أنا وبورخيس
قصّة قصيرة
خورخي لويس بورخيس
(بمناسبة مرور 34 سنة على وفاته)
للآخر، لبورخيس، تحدث هذه الأمور. أتمشّى في بوينس أيرس فأطيل الوقوف، ربّما بشكلٍ ميكانيكيٍّ، لرؤية قوس دهليزٍ مع ستائر الباب؛ أتبلّغ أخبار بورخيس عبر البريد وأرى اسمه في قائمةٍ للأساتذة أو في معجم سيرٍ.
أحبّ السّاعات الرّمليّة، الخرائط، الفنّ الطّباعيّ للقرن 18، أصول الكلمات، طعم القهوة ونثر ستفنسن؛ يتقاسم معي الآخر هاته المفضّلات، ولكن بطريقةٍ متعاليةٍ تحيلها إلى خاصّيّات ممثّلٍ. سيكون مبالغاً فيه القول أنّ علاقتنا عدائيّةٌ؛ أنا أعيش، وأدع نفسي تعيش، كي يستطيع بورخيس حياكة أدبه، وهو أدبٌ يبرّر وجودي.
لا يكلّفني شيئاً أن أعترف بأنّ بضع صفحاتٍ قيّمةٍ تحسب له؛ لكنّها صفحاتٌ لا تستطيع إنقاذي، ربّما لأنّ الجمال لم يعد لأحدٍ، ولا حتّى للآخر في أقلّ تقديرٍ، اللّهمّ إذا كان للّغة والتّراث. فيما عدا ذلك، فمصيري المحتوم هو الضّياع، نهائيًّا، ولن تتمكّن من البقاء في الآخر إلّا بعض لحظةٍ منّي. شيئاً فشيئاً، سأتنازل له عن كلّ شيءٍ، ولو أنّ عادته المتهتّكة في التّزوير والتّضخيم تضنيني.
لقد أدرك سبينوزا بأنّ جميع الأشياء تحبّ البقاء في كينونتها؛ الحجر يحبّ للأبد أن يبقى حجراً، والنّمر يحبّ أن يبقى نمراً. أمّا أنا، فعليّ أن أبقى في بورخيس، لا فيّ [إن كنت أنا أحداً]، ولكنّي أتعرّف على ذاتي في كتبه بدرجةٍ أقلّ ممّا هو عليه الأمر في كتبٍ عديدةٍ أخرى أو في العزف المجهد على قيثارةٍ.
منذ سنواتٍ، حاولت التّحرّر منه، فتحوّلت من أساطير الضّواحي إلى التّسالي بالزّمان واللّانهائيّ، إلّا أنّ هذه التّسالي تحسب لبورخيس الآن ويستحسن أن أتمثّل أموراً أخرى. كذا تكون حياتي فلتاناً، لأفقد كلّ شيءٍ، ليصير كلّ شيءٍ ملكاً للنّسيان، أو للآخر.
لا أدري أيّنا، نحن الاثنين، يكتب هذه الصّفحة.