Arabic    

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 21 - ميدان اسبانيا


2019-07-01 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قصة سان ميشيل

 

 

 

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (21) 
XXII
ميدان اسبانيا
 
كانت مريضتي الأولى هي السيدة پي، زوجة المصرفي الإنجليزي الشهير في روما. كانت قد أمضت نحو ثلاث سنين وهي مستلقية على ظهرها بعد أن سقطت عن جوادها وهي تغري الكلاب بالمطاردة في الريف. وقد أشرف على علاجها جميع الأطباء الأجانب في روما، كل بدوره، ومنذ شهر استشارت حتى شاركو الذي أعطاها اسمي، وأنا لم أكن أعلم أنه كان مطلعا على أني مقيم في روما. وحالما عاينتها، أدركت أن نبوءة السفير السويدي كانت في طريقها إلى التحقق. وعرفت أن إلهة الحظ فورتونا كانت تقف إلى جانبي من جديد، ولا يراها أحد سواي. كانت حالة سعيدة لبداية عملي في روما، فقد كانت المريضة أشهر سيدة في الجاليات الأجنبية. ولقد أدركت بوضوح أنها الصدمة ولا من أذى دائم في عمودها الفقري أدى إلى شلل أطرافها، وأن الإيمان والتدليك سيضعانها على ساقيها في غضون شهرين. وقلت لها ما لم يتجرأ أحد إطلاقا أن يخبرها به من قبل، وكنت وفيا لكلمتي. لقد أخذت تتحسن قبل أن أبدأ التدليك. وفي أقل من ثلاثة أشهر كانت تنزل من عربتها في فيللا بورجيس، على مرأى من نصف مجتمع روما المتأنق، وتتمشى بين الأشجار متكئة على عكازها. كانوا ينظرون إلى هذه الحالة كإنجاز أعجوبة، وهي في الواقع حالة سهلة وبسيطة، يتطلب إيمان المريض واصطبار الطبيب. لقد فتحت أبواب جميع البيوت في الجالية البريطانية المتعددة في روما والعديد من البيوت الإيطالية كذلك. وفي السنة التالية أصبحت طبيب السفارة البريطانية وجاءتني أعداد من المرضى الإنجليز أكثر من جميع الأطباء الاثني عشر المولودين في بريطانيا- وأدع لك أن تتخيل كيف كانت مشاعرهم نحوي. وتولى صديق لي من مدرسة الفنون الجميلة أمر تواصلي مع الجالية الفرنسية. والكونت جيوسيب بريمولي، صديق العمر، تغنى بالثناء علي في مجتمع روما، وصدى باهت من نجاحي في شارع ڤيليير فعل الباقي ليملأ غرفة استشاراتي بالمرضى. والأستاذ وير- ميتشيل، اختصاصي الأعصاب المتميز من أميركا، والذي كان لي معه بعض علاقات سابقة  في أيامي الباريسية، استمر في تزويدي بما يفيض عنه من أصحاب الملايين المحطمين وزوجاتهم من ذوات الأعصاب المتوترة. وبناتهم بعاطفتهن الفياضة قد استثمرن غرورهن في أول أمير روماني أمكنهن الحصول عليه، بدأن أيضا يرسلن في استدعائي إلى قصورهن القديمة الكئيبة ليستشرنني في مختلف الأعراض للتخلص من الأوهام. وقد تبعتهن البقية من الجمهور الأميركي الواسع كقطيع من الغنم. وسرعان ما شاطر الأطباء الأميركيون الاثنا عشر زملاءهم البريطانيين مصيرهم المحتوم. والمئات من عارضات الأزياء على درجات ثالوث الجبال الأقدس  تحت نافذتي وهن في أزيائهن المزركشة من الجبال حول مونتيكاسينو كن جميعا من مرضاي. وكان بائعو الأزهار في ميدان اسبانيا يلقون باقات صغيرة من البنفسج في عربتي، وأنا أمر بهم عوضا عن مزيج السعال لبعض أطفالهم الرضع الذين لا يحصى عددهم. إن عيادتي في حي التراستِڤير نشرت شهرتي في جميع الأحياء الفقيرة في روما، وكنت أنام كملك من المساء حتى الصباح ما لم يقوموا بطلبي وهذا ما يحدث غالبا، ولم أكن أعرف ما يعني التعب في تلك الأيام. ولكي أكسب الوقت وأرضي حبي للجياد، رحت حالا أقود في روما بالسرعة القصوى عربة فكتوريا أنيقة حمراء العجلات يجرها حصانان من أفخم الخيول الهنغارية الرائعة، وتابيو الوفي، كلبي اللابي، يجلس إلى جانبي. في مقدوري الآن أن أرى أن في ذلك شيئا من الاستعراض، وقد يعد خطأ بمثابة دعاية لو لم أكن يومئذ قد تجاوزت الحاجة لأي دعاية. وعلى أية حال، لقد لطمت زملائي الأربعة والأربعين في العين على نحو خطير، ولا شك في ذلك. وكان بعضهم يقود في عربات قديمة كئيبة المظهر من عهد بيو نونو، بكل المظاهر وكأنهم عازمون أن يكيفوها في لحظة إشعار كنعوش لمرضاهم الميتين. وكان آخرون يمشون على أقدامهم في مهماتهم الحزينة بسترات "الفراك"( 1) الطويلة وقبعاتهم المنكسة على جباههم وكأنهم في تفكير عميق حول من هو التالي الذي عليهم أن يحنطوه. وسرعان ما تعرفوا علي شخصيا أيضا، سواء كانوا يرغبون بذلك أو لا، وإذا صار مرضاهم على فراش الموت يطلبونني للاستشارة. ولقد حاولت جهدي أن أحافظ بدقة على آداب مهنتنا وأقول لمرضاهم بأنهم محظوظون فعلا لكونهم بين مثل هذه الأيدي الجيدة، ولم يكن ذلك سهلا دائما. كنا في الواقع بحارة محزونين، ومراكبنا محطمة من مختلف البلدان والبحار، رسونا في روما بعدة ضئيلة من المعرفة. وكان علينا أن نعيش في مكان ما، ولم يكن هناك بالتأكيد من سبب لماذا لا ينبغي لنا أن نعيش في روما ما دمنا لا نتدخل في شؤون حياة مرضانا.
وسرعان ما غدا من الصعب جدًّا على كل أجنبي في روما أن يموت دون أن يستدعوني للتأكد من حالته. لقد أصبحت للأجانب المشرفين على الموت كما هو البروفيسور المبجل باتشيللي لدى الرومان الميتين – الأمل الأخير، وهذا نادرا ما يتحقق. شخص آخر لم ينقطع عن الحضور في هذه المناسبات هو السنيور كورناتشيا مجهز الموتى لدى الجالية الأجنبية ومدير مقبرة البروتستنت بالقرب من ميناء سان باولو. من الواضح أنه مستعد للحضور بلا طلب، فقد كان حاضرا دائما في الوقت المناسب، ويبدو أن أنفه الكبير المعقوف يشم رائحة الموتى من مسافة كالنسر آكل الجيف. كان يتسكع في الممر، أنيق اللباس بسترة فراك طويلة وقبعة رسمية سوداء، بانتظار دوره بالدخول. وبدا أنه كان يكن لي حبا شديدا، ويحييني بمودة عميقة ملوحا بقبعته كلما قابلني في الشارع. وكان يعبر عن أسفه حينما كنت أول من يغادر روما في الربيع. وحين أعود في الخريف، يحييني دائما بيدين مبسوطتين ومودة: "عودة طيبة، سيدي الدكتور". وحدث شيء من سوء التفاهم بيننا في عيد الملاد الفائت لما أرسل لي اثنتي عشرة زجاجة من النبيذ مع آماله لقاء تعاوننا المثمر في الموسم القادم. وبدا أن عدم قدرتي على قبول هديته جرحته بعمق، قائلا إن أيًّا من زملائي لم يرفض قطّ منه تلك العلامة البسيطة من المشاركة الوجدانية. وسوء التفاهم المؤسف بعينه حدث بيني وبين اثنين من الصيدلانيين الأجانب. 
 
وحدث يوما أن فوجئت جدًّا بتلقي زيارة من الدكتور العجوز بلكينغتون الذي كانت لديه أسباب خاصة جدًّا لكراهيتي. قال إنه وزملاءه انتظروا طويلا وبلا جدوى زيارتي لهم كما تقضي بذلك  آداب السلوك غير المكتوبة. وبما أن الجبل لم يجئ لمحمد، فقد جاء محمد إلى الجبل. وليس بينه وبين محمد أي شيء مشترك إلا لحيته البيضاء الطويلة المبجلة، وهو يبدو كنبي دجال  وليس حقيقيا. وقال إنه جاء بصفته عميد الأطباء الأجانب المقيمين في روما يدعوني لأصبح عضوا في جمعيتهم التي شكلوها حديثا للحماية المتبادلة بهدف وضع حد للحرب الدائرة بينهم منذ أمد طويل. لقد أصبح جميع زملائه أعضاء ما عدا ذلك العجوز الليفي الدكتور كامبل الذي لا يقيم أحد منهم معه أي تفاهم كلامي. والمسألة الشائكة في الأجور المهنية تم إقرارها من قبل برضا كل شخص وباتفاق مشترك حدد الأجر الأدنى بعشرين فرنكا، والأجر الأعلى باختيار كل عضو وفق الظروف. ولا يتم تحنيط رجل امرأة أو طفل بأقل من خمسة آلاف فرنك. كان آسفا أن عليه أن يعلمني أن الجمعية تلقت عدة شكاوى من الإهمال الفظيع في تحصيل أجوري وحتى في عدم تحصيل أي أجر إطلاقا. وحتى يوم أمس، أفضى له السنيور كورناتشيا، متعهد الموتى، والدموع تكاد تطفر من عينيه أني قمت بتحنيط زوجة القسيس السويدي بمئة ليرة، وهذا أكبر خرق مؤسف بحق الوفاء لجميع زملائي. وكان يشعر بثقة أني سأتحقق من مصلحتي بأن أصبح عضوا في جمعيتهم من أجل الحماية المشتركة وسوف يسره أن يرحب بي بينهم في اجتماعهم التالي غدا.
أجبت بأني آسف لأني لا أستطيع أن أرى فائدة لي ولا لهم في أن أصبح عضوا، لكني أرغب على أية حال أن أناقش معهم الحد الأعلى للأجر وليس الحد الأدنى. أما في ما يتعلق بالحقن التي يدعونها تحنيط، فإن كلفتها لا تزيد عن خمسين فرنكا. وبإضافة خمسين أخرى لقاء ضياع الوقت، فالمبلغ الذي أخذته لتحنيط زوجة القسيس كان صحيحا. إني أعتزم أن أكسب من الأحياء، وليس من الموتى. أنا طبيب، ولست ضبعا.
ولدى سماع كلمة ضبع، نهض من مقعده مع رجاء بألا أزعج نفسي في حال رغبت باستشارته فهو غير موجود.
قلت إن هذا ضربة لي ولمرضاي معا، ولكنا سنحاول تدبير ذلك بدونه.
آسف أني فقدت أعصابي، وقلت له ذلك في لقائنا التالي، وهذه المرة في منزله في شارع كاترو فونتان. لقد أصيب الدكتور بلكينغتون المسكين بصدمة خفيفة بعد لقائنا بيوم فاستدعاني للإشراف عليه. قال لي إن الجمعية للحماية المشتركة انحلت، وهم جميعا مستعدون للعراك من جديد، وهو يشعر بأنه بين يدي أكثر اطمئنانا من أيديهم. ولحسن الحظ لم يكن في حالته ما يدعو إلى القلق، وبدا لي في الواقع أنه أكثر حيوية بعد الصدمة مما كان عليه من قبل. ولقد حاولت أن أرفع من معنوياته ما استطعت، وقلت أن ليس هناك ما يدعو إلى القلق وأني كنت دائما أعتقد أنه مر من قبل بعدة صدمات خفيفة. وفي الحال وقف على ساقيه، وهو أنشط من أي وقت مضى، وكان لا يزال متألقا عندما غادرت روما.
 
بعد ذلك بوقت قصير تعرفت إلى عدوه اللدود الدكتور كامبل، الذي كان يدعوه بالليفي العجوز. ومن انطباعي الأول في الحكم عليه تبين لي أنه كان مصيبا في تشخيصه هذه المرة. فأنا لم أرَ من قبل رجلا عجوزا أكثر منه همجية في مظهره، عينان ضاريتان محتقنتان بالدم وشفتان قاسيتان، وجه سكير متورد، وكله مغطى بالشعر مثل قرد، ولحية طويلة شعثاء. يقال إنه فوق الثمانين، وقد أخبرني الصيدلي الإنجليزي المتقاعد أنه كان يبدو تماما في المظهر ذاته يوم وصل إلى روما أول مرة قبل ثلاثين سنة. ما من أحد كان يعرف من أين جاء، لكن الإشاعة تقول إنه كان جراحا في الجيش الجنوبي في الحرب الأميركية. كانت الجراحة اختصاصه، وهو فعلا الجراح الوحيد بين الأطباء الأجانب، ولم يكن على علاقة ودية مع أي منهم. وفي يوم ما وجدته يقف بجانب عربتي يربت على تابيو.
"إني أحسدك على هذا الكلب"، قال بصوت خشن وفظاظة، "هل تحب القردة؟"
قلت إني أحب القردة.
قال إني الرجل المطلوب، ورجاني أن أجيء معه لألقي نظرة على قرده الذي يتقشر جلده وهو على وشك الموت لأنه قلب إبريقا من ماء يغلي.
صعدنا إلى شقته في أعلى بيت على ناصية ميدان مغنانيللي. رجاني أن أنتظر في الصالون وظهر بعد دقيقة حاملا قردا بين ذراعيه، وهو بابون ضخم كان كله ملفوفا بالضمادات.
"أخشى أن يكون في حالة سيئة جدا"، قال الدكتور العجوز بصوت مختلف جدا، وهو يربت برقة على وجه قرده الضعيف. "لا أدري ما سأفعل إذا مات، إنه صديقي الوحيد. لقد ربيته على الزجاجة منذ أن كان رضيعا، وقد ماتت أمه العزيزة حين وضعته. كانت كبيرة كالغوريلا، ولم تر أبدا عزيزة مثلها، كانت بشرية تماما. لا يهمني إطلاقا أن أفرم أولئك المخلوقات من زملائي إلى  قطع، وبالأحرى أني أحب ذلك، ولكن لم يعد لدي مزيد من الشجاعة أن أكسو جسمه الصغير المقرح، فهو يعاني من ذلك ألما فظيعا عندما أحاول أن أطهر جروحه حتى إني لا أطيق المزيد. وأنا متأكد أنك تحب الحيوانات، فهل تحاول إسعافه؟"
أزلنا العصابات المبتلة بالدم والقيح، وكان منظرا مثيرا للشفقة، كان جسمه كله جرحا واحدا فظيعا. هو يعرف أنك صديق وإلا فإنه لا يمكن أن يجلس هادئا كما يفعل، وهو لا يسمح لأي شخص غيري أن يلمسه. لأنه يعرف كل شيء، وله دماغ أكبر من جميع الدكاترة الأجانب في روما لو وضعتهم معا. وهو لم يأكل شيئا منذ أربعة أيام"، تابع الحديث بتعبير رقيق من عينيه المحتقنتين. "بيلي، يا بني، ألا ترضي أباك بتناول هذه التينة؟"
قلت أتمنى أن يكون لدينا موز، فلا أحب للقردة من الموز.
قال إنه سيرسل فورا برقية إلى لندن من أجل عنقود من الموز، مهما كلف الثمن. 
قلت إن المهم أن نحافظ على قوته. سكبنا قليلا من الحليب في فمه، لكنه لفظه فورا.
وتأوَّه صاحبه: "لا يستطيع أن يبتلع أي شيء، وأنا أدرك معنى ذلك، إنه يموت".
استعملنا بارتجال نوعا من أنبوب للتغذية، وفي هذه المرة احتفظ بالحليب واستدعى بهجة الدكتور العجوز.
واستمر بيلي في تحسن بطيء. كنت أراه كل يوم على مدى أسبوعين، وانتهى بي الأمر إلى أن أغدو صديقا له ولصاحبه. وبعد حين رأيته جالسا على كرسيه الهزاز المصنوع خصيصا على ترَّاسهم المشمس مقابل صاحبه، وزجاجة من الويسكي على الطاولة بينهما. كان الدكتور العجوز شديد الاعتقاد بالويسكي وفائدتها لليد قبل العملية. وإذا قدرنا عدد زجاجات الويسكي الفارغة في زاوية التراس، فلا بد أن يكون عمله الجراحي جديرا بالاعتبار. يا حسرة! كلاهما كان مدمنا على الشراب. وغالبا ما لمحت بيلي يسكب لنفسه قليلا من الويسكي والصودا من كأس صاحبه. وأخبرني الدكتور أن الويسكي كانت أفضل منشط ممكن للقردة، فقد أنقذت حياة أم بيلي المحبوبة بعد إصابتها بذات الرئة. وصادفتهما في إحدى الأمسيات على تراسهما، وهما في غاية السكر. كان بيلي يؤدي رقصة زنجي على الطاولة حول زجاجة الويسكي، وقد جلس الدكتور العجوز مستندا بظهره إلى كرسيه، مصفقا بيديه تحديدا للوقت، وهو يغني بصوته الأجش:  
"بيلي، يا بني، بيلي يا بنا.. ي، بو.. نا... ي!" وهما لم يسمعاني ولم يريا أني جئت. حدقت برعب إلى الأسرة السعيدة. وقد صار وجه القرد الثمل آدميا تماما، وكان وجه السكير العجوز مثل وجه غوريلا ضخمة. إن تشابه العائلة لا تخطئه العين.
"بيلي، يا بني، بيلي يا بنا.. ي، بو.. نا... ي!" 
أكان ذلك ممكنا؟ لا، لم يكن ذلك ممكنا طبعا، لكنه جعلني أشعر بالرعب...
 
وبعد نحو شهرين ألفيت الدكتور العجوز واقفا من جديد بجانب عربتي يتحدث إلى تابيو. لا بأس، والشكر لله، إن بيلي على ما يرام، لكن زوجته هي المريضة اليوم، فهل أتفضل عليه بإلقاء نظرة عليها؟
صعدنا مرة أخرى إلى شقته، ولم يكن لدي حتى الآن أي فكرة أنه يشارك فيها أحدا غير بيلي. وعلى السرير كانت فتاة صغيرة، طفلة تقريبا، عيناها مغلقتان، ومن الواضح أنها فاقدة الوعي.
"ظننت أنك قلت إنها زوجتك المريضة، فهل هذه ابنتك؟"
لا، إنها زوجته الرابعة، زوجته الأولى انتحرت، الثانية والثالة ماتتا بذات الرئة، وهو يشعر أن هذه ماضية في الطريق ذاته.
كان انطباعي الأول أنه مصيب تماما. كانت ذات الرئة لديها مضاعفة، لكن انصبابا هائلا من غشاء الجنب الأيسر كان من الواضح أنه غاب عن فطنته. أعطيتها حقنتين تحت الجلد من الكافور والإتير بمحقنته القذرة، وطفقنا نفرك أعضاءها بقوة، ومن الواضح أنه كان قليل التأثير.
قلت: "حاول أن ترفعها، تكلم معها!"
انحنى على وجهها المشرق وزمجر في أذنها: 
"سالي، يا عزيزتي، تماسكي، كوني على ما يرام وإلا فإني سأتزوج من جديد!"
سحبت نفسا عميقا وفتحت عينيها بارتعاشة. 
في اليوم التالي، بزلنا لها سائل ذات الجنب، وقام الشباب بما تبقى، تحسنت ببطء، وكأنها غير راغبة بذلك. لقد اشتبهت بإصابة مزمنة في رئتيها وسرعان ما تمكنت من إيجادها بنجاح. كانت في مرحلة متقدمة من السل. كنت أراها كل يوم ولمدة أسبوعين، ولم أتمالك شعوري بالأسف الشديد  من أجلها. كان واضحا أنها في حالة رعب من الرجل العجوز ولا عجب في ذلك، لأنه كان فظا معها إلى حد فظيع، وربما كان ذلك بغير قصد منه. أخبرني أنها جاءت من فلوريدا. ولما جاء الخريف نصحته أن يعيدها إلى هناك وكلما أسرع كان أفضل، فهي لن تستطيع البقاء حية في شتاء روما. بدا أنه موافق، وسرعان ما تبين لي أن المشكلة الرئيسة ماذا سيفعل مع بيلي. وانتهينا إلى اقتراحي بأن أحتفظ بالقرد أثناء غيابه في ساحة داري الصغيرة تحت درجات ثالوث الجبال، وهي آهلة بمختلف الحيوانات. وعليه أن يعود خلال ثلاثة أشهر. لكنه لم يعد أبدا، ولا أدري ماذا جرى له، ولا أي شخص آخر. سمعت إشاعة بأنه قتل برصاصة في شجار في خمارة، لكن لا أعلم إن كان ذلك صحيحا. وغالبا ما تساءلت من كان هذا الرجل وإن كان طبيبا أم لم يكن إطلاقا كذلك. لقد رأيته مرة يبتر ذراعا بسرعة مذهلة، ولا بد أنه عرف شيئا ما عن التشريح لكن القليل جدًّا عن تطهير الجرح وتضميده، وكانت أدواته بدائية بما لا يصدق. وأخبرني الصيدلي الإنجليزي أنه كان يكتب الوصفة نفسها مخطئا بالإملاء ومقدار الجرعة. وباعتقادي الشخصي أنه لم يكن طبيبا أبدا ولكنه جزار سابق أو ربما عامل رسمي في عربة إسعاف وكان له سبب وجيه بأن يغادر بلاده ذاتها.
بقي بيلي معي في ميدان اسبانيا حتى الربيع لما أخذته إلى سان ميشيل حيث عانيت منه عذاب جهنم لقاء بقية حياته السعيدة. لقد عالجته من الإدمان على الكحول، وغدا قردا محترما تماما من عدة وجوه. وستسمعون عنه الكثير في ما بعد.
----------------------
( 1)  Frock coat الفراك: سترة رجالية سوداء تبلغ الركبتين. (المورد)
 
--------------------
 
هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar
 

      قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي                                        ترجمة:  علي كنعان الحلقة رقم (21)  XXII ميدان اسبانيا   كانت مريضتي الأولى هي السيدة پي، زوجة المصرفي الإنجليزي الشهير في روما. كانت قد أمضت نحو ثلاث سنين وهي مستلقية على ظهرها بعد أن سقطت عن جوادها وهي تغري الكلاب بالمطاردة في الريف. وقد أشرف على علاجها جميع الأطباء الأجانب في روما، كل بدوره، ومنذ شهر استشارت حتى شاركو الذي أعطاها اسمي، وأنا لم أكن أعلم أنه كان مطلعا على أني مقيم في روما. وحالما عاينتها، أدركت أن نبوءة السفير السويدي كانت في طريقها إلى التحقق. وعرفت أن إلهة الحظ فورتونا كانت تقف إلى جانبي من جديد، ولا يراها أحد سواي. كانت حالة سعيدة لبداية عملي في روما، فقد كانت المريضة أشهر سيدة في الجاليات الأجنبية. ولقد أدركت بوضوح أنها الصدمة ولا من أذى دائم في عمودها الفقري أدى إلى شلل أطرافها، وأن الإيمان والتدليك سيضعانها على ساقيها في غضون شهرين. وقلت لها ما لم يتجرأ أحد إطلاقا أن يخبرها به من قبل، وكنت وفيا لكلمتي. لقد أخذت تتحسن قبل أن أبدأ التدليك. وفي أقل من ثلاثة أشهر كانت تنزل من عربتها في فيللا بورجيس، على مرأى من نصف مجتمع روما المتأنق، وتتمشى بين الأشجار متكئة على عكازها. كانوا ينظرون إلى هذه الحالة كإنجاز أعجوبة، وهي في الواقع حالة سهلة وبسيطة، يتطلب إيمان المريض واصطبار الطبيب. لقد فتحت أبواب جميع البيوت في الجالية البريطانية المتعددة في روما والعديد من البيوت الإيطالية كذلك. وفي السنة التالية أصبحت طبيب السفارة البريطانية وجاءتني أعداد من المرضى الإنجليز أكثر من جميع الأطباء الاثني عشر المولودين في بريطانيا- وأدع لك أن تتخيل كيف كانت مشاعرهم نحوي. وتولى صديق لي من مدرسة الفنون الجميلة أمر تواصلي مع الجالية الفرنسية. والكونت جيوسيب بريمولي، صديق العمر، تغنى بالثناء علي في مجتمع روما، وصدى باهت من نجاحي في شارع ڤيليير فعل الباقي ليملأ غرفة استشاراتي بالمرضى. والأستاذ وير- ميتشيل، اختصاصي الأعصاب المتميز من أميركا، والذي كان لي معه بعض علاقات سابقة  في أيامي الباريسية، استمر في تزويدي بما يفيض عنه من أصحاب الملايين المحطمين وزوجاتهم من ذوات الأعصاب المتوترة. وبناتهم بعاطفتهن الفياضة قد استثمرن غرورهن في أول أمير روماني أمكنهن الحصول عليه، بدأن أيضا يرسلن في استدعائي إلى قصورهن القديمة الكئيبة ليستشرنني في مختلف الأعراض للتخلص من الأوهام. وقد تبعتهن البقية من الجمهور الأميركي الواسع كقطيع من الغنم. وسرعان ما شاطر الأطباء الأميركيون الاثنا عشر زملاءهم البريطانيين مصيرهم المحتوم. والمئات من عارضات الأزياء على درجات ثالوث الجبال الأقدس  تحت نافذتي وهن في أزيائهن المزركشة من الجبال حول مونتيكاسينو كن جميعا من مرضاي. وكان بائعو الأزهار في ميدان اسبانيا يلقون باقات صغيرة من البنفسج في عربتي، وأنا أمر بهم عوضا عن مزيج السعال لبعض أطفالهم الرضع الذين لا يحصى عددهم. إن عيادتي في حي التراستِڤير نشرت شهرتي في جميع الأحياء الفقيرة في روما، وكنت أنام كملك من المساء حتى الصباح ما لم يقوموا بطلبي وهذا ما يحدث غالبا، ولم أكن أعرف ما يعني التعب في تلك الأيام. ولكي أكسب الوقت وأرضي حبي للجياد، رحت حالا أقود في روما بالسرعة القصوى عربة فكتوريا أنيقة حمراء العجلات يجرها حصانان من أفخم الخيول الهنغارية الرائعة، وتابيو الوفي، كلبي اللابي، يجلس إلى جانبي. في مقدوري الآن أن أرى أن في ذلك شيئا من الاستعراض، وقد يعد خطأ بمثابة دعاية لو لم أكن يومئذ قد تجاوزت الحاجة لأي دعاية. وعلى أية حال، لقد لطمت زملائي الأربعة والأربعين في العين على نحو خطير، ولا شك في ذلك. وكان بعضهم يقود في عربات قديمة كئيبة المظهر من عهد بيو نونو، بكل المظاهر وكأنهم عازمون أن يكيفوها في لحظة إشعار كنعوش لمرضاهم الميتين. وكان آخرون يمشون على أقدامهم في مهماتهم الحزينة بسترات "الفراك"( 1) الطويلة وقبعاتهم المنكسة على جباههم وكأنهم في تفكير عميق حول من هو التالي الذي عليهم أن يحنطوه. وسرعان ما تعرفوا علي شخصيا أيضا، سواء كانوا يرغبون بذلك أو لا، وإذا صار مرضاهم على فراش الموت يطلبونني للاستشارة. ولقد حاولت جهدي أن أحافظ بدقة على آداب مهنتنا وأقول لمرضاهم بأنهم محظوظون فعلا لكونهم بين مثل هذه الأيدي الجيدة، ولم يكن ذلك سهلا دائما. كنا في الواقع بحارة محزونين، ومراكبنا محطمة من مختلف البلدان والبحار، رسونا في روما بعدة ضئيلة من المعرفة. وكان علينا أن نعيش في مكان ما، ولم يكن هناك بالتأكيد من سبب لماذا لا ينبغي لنا أن نعيش في روما ما دمنا لا نتدخل في شؤون حياة مرضانا. وسرعان ما غدا من الصعب جدًّا على كل أجنبي في روما أن يموت دون أن يستدعوني للتأكد من حالته. لقد أصبحت للأجانب المشرفين على الموت كما هو البروفيسور المبجل باتشيللي لدى الرومان الميتين – الأمل الأخير، وهذا نادرا ما يتحقق. شخص آخر لم ينقطع عن الحضور في هذه المناسبات هو السنيور كورناتشيا مجهز الموتى لدى الجالية الأجنبية ومدير مقبرة البروتستنت بالقرب من ميناء سان باولو. من الواضح أنه مستعد للحضور بلا طلب، فقد كان حاضرا دائما في الوقت المناسب، ويبدو أن أنفه الكبير المعقوف يشم رائحة الموتى من مسافة كالنسر آكل الجيف. كان يتسكع في الممر، أنيق اللباس بسترة فراك طويلة وقبعة رسمية سوداء، بانتظار دوره بالدخول. وبدا أنه كان يكن لي حبا شديدا، ويحييني بمودة عميقة ملوحا بقبعته كلما قابلني في الشارع. وكان يعبر عن أسفه حينما كنت أول من يغادر روما في الربيع. وحين أعود في الخريف، يحييني دائما بيدين مبسوطتين ومودة: "عودة طيبة، سيدي الدكتور". وحدث شيء من سوء التفاهم بيننا في عيد الملاد الفائت لما أرسل لي اثنتي عشرة زجاجة من النبيذ مع آماله لقاء تعاوننا المثمر في الموسم القادم. وبدا أن عدم قدرتي على قبول هديته جرحته بعمق، قائلا إن أيًّا من زملائي لم يرفض قطّ منه تلك العلامة البسيطة من المشاركة الوجدانية. وسوء التفاهم المؤسف بعينه حدث بيني وبين اثنين من الصيدلانيين الأجانب.    وحدث يوما أن فوجئت جدًّا بتلقي زيارة من الدكتور العجوز بلكينغتون الذي كانت لديه أسباب خاصة جدًّا لكراهيتي. قال إنه وزملاءه انتظروا طويلا وبلا جدوى زيارتي لهم كما تقضي بذلك  آداب السلوك غير المكتوبة. وبما أن الجبل لم يجئ لمحمد، فقد جاء محمد إلى الجبل. وليس بينه وبين محمد أي شيء مشترك إلا لحيته البيضاء الطويلة المبجلة، وهو يبدو كنبي دجال  وليس حقيقيا. وقال إنه جاء بصفته عميد الأطباء الأجانب المقيمين في روما يدعوني لأصبح عضوا في جمعيتهم التي شكلوها حديثا للحماية المتبادلة بهدف وضع حد للحرب الدائرة بينهم منذ أمد طويل. لقد أصبح جميع زملائه أعضاء ما عدا ذلك العجوز الليفي الدكتور كامبل الذي لا يقيم أحد منهم معه أي تفاهم كلامي. والمسألة الشائكة في الأجور المهنية تم إقرارها من قبل برضا كل شخص وباتفاق مشترك حدد الأجر الأدنى بعشرين فرنكا، والأجر الأعلى باختيار كل عضو وفق الظروف. ولا يتم تحنيط رجل امرأة أو طفل بأقل من خمسة آلاف فرنك. كان آسفا أن عليه أن يعلمني أن الجمعية تلقت عدة شكاوى من الإهمال الفظيع في تحصيل أجوري وحتى في عدم تحصيل أي أجر إطلاقا. وحتى يوم أمس، أفضى له السنيور كورناتشيا، متعهد الموتى، والدموع تكاد تطفر من عينيه أني قمت بتحنيط زوجة القسيس السويدي بمئة ليرة، وهذا أكبر خرق مؤسف بحق الوفاء لجميع زملائي. وكان يشعر بثقة أني سأتحقق من مصلحتي بأن أصبح عضوا في جمعيتهم من أجل الحماية المشتركة وسوف يسره أن يرحب بي بينهم في اجتماعهم التالي غدا. أجبت بأني آسف لأني لا أستطيع أن أرى فائدة لي ولا لهم في أن أصبح عضوا، لكني أرغب على أية حال أن أناقش معهم الحد الأعلى للأجر وليس الحد الأدنى. أما في ما يتعلق بالحقن التي يدعونها تحنيط، فإن كلفتها لا تزيد عن خمسين فرنكا. وبإضافة خمسين أخرى لقاء ضياع الوقت، فالمبلغ الذي أخذته لتحنيط زوجة القسيس كان صحيحا. إني أعتزم أن أكسب من الأحياء، وليس من الموتى. أنا طبيب، ولست ضبعا. ولدى سماع كلمة ضبع، نهض من مقعده مع رجاء بألا أزعج نفسي في حال رغبت باستشارته فهو غير موجود. قلت إن هذا ضربة لي ولمرضاي معا، ولكنا سنحاول تدبير ذلك بدونه. آسف أني فقدت أعصابي، وقلت له ذلك في لقائنا التالي، وهذه المرة في منزله في شارع كاترو فونتان. لقد أصيب الدكتور بلكينغتون المسكين بصدمة خفيفة بعد لقائنا بيوم فاستدعاني للإشراف عليه. قال لي إن الجمعية للحماية المشتركة انحلت، وهم جميعا مستعدون للعراك من جديد، وهو يشعر بأنه بين يدي أكثر اطمئنانا من أيديهم. ولحسن الحظ لم يكن في حالته ما يدعو إلى القلق، وبدا لي في الواقع أنه أكثر حيوية بعد الصدمة مما كان عليه من قبل. ولقد حاولت أن أرفع من معنوياته ما استطعت، وقلت أن ليس هناك ما يدعو إلى القلق وأني كنت دائما أعتقد أنه مر من قبل بعدة صدمات خفيفة. وفي الحال وقف على ساقيه، وهو أنشط من أي وقت مضى، وكان لا يزال متألقا عندما غادرت روما.   بعد ذلك بوقت قصير تعرفت إلى عدوه اللدود الدكتور كامبل، الذي كان يدعوه بالليفي العجوز. ومن انطباعي الأول في الحكم عليه تبين لي أنه كان مصيبا في تشخيصه هذه المرة. فأنا لم أرَ من قبل رجلا عجوزا أكثر منه همجية في مظهره، عينان ضاريتان محتقنتان بالدم وشفتان قاسيتان، وجه سكير متورد، وكله مغطى بالشعر مثل قرد، ولحية طويلة شعثاء. يقال إنه فوق الثمانين، وقد أخبرني الصيدلي الإنجليزي المتقاعد أنه كان يبدو تماما في المظهر ذاته يوم وصل إلى روما أول مرة قبل ثلاثين سنة. ما من أحد كان يعرف من أين جاء، لكن الإشاعة تقول إنه كان جراحا في الجيش الجنوبي في الحرب الأميركية. كانت الجراحة اختصاصه، وهو فعلا الجراح الوحيد بين الأطباء الأجانب، ولم يكن على علاقة ودية مع أي منهم. وفي يوم ما وجدته يقف بجانب عربتي يربت على تابيو. "إني أحسدك على هذا الكلب"، قال بصوت خشن وفظاظة، "هل تحب القردة؟" قلت إني أحب القردة. قال إني الرجل المطلوب، ورجاني أن أجيء معه لألقي نظرة على قرده الذي يتقشر جلده وهو على وشك الموت لأنه قلب إبريقا من ماء يغلي. صعدنا إلى شقته في أعلى بيت على ناصية ميدان مغنانيللي. رجاني أن أنتظر في الصالون وظهر بعد دقيقة حاملا قردا بين ذراعيه، وهو بابون ضخم كان كله ملفوفا بالضمادات. "أخشى أن يكون في حالة سيئة جدا"، قال الدكتور العجوز بصوت مختلف جدا، وهو يربت برقة على وجه قرده الضعيف. "لا أدري ما سأفعل إذا مات، إنه صديقي الوحيد. لقد ربيته على الزجاجة منذ أن كان رضيعا، وقد ماتت أمه العزيزة حين وضعته. كانت كبيرة كالغوريلا، ولم تر أبدا عزيزة مثلها، كانت بشرية تماما. لا يهمني إطلاقا أن أفرم أولئك المخلوقات من زملائي إلى  قطع، وبالأحرى أني أحب ذلك، ولكن لم يعد لدي مزيد من الشجاعة أن أكسو جسمه الصغير المقرح، فهو يعاني من ذلك ألما فظيعا عندما أحاول أن أطهر جروحه حتى إني لا أطيق المزيد. وأنا متأكد أنك تحب الحيوانات، فهل تحاول إسعافه؟" أزلنا العصابات المبتلة بالدم والقيح، وكان منظرا مثيرا للشفقة، كان جسمه كله جرحا واحدا فظيعا. هو يعرف أنك صديق وإلا فإنه لا يمكن أن يجلس هادئا كما يفعل، وهو لا يسمح لأي شخص غيري أن يلمسه. لأنه يعرف كل شيء، وله دماغ أكبر من جميع الدكاترة الأجانب في روما لو وضعتهم معا. وهو لم يأكل شيئا منذ أربعة أيام"، تابع الحديث بتعبير رقيق من عينيه المحتقنتين. "بيلي، يا بني، ألا ترضي أباك بتناول هذه التينة؟" قلت أتمنى أن يكون لدينا موز، فلا أحب للقردة من الموز. قال إنه سيرسل فورا برقية إلى لندن من أجل عنقود من الموز، مهما كلف الثمن.  قلت إن المهم أن نحافظ على قوته. سكبنا قليلا من الحليب في فمه، لكنه لفظه فورا. وتأوَّه صاحبه: "لا يستطيع أن يبتلع أي شيء، وأنا أدرك معنى ذلك، إنه يموت". استعملنا بارتجال نوعا من أنبوب للتغذية، وفي هذه المرة احتفظ بالحليب واستدعى بهجة الدكتور العجوز. واستمر بيلي في تحسن بطيء. كنت أراه كل يوم على مدى أسبوعين، وانتهى بي الأمر إلى أن أغدو صديقا له ولصاحبه. وبعد حين رأيته جالسا على كرسيه الهزاز المصنوع خصيصا على ترَّاسهم المشمس مقابل صاحبه، وزجاجة من الويسكي على الطاولة بينهما. كان الدكتور العجوز شديد الاعتقاد بالويسكي وفائدتها لليد قبل العملية. وإذا قدرنا عدد زجاجات الويسكي الفارغة في زاوية التراس، فلا بد أن يكون عمله الجراحي جديرا بالاعتبار. يا حسرة! كلاهما كان مدمنا على الشراب. وغالبا ما لمحت بيلي يسكب لنفسه قليلا من الويسكي والصودا من كأس صاحبه. وأخبرني الدكتور أن الويسكي كانت أفضل منشط ممكن للقردة، فقد أنقذت حياة أم بيلي المحبوبة بعد إصابتها بذات الرئة. وصادفتهما في إحدى الأمسيات على تراسهما، وهما في غاية السكر. كان بيلي يؤدي رقصة زنجي على الطاولة حول زجاجة الويسكي، وقد جلس الدكتور العجوز مستندا بظهره إلى كرسيه، مصفقا بيديه تحديدا للوقت، وهو يغني بصوته الأجش:   "بيلي، يا بني، بيلي يا بنا.. ي، بو.. نا... ي!" وهما لم يسمعاني ولم يريا أني جئت. حدقت برعب إلى الأسرة السعيدة. وقد صار وجه القرد الثمل آدميا تماما، وكان وجه السكير العجوز مثل وجه غوريلا ضخمة. إن تشابه العائلة لا تخطئه العين. "بيلي، يا بني، بيلي يا بنا.. ي، بو.. نا... ي!"  أكان ذلك ممكنا؟ لا، لم يكن ذلك ممكنا طبعا، لكنه جعلني أشعر بالرعب...   وبعد نحو شهرين ألفيت الدكتور العجوز واقفا من جديد بجانب عربتي يتحدث إلى تابيو. لا بأس، والشكر لله، إن بيلي على ما يرام، لكن زوجته هي المريضة اليوم، فهل أتفضل عليه بإلقاء نظرة عليها؟ صعدنا مرة أخرى إلى شقته، ولم يكن لدي حتى الآن أي فكرة أنه يشارك فيها أحدا غير بيلي. وعلى السرير كانت فتاة صغيرة، طفلة تقريبا، عيناها مغلقتان، ومن الواضح أنها فاقدة الوعي. "ظننت أنك قلت إنها زوجتك المريضة، فهل هذه ابنتك؟" لا، إنها زوجته الرابعة، زوجته الأولى انتحرت، الثانية والثالة ماتتا بذات الرئة، وهو يشعر أن هذه ماضية في الطريق ذاته. كان انطباعي الأول أنه مصيب تماما. كانت ذات الرئة لديها مضاعفة، لكن انصبابا هائلا من غشاء الجنب الأيسر كان من الواضح أنه غاب عن فطنته. أعطيتها حقنتين تحت الجلد من الكافور والإتير بمحقنته القذرة، وطفقنا نفرك أعضاءها بقوة، ومن الواضح أنه كان قليل التأثير. قلت: "حاول أن ترفعها، تكلم معها!" انحنى على وجهها المشرق وزمجر في أذنها:  "سالي، يا عزيزتي، تماسكي، كوني على ما يرام وإلا فإني سأتزوج من جديد!" سحبت نفسا عميقا وفتحت عينيها بارتعاشة.  في اليوم التالي، بزلنا لها سائل ذات الجنب، وقام الشباب بما تبقى، تحسنت ببطء، وكأنها غير راغبة بذلك. لقد اشتبهت بإصابة مزمنة في رئتيها وسرعان ما تمكنت من إيجادها بنجاح. كانت في مرحلة متقدمة من السل. كنت أراها كل يوم ولمدة أسبوعين، ولم أتمالك شعوري بالأسف الشديد  من أجلها. كان واضحا أنها في حالة رعب من الرجل العجوز ولا عجب في ذلك، لأنه كان فظا معها إلى حد فظيع، وربما كان ذلك بغير قصد منه. أخبرني أنها جاءت من فلوريدا. ولما جاء الخريف نصحته أن يعيدها إلى هناك وكلما أسرع كان أفضل، فهي لن تستطيع البقاء حية في شتاء روما. بدا أنه موافق، وسرعان ما تبين لي أن المشكلة الرئيسة ماذا سيفعل مع بيلي. وانتهينا إلى اقتراحي بأن أحتفظ بالقرد أثناء غيابه في ساحة داري الصغيرة تحت درجات ثالوث الجبال، وهي آهلة بمختلف الحيوانات. وعليه أن يعود خلال ثلاثة أشهر. لكنه لم يعد أبدا، ولا أدري ماذا جرى له، ولا أي شخص آخر. سمعت إشاعة بأنه قتل برصاصة في شجار في خمارة، لكن لا أعلم إن كان ذلك صحيحا. وغالبا ما تساءلت من كان هذا الرجل وإن كان طبيبا أم لم يكن إطلاقا كذلك. لقد رأيته مرة يبتر ذراعا بسرعة مذهلة، ولا بد أنه عرف شيئا ما عن التشريح لكن القليل جدًّا عن تطهير الجرح وتضميده، وكانت أدواته بدائية بما لا يصدق. وأخبرني الصيدلي الإنجليزي أنه كان يكتب الوصفة نفسها مخطئا بالإملاء ومقدار الجرعة. وباعتقادي الشخصي أنه لم يكن طبيبا أبدا ولكنه جزار سابق أو ربما عامل رسمي في عربة إسعاف وكان له سبب وجيه بأن يغادر بلاده ذاتها. بقي بيلي معي في ميدان اسبانيا حتى الربيع لما أخذته إلى سان ميشيل حيث عانيت منه عذاب جهنم لقاء بقية حياته السعيدة. لقد عالجته من الإدمان على الكحول، وغدا قردا محترما تماما من عدة وجوه. وستسمعون عنه الكثير في ما بعد. ---------------------- ( 1)  Frock coat الفراك: سترة رجالية سوداء تبلغ الركبتين. (المورد)   --------------------   هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة) صفحتنا الرسمية في فيس بوك : https://www.facebook.com/mohammed.suwaidi.poet/ منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا  https://plus.google.com/+HisExcellencyMohammedAhmedAlSuwaidi?hl=ar   , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

سان ميشيل - لأكسِل مونتي - استهلال
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 1 - الصِّبا
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 2 - الحي اللاتيني
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 3 - شارع ڤيليير
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 4 - طبيب من أحدث طراز
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 5 - قصر رامو
قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 7 - نابولي