قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 5 - قصر رامو

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (5)
VI
قصر رامو
تمتاز باريس في إجازة الصيف بأنها مكان بهيج جدًّا لهؤلاء الذين ينتمون إلى باريس المتعة، ولكن إن كنت تنتمي إلى باريس العمل، فإنها تغدو أمراً مختلفاً. وهذا على وجه الخصوص، إذا كان عليك أن تتغلب على وباء التيفوئيد في الفيلليت بين مئات العمال الاسكندينافيين، ووباء الدفتيريا في حي مونبارناس بين أصدقائك الإيطاليين وأطفالهم الذين لا يحصى لهم عدد. وبالفعل، لم يكن هناك نقص في أطفال الاسكنديناڤيين في الفيلليت أيضا؛ والأسر القليلة التي لم ترزق بأحد بدت وكأنها اختارت هذا الوقت بالذات للمجيء بهم إلى هذا العالم، وغالبا بدون أي مساعدة من السيدات الحكيمات أو سواهن، إلا مني. معظم الأطفال وهم أصغر من أن يلتقطوا التيفوئيد، أصيبوا بالحمى القرمزية والسعال الديكي. طبعا لم يكن لديهم أي مال ليدفعوا لطبيب فرنسي، لذلك كان علي أن أعتني بهم بقدر ما أستطيع. لا مجال للمزاح، فقد كان هناك ما يزيد عن ثلاثين حالة تيفوئيد بين العمال الاسكندينافيين في الفيلليت وحدها. ولقد ثابرت، على أية حال، أن أذهب إلى الكنيسة السويدية في شارع أورنانو كل أحد إرضاء لصديقي القسيس السويدي الذي قال إنها ستعطي مثلا طيبا للآخرين. لقد تضاءلت جماعة المصلين إلى نصف عددهم المعتاد، والنصف الآخر كان طريح الفراش أو يرعى شخصا ما طريح الفراش. وكان القسيس على قصب رجليه من الصباح حتى الليل، مسعفا ومساعدا المرضى والفقراء، ولم تقع عيناي أبدا على رجل أرق منه قلبا، وليس معه فلس واحد. ولم يحصل على أية مكافأة إلا أنه جلب العدوى إلى بيته ذاته. فقد أصيب الولدان الكبيران من أطفاله الثمانية بالتيفوئيد، وخمسة بالحمى القرمزية، وطفله الوليد الأخير ابتلع قطعة نقود من ذات الفرنكين وأشرف على الموت بانسداد معوي. وفي ذلك الحين، اختل القنصل السويدي، وهو إنسان صغير تماما ومسالم جدا، وأصبح فجأة مجنونا عنيفا، وكاد يقتلني بسبب ذلك؛ لكن سأحكي لكم هذه القصة في وقت آخر.
وهناك في حي مونبارناس كان الوضع أخطر، مع أنه بدا من عدة وجوه أسهل عمل لي تقريبا. وأنا أشعر بالخجل أن أقول إني نجحت مع هؤلاء الإيطاليين الفقراء أكثر بكثير مما فعلت مع أبناء بلدي، الذين كان التعامل معهم شاقا في الغالب، فهم مستاؤن متجهمون، وإلى حد ما أنانيون ومناكدون. والإيطاليون، الذين لم يجلبوا معهم من بلادهم ذاتها إلا وسائلهم الصغيرة وصبرهم الجميل ومرحهم وطباعهم الساحرة، كانوا في المقابل قانعين دائما وشاكرين ويساعدون بعضهم بعضا بشكل رائع. لما انتشرت الدفتريا في أسرة سلڤاتور، أوقف أركانجلو فوسكو، كنَّاس الشوارع، عمله فورا وكرس نفسه للاعتناء بهم جميعا على أكمل وجه. أصيبت الفتيات الثلاث الصغيرات بالديفتيريا، وماتت الفتاة الكبرى، وفي اليوم التالي التقطت الأم المرهقة الداء الوبيل. وكان طفل الأسى، بتروتشيو، الأبله العاجز، هو الوحيد الذي نجا بفضل الله العظيم ومشيئته الخفية. لقد أصيبت بالعدوى منطقة إمباس روسيل بأسرها، وانتشرت الديفتيريا في كل بيت حيث ما من أسرة بلا عدة أطفال صغار. مشفيا الأطفال كلاهما كانا مزدحمين. وحتى لو كان هناك سرير شاغر فقد كانت إمكانية الحصول على إذن بالدخول لهؤلاء الأطفال الأجانب غير متيسرة. لذلك كان على أركانجلو وعلي بذاتي أن نعتني بهم، وأولئك الذين لم يكن لدينا وقت لرؤيتهم، وهم كثر، كان عليهم أن يعيشوا أو يموتوا في أحسن حال ممكن. ما من طبيب مر في محنة مكافحة وباء الدفتيريا بين الفقراء المعدمين بلا أي معين أو وسيلة للوقاية، سواء له أو للآخرين، يمكن أن يفكر بمثل هذه التجربة من دون أن يرتعد مهما كان قاسي الفؤاد. كنت أجلس هناك ساعات وأنا أدهن وأمسح حلق طفل بعد آخر، ولم يكن هناك من عمل نقوم به أكثر من ذلك في تلك الأيام. وفي تلك الحالة، حين لا يبقى أي إمكانية لإزالة الأغشية السامة التي تسد مجاري الهواء، حين يغدو الطفل مزرقا وعلى وشك الاختناق والعرض الملح لفتح الرغامى يطرح نفسه بسرعة البرق! فهل يجب أن أعمل فورا، حتى بدون طاولة لوضع الطفل عليها، على هذا السرير المنخفض أو في حجر أمه، في ضوء هذا المصباح الزيتي الزري ولا من مساعد آخر غير كناس شوارع؟ ألا أستطيع أن أنتظر حتى الغد وأحاول العثور على أحد ما يكون جراحا أفضل مني؟ هل أستطيع الانتظار، هل أجرؤ على الانتظار؟ يا حسرة! لقد انتظرت حتى الغد، لكن الوقت كان قد فات، ورأيت الطفل يموت أمام عيني. وأجريت الجراحة فورا أيضا وأنقذت حياة الطفل بلا ريب، ولكن قمت بالجراحة كذلك حالا ورأيت الطفل يموت تحت مبضعي. إن حالتي كانت أسوأ من كثير من أطباء آخرين في ورطة مماثلة، لأني أنا نفسي كنت في خوف قاتل من الدفتيريا، خوف لم أكن قادرا أن أتغلب عليه إطلاقا. لكن أركانجيلو فوسكو لم يكن خائفا. كان يعرف الخطر كما أعرفه، لأنه رأى العدوى المرعبة تنتشر من شخص إلى آخر، لكنه لم يكن لديه أبدا أدنى فكرة عن سلامته الخاصة، بل كان يفكر بالآخرين فقط. ويوم انتهينا من ذلك كله، راحوا يثنون علي يمينا وشمالا، حتى من جانب المساعدين العامين، لكن لا أحد أبدا تفوه بكلمة لأركانجيلو فوسكو الذي باع ثيابه الخاصة بيوم الأحد ليدفع للحانوتي الذي أخذ جثمان الطفلة الصغيرة بعيدا.
نعم، جاء الوقت الذي انتهى فيه كل شيء، يوم رجع أركانجلو فوسكو إلى عمله في كنس الشوارع، وأنا عدت إلى مرضاي من أحدث طراز. وبينما كنت أمضي أيامي في فيلليت أو مونبارناس، كان الباريسون المرهقون بالعمل يحملون أمتعتهم ويغادرون إلى قصورهم الريفية أو منتجعاتهم المائية المفضلة على شاطئ البحر. كانت الشوارع بأيدي الغرباء الباحثين عن متعة، وقد تقاطروا إلى باريس من جميع أنحاء العالم المتمدن وغير المتمدن، لينفقوا أموالهم الفائضة. كثيرون منهم كانوا يجلسون في غرفة الانتظار، يقرؤون كتبهم السياحية بنفاد صبر، وهم يلحون دائما على الدخول أولا، ونادرا ما طلبوا غير استرداد النشاط من إنسان هو أحوج منهم بكثير إلى ذلك. وآخرون، من المستقرين بارتياح على كراسيهم الوثيرة في أجمل بزات شرب الشاي، اللائقة بآخر طراز، كانوا يرسلون من فنادقهم الراقية في طلبي في أشد الساعات إحراجا نهارا وليلا، يأملون مني أن"أصلح أمرهم" استعدادا لحفلة الرقص بالأقنعة في الأوبرا غدا. لم يرسلوا في طلبي مرتين، ولم يكن ذلك ليدهشني.
يا له من مضيعة للوقت! كنت أفكر وأنا في طريقي إلى البيت، أجرُّ ساقي المتعبتين على طول أسفلت الشوارع اللاهب تحت أشجار الكستناء المكسوة بالغبار وأوراقها المتهدلة تتلهف لاستنشاق هواء نقي.
قلت لأشجار الكستناء: "أعرف ما الهم الذي يشغك ويشغلني. إننا بحاجة إلى تغيير الهواء، أن نخرج من جو هذه المدينة الكبيرة. لكن أنى لنا أن نتخلص من هذا الجحيم، وأنت مسجونة تحت الأسفلت بجذورك الموجعة، وحلقات الحديد تلك حول أقدامك، وأنا مع كل هؤلاء الأميركيين الأثرياء في غرفة الانتظار وأعداد من مرضى آخرين في أسرتهم؟ وإذا كان علي أن أذهب بعيدا، فمن الذي سيعتني بالقرود في حديقة النبات؟ من سينعش الدب القطبي اللاهث، وهو الآن في انتظار أسوأ حالة وشيكة الوقوع. إنه لن يفهم كلمة واحدة يقولها له نوع آخر من الناس، وهو الذي لا يفهم إلا السويدية! وماذا عن حي مونبارناس؟ مونبارناس! لقد ارتعدت حين انبثقت الكلمة في دماغي، رأيت وجه الطفل مزرقا في الضوء الشاحب لقنديل الزيت الصغير، ورأيت الدم يتسرب من الخزع الذي أجريته في حلق الطفل، وسمعت صرخة الرعب من قلب الأم. ماذا يمكن أن تقول الكونتيسة؟... الكونتيسة! لا، ثمة شيء معي ليس على ما يرام بلا جدال، وعلي قبل فوات الأوان أن أعتني بأعصابي ذاتها بدلا من أعصاب الآخرين، إذا أمكن أن ترى وتسمع مثل هذه الأشياء في بولفار مالشيرب. وماذا علي أن أفعل مع الكونتيسة، بحق الشيطان؟ لقد أصبحت في حالة باهرة في قصرها في تورين، كما جاء في رسالة مسيو لابيه الأخيرة، وأنا صرت في حالة باهرة في باريس، أجمل مدينة في العالم. كل ما كنت بحاجة إليه هو قليل من النوم. لكن ماذا يمكن أن يقول الكونت لو كتبت إليه رسالة هذه الليلة أخبره أني قبلت دعوته اللطيفة وسأباشر بها غدا. لو أستطيع النوم هذه الليلة فقط! لِمَ لا آخذ بنفسي واحدة من جرعات النوم الممتازة تلك التي اعتدت أن أجهزها لمرضاي، جرعة نوم قوية يمكن أن ترسلني إلى النوم أربعا وعشرين ساعة وتجعلني أنسى كل شيء، مونبارناس، قصر تورين، الكونتيسة وكل الآخرين. استلقيت على سريري دون أن أخلع ملابسي، كنت متعبا جدا. لكني لم آخذ جرعة النوم، فالطهاة لا يجوعون، كما يقولون في باريس. ولدى دخولي في غرفة الاستشارة في الصباح التالي، وجدت رسالة على الطاولة. كانت من مسيو لابيه، وفيها ملاحظة بخط الكونت:
"أنت قلت إن تغريد القبرة أحلى ما تحب. إنها لا تزال تغرد، لكن ذلك لن يدوم طويلا، لذا من الأفضل أن تأتي حالا".
القبرة! وأنا الذي لم يسمع طوال سنتين من الطيور الأخرى إلا عصافير الدوري في حدائق التويليري!
. . .
كانت الجياد التي أخذتني من المحطة جميلة، والقصر الذي يرجع تاريخه إلى عهد ريشليو( 1) كان جميلا بحديقته العامة الواسعة، والأثاث في غرفتي الفخمة من عهد لويس السادس عشر كان جميلا، والكلب الضخم من نوع سان برنار الذي لحق بي صاعدا الدرج كان جميلا – كل شيء كان جميلا. وهكذا كانت الكونتيسة في حلتها البيضاء البسيطة، وفي زنارها وردة واحدة من نوع لا فرانس. خيل إلي أن عينيها قد اتسعتا أكبر من أي وقت مضى. والكونت كان شخصا آخر تماما، بوجنتيه الورديتين وعينيه الواسعتين اليقظتين. وترحيبه الساحر سرعان ما أزال خجلي، فأنا ما زلت بربريا من أقصى الشمال( 2)، ولم أكن أبدا في مثل هذا المنتجع الفخم من قبل. حياني مسيو لابيه كصديق قديم. وقال الكونت إن لدينا ما يكفي من الوقت لمشوار في الحديقة قبل تناول الشاي، أو الأفضل أن ألقي نظرة على الخيول؟ أعطوني سلة ملأى بالجزر لأعطي جزرة لكل واحد من دزينة الجياد الرائعة التي كانت تقف هناك بأجسادها الأنيقة وهي متراصفة في مرابطها من البلوط المصقول.
وقال الكونت: "من الأفضل أن تعطيه جزرة إضافية لتعقد معه صداقة في الحال، فهو لك ما دمت هنا، وهذا سائسك"، قال ذلك وهو يشير إلى غلام إنجليزي رفع يده إلى قبعته، تحية لي.
وأضاف الكونت، ونحن نسير عبر الحديقة راجعين: "نعم، كانت الكونتيسة في حالة رائعة. ومن النادر أن تتحدث عن قولنجها، وهي تقوم بزيارة الفقراء في القرية كل صباح، وتناقش مع طبيب القرية تحويل مزرعة قديمة إلى مشفى للأطفال المرضى. وقد دعت في عيد ميلادها جميع أطفال القرية الفقراء إلى القلعة لتناول القهوة والكعك، وقبل أن يغادروا أهدت كل طفل دمية. ألم تكن تلك فكرة رائعة منها؟".
"إذا تحدثت إليك عن تلك الدمى، لا تنسَ أن تقول شيئا لطيفا عنها".
"لا، لن أنسى، وأنا لا أريد أفضل من ذلك".
تناولنا الشاي تحت أشجار الليمون الوارفة أمام البيت.
وقالت الكونتيسة للسيدة التي تجلس إلى جانبها ونحن نتجه إلى المائدة: "هذا واحد من أصدقائك، يا عزيزتي آن. يؤسفني جدًّا أن أقول إنه يفضل علينا صحبة الخيل؛ حتى الآن لم يكن لديه وقت ليقول لي كلمة واحدة، لكنه أمضى نصف ساعة وهو يتحدث إلى الخيل في الإسطبل".
وعلق الكونت ضاحكا: "يبدو أنها أحبت حديثه تماما، وحتى كلب الصيد العجوز أدنى أنفه من وجه الطبيب وتشممه بطريقة ودية جدا، وأنتم تعرفون كم يكون طبعه سيئا مع الغرباء".
وقالت البارونة آن إنها يسرها أن تراني وتبلغني أخبارا رائعة عن حماتها، المركيزة دوويريير.
"هي تعتقد أن بإمكانها أن تسمع أفضل، لكني لست واثقة من ذلك، لأنها لا تسمع غطيط لولو، وتغضب تماما عندما يقول زوجي إنه يستطيع أن يسمعه في غرفة التدخين بالأسفل. وعلى أية حال، إن كلبها المحبوب لولو كان بركة لنا جميعا، فقبله لم تكن أبداً لتطيق أن تبقى وحدها وكان مرهقا جدًّا أن نتحدث إليها طوال الوقت عبر بوق أذنها. والآن تجلس وحدها ساعات ولولو في حضنها، وإذا أمكنك أن تراها تخب في الحديقة كل صباح لتريض لولو فلن تصدق عينيك، لأنها لم تكن لتغادر كرسيها ذي الذراعين إطلاقا. أتذكر يوم قلت يجب عليها أن تمشي ولو قليلا كل يوم، وكم بدوت غاضبا حين قالت إنها لا تمتلك القوة لذلك. إنه فعلا تحول مدهش. ستقول طبعا إن ذلك كله من الدواء الكريه الذي أعطيتها إياه، لكني أقول إنه لولو، بورك فيه، ومرحبا بغطيطه على مقدار ما يحب!"
وقال الكونت مغيرا مجرى الحديث: "انظروا إلى ليو، انظروا إليه ورأسه في حضن الدكتور، كأنه كان يعرفه منذ ولادته. وهو كذلك حتى إنه نسي أن يأتي طالبا قطعته من البسكويت".
وقالت الكونتيسة: "ماذا جرى لك، يا ليو؟ الأفضل أن تنتبه لنفسك، أيها الولد الطيب، وإلا فإن الدكتور سينومك مغنطيسيا. كان يعمل مع شاركو في مشفى سالبيتريير( 3) وهو قادر على أن يجعل الناس يفعلون ما يحب بمجرد النظر إليهم. لماذا لا تجعل ليو يتكلم السويدية معك؟"
ـ"لا، طبعا. ليس هناك من لغة عاطفية يمكن أن تلامس أذني مثل صمته. أنا لست منوما مغنطيسيا، لست إلا محبا كبيرا للحيوانات، وكل الحيوانات تفهم ذلك وسرعان ما تبادلك المحبة".
وقالت البارونة: "أظن أنك تحاول تنويم ذلك السنجاب تماما على الغصن فوق رأسك، فقد كنت جالسا تحدق فيه طوال الوقت من دون أقل التفاتة لنا. لماذا لا تجعله ينزل عن الشجرة ويأتي ليجلس في حضنك إلى جانب ليو؟"
"إذا أعطيتني بندقة وابتعدتم جميعا من هنا، أعتقد أن في إمكاني أن أجعله ينزل ويأخذها من يدي".
وضحكت الكونتيسة: "أنت لطيف، مسيو لو سويدي، تعالي عزيزتي آن، إنه يريدنا أن نبتعد جميعا ونتركه وحيدا مع سنجابه".
"لا تجعليني أضحوكة، إني آخر من يتمنى أن تبتعدي، فأنا مسرور جدًّا أن أراك مرة ثانية".
"أنت لطيف جدا، سيدي الطبيب، وهذه أول عبارة إطراء تخصني بها، وأنا أحب عبارات الإطراء".
"أنا لست طبيبا هنا، إني ضيفكم".
"وطبيبك، ألا يمكنه أن يقدم لك عبارة ثناء؟"
"ليس إذا بدا المريض مثلك وسن الطبيب أصغر من والدك، ولا حتى إذا أراد ذلك بإلحاح".
"حسنا، كل ما أستطيع قوله هو أنك لو أردت ذلك يوما لقاومت الإغراء إلى حد بعيد". لقد تنمَّرت عليَّ في كل حين رأيتك فيها تقريبا. وأول مرة وقعت عليك عيناي كنت فظا معي إلى حد أني أوشكت على الانصراف عنك، ألا تذكر؟ عزيزتي آن، هل تعرفين ما قال لي؟ نظر إليَّ عابسا وقال بنبرته السويدية المروعة: "سيدتي الكونتيسة، أنت أحوج ما تكونين لضبط النفس وليس للدواء!"
ـ ضبط النفس! أهذه هي الطريقة التي يتحدث بها طبيب إلى سيدة شابة في أول مرة تأتي لاستشارته؟
"لست طبيبا سويديا، لقد نلت شهادتي في باريس".
"حسنا، لقد استشرت العشرات من أطباء باريس، ولم يجرؤ أي واحد منهم أبدا أن يتحدث معي عن ضبط النفس".
"ذلك هو السبب الأكيد الذي أجبرك على استشارة ذلك العدد الكبير".
وعادت البارونة لتقول: "أتدرين ما قال لحماتي؟ لقد قال في صوت غاضب جدًّا إنها إذا لم تطعه، فإنه سينصرف ولن يرجع أبدا، حتى لو أصيبت بالقولنج! سمعت ذلك بنفسي من قاعة الاستقبال، وحين اندفعت إلى الداخل حسبت أن المركيزة على وشك أن تصاب بوعكة. أنت تعرف أني أوصي بك جميع صديقاتي، لكن لا تأخذ على خاطرك إذا قلت لك إنكم يا أبناء السويد في غاية الخشونة بالتعامل معنا، نحن الشعب اللاتيني. لقد أخبرتني أكثر من واحدة من مريضاتك أن تصرفك لدى سرير المريض يدعو للرثاء".
وتبسمت الكونتيسة مستمتعة بالمزاح إلى حد بعيد: "لماذا لا تحاول أن تكون ألطف ولو قليلا؟"
"سوف أحاول".
وقالت البارونة، ونحن جالسون في قاعة الاستقبال بعد الغداء: "احكِ لنا قصة، أنتم الأطباء تصادفون العديد من الناس غريبي الأطوار وتختلطون في كثير من الحالات الاجتماعية الغريبة جدا. أنتم تعرفون عن الحياة الحقيقية أكثر من أي شخص آخر، وأنا واثقة أن لديك الكثير لتحدثنا عنه لو أردت ذلك".
"لعلك مصيبة بذلك، لكننا ملزمون بألا نتحدث عن مرضانا، أما في موضوع الحياة الحقيقية، فأنا أخشى أن أكون أصغر من أن أعرف الكثير عنها".
وألحت البارونة: "أخبرنا بما تعرف، على الأقل".
"ما أعرفه أن الحياة جميلة، لكني أعرف أيضا أننا غالبا ما نجعلها فوضى ونحيلها إلى مهزلة غبية أو مأساة تعتصر القلب، أو كلتيهما معا، ونتمادى بذلك حتى إن أحدنا لا يعرف هل عليه أن يبكي أو يضحك. من الأسهل أن نبكي، لكن من الأفضل تماما أن نضحك، وإلى مدى طويل، ما دام واحدنا لا يضحك عاليا".
وقالت الكونتيسة لتساعدني بموقف أسلم: "احكِ لنا قصة حيوان، يقولون إن بلادكم ملأى بالدببة، حدثنا بشيء ما عنها، احكِ لنا قصة دب!"
"كان هناك يوما سيدة تعيش في منزل ريفي قديم على تخوم غابة كبيرة، هناك في أقصى الشمال. ولدى هذه السيدة دب أليف كانت مولعة به جدا. لقد عثرت عليه في الغابة وهو على حافة الموت من الجوع. كان صغيرا عاجزا لدرجة أن السيدة والطاهية العجوز قامتا بتربيته على الحليب. حدث هذا منذ سنوات، وقد ترعرع اليوم وصار دبا كبيرا، وبلغ من الكبر والقوة حدا جعله قادرا على قتل بقرة وحملها بيديه بعيدا إن أراد. لكنه لم يشأ ذلك، كان دبا في غاية اللطف ولا يميل إلى إيذاء أحد من بشر أو حيوان. لقد اعتاد أن يربض خارج وجاره وينظر بعينيه الصغيرتين الذكيتين بمودة بالغة إلى القطيع يرعى في الحقل المجاور. كانت الأفراس الجبلية الشعثاء في الاسطبل تعرفه جيدا ولا تحس بأي إزعاج حين كان يدخل الاسطبل متثاقلا مع سيدته. واعتاد الأطفال أن يمتطوا ظهره وقد وجدوهم أكثر من مرة نائمين بين يديه داخل الوجار. وكانت الكلاب الثلاثة من مقاطعة لابلاند تحب أن تلعب معه كل ضروب اللعب، فتشد أذنيه وذيله القصير وتستفزه بكل طريقة، لكنه لا يعير ذلك أقل اهتمام. لم يذق اللحم أبدا، كان يأكل الطعام مثل الكلاب وغالبا من الصحيفة ذاتها: خبز، ثريد، بطاطا، ملفوف، لفت. كان يتمتع بشهية جيدة، لكن صديقته الطاهية كانت ترى أنه شبع. الدببة نباتيون إذا أتيحت لهم الفرصة، والفاكهة أشهى ما يحبون. لقد اعتاد أن يجلس في الخريف ويتطلع إلى التفاح اليانع في الحديقة بعينين تواقتين، ولم يكن قادرا في أيام نشأته أن يقاوم الإغراء في تسلق الشجرة ليسعف نفسه باقتطاف ما يملأ يديه منها. يبدو أن الدببة بطيئون متثاقلون في حركاتهم، لكن جرب دبا في شجرة تفاح وستكتشف فورا أن بإمكانه أن يتغلب بسهولة في اللعبة على أي تلميذ مدرسة. لقد تعلم الآن أن ذلك ضد القانون، لكنه أبقى عينيه الصغيرتين شاخصتين على اتساعهما رصدا لأية تفاحات يمكن أن تسقط على الأرض. وكان ثمة بعض الصعوبات مع خلايا النحل؛ فقد عوقب لذلك بوضعه في القيد لمدة يومين وأنفه ينزف ولم يعد إلى فعلها مرة ثانية. وعدا ذلك، لم يربط أبدا بقيد إلا ليلا، وهذا أمر سليم تماما، لأن الدب مثل الكلب عرضة للوقوع في مزاج سيئ نوعا ما إذا ظل مقيدا، ولا عجب في ذلك. وكان يوثق بالسلسلة أيضا في أيام الأحد حين تذهب سيدته لتقضي ما بعد الظهر مع أختها المتزوجة التي تعيش في بيت منعزل في الجانب الآخر من بحيرة الجبل، على مسيرة ساعة كاملة عبر الغابة الكثيفة. لم يكن في الحسبان أن التجول في الغابة، بكل ما فيها من إغراءات، صالح له، بل من الأفضل أن يكون على الجانب الأسلم. وكان كذلك بحارا سيئا وقد انتابته يوما حالة رعب عند عصفة ريح مفاجئة حتى إنه قلب الزورق وكان عليه وعلى سيدته أن يسبحا إلى الشاطئ. وبعد ذلك، أدرك تماما مغزى أن تربطه سيدته بالسلسلة أيام الأحد، وتربت على رأسه بمودة وتعده بتفاحة لدى عودتها إذا كان طيبا أثناء غيابها. كان آسفا لكنه أذعن، مثل كلب طيب عندما تخبره سيدته أنه لا يستطيع أن يأتي معها في ذلك المشوار. وفي يوم أحد عندما أوثقته سيدته بالسلسلة كالمعتاد وسارت عبر الغابة ما يقارب نصف الطريق، أحست فجأة بأنها سمعت بانقصاف غصن شجرة لدى الممر المنعطف خلفها. تلفتت فراعها أن ترى الدب قادما نحوها بأقصى سرعة. يتحرك الدببة على ما يبدو في غاية البطء، لكنهم يندفعون جيئة وذهابا بسرعة أكثر من خبب جواد. وفي دقيقة، كان قد أدركها لاهثا متشمما عقب قدمها، كعادة الكلب. ثار غضب السيدة، وكانت قد تأخرت عن الغداء، ولا وقت لتعيده إلى البيت، ولا تريده أن يأتي معها، وفوق ذلك كان تصرفا سيئا منه أن يعصيها وينفلت كاسرا قيده. أمرته بأقسى صوتها أن يرجع فورا، مهددة إياه بمظلتها. توقف لحظة ونظر إليها بعينين ما كرتين، لكنه لم يشأ أن يرجع واستمر يتشمم أثرها. وحين رأت السيدة أنه فقد طوقه الجديد، ازدادت غضبا ولطمته على أنفه بالمظلة لطمة قوية كسرتها إلى شطرين. توقف مرة ثانية، هز رأسه وفتح فمه الكبير عدة مرات وكأنه يريد أن يقول شيئا. ثم استدار وقفل راجعا في الدرب الذي جاء منه، متوقفا بين حين وآخر متطلعا إلى السيدة حتى غاب أخيرا عن نظرها. حين عادت السيدة إلى البيت مساء، كان رابضا في مكانه المعتاد خارج وجاره متطلعا إلى نفسه بأسف بالغ. كانت السيدة لا تزال غاضبة وقد تقدمت منه وراحت توبخه بقسوة شديدة، وقالت إنه لن ينال تفاحة ولا عشاء، وإن عليه أن يبقى موثقا في القيد تماما لمدة يومين. كانت الطاهية العجوز تحب الدب وكأنه ابنها فاندفعت من المطبخ غاضبة جدًّا، وقالت:
"لماذا توبخينه، ياست! لقد كان طوال اليوم رائعا كالذهب، بورك فيه! كان مقعيا هنا على مؤخرته ساكنا تماما وحليما كملاك، متطلعا إلى البوابة طوال الوقت وهو بانتظار قدومك".
"لقد كان دبا آخر".
دقت ساعة البرج الحادية عشرة.
قال الكونت: "إنه وقت اللجوء إلى النوم. لقد أمرت بتجهيز الجياد في الساعة السابعة من صباح الغد".
وقالت الكونتيسة وأنا أصعد إلى غرفتي: "نوما هانئا وأحلاما سعيدة".
لم أنم طويلا، لكني حلمت كثيرا.
خربش ليو على بابي في السادسة من صباح اليوم التالي، وفي السابعة تماما غدوت مع الكونت راكبين في شارع من أشجار الليمون المعمرة الرائعة يؤدي إلى الغابة. وسرعان ما دخلنا في غابة من أشجار الدردار والزان يتخللها هنا وهناك شجر البلوط الضخم. كانت الغابة ساكنة، ولم نكن نسمع بين حين وآخر إلا النقرات الإيقاعية لناقوب الخشب أو هديل حمامة برية، وزعقة حادة لكاسر الجوز أو الأغرودة العميقة للشحرور وهو يترنم بالمقاطع الأخيرة من قصته الغنائية. وفي الحال، أطللنا على منبسط مفتوح واسع من الحقول والمروج تغمره أشعة الشمس. هناك كانت القبرة الحبيبة، ترفرف عاليا في السماء بجناحين لا مرئيين، وهي تسكب قلبها ذاته للسماء والأرض بارتعاشات مثيرة من بهجة الحياة. تطلعت إلى العصفورة الصغيرة وباركتها من جديد كما فعلت مرارا من قبل في الشمال المتجمد يوم اعتدت وأنا طفل أن أجلس وأراقب بعينين مستبشرتين رسول الصيف الرمادي الصغير، وأنا واثق أخيرا أن الشتاء الطويل قد انتهى.
وقال الكونت: "إنه الكونشرتو الأخير. لقد بلغ وقتها غايته، وعليها حالا أن تتهيأ للعمل في إطعام فراخها ولن يكون ثمة مزيد من الوقت للغناء واللهو. أنت محق، إنها أعظم فنان بينها جميعا، فهي تغني من صميم قلبها".
"أترى أن هناك رجالا قادرين على قتل هذه المغنية الصغيرة المسالمة! ما عليك إلا أن تذهب إلى سوق الخضرة لتجد مئات ومئات منها للبيع إلى رجال آخرين لهم معدة ليأكلوها. إن أصواتها تملأ الجو فوق رؤوسهم بالمسرة لكن أجسامها الميتة صغيرة لدرجة أن طفلا يمكن أن يطبق عليها براحة يده، ومع ذلك نأكلها بشراهة وكأنما ليس هناك أي شيء آخر لنأكله. نحن نرتعد لدى سماع كلمة"أكلة البشر" ونشنق الهمجي الذي يريد أن يشبع رغباته بعادة أسلافه هذه، لكن قتل هذه العصافير الصغيرة وأكلها لا يزال باقيا بلا عقوبة".
"أنت مثالي، يا عزيزي الدكتور".
"لا، إنهم يدعونها عاطفية ويسخرون منها وحسب. دعهم يسخروا بقدر ما يحبون، فأنا لا أبالي. ولكن تذكر كلماتي! سوف يأتي الوقت الذي يتوقفون فيه عن السخرية، يوم يدركون أن الخالق وضع عالم الحيوان تحت حمايتنا، وليس تحت رحمتنا: ذلك أن للحيوانات الحق في يعيشوا كما أن لنا هذا الحق، وأن حقنا بانتزاع حياتهم محدد، تحديدا دقيقا، بحقنا في الدفاع وحقنا في الوجود. وسيأتي الوقت الذي ستنقرض فيه رغبة الإنسان المجردة في القتل. وما دامت هذه الرغبة هناك، فليس للإنسان أي ادعاء بأن يصف نفسه بأنه متحضر، إنه مجرد بربري، حلقة مفقودة بين أسلافه المتوحشين الذين ذبح بعضهم بعضا بفؤوس حجرية من أجل قطعة نيئة من اللحم وبين إنسان المستقبل. إن ضرورة قتل الوحوش المفترسة لا جدال فيها، لكن جلاديهم، صيادي اليوم، سينحطون إلى مستوى جزاري الحيونات الأليفة".
رد الكونت متطلعا مرة ثانية إلى السماء، ونحن نلوي أعناق جيادنا راجعين إلى القلعة: "لعلك مصيب في ذلك".
وبينما كنا على الغداء، أحضر خادم برقية للكونتيسة وهي ناولتها للكونت الذي قرأها من دون أن يقول كلمة.
وقالت الكونتيسة: "أظن أنك قابلت ابن عمي موريس من قبل، سيكون هنا على العشاء إذا استطاع اللحاق بقطار الساعة الرابعة، وهو في الحامية في تور".
نعم، كان الفيكونت( 4) موريس معنا على الغداء، اكثر من مرة. وهو فتى طويل وسيم ذو جبين ضيق مائل، وأذنين ضخمتين، وفك وحشي وشاربين على غرار الجنرال دو جاليفيه.( 5)
"يا لها من مفاجأة سارة أن ألتقيك هنا، مسيو لو سويدي، إنها مفاجئة جدًّا بكل تأكيد!" وتنازل متلطفا هذه المرة ليناولني يده، يد صغيرة مترهلة لم تكن مصافحتها سارة أبدا، وهذا ما يسر عليَّ تصنيف الرجل. ولم يبقَ إلا أن أسمعه يضحك، ولم يُضع أي وقت ليقدم لي هذه الفرصة. كانت قهقهته العالية المملة تتردد في أرجاء الغرفة طوال وقت الغداء. وبدأ في الحال يحكي للكونتيسة قصة خطرة جدًّا عن بلوى حدثت لأحد رفقائه الذي وجد خليلته في سرير رئيسه. وبدا أن مسيو لابيه لم يكن مرتاحا أبدا حين قاطعه الكونت قليلا وهو يخبر زوجته عبر الطاولة عن جولتنا في الصباح، بأن القمح كان في حالة ممتازة والبرسيم وفير، وأننا استمعنا لقبرة متأخرة تترنم بآخر كونشيرتو لها.
رد الفيكونت: "هراء، لا يزال منها الكثير في الجو، فقد صدت البارحة واحدة بأصغر طلقة جهزتها في حياتي، وبدا أن ذلك الحيوان الضئيل لم يكن أكبر من فراشة".
واصطبغ وجهي بالحمرة حتى بلغ جذور شعري، لكن لابيه أوقفني في الوقت المناسب وهو يضع يده على ركبتي.
ردت الكونتيسة: "أنت متوحش أن تقتل قبرة، يا موريس".
"لماذا ينبغي علي ألا أصيد قبرة؟ ثمة وفرة منها، وهي هدف رائع للتدريب أيضا، وأنا لا أعرف أفضل منها ما لم يكن سنونو. عزيزتي جولييت، أن تعرفين أنني رام ماهر في فوجي، وسينتابني الصدأ في الحال إذا لم أتابع التدريب. من حسن الحظ أن هناك كمية وافرة من السنونو حول ثكنتنا، مئات ومئات تعشش تحت أفاريز الاسطبلات، وهي اليوم منهمكة بإطعام صغارها وتمر بسرعة جيئة وذهابا طوال الوقت أمام نافذتي تماما. يا لها من تسلية عظيمة، وأنا لي جولة معها كل صباح حتى دون أن أغادر غرفتي. عقدت رهانا أمس على ألف فرنك مع جاستون بأن أرمي ستة من بين عشرة منها، هل تصدقين أني رميت ثمانية! أنا أعرف أن ليس هناك ما هو أفضل من السنونو للتدريب اليومي. وأنا أقول دائما إنها ينبغي أن تغدو إلزامية في مدارس تير كلها". توقف لحظة وهو يعد بانتباه القطرات التي كان يسكبها في كأس نبيذه من زجاجة دواء. والآن، يا عزيزتي جولييت، لا تكوني سخيفة، تعالي معي إلى باريس غدا، فأنت بحاجة إلى قليل من المرح بعد إقامتك هنا وحيدة طوال أسابيع في هذا المكان المنعزل. سيكون منظرا رائعا، أحلى مباراة هناك، وأمهر رماة فرنسا سيكونون هناك جميعا، وكما أنا متأكد بأن اسمي موريس، سترين الميدالية الذهبية يقدمها رئيس جمهورية فرنسا لابن عمك. سنتناول غداء ممتعا في المقهى الإنجليزي، ثم آخذك إلى القصر الملكي لتري"ليلة من الأعراس". إنها مسرحية ساحرة في الحيل البهلوانية فعلا، لقد شاهدتها أربع مرات من قبل، وأحب أن أراها معك أيضا وأنت بجانبي. السرير موضوع في وسط الخشبة، والعاشق مختبئ تحته والعريس عجوز..".
بدا الكونت منزعجا بوضوح، فأومأ لزوجته ونهضنا عن المائدة.
قال الكونت بصوت جاف: "لا يمكن أن أقتل قبرة أبدا".
زمجر الفيكونت: "لا، يا عزيزي روبير، أنا أعرف أنك لا تستطيع، لأنك ستخطئها".
صعدت إلى غرفتي أغص بالدموع بغيظ مكبوت وعار حاولت كبحه. ودخل لابيه غرفتي وأنا أحزم حقيبتي. رجوته أن يخبر الكونت بأني دعيت إلى باريس وكنت مجبرا على أخذ قطار منتصف الليل.
"لا أريد أن تقع عيني إطلاقا على هذا الوحش الكريه بعد اليوم، وإلا فسوف أحطم نظارته الأحادية (المونوكل) الوقحة وأطرحها عن رأسه الفارغ!"
"خير لك ألا تقوم بأي محاولة من هذا القبيل، وإلا فبإمكانه أن يقتلك مباشرة. إنه رام مشهور، وهذه حقيقة أكيدة، وأنا لا أدري كم عدد المبارزات التي اشتبك فيها، فهو دائم الشجار مع الناس، وله لسان قذر جدا. كل ما أطلبه منك هو أن تسيطر على أعصابك مدة ست وثلاثين ساعة. فهو سينصرف غدا مساء لحضور المباراة في باريس، ودعني أخبرك، وهذا بيننا، أني سأكون سعيدا بانصرافه كما ستكون".
"لماذا؟"
وظل لابيه صامتا.
"حسنا، مسيو لابيه، سأخبرك لماذا. لأنه متعلق بحب ابنة عمه وأنت تكرهه وتحتقره".
"بما أنك خمَّنت الحقيقة، والله يعرف كيف، فالأفضل أن أخبرك أنه كان يريد أن يتزوجها، لكنها رفضته. ومن حسن الطالع أنها لا تحبه".
"لكنها تخاف منه، وهذا أسوأ تقريبا".
"إن الكونت يمقت كثيرا جدًّا صداقته للكونتيسة، ولذلك لا يريدها أن تبقى وحدها في باريس حيث كان يخرج بها دائما إلى الحفلات والمسارح".
"لا أعتقد أنه سينصرف غدا".
"كن واثقا أنه سيذهب، فهو حريص جدًّا على الحصول على ميداليته الذهبية، كما أنه من المرجح جدًّا أنه سيحصل عليها، وهو رامٍ ماهر تماما".
"أتمنى لو كنت كذلك، أود لو أطلق الرصاص على هذا المتوحش انتقاما للسنونوات. هل تعرف أي شيء عن والديه؟ أظن أن ثمة خطأ ما".
"أمه كونتيسة ألمانية وجميلة جدا، ومظهره الحسن أخذه منها، لكني أدرك أنه كان زواجا تعيسا جدا. أبوه كان مدمنا مفرطا وكان معروفا بأنه سريع الغضب ورجل شاذ. وفي النهاية شارف الجنون. وهناك من يقول إنه انتحر".
"وأنا آمل بجد أن يتبع ابنه طريقه، والأفضل في الحال. أما عن جنونه، فليس بعيدا عنه".
"أنت مصيب، الفيكونت بحق غريب الأطوار في أمور عديدة. فهو مثلا، دائم القلق حول صحته وفي خوف دائم من التقاط كل أنواع المرض، وإن كان قويا كحصان كما ترى. في آخر مرة كان مقيما هنا، وسرعان ما غادر لما أصيب ابن البستاني بالتفوئيد. وهو يتناول المخدرات دائما، ولعلك لاحظت ذلك وهو يعالج نفسه ببعض الدواء أثناء الغداء".
"نعم، إنها اللحظة الوحيدة التي أمسك بها لسانه".
"هو يستشير أطباء جددا دائما، ومن سوء الحظ أنه لا يحبك، وإلا فأنا واثق من حصولك على مرض جديد... ما الذي يضحكك بحق السماء؟"
"أضحك على شيء ما لمجرد أن مر في خاطري، وهو مسلٍّ جدا. ليس هناك ما هو أفضل من ضحكة صادقة لإنسان غاضب! لقد رأيت في أية حالة كنت حين جئت إلى غرفتي. وستكون مسرورا أن تعلم أني الآن على ما يرام وفي أصفى مزاج. لقد غيرت رأيي، ولن أغادر الليلة. دعنا ننزل ونشارك الآخرين في غرفة التدخين. وأعدك أن أكون في أحسن سلوكي فعلا".
كان الفيكونت، بوجهه الأحمر، يقف أمام المرآة الكبيرة وهو يسوي شاربيه بعصبية على غرار الجنرال دو جاليفيه. وكان الكونت جالسا قرب النافذة يقرأ صحيفته"الفيغارو".
وقهقه الفيكونت وهو يركز (المونوكل) وكأنما ليرى أفضل كم سيكون تحملي: "يا لها من مفاجأة سارة أن التقيك هنا، مسيو سويدي! أرجو ألا تكون أية حالة قولنج جديدة هي التي جاءت بك إلى هنا".
"لا، ليس حتى الآن، لكن لا أحد يدري".
"أعلم أنك مختص بالقولنج، والمؤسف أن لا أحد سواك، على ما يبدو، يعرف أي شيء عن هذه العلة المثيرة للاهتمام، والواضح أنك تحتفظ بها كلها لنفسك. ألا تتفضل علي وتعلمني ما هو القولنج؟ هل هو معدٍ؟"
"لا، ليس بالمعنى المألوف للكلمة".
"هل هو خطر؟"
"لا، إذا بدأ العلاج مباشرة، وربما تطلب العناية".
"بإشرافك، على ما أظن؟"
"أنا لست طبيبا هنا، لقد شملني الكونت بلطفه ودعاني إلى هنا لأكون ضيفه".
"حقا؟ لكن ما سيحدث لمرضاك جميعا في باريس وأنت بعيد عنهم؟"
"أظن أنهم سيتعافون".
وقهقه الفيكونت: "أنا واثق من ذلك".
كان علي أن أمضي وأجلس بجوار لابيه وأمسك بصحيفة لأهدئ نفسي. نظر الفيكونت بقلق إلى الساعة فوق رف الموقد.
"سأصعد لأحضر جولييت لكي نقوم بمشوار في الحديقة، من المؤسف أن تبقى محجوزة في الداخل بعيد عن ضوء القمر الجميل".
وقال الكونت بصوت جاف من كرسيه: "أوت زوجتي إلى السرير، لم تكن تشعر بأنها على ما يرام".
"لمَ لم تخبرني بحق الشيطان؟" رد الفيكونت بغضب، وهو يسعف نفسه بكأس أخرى من البراندي والصودا.
كان لابيه يقرأ"جورنال دي ديبا"، لكني لاحظت أن عينه الماكرة العجوز لم تتوقف عن مراقبتنا.
"هل من أخبار، مسيو لابيه؟"
"كنت أقرأ عن مباراة"جمعية الرماية الفرنسية" بعد غد، ورئيس الجمهورية سيقدم ميدالية ذهبية للفائز".
صاح الفيكونت وهو يخبط على صدره بقبضة يده: "سأراهنك على ألف فرنك أنها ستكون لي، ما لم يحدث تحطم قطار على خط باريس الليلي السريع غدا أو..." ثم أضاف بتكشيرة خبيثة نحوي: "ما لم أصب بالقولنج!"
وقال الكونت من زاويته: "موريس، أوقف تلك البراندي، لقد أخذت أكثر مما هو صالح لك، أنت سكران مثل بولوني!"
قهقه الفيكونت: "نخبك، دكتور قولنج! لا تكن مكتئبا هكذا. خذ براندي وصودا، هناك ما زالت أمامك فرصة! أنا آسف لا أستطيع أن ألزمك، لكن لمَ لا تبذل محاولة مع اللابيه الذي يشكو دائما من كبده وحالته الهضمية؟ مسيو لابيه، ألا تعمل معروفا للدكتور قولنج، ألا ترى كم هو متلهف لإلقاء نظرة على لسانك؟"
استمر لابيه في قراءة"جورنال دي ديبا" في صمت.
"لا تريد! وماذا عن روبرت؟ بدوت متجهما بما يكفي أثناء الغداء. لمَ لا تري لسانك للسويدي؟ أنا متأكد أنك مصاب بالقولنج! ألا تعمل معروفا للدكتور؟ لا؟ حسنا، دكتور قولنج، أنت ما لك حظ. لكني سأريك لساني، لأجعلك في مزاج أحسن، ألقِ نظرة جيدة عليه".
أخرج لسانه نحوي مصحوبا بتكشيرة شيطانية. بدا مثل واحدة من غارغولات( 6) نوتر دام.
وقفت وفحصت لسانه باهتمام.
وبعد برهة صمت قلت بوقار: "لك لسان قذر جدا! لسان قذر جدا! استدار مباشرة ليتفحص لسانه في المرآة – اللسان البشع المشمع لمدخن مدمن. تناولت يده وتلمست نبضه، مضطربا بسرعة حمى بفعل زجاجة شمبانيا وثلاث براندي مع الصودا.
قلت: "نبضك سريع جدا".
وضعت يدي على جبينه المائل.
"أي صداع؟"
"لا".
"سيكون معك حين تصحو غدا صباحا، بلا ريب".
رمى اللابيه صحيفته "جورنال دي ديبا".
قلت بصرامة: "فك أزرار بنطالك".
أطاع بطريقة آلية، سهل الانقياد كحمل.
قمت بنقرة سريعة على حجابه الحاجز، فانطلقت شهقة فُواق( 7).
وقلت وأنا أنظر بثبات في عينيه: "آه، شكرا لك، هذا يكفي".
رمى الكونت صحيفته"فيغارو".
رفع اللابيه يديه للسماء، فاغرا فمه.
وقف الڤيكونت أمامي بلا كلام.
أمرته: "زرر بنطالك، وخذ براندي وصودا، ستحتاجها". زرر بنطاله بآلية وتجرع البراندي والصودا التي ناولته إياها.
وقلت وأنا أرفع كأسي إلى شفتي: "في صحتك، سيدي الفيكونت!"
مسح العرق عن جبهته واستدار مرة ثانية لينظر إلى لسانه في المرآة. بذل جهدا يائسا لكي يضحك، لكنه لم يفلح.
"هل تريد أن تقول، هل تظن، هل تريد أن تقول..".
"لا أريد أن أقول أي شيء، وأنا لم أقل أي شيء، أنا لست طبيبك".
وغمغم: "لكن ماذا علي أن أفعل؟"
"عليك أن تذهب إلى السرير، بأسرع ما يمكن، أو أنك ستذهب محمولا إلى هناك". توجهت إلى رف الموقد وقرعت الجرس.
وقلت للجندي: "خذ الفيكونت إلى غرفته، وقل لوصيفه أن يضعه في السرير حالا".
استند الفيكونت بتثاقل إلى ذراع الجندي ومضى إلى الباب مترنحا.
غدوت راكبا وحدي في جولة جميلة في صباح اليوم التالي، وكانت القبرة محلقة في السماء تغني أنشودتها الصباحية للشمس.
وقلت للقبرة: "لقد انتقمت لمقتل إخوتك، وسننظر في أمر السنونوات في ما بعد".
وبينما كنت جالسا في غرفتي أتناول الفطور مع ليو، قرع الباب ودخل رجل قصير القامة خائف النظر وحياني بتهذيب رفيع. إنه طبيب القرية، وقال إنه جاء ليؤدي واجب الاحترام لزميله الباريس. لقد أطنب في مدحي، فرجوته أن يجلس ويأخذ سيجارة. أطلعني على بعض الحالات الهامة التي واجهته مؤخرا، ثم بدأت المحادثة تفتر فوقف ليغادر.
قال الطبيب: "بالمناسبة، أرسل الفيكونت موريس في طلبي ليلة البارحة، وقد كنت في زيارته أيضا قبل قليل".
قلت إني آسف أن أسمع أن يكون الفيكونت متوعكا، وأرجو ألا تكون حالة خطرة، وقد سرني أن أراه البارحة على العشاء في صحة ممتازة ومزاج رائق.
قال الطبيب: "لا أدري، الحالة غامضة نوعا ما. أظن أن من الأسلم إرجاء أي رأي محدد".
"أنت رجل حكيم، يا زميلي العزيز، وطبعا أوصيته بملازمة السرير؟"
"طبعا. من سوء الحظ أن الفيكونت كان عليه أن يغادر إلى باريس اليوم، لكن ذلك خارج الموضوع طبعا".
"طبعا. هل هو في حالة رائقة؟"
"نعم، إلى حد ما".
"بقدر ما هو متوقع منه، على ما أظن؟"
"لا أخفي عنك أني قدرت في بادئ الأمر أنه اضطراب معدي بسيط، لكنه استيقظ ومعه صداع شديد، وهو الآن يشكو من فواق متواصل. يبدو تعيسا، وهو مقتنع أنه مصاب بالقولنج. أعترف أني لم أشهد حالة قولنج من قبل أبدا، أردت أن أعطيه جرعة من زيت الخروع، له لسان قذر بشكل مقرف، لكن إذا كان القولنج شبيها بالتهاب الزائدة، فالأفضل في تقديري أن أحذر من زيت الخروع. ما رأيك؟ إنه يتلمس نبضه طوال الوقت، حين لا ينظر إلى لسانه. وغريب أن أقول إنه يشعر بجوع شديد، وبدا عنيفا حين لم أسمح له بتناول الفطور".
"أنت مصيب تماما، والأفضل أن تكون صارما لتبقى في الجانب السليم، ليس له إلا الماء خلال الساعات الثماني والأربعين التالية".
"هكذا تماما".
"ليس لي أن أعطيك أي نصيحة، فمن الواضح أنك تعرف شغلك، لكني لا أشاطرك التردد في إعطائه زيت الخروع، ولا يصلح التقليل منه، إن ثلاث ملاعق طعام ستكون جيدة بما يكفي".
"أتريد أن تقول حقا ثلاث ملاعق طعام؟"
"نعم، على الأقل، وفوق ذلك لا طعام بتاتا، بل الماء فقط".
"هكذا تماما".
لقد أحببت طبيب القرية كثيرا جدًّا، وافترقنا صديقين حميمين.
أخذتني المركيزة بعد الظهر لأقدم احترامي للمركيزة دويريير. كانت جولة جميلة بالعربة خلال ممرات ظليلة مفعمة بتغريد الطير وطنين الحشرات. شعرت المركيزة بالسأم من مضايقتي، لكنها كانت في مزاج ممتاز، ولم يبدُ عليها أقل قلق لمرض ابن عمها المفاجئ. والمركيزة كانت تواصل حياتها بشكل رائع، كما قالت، لكنها أصيبت بوعكة فظيعة قبل أسبوع بسبب اختفاء لولو المفاجئ، وأهل البيت جميعا ظلوا طوال الليل على أرجلهم بحثا عنه. لم تغمض المركيزة عينيها، وظلت طريحة في سريرها حين ظهر لولو بعد الظهر بأذن مشقوقة إلى شطرين وعين تكاد تخرج من محجرها. وقد أبرقت سيدته في الحال إلى الطبيب البيطري في تور، وصار لولو على ما يرام من جديد. وقد قدمت المركيزة واحدنا للآخر، لولو وأنا، كلينا بشكل رسمي. هل رأيتُ من قبل مثل هذا الكلب الجميل؟ لا، أبدا.
لماذا نخر لولو علي لائما: "أنت يا من تدعي بأنك محب جدًّا للكلاب، ليس لك أن تقول إنك لا تعرفني؟ ألا تتذكر يوم أخرجتني من حانوت الكلاب الرهيب ذاك..".
ومن حرصي على تغيير الحديث، دعوت لولو أن يتشمم يدي. مشى قليلا وراح يتشمم باهتمام كل إصبع بدورها.
وراح يشم بلهفة: "نعم، بإمكاني طبعا أن أشم رائحتك المميزة ذاتها بوضوح تام. وأنا أتذكرها بصورة جيدة منذ أن شممتها آخر مرة في حانوت الكلاب؛ وفي الواقع، أنا أحب رائحتك إلى حد ما... آه! أقسم بسان روكو، القديس الراعي لجميع الكلاب، إني أشم رائحة عظمة! أين العظمة؟ لمَ لم تعطني إياها؟ هؤلاء الناس السخفاء لا يعطونني أبدا أي عظمة، يتصورون أنها مضرة لكلب صغير، أليسوا حمقى! لمن أعطيت العظمة؟" ثم قفز بوثبة واحدة إلى حضنين وهو يشم باهتياج،"حسنا، ليس لي أبدا! أهو كلب آخر! ورأس كلب فقط! كلب كبير! كلب ضخم، يسيل اللعاب من زاوية شدقه! أيمكن أن يكون سان بيرنار! أنا كلب صغير وأعاني من الربو إلى حد ما، لكن قلبي في موضعه السليم، لست خائفا، وخير لك أن تخبر هذا الفيل الكبير الخاص بك أن يداري شأنه ذاته ولا يقترب مني أو من سيدتي، وإلا فسآكله حيا!" كان يشم بازدراء، بسكويت سمك الرنكة! هذا ما تناولته في العشاء ليلة أمس، يا لك من متوحش سوقي، إنها رائحة تلك الكعكات الصلبة المقرفة التي كانوا يرغمونني على تناولها في حانوت الكلاب، وهي تشعرني بالمرض تماما! لا بسكويت بالرنكة من أجلي، شكرا لك! أفضل بسكويت ألبير وجوز الزنجبيل أو شطيرة كبيرة من كعك اللوز على المائدة. أما بسكويت الرنكة!" ودب عائدا إلى حضن سيدته بأقصى سرعة سمحت له بها ساقاه الصغيرتان المكتنزتان.
قالت المركيزة اللطيفة: "عد إلينا قبل أن ترجع إلى باريس". ونخر لولو: "نعم، عد إلينا، فأنت بعد كل شيء لست من النوع السيئ". وأشار لي لولو وأنا أقف: "غدا سيكون القمر بدرا، أشعر بكثير من الضجر ولا بأس بقليل من المرح". وغمزني بمكر: "هل صادف أن علمت بوجود أي من إناث البج الصغيرات في الجوار؟ لا تخبر سيدتي، فهي لا تدرك شيئا من هذا النوع من الأمر... أقول، لا يهم الحجم، فأي حجم سييكون مقبولا إذا ساءت الأمور!"
نعم، كان لولو محقا، فقد كان القمر بدرا. وأنا لا أحب القمر. فقد انتزع هذا الغريب الغامض من عيني كثيرا من النوم وهمس في أذني بكثير من الأحلام. وما من غموض لدى الشمس، هذا الإله الوهاج في النهار والذي يجلب الحياة والضياء للعالم المظلم ولا يزال يتطلع إلينا من عل بعينه الساطعة بعد زمن طويل من زوال جميع الآلهة الآخرين من أولئك القابعين على ضفاف النيل، إلى أولئك على الأولمب وحتى أولئك في ڤالهالا( 8) وتلاشيهم في الظلام. لكن لا أحد يعرف أي شيء عن القمر( 9)، هذا الهائم الليلي الشاحب بين النجوم، الذي يواصل التحديق فينا من بعيد بعينيه اليقظتين المتألقتين ببرود وابتسامته الساخرة.
ولم يكن الكونت ليشغله القمر، بمقدار ما يتاح له أن يجلس بسلام في غرفة التدخين ما بعد العشاء مع سيجاره وصحيفته الـ"فيجارو". أما الكونتيسة فكانت تحب القمر. تحب نوره الخفيف الغامض وتحب أحلامه التي تسكنها. وهي تحب أن تستلقي في الزورق صامتة تتطلع إلى النجوم وأنا أجدف ببطء عبر البحيرة المتلألئة. كانت تحب أن تطوف تحت أشجار الليمون المعمرة في الحديقة وهي مغمورة تارة بالضياء الفضي، وطورا تغشيها العتمة بعمق إلى حد أنها تلوذ متمسكة بذراعي لتجد الطريق. كانت تحب أن تجلس على المقعد المنعزل وتحدق بعينيها الواسعتين في الليل الساكن. وكانت تتكلم بين حين وآخر، لكن ليس غالبا، وكنت أحب صمتها بقدر ما أحب كلماتها تماما.
"لمَ لا تحب القمر؟"
"لا أدري. لعلي أخاف منه".
"وممَّ تخاف؟"
"لا أدري. إنه منير إلى حد أن بإمكاني أن أرى عينيك كنجمتين مشعتين، ومع ذلك فهو معتم إلى درجة أخاف فيها أن أفقد طريقي. إني غريب في هذا العالم من الأحلام".
"أعطني يدك وسأريك الطريق. كنت أظن أن يدك قوية، لماذا ترتعد هكذا؟ نعم، أنت محق، إنه مجرد حلم، لا تتكلم وإلا فإنه سيطير بعيدا! أنصت! هل تسمع، إنه العندليب.
"لا، إنه غرِّيد( 10) الحديقة".
"أنا متأكدة أنه العندليب، لا تتكلم! أنصت! أنصت!"
وغنت جولييت بصوتها الحنون، متهفهفا كنسيم الليل بين الأوراق:
"لا، لا، هذا لم يكن الصباح،
وهذه لم تكن القبرة،
هذه الأغاريد الرقراقة بما يذهل القلب
إنه العندليب
رسول الحب".
"لا تتكلم! لا تتكلم!
ونعبت بومة بصوتها المشؤوم من الشجرة التي فوق رأسينا. طفرت بصيحة خوف. وسرنا عائدين بصمت.
وتركتني الكونتيسة في القاعة وهي تقول: "ليلة طيبة. غدا يكون القمر بدرا. إلى الغد".
نام ليو في غرفتي، وكان سرا كبيرا وشعر كلانا بالذنب لذلك.
وسألني ليو ونحن نصعد الدرج متسللين خلسة: "أين كنت ولماذا تبدو شاحبا هكذا؟ الأنوار كلها في القلعة مطفأة وجميع الكلاب في القرية صامتة. لا بد أن الوقت متأخر جدا".
"كنت بعيدا جدًّا في عالم غريب حافل بالغموض والأحلام. وكنت على وشك أن أضل طريقي".
"كاد النعاس يغلبني تماما لأنام في وجاري حين أيقظتني البومة في الوقت المناسب لأتسلل إلى داخل القاعة حين أتيت".
"وهي أيقظتني كذلك في الوقت المناسب تماما، عزيزي ليو، هل تحب البومة؟"
أجاب ليو: "لا، أنا أفضل التدرج الصغير، ولقد أكلت واحدا قبل قليل، رأيته يدرج في ضوء القمر تحت أنفي. أعرف أن هذا ضد القانون، لكني لم أستطع مقاومة الإغراء. وأنت لن تسلمني إلى حارس الطرائد، أليس كذلك؟"
"لا، يا صديقي، وأنت لن تفشي لكبير الخدم أننا رجعنا إلى البيت متأخرين جدا".
"طبعا، لا".
"ليو، هل أنت آسف لأنك سرقت ذلك التدرج الصغير؟"
"أحاول أن أكون آسفا".
وقلت: "لكن ذلك ليس سهلا".
"لا"، غمغم ليو وهو يلعق شفتيه".
"أنت لص، يا ليو، وأنت لست اللص الوحيد هنا، وأنت كلب حراسة سيئ! أنت هنا لتبقي اللصوص بعيدين، فلماذا لم توقظ سيدك فورا بصوتك القوي ذاك بدلا من الجلوس هنا تنظر إلي بهاتين العينين الحنونتين؟"
"لا أتمالك نفسي عن ذلك، أنا أحبك".
"ليو، يا صديقي، إنها غلطة ذلك الحارس الليلي النعسان في عليائه هناك في السماء! لماذا لا يوجه مشكاة عين الثور نحو كل زاوية معتمة في الحديقة حيث يوجد مقعد تحت شجرة الليمون بدلا من أن يسدل قبعته الليلية من السحب على رأسه الأصلع الهرم فيغلبه النعاس وينام، متخليا عن شغله كحارس ليلي لصديقته البومة؟ أو أنه فقط يتظاهر بالنوم ويستمر في مراقبتنا طوال الوقت من طرف عينه الشريرة، الآثم العجوز الماكر، دون جوان العجوز المقعد، مختالا بين النجوم مثل مشَّاء عجوز في البولڤار، مرهقا نفسه إلى حد بعيد بالمغازلة لكنه لا يزال يستمتع بمراقبة الآخرين وهم يخادعون أنفسهم".
وقال ليو: "بعض الناس يزعمون أن القمر صبية جميلة".
"لا تصدق ذلك، يا صديقي! القمر عانس هرمة ذاوية تتجسس من بعيد بعينين خائنتين على المأساة الخالدة للحب الفاني".
"القمر شبح"، قال ليو.
"شبح؟ من قال لك ذلك؟"
"أحد أجدادي سمع ذلك منذ أجيال مضت في طريق( 11) سان بيرنار من دب عجوز كان قد سمعها من أتا ترول( 12)، وقد سمعها من الدب العظيم ذاته الذي يحكم جميع الدببة. والسبب، إنهم كلهم خائفون من القمر هناك في أعالي السماء. ولا عجب أننا، نحن الكلاب، نخاف منه وننبح عليه، حتى إن الشعرى اليمانية( 13) المتألقة، نجم الكلب الذي يحكم الكلاب جميعا، تنقلب شاحبة حين يخرج من قبره ويرفع وجهه المشؤوم خارج الظلام. وهنا في الأسفل على أرضنا، هل تظن أنك الوحيد الذي لا يستطيع النوم حين يكون القمر في الأعلى! السبب، جميع الحيوانات الضارية وكل ما يزحف ويدب في الغابات والحقول تغادر ملاجئها وتهيم على وجهها مخافة أشعته المؤذية. في الواقع، لا بد أنك كنت تتطلع بشكل مؤثر إلى شخص ما في الحديقة الليلة أو من المؤكد أنك رأيت أن هناك شبحا كان يراقبك طوال الوقت. وهو يحب أن يزحف تحت أشجار الليمون في الحديقة القديمة، يتردد إلى أنقاض قلعة أو كنيسة أو يجوس في مقبرة عتيقة وينحني على كل قبر ليقرأ اسم الميت. إنه يحب أن يجلس ويحدق طوال ساعات بعينين فولاذية رمادية على حقول الثلج المقفرة التي تغطي الأرض الموات مثل كفن، أو يختلس النظر من خلال نافذة غرفة نوم ليروع النائم بحلم مشؤوم".
"يكفي، ليو، فلا تدعنا نتحدث عن القمر بأي أمر آخر، أو أننا لن ننام غمضة هذه الليلة، فهو يجعلني أشعر بأني من الزواحف! هات قبلة ليلة طيبة، يا صديقي، ودعنا نأوي للسرير".
وقال لو: "لكنك ستغلق مصراعي النافذة، أليس كذلك؟"
"نعم، أغلقهما دائما، حين يكون هناك قمر".
كنا نتناول فطورنا في صباح اليوم التالي، حين أخبرت ليو أن علي أن أرجع إلى باريس حالا، فهذا أسلم، لأن القمر بدر تمام اليوم وأنا في السادسة والثلاثين وسيدته في الخامسة والعشرين – أم هي في التاسعة والعشرين؟ ورآني ليو أحزم حقيبتي وكل كلب يدرك ما يعني ذلك. نزلت متوجها إلى مسيو لابيه وأخبرته بالكذبة المعتادة بأني دعيت لاستشارة مهمة وعلي أن أغادر القلعة في قطار الصباح. قال إنه آسف جدا. وقال الكونت أيضا إنه آسف، وهو يمتطي صهوة جواده ليقوم بجولته الصباحية، وكان أمرا طبيعيا ألا يزعج الكونتيسة في مثل تلك الساعة المبكرة. وكان علي أن أعود في أقرب وقت.
في طريقي إلى المحطة قابلت صديقي طبيب القرية عائدا في عربته الصغيرة من زيارته الصباحية للفيكونت. كان المريض يشعر بحالة ضعف شديد ويصرخ طالبا الطعام، لكن الطبيب كان حازما في رفضه أن يتحمل أي مسؤولية تسمح بأي شيء غير الماء. كانت الكمادة على المعدة وكيس الثلج على الرأس يلازمانه طوال الليل وكان لهما تأثير كبير سيئ على نوم المريض. هل لي أن أقترح أي شيء؟
لا، شعرت بالتأكيد أنه في أيد ممتازة. ربما، إذا استمرت الحالة مستقرة، فعليه أن يجرب التغيير فيضع كيس الثلج على المعدة والكمادة على الرأس.
وإذا لم تحدث أي مضاعفات، ما هي المدة المتوقعة التي ينبغي على المريض أن يبقى خلالها في السرير؟
"أسبوع آخر في أقل تقدير، حتى يختفي القمر".
كان اليوم طويلا. سرني أن أعود إلى شارع ڤيليير. وأويت مباشرة إلى السرير. لم أشعر بأن حالي جيدة تماما، وتساءلت إن لم يكن لدي شيء من الحمى، لكن الأطباء لا يدركون إن كان لديهم حمى أو لا. وسرعان ما استسلمت للنوم، وأنا أشعر بإعياء شديد. لا أدري كم من الوقت استغرقت في نومي حين أدركت فجأة أني لم أكن وحدي في الغرفة. فتحت عيني فرأيت عند النافذة وجها شاحبا يحدق إلي بعينين بيضاوين غائرتين – فلأول مرة كنت قد نسيت أن أغلق مصراعي النافذة. وتسلل بصمت وبطء إلى داخل الغرفة، ومد ذراعا بيضاء طويلة كمجس أخطبوط ضخم، عبر أرض الغرفة باتجاه السرير.
أطلق ضحكة خافتة بفم أدرد وشفتين شاحبتين: "إذن أنت تريد أن تعود إلى القصر الريفي أخيرا! كانت البارحة تحت أشجار الليمون لطيفة وحميمة، أليس كذلك، معي أنا الرجل الأمثل وجوقة العنادل تغرد حولكما؟ عنادل في أغسطس! لا بد أنكما كنتما فعلا في عالم بعيد جدا، أنتما الاثنان! والآن تود أن ترجع إلى هناك الليلة، أليس كذلك؟ حسنا، البس ثيابك وتسلق على شعاعي الأبيض هذا وأنت مهذب بما يكفي أن تدعو ذراع أخطبوط وأنا سأضعك تحت أشجار الليمون في أقل من دقيقة، فضوئي يمضي بسرعة أحلامك".
"أنا لا أحلم أبدا، وأنا مستيقظ تماما ولا أريد أن أرجع، يا شبح مفيستو!"(14 )
وهكذا أنت تحلم بأنك مستيقظ، حقا! وأنت لم تستنفد بعد معجمك من استعمال إساءة حمقاء! شبح مفيستو! ولقد دعوتني من قبل مشّاء عجوزا، دون جوان، وعانس هرمة تتجسس! نعم، لقد تجسست عليك البارحة في الحديقة وبودي أن أعلم أي منا، نحن الاثنين، جعل من نفسه دون جوان، ما لم ترد مني أن أدعوك روميو؟ بحق جوبيتر، ألا تبدو شبيها به! اسمك الصحيح هو"الأحمق الأعمى"، الأحمق الذي لا يرى حتى ما استطاع ذلك الوحش من كلابك أن يراه، وهو أني لا عمر لي، لا جنس، لا حياة، وأني مجرد شبح".
"شبح ماذا؟"
"شبح عالم ميت. حذار من الأشباح! خير لك أن تضع حدا لإهاناتك، وإلا فسأصيبك بالعمى بومضة من أشعتي اللطيفة وهي أقدر على إتلاف العين من السهم الذهبي لإله الشمس ذاته. إنها كلمتي الأخيرة لك، أيها الحالم المجدِّف! الفجر أخذ يقترب من الأفق الشرقي، وعلي أن أعود إلى قبري وإلا فلن أرى طريقي. أنا هرم ومتعب. أتظن أنه عمل سهل أن تطوف من العشاء حتى الصباح عندما يكون كل شيء مستريحا؟ أنت دعوتني مشؤوما وكئيبا، فهل تظن أن من السهولة أن تكون مبتهجا حين ينبغي عليك أن تعيش في قبر، إن كنت تسمي تلك حياة، كما يفعل بعض الفانين منكم؟ وأنت ذاتك ستذهب إلى قبرك ذات يوم، وكذلك الأرض التي تقف عليها الآن، محكومة بالموت مثلك".
تطلعت إلى الشبح ولأول مرة رأيت كم يبدو هرما ومرهقا، وكنت على وشك أن أشعر بالأسف لحاله لولا أن وعيده أن يصيبني بالعمى أثار غضبي من جديد.
وصرخت: "انقلع من هنا، يا حفار القبور العجوز الكئيب، لا فرصة لك بشغل هنا، فأنا مفعم بالحياة!"
لكنه أطلق ضحكة خافتة، وهو يزحف على السرير واضعا ذراعه البيضاء الطويلة على كتفي: "أتعرف، أتعرف لماذ وضعت ذلك الفيكونت الأحمق في السرير وكيس الثلج على معدته؟ لتثأر للسنونوات؟ أنا أعرف أكثر. أنت عطيل، دجال. كان ذلك من أجل أن تمنعه من التنزه في ضوء القمر مع الـ...".
اسحب مخلبك ذاك، أيها العنكبوت العجوز السام، وإلا سأقفز خارج السرير وأطبق عليك".
لقد بذلت جهدا هائلا لأحرك أعضائي النائمة، وصحوت وأنا أتفصد عرقا.
كان القمر مفعما بنور فضي رقيق. فجأة زالت الغشاوة عن عيني المسحورتين، وخلال النافذة المفتوحة رأيت بدر التمام، جميلا ورائقا، ينظر إلي من علياء سماء صافية.
أيتها الإلهة العذراء لونا! أفي وسعك أن تسمعيني عبر سكينة الليل؟ تبدين معتدلة جدا، لكن حزينة جدا، فهل في إمكانك أن تفهمي الحزن؟ هل في وسعك أن تغفري؟ هل باستطاعتك أن تشفي الجراح ببلسم نورك الصافي؟ هل بوسعك أن تعلمي النسيان؟ تعالي، يا أختي العذبة، واجلسي بجانبي، فأنا مرهق جدا! ضعي يدك الباردة على جبهتي الملتهبة لتدفعي بأفكاري العاصفة إلى الطمأنينة! اهمسي في أذني ما علي أن أفعل وإلى أين ينبغي أن أذهب لكي أنسى أغنية الساحرات!
توجهت إلى النافذة وتوقفت طويلا أشاهد ملكة الليل وهي تتهادى في طريقها بين النجوم. كنت أعرفها جيدا خلال عديد من ليالي الأرق وكنت أناديها، واحدة فواحدة، بأسمائها: الشعرى اليمانية المتوهجة، التوأمان النيران- رأس أفلون ورأس هرقل اللذان كان يحبهما البحرة القدماء، النسر الرامح، الدبران، العيُّوق، النسر الواقع، وذات الكرسي! ما هو اسم ذلك النجم المتألق فوق رأسي تماما وهو يومئ لي بضوئه الثابت الرقيق؟ أعرفه جيدا. وكم من الليالي وجهت قاربي عبر البحار الهائجة، مستهديا بضوئه، وكم من الأيام دلني على الطريق عبر الغابات والحقول الثلجية في بلاد مسقط رأسي- النجم القطبي، نجم القطب!
هذه هي الطريق، اتبع ضوئي وستكون في أمان!
---------------------------------
(1 ) de Rechelieu Armand Jean du Plessi(1585-1642): كاردينال ورئيس وزراء فرنسا في عهد لويس الثالث عشر.
(2 ) في النص: Ultima Thule : عبارة لاتينية تعني "أقصى الشمال". (م)
(3 ) رأيت أن أضيف كلمة (مشفى) هنا للإيضاح. (م)
(4 ) Vicomte : من ألقاب النبلاء.
(5 ) Gaston Alexandre Auguste, Marquis de Galliffet (1830- 1909) : وزير حربية فرنسي وهو الجنرال الذي قمع كومونة باريس في 1871. (م)
( 6) Gargoyles: ميزاب ناتئ من جانب السطح على صورة إنسان بشع الوجه. (م)
( 7) Hiccup: شهيق تشنجي مفاجئ تسميه العامة "حازوقة" وبالفصحى: فواق.
( 8) Walhalla, Valhalla: مثوى أرواح الشهداء في الأساطير السكندينافية. (م)
( 9) القمر مؤنث في الأساطير واللغات الغربية، ويمكن استعمال عبارة (ربة القمر) لمن يؤثر المحافظة على أنوثته. (م)
( 10) Warbler: الشادي أو الهازجة من طيور البساتين المغردة (المورد).
( 11) St. Bernard Pass: من أعلى الطرق عبر الألب بين سويسرا وإيطاليا. (ج)
( 12) Atta Troll: حلم ليلة صيف، ملحمة رومنسية ساخرة كتبها الشاعر الألماني هـ. هاينه. (ج)
( 13) Sirius: الشعرى اليمانية. (المورد)
( 14) Mephisto, Mephistopheles: الشيطان في أسطورة فاوست في مسرحيتي: مارلو وجوته.
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (5)
VI
قصر رامو
تمتاز باريس في إجازة الصيف بأنها مكان بهيج جدًّا لهؤلاء الذين ينتمون إلى باريس المتعة، ولكن إن كنت تنتمي إلى باريس العمل، فإنها تغدو أمراً مختلفاً. وهذا على وجه الخصوص، إذا كان عليك أن تتغلب على وباء التيفوئيد في الفيلليت بين مئات العمال الاسكندينافيين، ووباء الدفتيريا في حي مونبارناس بين أصدقائك الإيطاليين وأطفالهم الذين لا يحصى لهم عدد. وبالفعل، لم يكن هناك نقص في أطفال الاسكنديناڤيين في الفيلليت أيضا؛ والأسر القليلة التي لم ترزق بأحد بدت وكأنها اختارت هذا الوقت بالذات للمجيء بهم إلى هذا العالم، وغالبا بدون أي مساعدة من السيدات الحكيمات أو سواهن، إلا مني. معظم الأطفال وهم أصغر من أن يلتقطوا التيفوئيد، أصيبوا بالحمى القرمزية والسعال الديكي. طبعا لم يكن لديهم أي مال ليدفعوا لطبيب فرنسي، لذلك كان علي أن أعتني بهم بقدر ما أستطيع. لا مجال للمزاح، فقد كان هناك ما يزيد عن ثلاثين حالة تيفوئيد بين العمال الاسكندينافيين في الفيلليت وحدها. ولقد ثابرت، على أية حال، أن أذهب إلى الكنيسة السويدية في شارع أورنانو كل أحد إرضاء لصديقي القسيس السويدي الذي قال إنها ستعطي مثلا طيبا للآخرين. لقد تضاءلت جماعة المصلين إلى نصف عددهم المعتاد، والنصف الآخر كان طريح الفراش أو يرعى شخصا ما طريح الفراش. وكان القسيس على قصب رجليه من الصباح حتى الليل، مسعفا ومساعدا المرضى والفقراء، ولم تقع عيناي أبدا على رجل أرق منه قلبا، وليس معه فلس واحد. ولم يحصل على أية مكافأة إلا أنه جلب العدوى إلى بيته ذاته. فقد أصيب الولدان الكبيران من أطفاله الثمانية بالتيفوئيد، وخمسة بالحمى القرمزية، وطفله الوليد الأخير ابتلع قطعة نقود من ذات الفرنكين وأشرف على الموت بانسداد معوي. وفي ذلك الحين، اختل القنصل السويدي، وهو إنسان صغير تماما ومسالم جدا، وأصبح فجأة مجنونا عنيفا، وكاد يقتلني بسبب ذلك؛ لكن سأحكي لكم هذه القصة في وقت آخر.
وهناك في حي مونبارناس كان الوضع أخطر، مع أنه بدا من عدة وجوه أسهل عمل لي تقريبا. وأنا أشعر بالخجل أن أقول إني نجحت مع هؤلاء الإيطاليين الفقراء أكثر بكثير مما فعلت مع أبناء بلدي، الذين كان التعامل معهم شاقا في الغالب، فهم مستاؤن متجهمون، وإلى حد ما أنانيون ومناكدون. والإيطاليون، الذين لم يجلبوا معهم من بلادهم ذاتها إلا وسائلهم الصغيرة وصبرهم الجميل ومرحهم وطباعهم الساحرة، كانوا في المقابل قانعين دائما وشاكرين ويساعدون بعضهم بعضا بشكل رائع. لما انتشرت الدفتريا في أسرة سلڤاتور، أوقف أركانجلو فوسكو، كنَّاس الشوارع، عمله فورا وكرس نفسه للاعتناء بهم جميعا على أكمل وجه. أصيبت الفتيات الثلاث الصغيرات بالديفتيريا، وماتت الفتاة الكبرى، وفي اليوم التالي التقطت الأم المرهقة الداء الوبيل. وكان طفل الأسى، بتروتشيو، الأبله العاجز، هو الوحيد الذي نجا بفضل الله العظيم ومشيئته الخفية. لقد أصيبت بالعدوى منطقة إمباس روسيل بأسرها، وانتشرت الديفتيريا في كل بيت حيث ما من أسرة بلا عدة أطفال صغار. مشفيا الأطفال كلاهما كانا مزدحمين. وحتى لو كان هناك سرير شاغر فقد كانت إمكانية الحصول على إذن بالدخول لهؤلاء الأطفال الأجانب غير متيسرة. لذلك كان على أركانجلو وعلي بذاتي أن نعتني بهم، وأولئك الذين لم يكن لدينا وقت لرؤيتهم، وهم كثر، كان عليهم أن يعيشوا أو يموتوا في أحسن حال ممكن. ما من طبيب مر في محنة مكافحة وباء الدفتيريا بين الفقراء المعدمين بلا أي معين أو وسيلة للوقاية، سواء له أو للآخرين، يمكن أن يفكر بمثل هذه التجربة من دون أن يرتعد مهما كان قاسي الفؤاد. كنت أجلس هناك ساعات وأنا أدهن وأمسح حلق طفل بعد آخر، ولم يكن هناك من عمل نقوم به أكثر من ذلك في تلك الأيام. وفي تلك الحالة، حين لا يبقى أي إمكانية لإزالة الأغشية السامة التي تسد مجاري الهواء، حين يغدو الطفل مزرقا وعلى وشك الاختناق والعرض الملح لفتح الرغامى يطرح نفسه بسرعة البرق! فهل يجب أن أعمل فورا، حتى بدون طاولة لوضع الطفل عليها، على هذا السرير المنخفض أو في حجر أمه، في ضوء هذا المصباح الزيتي الزري ولا من مساعد آخر غير كناس شوارع؟ ألا أستطيع أن أنتظر حتى الغد وأحاول العثور على أحد ما يكون جراحا أفضل مني؟ هل أستطيع الانتظار، هل أجرؤ على الانتظار؟ يا حسرة! لقد انتظرت حتى الغد، لكن الوقت كان قد فات، ورأيت الطفل يموت أمام عيني. وأجريت الجراحة فورا أيضا وأنقذت حياة الطفل بلا ريب، ولكن قمت بالجراحة كذلك حالا ورأيت الطفل يموت تحت مبضعي. إن حالتي كانت أسوأ من كثير من أطباء آخرين في ورطة مماثلة، لأني أنا نفسي كنت في خوف قاتل من الدفتيريا، خوف لم أكن قادرا أن أتغلب عليه إطلاقا. لكن أركانجيلو فوسكو لم يكن خائفا. كان يعرف الخطر كما أعرفه، لأنه رأى العدوى المرعبة تنتشر من شخص إلى آخر، لكنه لم يكن لديه أبدا أدنى فكرة عن سلامته الخاصة، بل كان يفكر بالآخرين فقط. ويوم انتهينا من ذلك كله، راحوا يثنون علي يمينا وشمالا، حتى من جانب المساعدين العامين، لكن لا أحد أبدا تفوه بكلمة لأركانجيلو فوسكو الذي باع ثيابه الخاصة بيوم الأحد ليدفع للحانوتي الذي أخذ جثمان الطفلة الصغيرة بعيدا.
نعم، جاء الوقت الذي انتهى فيه كل شيء، يوم رجع أركانجلو فوسكو إلى عمله في كنس الشوارع، وأنا عدت إلى مرضاي من أحدث طراز. وبينما كنت أمضي أيامي في فيلليت أو مونبارناس، كان الباريسون المرهقون بالعمل يحملون أمتعتهم ويغادرون إلى قصورهم الريفية أو منتجعاتهم المائية المفضلة على شاطئ البحر. كانت الشوارع بأيدي الغرباء الباحثين عن متعة، وقد تقاطروا إلى باريس من جميع أنحاء العالم المتمدن وغير المتمدن، لينفقوا أموالهم الفائضة. كثيرون منهم كانوا يجلسون في غرفة الانتظار، يقرؤون كتبهم السياحية بنفاد صبر، وهم يلحون دائما على الدخول أولا، ونادرا ما طلبوا غير استرداد النشاط من إنسان هو أحوج منهم بكثير إلى ذلك. وآخرون، من المستقرين بارتياح على كراسيهم الوثيرة في أجمل بزات شرب الشاي، اللائقة بآخر طراز، كانوا يرسلون من فنادقهم الراقية في طلبي في أشد الساعات إحراجا نهارا وليلا، يأملون مني أن"أصلح أمرهم" استعدادا لحفلة الرقص بالأقنعة في الأوبرا غدا. لم يرسلوا في طلبي مرتين، ولم يكن ذلك ليدهشني.
يا له من مضيعة للوقت! كنت أفكر وأنا في طريقي إلى البيت، أجرُّ ساقي المتعبتين على طول أسفلت الشوارع اللاهب تحت أشجار الكستناء المكسوة بالغبار وأوراقها المتهدلة تتلهف لاستنشاق هواء نقي.
قلت لأشجار الكستناء: "أعرف ما الهم الذي يشغك ويشغلني. إننا بحاجة إلى تغيير الهواء، أن نخرج من جو هذه المدينة الكبيرة. لكن أنى لنا أن نتخلص من هذا الجحيم، وأنت مسجونة تحت الأسفلت بجذورك الموجعة، وحلقات الحديد تلك حول أقدامك، وأنا مع كل هؤلاء الأميركيين الأثرياء في غرفة الانتظار وأعداد من مرضى آخرين في أسرتهم؟ وإذا كان علي أن أذهب بعيدا، فمن الذي سيعتني بالقرود في حديقة النبات؟ من سينعش الدب القطبي اللاهث، وهو الآن في انتظار أسوأ حالة وشيكة الوقوع. إنه لن يفهم كلمة واحدة يقولها له نوع آخر من الناس، وهو الذي لا يفهم إلا السويدية! وماذا عن حي مونبارناس؟ مونبارناس! لقد ارتعدت حين انبثقت الكلمة في دماغي، رأيت وجه الطفل مزرقا في الضوء الشاحب لقنديل الزيت الصغير، ورأيت الدم يتسرب من الخزع الذي أجريته في حلق الطفل، وسمعت صرخة الرعب من قلب الأم. ماذا يمكن أن تقول الكونتيسة؟... الكونتيسة! لا، ثمة شيء معي ليس على ما يرام بلا جدال، وعلي قبل فوات الأوان أن أعتني بأعصابي ذاتها بدلا من أعصاب الآخرين، إذا أمكن أن ترى وتسمع مثل هذه الأشياء في بولفار مالشيرب. وماذا علي أن أفعل مع الكونتيسة، بحق الشيطان؟ لقد أصبحت في حالة باهرة في قصرها في تورين، كما جاء في رسالة مسيو لابيه الأخيرة، وأنا صرت في حالة باهرة في باريس، أجمل مدينة في العالم. كل ما كنت بحاجة إليه هو قليل من النوم. لكن ماذا يمكن أن يقول الكونت لو كتبت إليه رسالة هذه الليلة أخبره أني قبلت دعوته اللطيفة وسأباشر بها غدا. لو أستطيع النوم هذه الليلة فقط! لِمَ لا آخذ بنفسي واحدة من جرعات النوم الممتازة تلك التي اعتدت أن أجهزها لمرضاي، جرعة نوم قوية يمكن أن ترسلني إلى النوم أربعا وعشرين ساعة وتجعلني أنسى كل شيء، مونبارناس، قصر تورين، الكونتيسة وكل الآخرين. استلقيت على سريري دون أن أخلع ملابسي، كنت متعبا جدا. لكني لم آخذ جرعة النوم، فالطهاة لا يجوعون، كما يقولون في باريس. ولدى دخولي في غرفة الاستشارة في الصباح التالي، وجدت رسالة على الطاولة. كانت من مسيو لابيه، وفيها ملاحظة بخط الكونت:
"أنت قلت إن تغريد القبرة أحلى ما تحب. إنها لا تزال تغرد، لكن ذلك لن يدوم طويلا، لذا من الأفضل أن تأتي حالا".
القبرة! وأنا الذي لم يسمع طوال سنتين من الطيور الأخرى إلا عصافير الدوري في حدائق التويليري!
. . .
كانت الجياد التي أخذتني من المحطة جميلة، والقصر الذي يرجع تاريخه إلى عهد ريشليو( 1) كان جميلا بحديقته العامة الواسعة، والأثاث في غرفتي الفخمة من عهد لويس السادس عشر كان جميلا، والكلب الضخم من نوع سان برنار الذي لحق بي صاعدا الدرج كان جميلا – كل شيء كان جميلا. وهكذا كانت الكونتيسة في حلتها البيضاء البسيطة، وفي زنارها وردة واحدة من نوع لا فرانس. خيل إلي أن عينيها قد اتسعتا أكبر من أي وقت مضى. والكونت كان شخصا آخر تماما، بوجنتيه الورديتين وعينيه الواسعتين اليقظتين. وترحيبه الساحر سرعان ما أزال خجلي، فأنا ما زلت بربريا من أقصى الشمال( 2)، ولم أكن أبدا في مثل هذا المنتجع الفخم من قبل. حياني مسيو لابيه كصديق قديم. وقال الكونت إن لدينا ما يكفي من الوقت لمشوار في الحديقة قبل تناول الشاي، أو الأفضل أن ألقي نظرة على الخيول؟ أعطوني سلة ملأى بالجزر لأعطي جزرة لكل واحد من دزينة الجياد الرائعة التي كانت تقف هناك بأجسادها الأنيقة وهي متراصفة في مرابطها من البلوط المصقول.
وقال الكونت: "من الأفضل أن تعطيه جزرة إضافية لتعقد معه صداقة في الحال، فهو لك ما دمت هنا، وهذا سائسك"، قال ذلك وهو يشير إلى غلام إنجليزي رفع يده إلى قبعته، تحية لي.
وأضاف الكونت، ونحن نسير عبر الحديقة راجعين: "نعم، كانت الكونتيسة في حالة رائعة. ومن النادر أن تتحدث عن قولنجها، وهي تقوم بزيارة الفقراء في القرية كل صباح، وتناقش مع طبيب القرية تحويل مزرعة قديمة إلى مشفى للأطفال المرضى. وقد دعت في عيد ميلادها جميع أطفال القرية الفقراء إلى القلعة لتناول القهوة والكعك، وقبل أن يغادروا أهدت كل طفل دمية. ألم تكن تلك فكرة رائعة منها؟".
"إذا تحدثت إليك عن تلك الدمى، لا تنسَ أن تقول شيئا لطيفا عنها".
"لا، لن أنسى، وأنا لا أريد أفضل من ذلك".
تناولنا الشاي تحت أشجار الليمون الوارفة أمام البيت.
وقالت الكونتيسة للسيدة التي تجلس إلى جانبها ونحن نتجه إلى المائدة: "هذا واحد من أصدقائك، يا عزيزتي آن. يؤسفني جدًّا أن أقول إنه يفضل علينا صحبة الخيل؛ حتى الآن لم يكن لديه وقت ليقول لي كلمة واحدة، لكنه أمضى نصف ساعة وهو يتحدث إلى الخيل في الإسطبل".
وعلق الكونت ضاحكا: "يبدو أنها أحبت حديثه تماما، وحتى كلب الصيد العجوز أدنى أنفه من وجه الطبيب وتشممه بطريقة ودية جدا، وأنتم تعرفون كم يكون طبعه سيئا مع الغرباء".
وقالت البارونة آن إنها يسرها أن تراني وتبلغني أخبارا رائعة عن حماتها، المركيزة دوويريير.
"هي تعتقد أن بإمكانها أن تسمع أفضل، لكني لست واثقة من ذلك، لأنها لا تسمع غطيط لولو، وتغضب تماما عندما يقول زوجي إنه يستطيع أن يسمعه في غرفة التدخين بالأسفل. وعلى أية حال، إن كلبها المحبوب لولو كان بركة لنا جميعا، فقبله لم تكن أبداً لتطيق أن تبقى وحدها وكان مرهقا جدًّا أن نتحدث إليها طوال الوقت عبر بوق أذنها. والآن تجلس وحدها ساعات ولولو في حضنها، وإذا أمكنك أن تراها تخب في الحديقة كل صباح لتريض لولو فلن تصدق عينيك، لأنها لم تكن لتغادر كرسيها ذي الذراعين إطلاقا. أتذكر يوم قلت يجب عليها أن تمشي ولو قليلا كل يوم، وكم بدوت غاضبا حين قالت إنها لا تمتلك القوة لذلك. إنه فعلا تحول مدهش. ستقول طبعا إن ذلك كله من الدواء الكريه الذي أعطيتها إياه، لكني أقول إنه لولو، بورك فيه، ومرحبا بغطيطه على مقدار ما يحب!"
وقال الكونت مغيرا مجرى الحديث: "انظروا إلى ليو، انظروا إليه ورأسه في حضن الدكتور، كأنه كان يعرفه منذ ولادته. وهو كذلك حتى إنه نسي أن يأتي طالبا قطعته من البسكويت".
وقالت الكونتيسة: "ماذا جرى لك، يا ليو؟ الأفضل أن تنتبه لنفسك، أيها الولد الطيب، وإلا فإن الدكتور سينومك مغنطيسيا. كان يعمل مع شاركو في مشفى سالبيتريير( 3) وهو قادر على أن يجعل الناس يفعلون ما يحب بمجرد النظر إليهم. لماذا لا تجعل ليو يتكلم السويدية معك؟"
ـ"لا، طبعا. ليس هناك من لغة عاطفية يمكن أن تلامس أذني مثل صمته. أنا لست منوما مغنطيسيا، لست إلا محبا كبيرا للحيوانات، وكل الحيوانات تفهم ذلك وسرعان ما تبادلك المحبة".
وقالت البارونة: "أظن أنك تحاول تنويم ذلك السنجاب تماما على الغصن فوق رأسك، فقد كنت جالسا تحدق فيه طوال الوقت من دون أقل التفاتة لنا. لماذا لا تجعله ينزل عن الشجرة ويأتي ليجلس في حضنك إلى جانب ليو؟"
"إذا أعطيتني بندقة وابتعدتم جميعا من هنا، أعتقد أن في إمكاني أن أجعله ينزل ويأخذها من يدي".
وضحكت الكونتيسة: "أنت لطيف، مسيو لو سويدي، تعالي عزيزتي آن، إنه يريدنا أن نبتعد جميعا ونتركه وحيدا مع سنجابه".
"لا تجعليني أضحوكة، إني آخر من يتمنى أن تبتعدي، فأنا مسرور جدًّا أن أراك مرة ثانية".
"أنت لطيف جدا، سيدي الطبيب، وهذه أول عبارة إطراء تخصني بها، وأنا أحب عبارات الإطراء".
"أنا لست طبيبا هنا، إني ضيفكم".
"وطبيبك، ألا يمكنه أن يقدم لك عبارة ثناء؟"
"ليس إذا بدا المريض مثلك وسن الطبيب أصغر من والدك، ولا حتى إذا أراد ذلك بإلحاح".
"حسنا، كل ما أستطيع قوله هو أنك لو أردت ذلك يوما لقاومت الإغراء إلى حد بعيد". لقد تنمَّرت عليَّ في كل حين رأيتك فيها تقريبا. وأول مرة وقعت عليك عيناي كنت فظا معي إلى حد أني أوشكت على الانصراف عنك، ألا تذكر؟ عزيزتي آن، هل تعرفين ما قال لي؟ نظر إليَّ عابسا وقال بنبرته السويدية المروعة: "سيدتي الكونتيسة، أنت أحوج ما تكونين لضبط النفس وليس للدواء!"
ـ ضبط النفس! أهذه هي الطريقة التي يتحدث بها طبيب إلى سيدة شابة في أول مرة تأتي لاستشارته؟
"لست طبيبا سويديا، لقد نلت شهادتي في باريس".
"حسنا، لقد استشرت العشرات من أطباء باريس، ولم يجرؤ أي واحد منهم أبدا أن يتحدث معي عن ضبط النفس".
"ذلك هو السبب الأكيد الذي أجبرك على استشارة ذلك العدد الكبير".
وعادت البارونة لتقول: "أتدرين ما قال لحماتي؟ لقد قال في صوت غاضب جدًّا إنها إذا لم تطعه، فإنه سينصرف ولن يرجع أبدا، حتى لو أصيبت بالقولنج! سمعت ذلك بنفسي من قاعة الاستقبال، وحين اندفعت إلى الداخل حسبت أن المركيزة على وشك أن تصاب بوعكة. أنت تعرف أني أوصي بك جميع صديقاتي، لكن لا تأخذ على خاطرك إذا قلت لك إنكم يا أبناء السويد في غاية الخشونة بالتعامل معنا، نحن الشعب اللاتيني. لقد أخبرتني أكثر من واحدة من مريضاتك أن تصرفك لدى سرير المريض يدعو للرثاء".
وتبسمت الكونتيسة مستمتعة بالمزاح إلى حد بعيد: "لماذا لا تحاول أن تكون ألطف ولو قليلا؟"
"سوف أحاول".
وقالت البارونة، ونحن جالسون في قاعة الاستقبال بعد الغداء: "احكِ لنا قصة، أنتم الأطباء تصادفون العديد من الناس غريبي الأطوار وتختلطون في كثير من الحالات الاجتماعية الغريبة جدا. أنتم تعرفون عن الحياة الحقيقية أكثر من أي شخص آخر، وأنا واثقة أن لديك الكثير لتحدثنا عنه لو أردت ذلك".
"لعلك مصيبة بذلك، لكننا ملزمون بألا نتحدث عن مرضانا، أما في موضوع الحياة الحقيقية، فأنا أخشى أن أكون أصغر من أن أعرف الكثير عنها".
وألحت البارونة: "أخبرنا بما تعرف، على الأقل".
"ما أعرفه أن الحياة جميلة، لكني أعرف أيضا أننا غالبا ما نجعلها فوضى ونحيلها إلى مهزلة غبية أو مأساة تعتصر القلب، أو كلتيهما معا، ونتمادى بذلك حتى إن أحدنا لا يعرف هل عليه أن يبكي أو يضحك. من الأسهل أن نبكي، لكن من الأفضل تماما أن نضحك، وإلى مدى طويل، ما دام واحدنا لا يضحك عاليا".
وقالت الكونتيسة لتساعدني بموقف أسلم: "احكِ لنا قصة حيوان، يقولون إن بلادكم ملأى بالدببة، حدثنا بشيء ما عنها، احكِ لنا قصة دب!"
"كان هناك يوما سيدة تعيش في منزل ريفي قديم على تخوم غابة كبيرة، هناك في أقصى الشمال. ولدى هذه السيدة دب أليف كانت مولعة به جدا. لقد عثرت عليه في الغابة وهو على حافة الموت من الجوع. كان صغيرا عاجزا لدرجة أن السيدة والطاهية العجوز قامتا بتربيته على الحليب. حدث هذا منذ سنوات، وقد ترعرع اليوم وصار دبا كبيرا، وبلغ من الكبر والقوة حدا جعله قادرا على قتل بقرة وحملها بيديه بعيدا إن أراد. لكنه لم يشأ ذلك، كان دبا في غاية اللطف ولا يميل إلى إيذاء أحد من بشر أو حيوان. لقد اعتاد أن يربض خارج وجاره وينظر بعينيه الصغيرتين الذكيتين بمودة بالغة إلى القطيع يرعى في الحقل المجاور. كانت الأفراس الجبلية الشعثاء في الاسطبل تعرفه جيدا ولا تحس بأي إزعاج حين كان يدخل الاسطبل متثاقلا مع سيدته. واعتاد الأطفال أن يمتطوا ظهره وقد وجدوهم أكثر من مرة نائمين بين يديه داخل الوجار. وكانت الكلاب الثلاثة من مقاطعة لابلاند تحب أن تلعب معه كل ضروب اللعب، فتشد أذنيه وذيله القصير وتستفزه بكل طريقة، لكنه لا يعير ذلك أقل اهتمام. لم يذق اللحم أبدا، كان يأكل الطعام مثل الكلاب وغالبا من الصحيفة ذاتها: خبز، ثريد، بطاطا، ملفوف، لفت. كان يتمتع بشهية جيدة، لكن صديقته الطاهية كانت ترى أنه شبع. الدببة نباتيون إذا أتيحت لهم الفرصة، والفاكهة أشهى ما يحبون. لقد اعتاد أن يجلس في الخريف ويتطلع إلى التفاح اليانع في الحديقة بعينين تواقتين، ولم يكن قادرا في أيام نشأته أن يقاوم الإغراء في تسلق الشجرة ليسعف نفسه باقتطاف ما يملأ يديه منها. يبدو أن الدببة بطيئون متثاقلون في حركاتهم، لكن جرب دبا في شجرة تفاح وستكتشف فورا أن بإمكانه أن يتغلب بسهولة في اللعبة على أي تلميذ مدرسة. لقد تعلم الآن أن ذلك ضد القانون، لكنه أبقى عينيه الصغيرتين شاخصتين على اتساعهما رصدا لأية تفاحات يمكن أن تسقط على الأرض. وكان ثمة بعض الصعوبات مع خلايا النحل؛ فقد عوقب لذلك بوضعه في القيد لمدة يومين وأنفه ينزف ولم يعد إلى فعلها مرة ثانية. وعدا ذلك، لم يربط أبدا بقيد إلا ليلا، وهذا أمر سليم تماما، لأن الدب مثل الكلب عرضة للوقوع في مزاج سيئ نوعا ما إذا ظل مقيدا، ولا عجب في ذلك. وكان يوثق بالسلسلة أيضا في أيام الأحد حين تذهب سيدته لتقضي ما بعد الظهر مع أختها المتزوجة التي تعيش في بيت منعزل في الجانب الآخر من بحيرة الجبل، على مسيرة ساعة كاملة عبر الغابة الكثيفة. لم يكن في الحسبان أن التجول في الغابة، بكل ما فيها من إغراءات، صالح له، بل من الأفضل أن يكون على الجانب الأسلم. وكان كذلك بحارا سيئا وقد انتابته يوما حالة رعب عند عصفة ريح مفاجئة حتى إنه قلب الزورق وكان عليه وعلى سيدته أن يسبحا إلى الشاطئ. وبعد ذلك، أدرك تماما مغزى أن تربطه سيدته بالسلسلة أيام الأحد، وتربت على رأسه بمودة وتعده بتفاحة لدى عودتها إذا كان طيبا أثناء غيابها. كان آسفا لكنه أذعن، مثل كلب طيب عندما تخبره سيدته أنه لا يستطيع أن يأتي معها في ذلك المشوار. وفي يوم أحد عندما أوثقته سيدته بالسلسلة كالمعتاد وسارت عبر الغابة ما يقارب نصف الطريق، أحست فجأة بأنها سمعت بانقصاف غصن شجرة لدى الممر المنعطف خلفها. تلفتت فراعها أن ترى الدب قادما نحوها بأقصى سرعة. يتحرك الدببة على ما يبدو في غاية البطء، لكنهم يندفعون جيئة وذهابا بسرعة أكثر من خبب جواد. وفي دقيقة، كان قد أدركها لاهثا متشمما عقب قدمها، كعادة الكلب. ثار غضب السيدة، وكانت قد تأخرت عن الغداء، ولا وقت لتعيده إلى البيت، ولا تريده أن يأتي معها، وفوق ذلك كان تصرفا سيئا منه أن يعصيها وينفلت كاسرا قيده. أمرته بأقسى صوتها أن يرجع فورا، مهددة إياه بمظلتها. توقف لحظة ونظر إليها بعينين ما كرتين، لكنه لم يشأ أن يرجع واستمر يتشمم أثرها. وحين رأت السيدة أنه فقد طوقه الجديد، ازدادت غضبا ولطمته على أنفه بالمظلة لطمة قوية كسرتها إلى شطرين. توقف مرة ثانية، هز رأسه وفتح فمه الكبير عدة مرات وكأنه يريد أن يقول شيئا. ثم استدار وقفل راجعا في الدرب الذي جاء منه، متوقفا بين حين وآخر متطلعا إلى السيدة حتى غاب أخيرا عن نظرها. حين عادت السيدة إلى البيت مساء، كان رابضا في مكانه المعتاد خارج وجاره متطلعا إلى نفسه بأسف بالغ. كانت السيدة لا تزال غاضبة وقد تقدمت منه وراحت توبخه بقسوة شديدة، وقالت إنه لن ينال تفاحة ولا عشاء، وإن عليه أن يبقى موثقا في القيد تماما لمدة يومين. كانت الطاهية العجوز تحب الدب وكأنه ابنها فاندفعت من المطبخ غاضبة جدًّا، وقالت:
"لماذا توبخينه، ياست! لقد كان طوال اليوم رائعا كالذهب، بورك فيه! كان مقعيا هنا على مؤخرته ساكنا تماما وحليما كملاك، متطلعا إلى البوابة طوال الوقت وهو بانتظار قدومك".
"لقد كان دبا آخر".
دقت ساعة البرج الحادية عشرة.
قال الكونت: "إنه وقت اللجوء إلى النوم. لقد أمرت بتجهيز الجياد في الساعة السابعة من صباح الغد".
وقالت الكونتيسة وأنا أصعد إلى غرفتي: "نوما هانئا وأحلاما سعيدة".
لم أنم طويلا، لكني حلمت كثيرا.
خربش ليو على بابي في السادسة من صباح اليوم التالي، وفي السابعة تماما غدوت مع الكونت راكبين في شارع من أشجار الليمون المعمرة الرائعة يؤدي إلى الغابة. وسرعان ما دخلنا في غابة من أشجار الدردار والزان يتخللها هنا وهناك شجر البلوط الضخم. كانت الغابة ساكنة، ولم نكن نسمع بين حين وآخر إلا النقرات الإيقاعية لناقوب الخشب أو هديل حمامة برية، وزعقة حادة لكاسر الجوز أو الأغرودة العميقة للشحرور وهو يترنم بالمقاطع الأخيرة من قصته الغنائية. وفي الحال، أطللنا على منبسط مفتوح واسع من الحقول والمروج تغمره أشعة الشمس. هناك كانت القبرة الحبيبة، ترفرف عاليا في السماء بجناحين لا مرئيين، وهي تسكب قلبها ذاته للسماء والأرض بارتعاشات مثيرة من بهجة الحياة. تطلعت إلى العصفورة الصغيرة وباركتها من جديد كما فعلت مرارا من قبل في الشمال المتجمد يوم اعتدت وأنا طفل أن أجلس وأراقب بعينين مستبشرتين رسول الصيف الرمادي الصغير، وأنا واثق أخيرا أن الشتاء الطويل قد انتهى.
وقال الكونت: "إنه الكونشرتو الأخير. لقد بلغ وقتها غايته، وعليها حالا أن تتهيأ للعمل في إطعام فراخها ولن يكون ثمة مزيد من الوقت للغناء واللهو. أنت محق، إنها أعظم فنان بينها جميعا، فهي تغني من صميم قلبها".
"أترى أن هناك رجالا قادرين على قتل هذه المغنية الصغيرة المسالمة! ما عليك إلا أن تذهب إلى سوق الخضرة لتجد مئات ومئات منها للبيع إلى رجال آخرين لهم معدة ليأكلوها. إن أصواتها تملأ الجو فوق رؤوسهم بالمسرة لكن أجسامها الميتة صغيرة لدرجة أن طفلا يمكن أن يطبق عليها براحة يده، ومع ذلك نأكلها بشراهة وكأنما ليس هناك أي شيء آخر لنأكله. نحن نرتعد لدى سماع كلمة"أكلة البشر" ونشنق الهمجي الذي يريد أن يشبع رغباته بعادة أسلافه هذه، لكن قتل هذه العصافير الصغيرة وأكلها لا يزال باقيا بلا عقوبة".
"أنت مثالي، يا عزيزي الدكتور".
"لا، إنهم يدعونها عاطفية ويسخرون منها وحسب. دعهم يسخروا بقدر ما يحبون، فأنا لا أبالي. ولكن تذكر كلماتي! سوف يأتي الوقت الذي يتوقفون فيه عن السخرية، يوم يدركون أن الخالق وضع عالم الحيوان تحت حمايتنا، وليس تحت رحمتنا: ذلك أن للحيوانات الحق في يعيشوا كما أن لنا هذا الحق، وأن حقنا بانتزاع حياتهم محدد، تحديدا دقيقا، بحقنا في الدفاع وحقنا في الوجود. وسيأتي الوقت الذي ستنقرض فيه رغبة الإنسان المجردة في القتل. وما دامت هذه الرغبة هناك، فليس للإنسان أي ادعاء بأن يصف نفسه بأنه متحضر، إنه مجرد بربري، حلقة مفقودة بين أسلافه المتوحشين الذين ذبح بعضهم بعضا بفؤوس حجرية من أجل قطعة نيئة من اللحم وبين إنسان المستقبل. إن ضرورة قتل الوحوش المفترسة لا جدال فيها، لكن جلاديهم، صيادي اليوم، سينحطون إلى مستوى جزاري الحيونات الأليفة".
رد الكونت متطلعا مرة ثانية إلى السماء، ونحن نلوي أعناق جيادنا راجعين إلى القلعة: "لعلك مصيب في ذلك".
وبينما كنا على الغداء، أحضر خادم برقية للكونتيسة وهي ناولتها للكونت الذي قرأها من دون أن يقول كلمة.
وقالت الكونتيسة: "أظن أنك قابلت ابن عمي موريس من قبل، سيكون هنا على العشاء إذا استطاع اللحاق بقطار الساعة الرابعة، وهو في الحامية في تور".
نعم، كان الفيكونت( 4) موريس معنا على الغداء، اكثر من مرة. وهو فتى طويل وسيم ذو جبين ضيق مائل، وأذنين ضخمتين، وفك وحشي وشاربين على غرار الجنرال دو جاليفيه.( 5)
"يا لها من مفاجأة سارة أن ألتقيك هنا، مسيو لو سويدي، إنها مفاجئة جدًّا بكل تأكيد!" وتنازل متلطفا هذه المرة ليناولني يده، يد صغيرة مترهلة لم تكن مصافحتها سارة أبدا، وهذا ما يسر عليَّ تصنيف الرجل. ولم يبقَ إلا أن أسمعه يضحك، ولم يُضع أي وقت ليقدم لي هذه الفرصة. كانت قهقهته العالية المملة تتردد في أرجاء الغرفة طوال وقت الغداء. وبدأ في الحال يحكي للكونتيسة قصة خطرة جدًّا عن بلوى حدثت لأحد رفقائه الذي وجد خليلته في سرير رئيسه. وبدا أن مسيو لابيه لم يكن مرتاحا أبدا حين قاطعه الكونت قليلا وهو يخبر زوجته عبر الطاولة عن جولتنا في الصباح، بأن القمح كان في حالة ممتازة والبرسيم وفير، وأننا استمعنا لقبرة متأخرة تترنم بآخر كونشيرتو لها.
رد الفيكونت: "هراء، لا يزال منها الكثير في الجو، فقد صدت البارحة واحدة بأصغر طلقة جهزتها في حياتي، وبدا أن ذلك الحيوان الضئيل لم يكن أكبر من فراشة".
واصطبغ وجهي بالحمرة حتى بلغ جذور شعري، لكن لابيه أوقفني في الوقت المناسب وهو يضع يده على ركبتي.
ردت الكونتيسة: "أنت متوحش أن تقتل قبرة، يا موريس".
"لماذا ينبغي علي ألا أصيد قبرة؟ ثمة وفرة منها، وهي هدف رائع للتدريب أيضا، وأنا لا أعرف أفضل منها ما لم يكن سنونو. عزيزتي جولييت، أن تعرفين أنني رام ماهر في فوجي، وسينتابني الصدأ في الحال إذا لم أتابع التدريب. من حسن الحظ أن هناك كمية وافرة من السنونو حول ثكنتنا، مئات ومئات تعشش تحت أفاريز الاسطبلات، وهي اليوم منهمكة بإطعام صغارها وتمر بسرعة جيئة وذهابا طوال الوقت أمام نافذتي تماما. يا لها من تسلية عظيمة، وأنا لي جولة معها كل صباح حتى دون أن أغادر غرفتي. عقدت رهانا أمس على ألف فرنك مع جاستون بأن أرمي ستة من بين عشرة منها، هل تصدقين أني رميت ثمانية! أنا أعرف أن ليس هناك ما هو أفضل من السنونو للتدريب اليومي. وأنا أقول دائما إنها ينبغي أن تغدو إلزامية في مدارس تير كلها". توقف لحظة وهو يعد بانتباه القطرات التي كان يسكبها في كأس نبيذه من زجاجة دواء. والآن، يا عزيزتي جولييت، لا تكوني سخيفة، تعالي معي إلى باريس غدا، فأنت بحاجة إلى قليل من المرح بعد إقامتك هنا وحيدة طوال أسابيع في هذا المكان المنعزل. سيكون منظرا رائعا، أحلى مباراة هناك، وأمهر رماة فرنسا سيكونون هناك جميعا، وكما أنا متأكد بأن اسمي موريس، سترين الميدالية الذهبية يقدمها رئيس جمهورية فرنسا لابن عمك. سنتناول غداء ممتعا في المقهى الإنجليزي، ثم آخذك إلى القصر الملكي لتري"ليلة من الأعراس". إنها مسرحية ساحرة في الحيل البهلوانية فعلا، لقد شاهدتها أربع مرات من قبل، وأحب أن أراها معك أيضا وأنت بجانبي. السرير موضوع في وسط الخشبة، والعاشق مختبئ تحته والعريس عجوز..".
بدا الكونت منزعجا بوضوح، فأومأ لزوجته ونهضنا عن المائدة.
قال الكونت بصوت جاف: "لا يمكن أن أقتل قبرة أبدا".
زمجر الفيكونت: "لا، يا عزيزي روبير، أنا أعرف أنك لا تستطيع، لأنك ستخطئها".
صعدت إلى غرفتي أغص بالدموع بغيظ مكبوت وعار حاولت كبحه. ودخل لابيه غرفتي وأنا أحزم حقيبتي. رجوته أن يخبر الكونت بأني دعيت إلى باريس وكنت مجبرا على أخذ قطار منتصف الليل.
"لا أريد أن تقع عيني إطلاقا على هذا الوحش الكريه بعد اليوم، وإلا فسوف أحطم نظارته الأحادية (المونوكل) الوقحة وأطرحها عن رأسه الفارغ!"
"خير لك ألا تقوم بأي محاولة من هذا القبيل، وإلا فبإمكانه أن يقتلك مباشرة. إنه رام مشهور، وهذه حقيقة أكيدة، وأنا لا أدري كم عدد المبارزات التي اشتبك فيها، فهو دائم الشجار مع الناس، وله لسان قذر جدا. كل ما أطلبه منك هو أن تسيطر على أعصابك مدة ست وثلاثين ساعة. فهو سينصرف غدا مساء لحضور المباراة في باريس، ودعني أخبرك، وهذا بيننا، أني سأكون سعيدا بانصرافه كما ستكون".
"لماذا؟"
وظل لابيه صامتا.
"حسنا، مسيو لابيه، سأخبرك لماذا. لأنه متعلق بحب ابنة عمه وأنت تكرهه وتحتقره".
"بما أنك خمَّنت الحقيقة، والله يعرف كيف، فالأفضل أن أخبرك أنه كان يريد أن يتزوجها، لكنها رفضته. ومن حسن الطالع أنها لا تحبه".
"لكنها تخاف منه، وهذا أسوأ تقريبا".
"إن الكونت يمقت كثيرا جدًّا صداقته للكونتيسة، ولذلك لا يريدها أن تبقى وحدها في باريس حيث كان يخرج بها دائما إلى الحفلات والمسارح".
"لا أعتقد أنه سينصرف غدا".
"كن واثقا أنه سيذهب، فهو حريص جدًّا على الحصول على ميداليته الذهبية، كما أنه من المرجح جدًّا أنه سيحصل عليها، وهو رامٍ ماهر تماما".
"أتمنى لو كنت كذلك، أود لو أطلق الرصاص على هذا المتوحش انتقاما للسنونوات. هل تعرف أي شيء عن والديه؟ أظن أن ثمة خطأ ما".
"أمه كونتيسة ألمانية وجميلة جدا، ومظهره الحسن أخذه منها، لكني أدرك أنه كان زواجا تعيسا جدا. أبوه كان مدمنا مفرطا وكان معروفا بأنه سريع الغضب ورجل شاذ. وفي النهاية شارف الجنون. وهناك من يقول إنه انتحر".
"وأنا آمل بجد أن يتبع ابنه طريقه، والأفضل في الحال. أما عن جنونه، فليس بعيدا عنه".
"أنت مصيب، الفيكونت بحق غريب الأطوار في أمور عديدة. فهو مثلا، دائم القلق حول صحته وفي خوف دائم من التقاط كل أنواع المرض، وإن كان قويا كحصان كما ترى. في آخر مرة كان مقيما هنا، وسرعان ما غادر لما أصيب ابن البستاني بالتفوئيد. وهو يتناول المخدرات دائما، ولعلك لاحظت ذلك وهو يعالج نفسه ببعض الدواء أثناء الغداء".
"نعم، إنها اللحظة الوحيدة التي أمسك بها لسانه".
"هو يستشير أطباء جددا دائما، ومن سوء الحظ أنه لا يحبك، وإلا فأنا واثق من حصولك على مرض جديد... ما الذي يضحكك بحق السماء؟"
"أضحك على شيء ما لمجرد أن مر في خاطري، وهو مسلٍّ جدا. ليس هناك ما هو أفضل من ضحكة صادقة لإنسان غاضب! لقد رأيت في أية حالة كنت حين جئت إلى غرفتي. وستكون مسرورا أن تعلم أني الآن على ما يرام وفي أصفى مزاج. لقد غيرت رأيي، ولن أغادر الليلة. دعنا ننزل ونشارك الآخرين في غرفة التدخين. وأعدك أن أكون في أحسن سلوكي فعلا".
كان الفيكونت، بوجهه الأحمر، يقف أمام المرآة الكبيرة وهو يسوي شاربيه بعصبية على غرار الجنرال دو جاليفيه. وكان الكونت جالسا قرب النافذة يقرأ صحيفته"الفيغارو".
وقهقه الفيكونت وهو يركز (المونوكل) وكأنما ليرى أفضل كم سيكون تحملي: "يا لها من مفاجأة سارة أن التقيك هنا، مسيو سويدي! أرجو ألا تكون أية حالة قولنج جديدة هي التي جاءت بك إلى هنا".
"لا، ليس حتى الآن، لكن لا أحد يدري".
"أعلم أنك مختص بالقولنج، والمؤسف أن لا أحد سواك، على ما يبدو، يعرف أي شيء عن هذه العلة المثيرة للاهتمام، والواضح أنك تحتفظ بها كلها لنفسك. ألا تتفضل علي وتعلمني ما هو القولنج؟ هل هو معدٍ؟"
"لا، ليس بالمعنى المألوف للكلمة".
"هل هو خطر؟"
"لا، إذا بدأ العلاج مباشرة، وربما تطلب العناية".
"بإشرافك، على ما أظن؟"
"أنا لست طبيبا هنا، لقد شملني الكونت بلطفه ودعاني إلى هنا لأكون ضيفه".
"حقا؟ لكن ما سيحدث لمرضاك جميعا في باريس وأنت بعيد عنهم؟"
"أظن أنهم سيتعافون".
وقهقه الفيكونت: "أنا واثق من ذلك".
كان علي أن أمضي وأجلس بجوار لابيه وأمسك بصحيفة لأهدئ نفسي. نظر الفيكونت بقلق إلى الساعة فوق رف الموقد.
"سأصعد لأحضر جولييت لكي نقوم بمشوار في الحديقة، من المؤسف أن تبقى محجوزة في الداخل بعيد عن ضوء القمر الجميل".
وقال الكونت بصوت جاف من كرسيه: "أوت زوجتي إلى السرير، لم تكن تشعر بأنها على ما يرام".
"لمَ لم تخبرني بحق الشيطان؟" رد الفيكونت بغضب، وهو يسعف نفسه بكأس أخرى من البراندي والصودا.
كان لابيه يقرأ"جورنال دي ديبا"، لكني لاحظت أن عينه الماكرة العجوز لم تتوقف عن مراقبتنا.
"هل من أخبار، مسيو لابيه؟"
"كنت أقرأ عن مباراة"جمعية الرماية الفرنسية" بعد غد، ورئيس الجمهورية سيقدم ميدالية ذهبية للفائز".
صاح الفيكونت وهو يخبط على صدره بقبضة يده: "سأراهنك على ألف فرنك أنها ستكون لي، ما لم يحدث تحطم قطار على خط باريس الليلي السريع غدا أو..." ثم أضاف بتكشيرة خبيثة نحوي: "ما لم أصب بالقولنج!"
وقال الكونت من زاويته: "موريس، أوقف تلك البراندي، لقد أخذت أكثر مما هو صالح لك، أنت سكران مثل بولوني!"
قهقه الفيكونت: "نخبك، دكتور قولنج! لا تكن مكتئبا هكذا. خذ براندي وصودا، هناك ما زالت أمامك فرصة! أنا آسف لا أستطيع أن ألزمك، لكن لمَ لا تبذل محاولة مع اللابيه الذي يشكو دائما من كبده وحالته الهضمية؟ مسيو لابيه، ألا تعمل معروفا للدكتور قولنج، ألا ترى كم هو متلهف لإلقاء نظرة على لسانك؟"
استمر لابيه في قراءة"جورنال دي ديبا" في صمت.
"لا تريد! وماذا عن روبرت؟ بدوت متجهما بما يكفي أثناء الغداء. لمَ لا تري لسانك للسويدي؟ أنا متأكد أنك مصاب بالقولنج! ألا تعمل معروفا للدكتور؟ لا؟ حسنا، دكتور قولنج، أنت ما لك حظ. لكني سأريك لساني، لأجعلك في مزاج أحسن، ألقِ نظرة جيدة عليه".
أخرج لسانه نحوي مصحوبا بتكشيرة شيطانية. بدا مثل واحدة من غارغولات( 6) نوتر دام.
وقفت وفحصت لسانه باهتمام.
وبعد برهة صمت قلت بوقار: "لك لسان قذر جدا! لسان قذر جدا! استدار مباشرة ليتفحص لسانه في المرآة – اللسان البشع المشمع لمدخن مدمن. تناولت يده وتلمست نبضه، مضطربا بسرعة حمى بفعل زجاجة شمبانيا وثلاث براندي مع الصودا.
قلت: "نبضك سريع جدا".
وضعت يدي على جبينه المائل.
"أي صداع؟"
"لا".
"سيكون معك حين تصحو غدا صباحا، بلا ريب".
رمى اللابيه صحيفته "جورنال دي ديبا".
قلت بصرامة: "فك أزرار بنطالك".
أطاع بطريقة آلية، سهل الانقياد كحمل.
قمت بنقرة سريعة على حجابه الحاجز، فانطلقت شهقة فُواق( 7).
وقلت وأنا أنظر بثبات في عينيه: "آه، شكرا لك، هذا يكفي".
رمى الكونت صحيفته"فيغارو".
رفع اللابيه يديه للسماء، فاغرا فمه.
وقف الڤيكونت أمامي بلا كلام.
أمرته: "زرر بنطالك، وخذ براندي وصودا، ستحتاجها". زرر بنطاله بآلية وتجرع البراندي والصودا التي ناولته إياها.
وقلت وأنا أرفع كأسي إلى شفتي: "في صحتك، سيدي الفيكونت!"
مسح العرق عن جبهته واستدار مرة ثانية لينظر إلى لسانه في المرآة. بذل جهدا يائسا لكي يضحك، لكنه لم يفلح.
"هل تريد أن تقول، هل تظن، هل تريد أن تقول..".
"لا أريد أن أقول أي شيء، وأنا لم أقل أي شيء، أنا لست طبيبك".
وغمغم: "لكن ماذا علي أن أفعل؟"
"عليك أن تذهب إلى السرير، بأسرع ما يمكن، أو أنك ستذهب محمولا إلى هناك". توجهت إلى رف الموقد وقرعت الجرس.
وقلت للجندي: "خذ الفيكونت إلى غرفته، وقل لوصيفه أن يضعه في السرير حالا".
استند الفيكونت بتثاقل إلى ذراع الجندي ومضى إلى الباب مترنحا.
غدوت راكبا وحدي في جولة جميلة في صباح اليوم التالي، وكانت القبرة محلقة في السماء تغني أنشودتها الصباحية للشمس.
وقلت للقبرة: "لقد انتقمت لمقتل إخوتك، وسننظر في أمر السنونوات في ما بعد".
وبينما كنت جالسا في غرفتي أتناول الفطور مع ليو، قرع الباب ودخل رجل قصير القامة خائف النظر وحياني بتهذيب رفيع. إنه طبيب القرية، وقال إنه جاء ليؤدي واجب الاحترام لزميله الباريس. لقد أطنب في مدحي، فرجوته أن يجلس ويأخذ سيجارة. أطلعني على بعض الحالات الهامة التي واجهته مؤخرا، ثم بدأت المحادثة تفتر فوقف ليغادر.
قال الطبيب: "بالمناسبة، أرسل الفيكونت موريس في طلبي ليلة البارحة، وقد كنت في زيارته أيضا قبل قليل".
قلت إني آسف أن أسمع أن يكون الفيكونت متوعكا، وأرجو ألا تكون حالة خطرة، وقد سرني أن أراه البارحة على العشاء في صحة ممتازة ومزاج رائق.
قال الطبيب: "لا أدري، الحالة غامضة نوعا ما. أظن أن من الأسلم إرجاء أي رأي محدد".
"أنت رجل حكيم، يا زميلي العزيز، وطبعا أوصيته بملازمة السرير؟"
"طبعا. من سوء الحظ أن الفيكونت كان عليه أن يغادر إلى باريس اليوم، لكن ذلك خارج الموضوع طبعا".
"طبعا. هل هو في حالة رائقة؟"
"نعم، إلى حد ما".
"بقدر ما هو متوقع منه، على ما أظن؟"
"لا أخفي عنك أني قدرت في بادئ الأمر أنه اضطراب معدي بسيط، لكنه استيقظ ومعه صداع شديد، وهو الآن يشكو من فواق متواصل. يبدو تعيسا، وهو مقتنع أنه مصاب بالقولنج. أعترف أني لم أشهد حالة قولنج من قبل أبدا، أردت أن أعطيه جرعة من زيت الخروع، له لسان قذر بشكل مقرف، لكن إذا كان القولنج شبيها بالتهاب الزائدة، فالأفضل في تقديري أن أحذر من زيت الخروع. ما رأيك؟ إنه يتلمس نبضه طوال الوقت، حين لا ينظر إلى لسانه. وغريب أن أقول إنه يشعر بجوع شديد، وبدا عنيفا حين لم أسمح له بتناول الفطور".
"أنت مصيب تماما، والأفضل أن تكون صارما لتبقى في الجانب السليم، ليس له إلا الماء خلال الساعات الثماني والأربعين التالية".
"هكذا تماما".
"ليس لي أن أعطيك أي نصيحة، فمن الواضح أنك تعرف شغلك، لكني لا أشاطرك التردد في إعطائه زيت الخروع، ولا يصلح التقليل منه، إن ثلاث ملاعق طعام ستكون جيدة بما يكفي".
"أتريد أن تقول حقا ثلاث ملاعق طعام؟"
"نعم، على الأقل، وفوق ذلك لا طعام بتاتا، بل الماء فقط".
"هكذا تماما".
لقد أحببت طبيب القرية كثيرا جدًّا، وافترقنا صديقين حميمين.
أخذتني المركيزة بعد الظهر لأقدم احترامي للمركيزة دويريير. كانت جولة جميلة بالعربة خلال ممرات ظليلة مفعمة بتغريد الطير وطنين الحشرات. شعرت المركيزة بالسأم من مضايقتي، لكنها كانت في مزاج ممتاز، ولم يبدُ عليها أقل قلق لمرض ابن عمها المفاجئ. والمركيزة كانت تواصل حياتها بشكل رائع، كما قالت، لكنها أصيبت بوعكة فظيعة قبل أسبوع بسبب اختفاء لولو المفاجئ، وأهل البيت جميعا ظلوا طوال الليل على أرجلهم بحثا عنه. لم تغمض المركيزة عينيها، وظلت طريحة في سريرها حين ظهر لولو بعد الظهر بأذن مشقوقة إلى شطرين وعين تكاد تخرج من محجرها. وقد أبرقت سيدته في الحال إلى الطبيب البيطري في تور، وصار لولو على ما يرام من جديد. وقد قدمت المركيزة واحدنا للآخر، لولو وأنا، كلينا بشكل رسمي. هل رأيتُ من قبل مثل هذا الكلب الجميل؟ لا، أبدا.
لماذا نخر لولو علي لائما: "أنت يا من تدعي بأنك محب جدًّا للكلاب، ليس لك أن تقول إنك لا تعرفني؟ ألا تتذكر يوم أخرجتني من حانوت الكلاب الرهيب ذاك..".
ومن حرصي على تغيير الحديث، دعوت لولو أن يتشمم يدي. مشى قليلا وراح يتشمم باهتمام كل إصبع بدورها.
وراح يشم بلهفة: "نعم، بإمكاني طبعا أن أشم رائحتك المميزة ذاتها بوضوح تام. وأنا أتذكرها بصورة جيدة منذ أن شممتها آخر مرة في حانوت الكلاب؛ وفي الواقع، أنا أحب رائحتك إلى حد ما... آه! أقسم بسان روكو، القديس الراعي لجميع الكلاب، إني أشم رائحة عظمة! أين العظمة؟ لمَ لم تعطني إياها؟ هؤلاء الناس السخفاء لا يعطونني أبدا أي عظمة، يتصورون أنها مضرة لكلب صغير، أليسوا حمقى! لمن أعطيت العظمة؟" ثم قفز بوثبة واحدة إلى حضنين وهو يشم باهتياج،"حسنا، ليس لي أبدا! أهو كلب آخر! ورأس كلب فقط! كلب كبير! كلب ضخم، يسيل اللعاب من زاوية شدقه! أيمكن أن يكون سان بيرنار! أنا كلب صغير وأعاني من الربو إلى حد ما، لكن قلبي في موضعه السليم، لست خائفا، وخير لك أن تخبر هذا الفيل الكبير الخاص بك أن يداري شأنه ذاته ولا يقترب مني أو من سيدتي، وإلا فسآكله حيا!" كان يشم بازدراء، بسكويت سمك الرنكة! هذا ما تناولته في العشاء ليلة أمس، يا لك من متوحش سوقي، إنها رائحة تلك الكعكات الصلبة المقرفة التي كانوا يرغمونني على تناولها في حانوت الكلاب، وهي تشعرني بالمرض تماما! لا بسكويت بالرنكة من أجلي، شكرا لك! أفضل بسكويت ألبير وجوز الزنجبيل أو شطيرة كبيرة من كعك اللوز على المائدة. أما بسكويت الرنكة!" ودب عائدا إلى حضن سيدته بأقصى سرعة سمحت له بها ساقاه الصغيرتان المكتنزتان.
قالت المركيزة اللطيفة: "عد إلينا قبل أن ترجع إلى باريس". ونخر لولو: "نعم، عد إلينا، فأنت بعد كل شيء لست من النوع السيئ". وأشار لي لولو وأنا أقف: "غدا سيكون القمر بدرا، أشعر بكثير من الضجر ولا بأس بقليل من المرح". وغمزني بمكر: "هل صادف أن علمت بوجود أي من إناث البج الصغيرات في الجوار؟ لا تخبر سيدتي، فهي لا تدرك شيئا من هذا النوع من الأمر... أقول، لا يهم الحجم، فأي حجم سييكون مقبولا إذا ساءت الأمور!"
نعم، كان لولو محقا، فقد كان القمر بدرا. وأنا لا أحب القمر. فقد انتزع هذا الغريب الغامض من عيني كثيرا من النوم وهمس في أذني بكثير من الأحلام. وما من غموض لدى الشمس، هذا الإله الوهاج في النهار والذي يجلب الحياة والضياء للعالم المظلم ولا يزال يتطلع إلينا من عل بعينه الساطعة بعد زمن طويل من زوال جميع الآلهة الآخرين من أولئك القابعين على ضفاف النيل، إلى أولئك على الأولمب وحتى أولئك في ڤالهالا( 8) وتلاشيهم في الظلام. لكن لا أحد يعرف أي شيء عن القمر( 9)، هذا الهائم الليلي الشاحب بين النجوم، الذي يواصل التحديق فينا من بعيد بعينيه اليقظتين المتألقتين ببرود وابتسامته الساخرة.
ولم يكن الكونت ليشغله القمر، بمقدار ما يتاح له أن يجلس بسلام في غرفة التدخين ما بعد العشاء مع سيجاره وصحيفته الـ"فيجارو". أما الكونتيسة فكانت تحب القمر. تحب نوره الخفيف الغامض وتحب أحلامه التي تسكنها. وهي تحب أن تستلقي في الزورق صامتة تتطلع إلى النجوم وأنا أجدف ببطء عبر البحيرة المتلألئة. كانت تحب أن تطوف تحت أشجار الليمون المعمرة في الحديقة وهي مغمورة تارة بالضياء الفضي، وطورا تغشيها العتمة بعمق إلى حد أنها تلوذ متمسكة بذراعي لتجد الطريق. كانت تحب أن تجلس على المقعد المنعزل وتحدق بعينيها الواسعتين في الليل الساكن. وكانت تتكلم بين حين وآخر، لكن ليس غالبا، وكنت أحب صمتها بقدر ما أحب كلماتها تماما.
"لمَ لا تحب القمر؟"
"لا أدري. لعلي أخاف منه".
"وممَّ تخاف؟"
"لا أدري. إنه منير إلى حد أن بإمكاني أن أرى عينيك كنجمتين مشعتين، ومع ذلك فهو معتم إلى درجة أخاف فيها أن أفقد طريقي. إني غريب في هذا العالم من الأحلام".
"أعطني يدك وسأريك الطريق. كنت أظن أن يدك قوية، لماذا ترتعد هكذا؟ نعم، أنت محق، إنه مجرد حلم، لا تتكلم وإلا فإنه سيطير بعيدا! أنصت! هل تسمع، إنه العندليب.
"لا، إنه غرِّيد( 10) الحديقة".
"أنا متأكدة أنه العندليب، لا تتكلم! أنصت! أنصت!"
وغنت جولييت بصوتها الحنون، متهفهفا كنسيم الليل بين الأوراق:
"لا، لا، هذا لم يكن الصباح،
وهذه لم تكن القبرة،
هذه الأغاريد الرقراقة بما يذهل القلب
إنه العندليب
رسول الحب".
"لا تتكلم! لا تتكلم!
ونعبت بومة بصوتها المشؤوم من الشجرة التي فوق رأسينا. طفرت بصيحة خوف. وسرنا عائدين بصمت.
وتركتني الكونتيسة في القاعة وهي تقول: "ليلة طيبة. غدا يكون القمر بدرا. إلى الغد".
نام ليو في غرفتي، وكان سرا كبيرا وشعر كلانا بالذنب لذلك.
وسألني ليو ونحن نصعد الدرج متسللين خلسة: "أين كنت ولماذا تبدو شاحبا هكذا؟ الأنوار كلها في القلعة مطفأة وجميع الكلاب في القرية صامتة. لا بد أن الوقت متأخر جدا".
"كنت بعيدا جدًّا في عالم غريب حافل بالغموض والأحلام. وكنت على وشك أن أضل طريقي".
"كاد النعاس يغلبني تماما لأنام في وجاري حين أيقظتني البومة في الوقت المناسب لأتسلل إلى داخل القاعة حين أتيت".
"وهي أيقظتني كذلك في الوقت المناسب تماما، عزيزي ليو، هل تحب البومة؟"
أجاب ليو: "لا، أنا أفضل التدرج الصغير، ولقد أكلت واحدا قبل قليل، رأيته يدرج في ضوء القمر تحت أنفي. أعرف أن هذا ضد القانون، لكني لم أستطع مقاومة الإغراء. وأنت لن تسلمني إلى حارس الطرائد، أليس كذلك؟"
"لا، يا صديقي، وأنت لن تفشي لكبير الخدم أننا رجعنا إلى البيت متأخرين جدا".
"طبعا، لا".
"ليو، هل أنت آسف لأنك سرقت ذلك التدرج الصغير؟"
"أحاول أن أكون آسفا".
وقلت: "لكن ذلك ليس سهلا".
"لا"، غمغم ليو وهو يلعق شفتيه".
"أنت لص، يا ليو، وأنت لست اللص الوحيد هنا، وأنت كلب حراسة سيئ! أنت هنا لتبقي اللصوص بعيدين، فلماذا لم توقظ سيدك فورا بصوتك القوي ذاك بدلا من الجلوس هنا تنظر إلي بهاتين العينين الحنونتين؟"
"لا أتمالك نفسي عن ذلك، أنا أحبك".
"ليو، يا صديقي، إنها غلطة ذلك الحارس الليلي النعسان في عليائه هناك في السماء! لماذا لا يوجه مشكاة عين الثور نحو كل زاوية معتمة في الحديقة حيث يوجد مقعد تحت شجرة الليمون بدلا من أن يسدل قبعته الليلية من السحب على رأسه الأصلع الهرم فيغلبه النعاس وينام، متخليا عن شغله كحارس ليلي لصديقته البومة؟ أو أنه فقط يتظاهر بالنوم ويستمر في مراقبتنا طوال الوقت من طرف عينه الشريرة، الآثم العجوز الماكر، دون جوان العجوز المقعد، مختالا بين النجوم مثل مشَّاء عجوز في البولڤار، مرهقا نفسه إلى حد بعيد بالمغازلة لكنه لا يزال يستمتع بمراقبة الآخرين وهم يخادعون أنفسهم".
وقال ليو: "بعض الناس يزعمون أن القمر صبية جميلة".
"لا تصدق ذلك، يا صديقي! القمر عانس هرمة ذاوية تتجسس من بعيد بعينين خائنتين على المأساة الخالدة للحب الفاني".
"القمر شبح"، قال ليو.
"شبح؟ من قال لك ذلك؟"
"أحد أجدادي سمع ذلك منذ أجيال مضت في طريق( 11) سان بيرنار من دب عجوز كان قد سمعها من أتا ترول( 12)، وقد سمعها من الدب العظيم ذاته الذي يحكم جميع الدببة. والسبب، إنهم كلهم خائفون من القمر هناك في أعالي السماء. ولا عجب أننا، نحن الكلاب، نخاف منه وننبح عليه، حتى إن الشعرى اليمانية( 13) المتألقة، نجم الكلب الذي يحكم الكلاب جميعا، تنقلب شاحبة حين يخرج من قبره ويرفع وجهه المشؤوم خارج الظلام. وهنا في الأسفل على أرضنا، هل تظن أنك الوحيد الذي لا يستطيع النوم حين يكون القمر في الأعلى! السبب، جميع الحيوانات الضارية وكل ما يزحف ويدب في الغابات والحقول تغادر ملاجئها وتهيم على وجهها مخافة أشعته المؤذية. في الواقع، لا بد أنك كنت تتطلع بشكل مؤثر إلى شخص ما في الحديقة الليلة أو من المؤكد أنك رأيت أن هناك شبحا كان يراقبك طوال الوقت. وهو يحب أن يزحف تحت أشجار الليمون في الحديقة القديمة، يتردد إلى أنقاض قلعة أو كنيسة أو يجوس في مقبرة عتيقة وينحني على كل قبر ليقرأ اسم الميت. إنه يحب أن يجلس ويحدق طوال ساعات بعينين فولاذية رمادية على حقول الثلج المقفرة التي تغطي الأرض الموات مثل كفن، أو يختلس النظر من خلال نافذة غرفة نوم ليروع النائم بحلم مشؤوم".
"يكفي، ليو، فلا تدعنا نتحدث عن القمر بأي أمر آخر، أو أننا لن ننام غمضة هذه الليلة، فهو يجعلني أشعر بأني من الزواحف! هات قبلة ليلة طيبة، يا صديقي، ودعنا نأوي للسرير".
وقال لو: "لكنك ستغلق مصراعي النافذة، أليس كذلك؟"
"نعم، أغلقهما دائما، حين يكون هناك قمر".
كنا نتناول فطورنا في صباح اليوم التالي، حين أخبرت ليو أن علي أن أرجع إلى باريس حالا، فهذا أسلم، لأن القمر بدر تمام اليوم وأنا في السادسة والثلاثين وسيدته في الخامسة والعشرين – أم هي في التاسعة والعشرين؟ ورآني ليو أحزم حقيبتي وكل كلب يدرك ما يعني ذلك. نزلت متوجها إلى مسيو لابيه وأخبرته بالكذبة المعتادة بأني دعيت لاستشارة مهمة وعلي أن أغادر القلعة في قطار الصباح. قال إنه آسف جدا. وقال الكونت أيضا إنه آسف، وهو يمتطي صهوة جواده ليقوم بجولته الصباحية، وكان أمرا طبيعيا ألا يزعج الكونتيسة في مثل تلك الساعة المبكرة. وكان علي أن أعود في أقرب وقت.
في طريقي إلى المحطة قابلت صديقي طبيب القرية عائدا في عربته الصغيرة من زيارته الصباحية للفيكونت. كان المريض يشعر بحالة ضعف شديد ويصرخ طالبا الطعام، لكن الطبيب كان حازما في رفضه أن يتحمل أي مسؤولية تسمح بأي شيء غير الماء. كانت الكمادة على المعدة وكيس الثلج على الرأس يلازمانه طوال الليل وكان لهما تأثير كبير سيئ على نوم المريض. هل لي أن أقترح أي شيء؟
لا، شعرت بالتأكيد أنه في أيد ممتازة. ربما، إذا استمرت الحالة مستقرة، فعليه أن يجرب التغيير فيضع كيس الثلج على المعدة والكمادة على الرأس.
وإذا لم تحدث أي مضاعفات، ما هي المدة المتوقعة التي ينبغي على المريض أن يبقى خلالها في السرير؟
"أسبوع آخر في أقل تقدير، حتى يختفي القمر".
كان اليوم طويلا. سرني أن أعود إلى شارع ڤيليير. وأويت مباشرة إلى السرير. لم أشعر بأن حالي جيدة تماما، وتساءلت إن لم يكن لدي شيء من الحمى، لكن الأطباء لا يدركون إن كان لديهم حمى أو لا. وسرعان ما استسلمت للنوم، وأنا أشعر بإعياء شديد. لا أدري كم من الوقت استغرقت في نومي حين أدركت فجأة أني لم أكن وحدي في الغرفة. فتحت عيني فرأيت عند النافذة وجها شاحبا يحدق إلي بعينين بيضاوين غائرتين – فلأول مرة كنت قد نسيت أن أغلق مصراعي النافذة. وتسلل بصمت وبطء إلى داخل الغرفة، ومد ذراعا بيضاء طويلة كمجس أخطبوط ضخم، عبر أرض الغرفة باتجاه السرير.
أطلق ضحكة خافتة بفم أدرد وشفتين شاحبتين: "إذن أنت تريد أن تعود إلى القصر الريفي أخيرا! كانت البارحة تحت أشجار الليمون لطيفة وحميمة، أليس كذلك، معي أنا الرجل الأمثل وجوقة العنادل تغرد حولكما؟ عنادل في أغسطس! لا بد أنكما كنتما فعلا في عالم بعيد جدا، أنتما الاثنان! والآن تود أن ترجع إلى هناك الليلة، أليس كذلك؟ حسنا، البس ثيابك وتسلق على شعاعي الأبيض هذا وأنت مهذب بما يكفي أن تدعو ذراع أخطبوط وأنا سأضعك تحت أشجار الليمون في أقل من دقيقة، فضوئي يمضي بسرعة أحلامك".
"أنا لا أحلم أبدا، وأنا مستيقظ تماما ولا أريد أن أرجع، يا شبح مفيستو!"(14 )
وهكذا أنت تحلم بأنك مستيقظ، حقا! وأنت لم تستنفد بعد معجمك من استعمال إساءة حمقاء! شبح مفيستو! ولقد دعوتني من قبل مشّاء عجوزا، دون جوان، وعانس هرمة تتجسس! نعم، لقد تجسست عليك البارحة في الحديقة وبودي أن أعلم أي منا، نحن الاثنين، جعل من نفسه دون جوان، ما لم ترد مني أن أدعوك روميو؟ بحق جوبيتر، ألا تبدو شبيها به! اسمك الصحيح هو"الأحمق الأعمى"، الأحمق الذي لا يرى حتى ما استطاع ذلك الوحش من كلابك أن يراه، وهو أني لا عمر لي، لا جنس، لا حياة، وأني مجرد شبح".
"شبح ماذا؟"
"شبح عالم ميت. حذار من الأشباح! خير لك أن تضع حدا لإهاناتك، وإلا فسأصيبك بالعمى بومضة من أشعتي اللطيفة وهي أقدر على إتلاف العين من السهم الذهبي لإله الشمس ذاته. إنها كلمتي الأخيرة لك، أيها الحالم المجدِّف! الفجر أخذ يقترب من الأفق الشرقي، وعلي أن أعود إلى قبري وإلا فلن أرى طريقي. أنا هرم ومتعب. أتظن أنه عمل سهل أن تطوف من العشاء حتى الصباح عندما يكون كل شيء مستريحا؟ أنت دعوتني مشؤوما وكئيبا، فهل تظن أن من السهولة أن تكون مبتهجا حين ينبغي عليك أن تعيش في قبر، إن كنت تسمي تلك حياة، كما يفعل بعض الفانين منكم؟ وأنت ذاتك ستذهب إلى قبرك ذات يوم، وكذلك الأرض التي تقف عليها الآن، محكومة بالموت مثلك".
تطلعت إلى الشبح ولأول مرة رأيت كم يبدو هرما ومرهقا، وكنت على وشك أن أشعر بالأسف لحاله لولا أن وعيده أن يصيبني بالعمى أثار غضبي من جديد.
وصرخت: "انقلع من هنا، يا حفار القبور العجوز الكئيب، لا فرصة لك بشغل هنا، فأنا مفعم بالحياة!"
لكنه أطلق ضحكة خافتة، وهو يزحف على السرير واضعا ذراعه البيضاء الطويلة على كتفي: "أتعرف، أتعرف لماذ وضعت ذلك الفيكونت الأحمق في السرير وكيس الثلج على معدته؟ لتثأر للسنونوات؟ أنا أعرف أكثر. أنت عطيل، دجال. كان ذلك من أجل أن تمنعه من التنزه في ضوء القمر مع الـ...".
اسحب مخلبك ذاك، أيها العنكبوت العجوز السام، وإلا سأقفز خارج السرير وأطبق عليك".
لقد بذلت جهدا هائلا لأحرك أعضائي النائمة، وصحوت وأنا أتفصد عرقا.
كان القمر مفعما بنور فضي رقيق. فجأة زالت الغشاوة عن عيني المسحورتين، وخلال النافذة المفتوحة رأيت بدر التمام، جميلا ورائقا، ينظر إلي من علياء سماء صافية.
أيتها الإلهة العذراء لونا! أفي وسعك أن تسمعيني عبر سكينة الليل؟ تبدين معتدلة جدا، لكن حزينة جدا، فهل في إمكانك أن تفهمي الحزن؟ هل في وسعك أن تغفري؟ هل باستطاعتك أن تشفي الجراح ببلسم نورك الصافي؟ هل بوسعك أن تعلمي النسيان؟ تعالي، يا أختي العذبة، واجلسي بجانبي، فأنا مرهق جدا! ضعي يدك الباردة على جبهتي الملتهبة لتدفعي بأفكاري العاصفة إلى الطمأنينة! اهمسي في أذني ما علي أن أفعل وإلى أين ينبغي أن أذهب لكي أنسى أغنية الساحرات!
توجهت إلى النافذة وتوقفت طويلا أشاهد ملكة الليل وهي تتهادى في طريقها بين النجوم. كنت أعرفها جيدا خلال عديد من ليالي الأرق وكنت أناديها، واحدة فواحدة، بأسمائها: الشعرى اليمانية المتوهجة، التوأمان النيران- رأس أفلون ورأس هرقل اللذان كان يحبهما البحرة القدماء، النسر الرامح، الدبران، العيُّوق، النسر الواقع، وذات الكرسي! ما هو اسم ذلك النجم المتألق فوق رأسي تماما وهو يومئ لي بضوئه الثابت الرقيق؟ أعرفه جيدا. وكم من الليالي وجهت قاربي عبر البحار الهائجة، مستهديا بضوئه، وكم من الأيام دلني على الطريق عبر الغابات والحقول الثلجية في بلاد مسقط رأسي- النجم القطبي، نجم القطب!
هذه هي الطريق، اتبع ضوئي وستكون في أمان!
---------------------------------
(1 ) de Rechelieu Armand Jean du Plessi(1585-1642): كاردينال ورئيس وزراء فرنسا في عهد لويس الثالث عشر.
(2 ) في النص: Ultima Thule : عبارة لاتينية تعني "أقصى الشمال". (م)
(3 ) رأيت أن أضيف كلمة (مشفى) هنا للإيضاح. (م)
(4 ) Vicomte : من ألقاب النبلاء.
(5 ) Gaston Alexandre Auguste, Marquis de Galliffet (1830- 1909) : وزير حربية فرنسي وهو الجنرال الذي قمع كومونة باريس في 1871. (م)
( 6) Gargoyles: ميزاب ناتئ من جانب السطح على صورة إنسان بشع الوجه. (م)
( 7) Hiccup: شهيق تشنجي مفاجئ تسميه العامة "حازوقة" وبالفصحى: فواق.
( 8) Walhalla, Valhalla: مثوى أرواح الشهداء في الأساطير السكندينافية. (م)
( 9) القمر مؤنث في الأساطير واللغات الغربية، ويمكن استعمال عبارة (ربة القمر) لمن يؤثر المحافظة على أنوثته. (م)
( 10) Warbler: الشادي أو الهازجة من طيور البساتين المغردة (المورد).
( 11) St. Bernard Pass: من أعلى الطرق عبر الألب بين سويسرا وإيطاليا. (ج)
( 12) Atta Troll: حلم ليلة صيف، ملحمة رومنسية ساخرة كتبها الشاعر الألماني هـ. هاينه. (ج)
( 13) Sirius: الشعرى اليمانية. (المورد)
( 14) Mephisto, Mephistopheles: الشيطان في أسطورة فاوست في مسرحيتي: مارلو وجوته.
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles