Arabic    

أسفار في أعماق إفريقيا (1795-1797) | مونغو بارك


2024-02-14 00:00:00
اعرض في فيس بوك
التطبيقات : ارتياد الآفاق
التصنيف : إرتياد الآفاق (كتب)

 
 
وكانت طائفة من أهل البلدة تجَّار أشغال الحديد قد عادوا مؤخَّراً من بعثة تجارة من هذا النوع وأذاعوا بين الناس خبر حرب ناشبة بين (المامي عبد القادر) ملك (فوتا-تورا) و(دامل) ملك (الجالوفيِّيْن). وقد باتت أحداث هذه الحرب مادَّة مُفضَّلة، يتناولها المغنُّون وموضوعاً رئيساً للحديث في الممالك المتاخمة لنهرَي السنغال وغامبيا كلِّها. ولمَّا كانت أحداث هذه الحرب فريدة من نوعها، فسوف أُوجِزُها للقارئ. لقد أرسل ملك (فوتا-تورا) تَحْدُوهُ في ذلك حماسة متَّقدة لنشر معتقده الإسلامي بعثة إلى (دامل) تُماثِلُ تلك البعثة التي سبق أن أرسلها إلى (كاسون) كما أسلفتُ من قبل. كان السفير في هذه البعثة الأخيرة برُفْقَة اثنَيْن من البِشَارِيِّيْن المتديِّنين للغاية، وكلٌّ منهما يحمل معه سارية يرفعها، وفي أعلاها ثُبِّتت سكِّينٌ طويلة. وما إن أخذوا الإذن بالمثول بين يَدَي الملك (دامل)، وأعلنوا سرورهم بالوجود في حضرته حتَّى أمر السفير المرافقين بتقديم رايات البعثة للملك.
 وُضع السكِّينان تحت قَدَمَي الملك، وعرض السفير الأمر كالتالي: (بهذه السكِّين سيتنازل (عبد القادر) ويَحلِق رأس (دامل) إذا اعتنق (دامل) الإسلام، وبتلك السكِّين الأخرى سيقطع (عبد القادر) رأس (دامل) إن رفض اعتناق الإسلام، ولكَ أن تختار). وكان أن ردَّ (دامل) بهدوء وبرود على عرض السفير قائلاً إنه يرفض الخيارَيْن، فلا هو يقبل حلاقة عبد القادر رأسه، ولا هو يقبل أن يقطع عبد القادر رأسه. وبهذا الجواب انتهت المقابلة، وتمَّ صرف المبعوث بصورة مهذَّبة. وعليه فقد بادر (عبد القادر) إلى اتِّخاذ قرار الحرب، وغزا بلاد (دامل) بجيش قوي جرَّار. قام سكَّان البلدات والقرى بردم آبارهم، وأتلفوا مؤنهم الغذائية، وحملوا أمتعتهم، وهجروا مساكنهم فيما كان جيش (عبد القادر) يقترب. وعلى هذا المنوال غزا (عبد القادر) مكاناً تلو مكان في بلاد (الجالوفيِّيْن) لمدَّة ثلاثة أيَّام كاملة. صحيح أنه لم يلقَ أيَّة مقاومة، لكن جيشه عانى الأَمَرَّيْن من شُحِّ المياه حتَّى مات العديد منهم جرَّاء العطش. وقد دفعه ذلك لتوجيه مسار الجيش إلى داخل الغابات بحثاً عن مورد ماء، فكان أن استلقى جنوده العطشى المنهكين، وناموا بين الآجام والأدغال. وعندها هاجمهم قبيل الفجر جنود (دامل) وهم رُقُود، وهُزموا هزيمة نكراء. كثير منهم دهستْهم سنابك خيول جيش (دامل) فماتوا وهم نيام، وقُتل البعض الآخر خلال محاولته الفِرَار، ووقع قسم كبير منهم أسرى. 
ومن ضمن مَنْ أُسروا كان الملك (عبد القادر) نفسه. وها هو الأمير الطموح المتعصِّب الذي كان قبل شهر قد أرسل رسالة تهديد ووعيد إلى (دامل) يُساق إلى مجلس غريمه (دامل) أسيراً ذليلاً مهاناً. كان مسلك (دامل) في هذه الواقعة محلَّ مدح المغنِّين المَدَّاحين وتبجيلهم، وإنه لأمر خارق حقَّاً ما أتاه ذلك الأمير الأفريقي، ما يجعل تصديق القارئ للرواية أمراً شبه مستحيل. فما إن سيق الأسير المَلَكِيّ مُكبَّلاً بالأغلال إلى حضرة الأمير (دامل)، وطُرح أمامه فوق الأرض، وعوض أن يضع الأمير وَفْقَاً للعادات السائدة قَدَمَهُ فوق عُنق غريمه، ويطعنه برُمحه وجَّه الأمير الشهم الواسع الأُفُق كلامه إلى خصمه الأسير كالتالي:(أجبْ عن هذا السؤال، يا عبد القادر. إن كانت واتتكَ الفرصة لتكون في مكاني فماذا كنتَ فاعلاً؟) "كنتُ غرستُ رُمحي في قلبكَ"، قالها عبد القادر بتوكيد وثقة، وأردف: "وأنا أعلم أن هذا المصير ينتظرني". فقال دامل: "لا، ليس هكذا، فرُمحي مخضَّب بدماء رعاياكَ وجنودكَ الذين لاقوا حتفهم في المعركة، وبوسعي الآن أن أُخضِّبه أكثر بدمائكَ، لكن هذا لن يعيد بناء بلداتي المخرَّبة، ولن يعيد الحياة إلى آلاف القتلى في الغابات. ولهذا فأنا لن أقتلكَ بدم بارد، ولكنني سأحتفظ بكَ كعبد لي حتَّى أتأكَّد من أن عودتكَ لمملكتكَ لن تكون مصدر خطر على جيرانكَ، وعندها سأقرِّر أفضل طُرُق التعامل معكَ". وعليه فقد تمَّ احتجاز (عبد القادر) فعمل كعبد لمدَّة ثلاثة أشهر، وفي نهايتها أصغى (دامل) لتوسُّلات أهالي (فوتا-تورا)، وأعاد لهم ملكهم. ومهما بدت لكم تلك القصَّة غريبة عجيبة، فأنا أشهد بصِدْقها. فقد رواها لي الزنوج في (مالاكوتا)، ورواها لي فيما بعد الأوروبيون من سكَّان ضفاف نهر غامبيا بعضهم من الفرنسيِّيْن القاطنين في (غوري). وأكَّدها لي تسعة عبيد ممَّنْ أُسروا مع (عبد القادر) عند عين المياه داخل الغابات، وكانوا على مَتْن السفينة ذاتها التي أقلَّتْني إلى جزر الهند الغربية
جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة Ibn Battuta Award
الكتاب الفائز بجائزة ابن بطُّوطة لأدب الرحلة -فرع الرحلة المترجمة
أسفار في أعماق إفريقيا   (1795-1797) |  مونغو بارك
ترجمة ودراسة د. نعيمة الحوسني 
--
الصفحة

    وكانت طائفة من أهل البلدة تجَّار أشغال الحديد قد عادوا مؤخَّراً من بعثة تجارة من هذا النوع وأذاعوا بين الناس خبر حرب ناشبة بين (المامي عبد القادر) ملك (فوتا-تورا) و(دامل) ملك (الجالوفيِّيْن). وقد باتت أحداث هذه الحرب مادَّة مُفضَّلة، يتناولها المغنُّون وموضوعاً رئيساً للحديث في الممالك المتاخمة لنهرَي السنغال وغامبيا كلِّها. ولمَّا كانت أحداث هذه الحرب فريدة من نوعها، فسوف أُوجِزُها للقارئ. لقد أرسل ملك (فوتا-تورا) تَحْدُوهُ في ذلك حماسة متَّقدة لنشر معتقده الإسلامي بعثة إلى (دامل) تُماثِلُ تلك البعثة التي سبق أن أرسلها إلى (كاسون) كما أسلفتُ من قبل. كان السفير في هذه البعثة الأخيرة برُفْقَة اثنَيْن من البِشَارِيِّيْن المتديِّنين للغاية، وكلٌّ منهما يحمل معه سارية يرفعها، وفي أعلاها ثُبِّتت سكِّينٌ طويلة. وما إن أخذوا الإذن بالمثول بين يَدَي الملك (دامل)، وأعلنوا سرورهم بالوجود في حضرته حتَّى أمر السفير المرافقين بتقديم رايات البعثة للملك.  وُضع السكِّينان تحت قَدَمَي الملك، وعرض السفير الأمر كالتالي: (بهذه السكِّين سيتنازل (عبد القادر) ويَحلِق رأس (دامل) إذا اعتنق (دامل) الإسلام، وبتلك السكِّين الأخرى سيقطع (عبد القادر) رأس (دامل) إن رفض اعتناق الإسلام، ولكَ أن تختار). وكان أن ردَّ (دامل) بهدوء وبرود على عرض السفير قائلاً إنه يرفض الخيارَيْن، فلا هو يقبل حلاقة عبد القادر رأسه، ولا هو يقبل أن يقطع عبد القادر رأسه. وبهذا الجواب انتهت المقابلة، وتمَّ صرف المبعوث بصورة مهذَّبة. وعليه فقد بادر (عبد القادر) إلى اتِّخاذ قرار الحرب، وغزا بلاد (دامل) بجيش قوي جرَّار. قام سكَّان البلدات والقرى بردم آبارهم، وأتلفوا مؤنهم الغذائية، وحملوا أمتعتهم، وهجروا مساكنهم فيما كان جيش (عبد القادر) يقترب. وعلى هذا المنوال غزا (عبد القادر) مكاناً تلو مكان في بلاد (الجالوفيِّيْن) لمدَّة ثلاثة أيَّام كاملة. صحيح أنه لم يلقَ أيَّة مقاومة، لكن جيشه عانى الأَمَرَّيْن من شُحِّ المياه حتَّى مات العديد منهم جرَّاء العطش. وقد دفعه ذلك لتوجيه مسار الجيش إلى داخل الغابات بحثاً عن مورد ماء، فكان أن استلقى جنوده العطشى المنهكين، وناموا بين الآجام والأدغال. وعندها هاجمهم قبيل الفجر جنود (دامل) وهم رُقُود، وهُزموا هزيمة نكراء. كثير منهم دهستْهم سنابك خيول جيش (دامل) فماتوا وهم نيام، وقُتل البعض الآخر خلال محاولته الفِرَار، ووقع قسم كبير منهم أسرى.  ومن ضمن مَنْ أُسروا كان الملك (عبد القادر) نفسه. وها هو الأمير الطموح المتعصِّب الذي كان قبل شهر قد أرسل رسالة تهديد ووعيد إلى (دامل) يُساق إلى مجلس غريمه (دامل) أسيراً ذليلاً مهاناً. كان مسلك (دامل) في هذه الواقعة محلَّ مدح المغنِّين المَدَّاحين وتبجيلهم، وإنه لأمر خارق حقَّاً ما أتاه ذلك الأمير الأفريقي، ما يجعل تصديق القارئ للرواية أمراً شبه مستحيل. فما إن سيق الأسير المَلَكِيّ مُكبَّلاً بالأغلال إلى حضرة الأمير (دامل)، وطُرح أمامه فوق الأرض، وعوض أن يضع الأمير وَفْقَاً للعادات السائدة قَدَمَهُ فوق عُنق غريمه، ويطعنه برُمحه وجَّه الأمير الشهم الواسع الأُفُق كلامه إلى خصمه الأسير كالتالي:(أجبْ عن هذا السؤال، يا عبد القادر. إن كانت واتتكَ الفرصة لتكون في مكاني فماذا كنتَ فاعلاً؟) "كنتُ غرستُ رُمحي في قلبكَ"، قالها عبد القادر بتوكيد وثقة، وأردف: "وأنا أعلم أن هذا المصير ينتظرني". فقال دامل: "لا، ليس هكذا، فرُمحي مخضَّب بدماء رعاياكَ وجنودكَ الذين لاقوا حتفهم في المعركة، وبوسعي الآن أن أُخضِّبه أكثر بدمائكَ، لكن هذا لن يعيد بناء بلداتي المخرَّبة، ولن يعيد الحياة إلى آلاف القتلى في الغابات. ولهذا فأنا لن أقتلكَ بدم بارد، ولكنني سأحتفظ بكَ كعبد لي حتَّى أتأكَّد من أن عودتكَ لمملكتكَ لن تكون مصدر خطر على جيرانكَ، وعندها سأقرِّر أفضل طُرُق التعامل معكَ". وعليه فقد تمَّ احتجاز (عبد القادر) فعمل كعبد لمدَّة ثلاثة أشهر، وفي نهايتها أصغى (دامل) لتوسُّلات أهالي (فوتا-تورا)، وأعاد لهم ملكهم. ومهما بدت لكم تلك القصَّة غريبة عجيبة، فأنا أشهد بصِدْقها. فقد رواها لي الزنوج في (مالاكوتا)، ورواها لي فيما بعد الأوروبيون من سكَّان ضفاف نهر غامبيا بعضهم من الفرنسيِّيْن القاطنين في (غوري). وأكَّدها لي تسعة عبيد ممَّنْ أُسروا مع (عبد القادر) عند عين المياه داخل الغابات، وكانوا على مَتْن السفينة ذاتها التي أقلَّتْني إلى جزر الهند الغربية جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة Ibn Battuta Award الكتاب الفائز بجائزة ابن بطُّوطة لأدب الرحلة -فرع الرحلة المترجمة أسفار في أعماق إفريقيا   (1795-1797) |  مونغو بارك ترجمة ودراسة د. نعيمة الحوسني  -- الصفحة , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

الدرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة | عامر سلمان أبو محارب
اختتمت في دار السويدي الثقافية بأبو ظبي فعاليات تكريم الفائزين بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة لعام 2025
وقائع الاحتفاء بالفائزين بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة لعام 2025 في ضيافة سعادة/ محمد أحمد السويدي
جائزة ابن بطوطة تكرّم عشاق السفر والكلمة في معرض الرباط الدولي للكتاب 2025
تواصل الاحتفاء بالفائزين بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة
مبارككٌ للفائزين
مباركٌ للمكتبة العربية - الفتوحات البوهيمية