بيللا! وهي بيللا، بيللا!".  "وأنتِ أيضا بيللا يا جويا، جميلة، جميلة!". قالت: "نعم". تعثرت قدمي بعمود رخام مكسور، فأوضحت جويا: "هذا من مخلفات تيمبريو، روبا دي تيمبريو (7)، تيمبريو كاتِّيڤو (8). تيمبريو مالوتشيو (9)، تيمبريو كاموريستا (10)!". وبصقت على الرخام.  قلت:  "نعم، تيبريو اللئيم"، مستحضراً في ذاكرتي المؤرخيْن تاتشيتوس (11) وسوتونيوس (12). ظهرنا من الطريق الرئيس، ووصلنا إلى الميدان (13) وكان هناك بحاران واقفان قرب الحاجز المطل على الميناء الصغير. وكان نفر من أبناء كابري يجلسون نعسانين أمام نزل دون أنطونيو، ولفيف من القساوسة في طريقهم إلى الكنيسة يلوِّحون بأديهم في مناقشات صاخبة: "مونيتا (14)! مونيتا! مولتا (15) مونيتا؛ نيينتي (16)مونيتا!": "فلوس، فلوس! نعم، كثير من الفلوس! لا شيء من الفلوس!". هرولت جويا لتقبل يد دون چاشينتو الذي كان كاهن الاعتراف، وهو تقي فاضل، مع أنه لا يبدو كذلك. كانت تذهب للاعتراف مرتين شهرياً. وأنا، كم مرة ذهبتُ للاعتراف؟  ـ لم أذهب أبداً! ـ كَتِّيڤو! كَتِّيڤو! (17)! هل كانت ستخبر دون چاشينتو أنني قبّلت خديْها تحت أشجار الليمون؟ ـ بالطبع، لا. مررنا عبر القرية وتوقفنا عند نزل بونتا تراجاراأشرت إلى الصخرة الأشد انحداراً من بين صخور الفاراليوني الثلاث المتلألئة مثل حجر الجمشت الأرجواني عند أقدامنا، قائلا: "سأتسلق إلى قمة تلك الصخرة". لكن جويا كانت واثقة أنني لا أستطيع القيام بذلك. حاول صياد أن يصعد إلى هناك بحثاً عن بيض النورس، فقذفته إلى البحر روح شريرة كانت تعيش هناك على شكل سحلية زرقاء، زرقتها كزرقة كهف "بلو جروتو"، لتحرس الكنز الذهبي الذي أخفاه هناك تميبيريو ذاته. ومن وراء القرية الصغيرة الأليفة ترتفع شاهقة، في وجه السماء الغربية، تلك الملامح الداكنة لجبل سولارو بصخوره القاسية وجروفه المنيعة. قلت: "أريد أن أتسلق ذلك الجبل في الحال". لم ترق هذه الفكرة لجويا إطلاقاً، فالممر شديد الانحدار على مدى سبعمئة وسبع وسبعين درجة، شقه تيمبيريو بنفسه في الصخر صعدا عبر خاصرة الجبل. وفي كهف مظلم في منتصف الطريق، عاش ذئب بشري ضارٍ التهم الكثير من المسيحيين. كانت أناكابري في أعلى الدرج يقطنها فقط جبليون من أشد الناس شرًّا. ما من أجنبي ذهب إلى هناك قطّ. وهي نفسها لم تذهب إلى هناك قطّ. ومن الأفضل أن تصعد إلى ڤيللا تيمبريو، أو أركو ناتورالي( 18)، أو غروتا ماترومانيا!( 19)  "لا, لا وقت لدي، لا بد أن أتسلّق ذلك الجبل في الحال". عدنا إلى الساحة في الساعة الثانية عشرة تماماً، مع دقات أجراس البرج القديم الصدئة معلنة أن المعكرونة جاهزة. أما كان يجدر بي، على الأقل، أن أتناول الغداء أولاً تحت النخلة الكبيرة لنزل ألبيرغو باغانو؟( 20) ثلاثة أطباق، وخمر مما تحب، وبسعر لير واحد. لا, لا وقت لدي، عليّ أن أتسلق الجبل في الحال. "وداعاً، جويا بيللا، أيتها الجميلة!" "وداعاً، روزينا!" وداعاً، وداعاً... سأرجع حالا!" يا حسرة.. على العودة السريعة! "يا له من إنجليزي أرعن!" كانت هذه آخر الكلمات التي سمعتها من شفتي جويا الورديتين، وأنا أثب فوق الدرج الفينيقي يقودني قدري إلى أناكابري. وفي منتصف الطريق صعوداً، تجاوزت امرأة عجوزاً وعلى رأسها سلة كبيرة ملأى بالبرتقال: "نهارك سعيد، يا سنيور".  وضعت سلتها أرضاً وناولتني برتقالة، وفوق البرتقال رزمة من الصحف والرسائل مربوطة بمنديل أحمر. إنها ماريا موزعة الرسائل العجوز التي تحمل البريد إلى أناكابري مرتين أسبوعياً، وأصبحت لاحقاً صديقة العمر، ورأيتها تموت في الخامسة والتسعين من عمرها. أخذت تقلب المكاتيب، واختارت أكبر مغلف، ورجتني أن أخبرها إذا لم يكن لـ"ـنانينا لا كرابارا/ المعزاة"( 21) التي كانت تنتظر بشوق رسالة من زوجها في أميركا. لا، ليس لها. ربما هذه؟ لا، هذه لـلسنيورة "ديدمونة ڤاكا/ البقرة"( 22).  "السنيورة ديدمونة البقرة"، رددت ماريا العجوز بارتياب، ثم قالت بتفكر عميق: "ربما يقصدون زوجة "ديللو سكارتيللوتسو/(23 ) الأحدب". المكتوب التالي كان للسنيور"أوليسي ديسيديريو/ الشهواني"(24 ). وقالت ماريا العجوز: أظن أنهم يقصدون "كابوليموني/ رأس الليمونة"( 25). استلم رسالة مثل هذه تماماً قبل شهر". الرسالة التالية كانت لـلسنيورة العزيزة "روزينا ماتساريللا". بدا من الصعب العثور على هذه السيدة. أهي للست/ جبنة( 26)؟  أم للمرأة/ العرجاء(27 )؟ أم للرأس اليابس( 28)؟ أم للمرأة/ الأنتيكا( 29)؟ أم لروزينيللا/ الخبز البايت(30 )؟ أو لعلها للبلهاء( 31)، كما اقترحت امرأة أخرى كانت قد لحقت بنا للتو، وهي تحمل على رأسها سلة سمك. نعم، ربما تكون لـلبلهاء إن لم تكن لـزوجة "الخبز والبصل"( 32). لكن، ألم يكن هناك رسالة لـ"بيبينيللا ما فوق المقبرة"( 33)؟ أو لـ"ماريوتشيللا/ الجزرة"( 34)، أو لـ"جيوفانينا/ قاتلة الكلاب"( 35)؟ هؤلاء كن جميعاً ينتظرن رسائل من أمريكا؟ لا، للأسف لم تكن هناك رسائل.  أما الصحيفتان فكانتا لراعي الأبرشية المحترم دون أنطونيو دي جيوسيبي ولقس الكاتدرائية دون ناتالي دي توماسو. كانت تعرف ذلك جيداً لأنهما الوحيدان في القرية اللذان لديهما اشتراك في الصحيفة. كان راعي الأبرشية رجلاً متعلماً، وهو الذي كان يكتشف دائماً لمن كانت المكاتيب، لكنه اليوم غائب في سورينتو في زيارة لرئيس الأساقفة، وهذا ما جعلها تطلب مني أن أقرأ لها المغلفات. لم تكن ماريا العجوز تعرف عمرها، لكنها تذكر أنها بدأت تحمل البريد منذ أن كانت في الخامسة عشرة عندما اضطرت والدتها للتخلي عن ذلك. لم تكن تعرف القراءة، بطبيعة الحال. وعندما أخبرتها أنني أبحرت هذا الصباح بقارب البريد من سورينتو ولم يكن لدي ما آكله منذ ذلك الوقت، أعطتني برتقالة أخرى التهمتها بقشرتها، وفي الحال ناولتني المرأة الأخرى من سلتها بعضاً من فاكهة البحر التي جعلتني أشعر بعطش رهيب. هل كان هناك نزل في أناكابري؟ لا، لكن أناريلا زوجة حارس الكنيسة يمكن أن تزودني بجبن الماعز الفاخر وكأس من النبيذ الممتاز من الكرم الذي يمتلكه عمها القس دون ديونيسيو ، وهو نبيذ رائع. إضافة إلى ذلك، كانت هناك مارغريتا الجميلة، عرفتها بالاسم طبعاً، ولم أكن أعرف أن خالتها تزوجت "لورداً إنجليزياً". لا، لم أعرفها، لكن كنت متلهفا جدًّا للتعرف إلى مارغريتا الجميلة.  وصلنا أخيرا إلى آخر الدرجات السبعمئة وسبع وسبعين، ومررنا عبر بوابة مقوّسة ما تزال وصلات الحديد الضخمة لجسرها المتحرك القديم مشدودة إلى الصخر. ها نحن في أناكابري. كان خليج نابولي بكامله ملك أيدينا، محاطاً بإيسكيا(36) وبروتشيدا( 37) وبوسيليبو( 38) المكسوة بأشجار الصنوبر، وساحل نابولي الأبيض المتلألئ، وجبل فيزوفيوس( 39) بسحابة دخانه الوردي، وسهل سورينتو المحتمي تحت مونتي سانت-أنجلو( 40). وفي البعيد، ما زالت جبال أبينين مغطاة بالثلوج. وفوق رؤوسنا مباشرة، تقبع كنيسة مهدمة معلقة على المنحدر الصخري كعش نسر. سطحها المحدب منهار، لكن جدرانها المتداعية كانت ما تزال مسنودة بكتل ضخمة من حجارة تشكل نمطاً غريباً من شبكة متماثلة. أوضحت ماريا العجوز:  مخلفات تيمبريو.  فسألت بلهفة: "ما اسم تلك الكنيسة الصغيرة؟"  "سان ميشيل". "سان ميشيل!"، "سان ميشيل!".  تردد صداها في قلبي. في الكرم أسفل الكنيسة، كان رجل عجوز يحفر في التربة أخاديد عميقة للدوالي الجديدة. "صباح الخير، سيد فنسينزو!" كان الكرم ملكه، وكذلك المنزل الصغير المجاور له، بناه كله بيديه أساساً من مخلفات تيمبريو من الحجارة والآجر المتناثرة في كل مكان من الحديقة. أخبرته ماريا موزعة الرسائل بكل ما عرفته عني، ودعاني  السيد فنسينزو للجلوس في حديقته وتناول كأس من النبيذ. نظرت إلى المنزل الصغير والكنيسة. وبدأ قلبي يخفق بشدة حتى كدت لا أقوى على الكلام. قلت لماريا موزعة الرسائل: "لا بد أن أصعد إلى هناك في الحال". لكنها قالت إن من الأفضل لي أن آتي معها أولا لأتناول شيئاً من الطعام، وإلا فلن أجد هناك أي شيء، فقررت على مضض أن أتبع نصيحتها، مدفوعاً بجوعي وعطشي. لوحت بيدي للسيد فنسينزو وقلت إنني سأعود في الحال. مشينا في بعض الممرات الخالية، وتوقفنا في ساحة صغيرة. انظر، ها هي بيللا مارغريتا! وضعت مارغريتا الجميلة  قارورة من نبيذ وردي اللون وباقة من الزهور على الطاولة في حديقتها وأعلنت أن المعكرونة ستكون جاهزة خلال خمس دقائق. كانت جميلة مثل فلورا لتيتيان( 41)، شكل وجهها رائع، وصورتها الجانبية يونانية خالصة. وضعت أمامي طبقاً ضخماً من المعكرونة وجلست بجانبي تراقبني بفضول باسم. وفي كل مرة ملأت فيها كأسي، كانت تصرخ بفخر: "إنه نبيذ القسيس".   شربت نخب القسيس ونخبها ونخب أختها ذات العينين الداكنتين، جوليا الجميلة التي لحقت بالحفلة ومعها برتقالات شاهدتها تقطفها من شجرة بالحديقة. كان والداهما ميتين وأخوهما أندريا بحاراً، ويعلم الله أين كان. خالتها كانت تعيش في دارتها( 42) الخاصة في كابري، وهل علمت طبعاً أنها تزوجت بلورد إنجليزي؟ نعم، طبعاً علمت، لكني لم أتذكر اسمها. قالت مارغريتا الجميلة بفخر "السيدة جي-"، تذكرت في الوقت المناسب أن أشرب نخبها، لكن بعد ذلك لم أتذكر شيئاً سوى أن السماء من فوقي كانت زرقاء كالزبرجد، وأن نبيذ القسيس كان أحمر كالياقوت، وأن مارغريتا الجميلة جلست إلى جانبي بشعر ذهبي وشفتين باسمتين. "سان ميشيل!" رنّت فجأة في أذني. "سان ميشيل!" تردد صداها عميقاً في قلبي. وداعاً، مارغريتا الجميلة! وداعاً، وعودة سريعة! يا حسرة على العودة السريعة! قفلت راجعاً عبر الممرات الخالية متجهاً مباشرة قدر استطاعتي نحو هدفي. كانت ساعة القيلولة المقدسة، وكانت القرية الصغيرة كلها نائمة. الساحة التي التهبت بالشمس كانت مقفرة. الكنيسة مغلقة، ووحده الصوت الجهوري للكاهن المحترم دون ناتالي كان يدوي مخترقاً الصمت عبر الباب الموارب لمدرسة البلدية، بوقع رتيب ناعس:  "lo mi ammazzo, tu ti amazzi, egli si ammazza,  noi ci ammazziamo, voi vi ammazzate, loro si am- mazzano,"    هذه العبارة( 43) كانت ترددها بإيقاع رتيب جوقة من اثني عشر صبيًّا، عراة السيقان يشكلون دائرة على الأرض عند قدمَيْ معلمهم. وعلى مسافة أبعد في المنحدر، وقفت سيدة رومانية مهيبة. إنها أناريلا بذاتها، تومئ لي وهي تلوّح يدها بمودة وتدعوني للدخول. لماذا ذهبتُ إلى مارغريتا الجميلة بدلاً منها؟ ألم أكن أعرف، أن جبنة "كاتشياكاڤالو"( 44) التي تصنعها كانت أفضل جبنة في القرية كلها؟ أما بالنسبة إلى النبيذ، فكلهم كان يعرف أن نبيذ القسيس لا يضاهي نبيذ المحترم دون ديونيسيو. وأضافت وهي تهز كتفيْها القويتيْن بهزة استهجانية ذات مغزى: "نبيذ القسيس مختلف!" وبينما كنت جالسا تحت سقيفتها أمام دورق النبيذ الأبيض للدون ديونيسيو، بدأ يخطر لي أنها ربما كانت على حق، لكني أردت أن أكون لطيفاً وأن أفرغ الدورق كله قبل أن أبدي رأيي النهائي. وعندما أسعفتني جوكوندا، ابنتها المبتسمة، بكأس ثانية من الدورق الجديد، كنت قد حسمت رأيي. نعم، إن نبيذ الدون ديونيسيو الأبيض هو الأفضل!  بدا كأشعة شمس براقة مُذابة، ومذاقه كرحيق الآلهة، وجوكوندا بدت مثل هيبي(45) فتية وهي تملأ كأسي الفارغة. ضحكت أناريلا قائلة: "لم أخبرك أنه نبيذ القسيس؟". إنه نبيذ معجزة،  معجزة حقاً، ذلك أني أخذت فجأة أتحدث الإيطالية بطلاقة، وبلسان ثقيل وسط قهقهة الأم والابنة. بدأت أشعر بالمودة تجاه السيد ديونيسيو، أحببت اسمه وأحببت نبيذه، وخطر لي أني أود التعرف إليه. لم يكن هناك ما هو أسهل من ذلك لأنه كان سيعظ  ذلك المساء لـ"بنات مريم"( 46) في الكنيسة. قالت أناريلا: "إنه رجل مطلع جدا"، كان يعرف عن ظهر قلب أسماء الشهداء والقديسين، بل وكان قد ذهب إلى روما ليقبل يد البابا. هل سبق أن ذهبت إلى روما؟ لا. وإلى نابولي؟ لا. ذهبَتْ مرة إلى كابري، كان ذلك يوم زفافها، لكن جوكوندا لم يسبق لها أن ذهبت إلى هناك. كانت كابري ملأى بـ"الناس السيئين"( 47) أخبرت أناريلا أنني أعرف طبعاً كل شيء عن قديسهم، وعدد المعجزات التي قام بها، وكم كان جميلا، كله من الفضة الخالصة. ساد صمت غير مريح. @ 19 @ اندفعت الكلمات من أناريلا بقوة وهي تهز كتفيها العريضتين في ازدراء: "نعم، يقولون إن قديسهم سان كوستانزو من الفضة الخالصة، لكن من يعلم، فمعجزاته يمكن عدها على أصابعك بينما سان أنطونيو، شفيع أناكابري، قام بأكثر من مئة معجزة.  و"هو مختلف عن سان كوستنزو"( 48). فجأة انحزت الى سان أنطونيو، آملا من كل قلبي في معجزة جديدة من معجزاته تعيدني بأسرع ما يمكن إلى قريته الساحرة. كانت ثقة أناريلا الطيبة في معجزات القديس أنطونيو كبيرة جدًّا لدرجة أنها رفضت بشكل صريح أن تقبل أي نقود. "ستدفع لي في مرة ثانية". "وداعاً أناريلا، وداعاً جوكوندا". "إلى اللقاء، وعودة سريعة، وليرعَك سان أنطونيو، ولتصحبْك العذراء مريم". كان السيد ڤنسنزو الكبير ما يزال يعمل بجد في كرمه، يحفر أخاديد عميقة في التربة العطرة للدوالي الجديدة. وبين الحين والآخر، كان يرفع لوحاً من الرخام الملوّن أو قطعة من الجبس الأحمر، ويرميها على الحائط ويقول: "مخلفات تيمبيريو"( 49). جلست على عمود مكسور من الغرانيت الأحمر إلى جوار صديقي الجديد. قال السيد ڤنسنزو:  إنه قاس جدا( 50)، من الصعب كسره. وعند قدمي، كانت دجاجة تنبش الأرض بحثاً عن دودة، وتحت عيني ظهرت قطعة نقدية. التقطتها، وفي لمحة تعرفت على رأس أغسطس رفيع المقام، "الأب أغسطس المقدس". وقال السيد ڤنسنزو إنها لم تكن تساوي فلسا( 51) وهي ما تزال لدي. لقد سوَّى الحديقة كلها بنفسه، وبيديه غرسها بالدوالي وأشجار التين. قال السيد ڤنسنزو: "عمل شاق"، مظهراً لي يديه الكبيرتين الخشنتين، لأن الأرض كلها كانت ملأى بمخلفات تيمبيريو وأعمدة وتيجان أعمدة وأجزاء من تماثيل وشواهد مسيحية(52). وكان عليه أن يحفر وينقل كل تلك النفايات قبل أن يتمكن من زراعة كرمه. الأعمدة  قطعها إلى درجات للحديقة، وطبعاً استطاع أن ينتفع بكثير من قطع الرخام أثناء بناء منزله، ورمى الباقي على الجرف. لقد حالفه الحظ عندما عثر بالصدفة على حجرة سرية كبيرة تحت منزله مباشرة، لها حيطان حمراء تشبه تماماً تلك القطعة التي هناك تحت شجرة الخوخ المرسوم عليها كثير من الناس، وكلهم عراة تماما( 53) يرقصون كالمجانين، وأيديهم ملأى بالزهور وعناقيد العنب. لقد استغرق منه كشط هذه الرسومات وكساء الحائط بالملاط أياماً عدة، لكن هذا كان عملاً بسيطاً إذا ما قورن بما يعنيه نسف الصخرة وبناء حوض جديد، كما قال السيد ڤنسنزو- بابتسامة ماكرة. بدأ الآن يهرم ولم يعد قادراً على الاعتناء بكرمه أكثر من ذلك، ودعاه ابنه الذي يعيش في البر الرئيسي مع اثني عشر طفلاً وثلاث بقرات، إلى أن يبيع المنزل ويأتي للعيش معه. ومن جديد بدأ قلبي يخفق. هل كانت الكنيسة ملكه أيضاً؟ لا، لم تكن ملك أحد، وقال الناس إنها كانت مسكونة بالأشباح. وهو نفسه عندما كان صبياً رأى راهباً طويلاً متكئاً على حاجز الشرفة، كما سمع بحارة كانوا يصعدون الدرج في وقت متأخر ذات ليلة أجراساً تدق في الكنيسة. وسبب ذلك، كما أوضح السيد ڤنسنزو، أن تيمبريو عندما كان قصره هناك  حكم بإعدام عيسى المسيح، ومنذ ذلك الوقت تأتي روحه الملعونة بين حين وآخر لتطلب المغفرة من الرهبان المدفونين تحت أرض الكنيسة. وقال الناس أيضا إنه كان يأتي إلى هناك على هيئة ثعبان أسود كبير. الرهبان أُعدموا على يد قرصان اسمه بربروسا كان قد هاجم الجزيرة بسفنه وعمد إلى استعباد كل النساء اللواتي احتمين في القلعة هناك في الأعلى، لذا سميت بقلعة بربروسا. الأب أنسيلمو، الناسك الذي كان رجلاً مطلعاً، وأحد أقربائه أيضا، أخبراه بكل هذا، كما أخبراه عن الإنجليز الذين حولوا الكنيسة إلى حصن وقُتلوا بدورهم على أيدي الفرنسيين. قال السيد ڤنسنزو: "انظر!"، مشيرا إلى ركام من الرصاص قرب سور الحديقة. وأضاف وهو يلتقط زراً نحاسياً لجندي إنجليزي: "انظر". واستطرد: "الفرنسيون وضعوا مدفعاً قريباً من الكنيسة  وأطلقوا النار على قرية كابري التي يسيطر عليها الإنجليز". ضحك ضحكة مكتومة قائلاً: "حسنا فعلوا. أبناء كابري كلهم أناس سيئون". في ذلك الحين حوّل الفرنسيون الكنيسة الى مخزن ذخيرة، وكان هذا سبباً في تسميتها بمستودع البارود.( 54) أصبح الآن خراباً، لكن ثبت أنه مفيد جدًّا له، إذ أنه أخذ منه معظم الحجارة التي بنى بها أسوار حديقته. عبرت السور ومشيت في الممر الضيق إلى الكنيسة. كانت الأرض مغطاة بحطام المدفن المتهدم نحو ارتفاع قامة رجل، والجدران مغطاة باللبلاب وصريمة الجدي البري، ومئات السحالي تلعب هنا وهناك في مرح بين شجيرات الآس وإكليل الجبل، وتتوقف بين الحين والآخر في لهوها تنظر إلي بأعين لامعة وصدور لاهثة. ظهرت بومة من ركن مظلم دون أن تصدر أجنحتها صوتاً، وأخذ ثعبان كبير نائم على أرضية الشرفة الفسيفسائية المشمسة يتلوى ساحباً أطواقه السوداء ببطء، وانسلّ عائداً إلى الكنيسة محذراً بفحيحه الدخلاء. هل ما زال شبح الإمبراطور الكبير البائس يسكن الخراب حيث كان قصره الإمبرطوري قائماً ذات يوم؟ تطلعت إلى الجزيرة الجميلة تحت ناظري وأنا أفكر:  كيف استطاع أن يعيش في مثل هذا المكان ويكون قاسياً إلى ذلك المدى! كيف لروحه أن تكون قاتمة إلى هذه الدرجة، وحوله كل هذا النور المجيد في السماء والأرض! وكيف استطاع أن يغادر مثل هذا المكان لينزوي في تلك البقعة حيث قصره الذي ما زال يحمل اسمه، ولا يمكن الوصول إليه فوق الجرف الشرقي، حيث أمضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته؟ أن تعيش في مكان كهذا، أن تموت في مثل هذا المكان، فهل كان في وسع الموت أن يقهر  الغبطة السرمدية لمثل هذه الحياة! أي حلم جريء جعل قلبي يدق بمثل ذلك العنف قبل قليل حين أخبرني السيد ڤنسنزو أنه تقدم في السن وهده التعب، وأن ابنه يريد منه أن يبيع بيته؟ أية أفكار وحشية لمعت في ذهني المضطرب حين قال إن الكنيسة ليست لأحد؟ لمَ لا تكون لي؟ لمَ لا أشتري بيت السيد فنسينزو وأقيم بين الكنيسة والبيت أكاليل من عرائش الكرمة وممرات مغروسة بالسرو وأعمدة تدعم أروقة بيضاء مأهولة بتماثيل رخامية لآلهة وأباطرة من البرونز و... أغمضت عيني مخافة أن تختفي الرؤيا، وشيئاً فشيئاً تلاشى واقع الحياة في غبش من عالم الأحلام. وانتصب أمامي شخص طويل يلتف بعباءة فاخرة. "ستكون هذه كلها لك" قال بصوت شجي، وهو يلوّح بذراعيه عبر الأفق: "الكنيسة والحديقة والبيت والجبل مع قلعته، كلها ستكون لك، إن كنت راغباً بدفع الثمن!" "من أنت، شبح من الغيب؟" "أنا روح المكان الخالدة. الزمن لا معنى له لدي. قبل ألفي سنة وقفت هنا، حيث نقف الآن، أمام رجل آخر، ساقه قدره إلى هنا مثلما ساقك قدرك إلى هنا. لم يكن يلتمس السعادة كما تفعل، لكنه كان يلتمس النسيان والسلام، وكان يعتقد أن في مقدوره أن يجدهما هنا على هذه الجزيرة الموحشة. ولقد أخبرته بالثمن الذي ينبغي عليه أن يدفعه: أن يوصم باسم لا يخبو بريقه من سوء السمعة على مدى الأجيال. "وافق على الصفقة، ودفع الثمن. عاش هنا إحدى عشرة سنة محاطا بقلة من الأصحاب المخلصين، وكلهم رجال من ذوي الشرف والنزاهة. حاول الرجوع مرتين وأخذ طريقه إلى قصره على تل بالاتين. لكن شجاعته خانته في المرتين؛ ولم تره روما أبدا بعد ذلك. مات في طريق عودته في قصر صديقه لوكولوس( 55) هناك في أعلى ذلك السفح. وكانت آخر كلماته أنه ينبغي أن ينقل من محفته إلى القارب الذي سيحمله إلى بيته على الجزيرة. "وما الثمن الذي تطلبه؟" "أن تتخلى عن طموحك في أن تجعل لك اسما مرموقا في مهنتك، أن تضحي بمستقبلك". "وماذا علي أن أصبح عندئذ؟" "مجرد فاشل". "أنت تسلبني كل ما يستحق أن أعيش من أجله". "أنت مخطئ، إني أمنحك كل ما يستحق أن تعيش من أجله". "هلاّ تركت لي الرحمة على الأقل. لا يمكن أن أعيش بلا رحمة إذا كنت سأغدو طبيباً". "سأدعها لك، لكن أمورك ستسير بصورة أفضل بكثير من دونها".  "أتطلب أي شيء آخر أكثر من ذلك؟" "قبل موتك عليك أن تدفع ثمنا آخر، إنه ثمن باهظ. لكن قبل وجوب دفع الثمن، ستشاهد طوال سنوات من هذا المكان الشمس وهي تغرب في أيام من السعادة لا غيم فيها والقمر يرتفع في ليال من الأحلام مضاءة بالنجوم.  "هل سأموت هنا؟"  إياك أن تبحث عن جواب لسؤالك؛ الإنسان لا يطيق الحياة إذا اطلع على ساعة موته".  وضع يده على كتفي، فشعرت برعشة خفيفة تسري في جسدي. "سأكون معك مرة ثانية في هذا المكان عند غروب الشمس غدا؛ لعلك تفكر في الأمر إلى ذلك الحين". "لا جدوى من التفكير طويلا، إجازتي في نهايتها، وعليَّ أن أرجع هذه الليلة تماما إلى عملي اليومي بعيدا جدًّا عن هذه البقعة الجميلة. أنا لا أحسن التفكير، أقبل الصفقة، وسأدفع الثمن، أيا كان. ولكن كيف يمكن أن أشتري هذا البيت ويداي فارغتان؟" "يداك فارغتان لكنهما قويتان، ذهنك صاخب لكنه واضح، إرادتك شديدة وسوف تنجح". "كيف يمكن أن أبني بيتي؟ لا أعرف شيئا عن العمارة". "سأساعدك. أي طراز تريد؟ لمَ لا يكون القوطي؟ أنا أفضل القوطي بإضاءته الشاحبة وغموضه الآسر". سأبتدع طرازا خاصا بي، من ذلك النوع الذي حتى أنت لن تستطيع أن تعطيه اسما. غبش القرون الوسطى لا يليق بي! أريد بيتي أن يكون مشرعا للشمس والريح وصوت البحر كمعبد إغريقي، والنور، النور، النور في كل مكان!" "إياك من النور! إياك من النور! النور الزائد عن الحد لا يصلح للكائن البشري". أريد أعمدة من رخام لا تقدر بثمن، تدعم الأروقة والشرفات، لقى جميلة من عصور غابرة متناثرة في حديقتي، وتغدو الكنيسة مكتبة هادئة بمقاعد معزولة عن بعضها حول الجدران، وأجراس ذات رنين عذب تترنم بالسلام الملائكي(56) في كل يوم سعيد". "أنا لا أحب الأجراس". "وهنا حيث نقف على هذه الجزيرة الجميلة الطالعة مثل أبي الهول من البحر تحت أقدامنا، هنا أريد تمثالاً من الغرانيت لأبي الهول من أرض الفراعنة. ولكن، أنى لي أن أجد كل ذلك؟" "أنت تقف على موقع واحد من قصور تيبريو. كنوز من العصور الغابرة لا تقدر بثمن تترامى  مدفونة تحت الدوالي، تحت الكنيسة، وتحت البيت. لقد مشت قدم الإمبراطور العجوز فوق ألواح الرخام الملون التي رأيت الفلاح العجوز يلقي بها على سور حديقته، القطع الجصية المصورة للكاهنات الراقصات والباخوسيات المتوجات بالأزهار، واللواتي كن يزينَّ أسوار قصره في ذلك الحين. وقال وهو يشير إلى أعماق البحر المترامية تحت أقدامنا آلاف الأقدام: "انظر، ألم يخبرك معلمك  تاسيوس في المدرسة أن قصور الإمبراطور قذفت في البحر بقوة حين وصل نبأ وفاته إلى الجزيرة؟" أردت أن أقفز من فوق الجرف الصخري في الحال وأغوص في البحر بحثاً عن أعمدتي. وتضاحك: "لا حاجة لهذه العجلة، فطوال ألفي سنة والشعب المرجانية تغزل حولها شباكها العنكبوتية وقد دفنتها الأمواج أعمق فأعمق في الرمال، وهي في انتظارك حتى يجيء وقتك". "وأبو الهول؟ أين سأجد أبا الهول؟" "بعيداً جدًّا من حياتنا اليوم، وعلى سهل موحش، كان ينتصب في وقت ما قصر فخم لإمبراطور آخر، هو الذي جلب أبا الهول من ضفاف النيل ليزين به حديقته. لم يبق من القصر إلا ركام من الحجارة، ولكن أبا الهول لا يزال يمكث عميقا في أحشاء الأرض. ابحث وسوف تجده، وإحضاره إلى هنا سوف يكلفك حياتك أو يكاد، لكنك ستقوم بذلك". "يبدو أنك تعرف المستقبل تماما كما تعرف الماضي". "الماضي والمستقبل سيان عندي، فأنا أعرف كل شيء". "وأنا لا أحسدك على هذه المعرفة". "كلماتك أكبر من عمرك؛ من أين حصلت على ذلك القول المأثور؟" "مما تعلمته اليوم على هذه الجزيرة، لأني تعلمت أن هؤلاء الناس الودودين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة هم أسعد مني بكثير، مع أني مذ كنت طفلا وأنا أرهق عيني بتحصيل الحكمة. وأنت كذلك، كما أستخلص من حديثك. أنت مثقف عظيم، وأنت تحفظ معلمك تاسيتوس( 57) عن ظهر قلب". "أنا فيلسوف". "أتعرف اللاتينية جيدا؟" "إنني دكتور في علم اللاهوت من جامعة جينا". "هه! إذن هذا هو السبب في أني أحسست بنبرة ألمانية في صوتك. أتعرف الألمانية؟" تضاحك: "نوعا ما". حدقت فيه بانتباه. كان سلوكه وأسلوبه يدلان على أنه سيد وجيه، ولاحظت للمرة الأولى أنه يحمل سيفا تحت عباءته الحمراء، وكانت ثمة نبرة خشنة في صوته بدا لي أني سمعتها من قبل. "معذرة، يا سيدي، أظن أننا التقينا من قبل في أورباخ كيللر في لايبزيغ، أليس اسمك هو...؟" وحالما تفوَّهت بتلك الكلمات طفقت أجراس الكنيسة تدق ترنيمة السلام الملائكي. أدرت رأسي لأتطلع إليه، لكنه اختفى".    -------------------------------- ( 1) نسبة إلي مملكة فريجيا القديمة (W) ( 2) جزيرة في إيطاليا (م) ( 3)  Carolus Linnaeus 1707) - 1778):  عالم نبات سويدي. (W) ( 4) Erechtheum  : معبد الربة أثينا في الجانب الشمالي من الأكروبول، وفيه تماثيل الكاهنات. (م) ( 5) في النص: Paradiso تعني:  الجنة، الفردوس.. ولئلا يلتبس المعنى برغد العيش، وضعت العبارة الدارجة بين الناس عند ذكر الميت. (م) ( 6) العبارة تعني أنه عقد جميل، وكلمة Bella مؤنثة. (م) ( 7) Roba di Timberio: أشياء من تيبريو، الإمبراطور العجوز الذي عاش الأعوام الأحد عشر الأخيرة من حياته على جزيرة كابري، ولا يزال يتردد ذكره كثيرا على شفاه سكانها, وهم يتحدثون عنه بـاسم تيمبريو. والشتائم الملحقة به ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي زخارف لفظية من طبيعة العامية الإيطالية، كما نقول في أحاديثنا العادية:  هذا المسكين، المأفون، اللئيم، المنحوس.. إلخ. (م) ( 8) Timberio cattivo :  تيمبريو الوغد، اللئيم. (م) ( 9) Timberio mal’occhio :  تيمبريو ذو العين الشريرة. (م) ( 10) Timberio camorrista :  تيمبريو.. مافيا، من عملاء المافيا. (م) ( 11) Tacitus :  مؤرخ روماني (56 -  120 م). (W) ( 12) Suetonius :  مؤرخ روماني (69 – 122 م). (W) ( 13)  Piazza  ( 14) Moneta :  فلوس، أموال. (م) ( 15) Molta moneta:  كثير من المال (وباللغة المحكية):  كومة من المال. (م) ( 16) Niete moneta:  لا شيء من الفلوس. (م) ( 17)  Cattivo! Cattivo!:  لئيم! لئيم! (م) ( 18) Arco Naturale:  قوس قزح.  ( 19) Grotta Matromania:  كهف الحياة الزوجية.  وهذه الأسماء شائعة في الريف لتحديد الأمكنة، لا أكثر.. وكذلك الأمر في ألقاب الناس. (20 )  Albergo Pagano:  النزل أو الفندق الوثني. (21 ) The Goat-woman :  Nannina la Crapara (22 ) Signora Desdemona Vacca (23 ) la moglie dello Scarteluzzo (24 ) Signor Ulisse Desiderio   25)  Capolimone (26 )  Cacciacavallara (27 )  La Zopparella (28 )  Cappatosta (29 ) La Femmina Antica    (30 )  Pane Ascitto (31 )  La Fesseria (32 )  La moglie di Pane e Cipolla (33 ) ‘n’ coppo u camposanto (34 )  Caparossa (35 )  Ammazzacane (36 ) Ischia جزيرة بركانية في الجانب الشمالي من خليج نابولي. (م) (37 )  Procidaجزيرة علي مقربة من ساحل نابولي جنوبي إيطاليا. (م) (38 ) Posilipo  حي سكني على الساحل الشمالي لخليج نابولي. (م) (39 ) Vesuvius جبل بركاني يقع شرقي مدينة نابولي. (م) (40 ) Monte Sant’Angelo مدينة في جنوب إيطاليا. (م) (41 )  Flora:  ربة الزهور في الأساطير الرومانية، Titian:  تيتيان:  رسام إيطالي.. وفلورا لوحة له (م). (42 )  Villa:  آثرت ترجمتها (دارة) وكذلك وردت في (المورد). (43 ) العبارة تعني تصريف فعل Ammazzare:  يقتل، مع الضمائر الثلاثة، مفردا وجمعا:  أقتل نفسي، تقتل نفسك.. إلخ. (م) (44 ) Cacciacavallo (45 ) Hebe هيبي:  ابنة زيوس وهيرا، إلهة الشباب في الأساطير الإغريقية وساقية الآلهة، وقد تزوجت هرقل (م). ( 46) le Figlie di Maria ( 47)  gente malamente ( 48) Altro che San Costanzo  ( 49)  Roba di Timberio ( 50) Era molto duro  ( 51)  a baiocco : قطعة نقود صغيرة من عملة الدولة البابوية القديمة تعادل السنت. (م) ( 52)  teste di cristiani ( 53) tutti spogliati, ballando come dei pazzi, K cristiani ( 54)  La Polveriera ( 55) Lucius Lucinius (117 58): قائد روماني، أبيقوري. (W) ( 56)  Ave Maria:  صلاة العذراء أو السلام الملائكي. (م) ( 57) C. Tacitus (حوالي 65 – حوالي 120م):  مؤرخ روماني. (W)   --------------------   هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة) صفحتنا الرسمية في فيس بوك : https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا  https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar   , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

سان ميشيل - لأكسِل مونتي - استهلال
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 1 - الصِّبا
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 2 - الحي اللاتيني
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 3 - شارع ڤيليير
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 4 - طبيب من أحدث طراز
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 5 - قصر رامو
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 7 - نابولي