- مديح الظلّ - للروائي الياباني تانيزاكي (1886-1965)
"مديح الظلّ" للروائي الياباني تانيزاكي (1886-1965)
|| #محمد_أحمد_السويدي || #مقالات
كلَّما دلُّوني في أحد أديرة كيوتو أُنارا، على طريق المراحيض المبنيَّة على الطريقة القديمة ونصف المعتمة والنظيفة جداً بالرغم من ذلك، انتابني إحساسٌ قوي بالميزة النادرة للعمارة اليابانية. إن مقصورة الشَّاي مكان ممتع، وأنا أحب ذلك، أما المراحيض من طراز ياباني فهي قد ابتُكِرت حقاً لسلام الروح. إنها توجد دائماً بعيداً عن البناية الرئيسية، في حماية أجمة تنبعث منها رائحة أوراق الأشجار والطّحلب. بعد أن نعبر ممراً مغطّى يؤدي إليها، ونقرفص وسط الظلمة، وننغمس في ضوء سُوجي الناعم، ونستغرق في تخيّلاتنا، ينتابنا، ونحن نتأمل مشهد الحديقة التي تمتد تحت النافذة، إحساس يتعذَّر وصفه. ويذكر المعلم سُوزِيكي (سوزيكي (1867- 1916): أحد الروائيين اليابانيين الكبار في بداية القرن العشرين.)، فيما يبدو، أن من بين مُتَع الوجود الذهاب كل صباح إلى المراحيض للاستراحة، موضِّحاً أن هذه اللذة هي أساساً من صنف فيزيولوجي. ومن أجل تذَوُّق هذه المتعة بعمق، ليس هناك مكان ٌ أكثر ملاءمة من المراحيض التي من طراز ياباني، حيث نستطيع أن نتأمل، في حماية جدران بسيطة جداً وملساء، لازورد السماء وخضرة أوراق الأشجار. أضيف، وأنا أعرِّض نفسي للسقوط في التكرار، أن نوعاً معيناً من الظلمة ونظافة تامَّة وصمتاً عميقاً جداً بحيث إن طنين بعوضة يصدم الأذن، كل ذلك يشكل شروطاً ضرورية. حين أكون في مثل هذا المكان يروق لي أن أستمع إلى مطر ناعم ومنتظم وهو ينزل، خصوصاً في هذه البنايات الخاصة بالأقاليم الشرقية التي أعدت بها، في مستوى الأرضية، منافذ ضيقة وطويلة لصرف الكناسة، بحيث إننا نستطيع الاستماع عن قرب إلى الصوت المريح لقطرات الماء التي تنزل من حافة الإفريز أو من أوراق الأشجار، وترش قوائم الفوانيس الحجرية، وتبلل طحلب البلاطات قبل أن يمتصَّها التراب. والحقيقة أن هذه المراحيض تلائم أزيز الحشرات وزقزقة العصافير والليالي المقمرة أيضاً. إنها أحسن مكان لتذوق كآبة الأشياء الموجعة في كل فصل من الفصول الأربعة، ومن المؤكد أن شعراء الـ(هايكو) القدامى وجدوا فيه موضوعات كثيرة. وهكذا نستطيع أن نزعم أن العمارة اليابانية بلغت ذروة الرفاهية في بناء المراحيض. وللمفارقة، فقد نجح أجدادنا الذين كانوا يضفون بعداً شعرياً على كل شيء في تحويل المكان، الذي يفترض أن يكون بسبب استعماله أكثر الأماكن قذارة في البيت، إلى مكان ظريف، وفي إدراجه ضمن شبكة من تداعيات دقيقة للصّور، بواسطة اتفاق مع الطبيعة. إن موقفنا يبدو، بالمقارنة مع موقف الغربيين، الذين قرّروا عمداً أن المكان قذر وأنه يجب تجنُّب حتى مجرد التلميح إليه أمام الناس، أكثر حكمة إلى حدّ بعيد، لأننا في الحقيقة توغلنا في هذا المجال حتى عمق الرهافة. والسلبيات، إذا كان لا بد من سلبيات، يمكن أن تكون البعد، وانعدام الرفاهية الذي ينتج عن ذلك عندما يكون الإنسان مرغماً على الذهاب إلى ذلك المكان في عمق الليل، ومن جهة أخرى، خطر الإصابة بالزكام في الشتاء. وإذا كانت (الرّهافة شيئاً بارداً) حسب تعبير سيتو ريوكو. أو* ، فإن انتشار برد مماثل لبرد الهواء الخارجي في هذه الأماكن، يمكن أن يشكل متعة إضافية. إنني أنزعج من استعمال حرارة جهاز التدفئة المركزي لتدفئة المراحيض الموجودة في الفنادق من طراز غربي. إن المراحيض من نوع ياباني تمثِّل بالتأكيد، بالنسبة للذين يحبُّون الأُسلوبَ المعماري لمقصورة الشّاي، مثلاً أعلى. وهي تلائم تماماً الدير حيث البنايات واسعة نسبة إلى عدد الأشخاص الذين يعيشون فيها، وحيث لا يوجد أبداً نقص في اليد العاملة للتنظيف. أما في بيت عادي فالحفاظ على النظافة ليس أمراً سهلاً. إن القذارة تبرز، في النهاية، على أرضية متكوّنة من ألواح أو مغطّاة بحُصُر، حتى ولو راقبنا أنفسنا ومسحناها على الدوام بخرقة. لهذا السبب نقرر ذات يوم أن نبلطها وأن نركّب حوضاً مزوداً بدفاقة ماء ، وهو تجهيز صحي أكثر بالطبع، وصيانته أسهل، لكنه يفقد، في المقابل، أدنى علاقة بـ(الرهافة) أو (روح الطبيعة) حين نكون وسط ضوء ساطع، وبين أربعة جدران مائلة إلى البياض، نفقد كل رغبة في التمتّع (باللّذة الفيزيولوجية) الشهيرة التي تحدَّث عنها المعلم سوزيكي. صحيح أن كلَّ هذا البياض نظيف جداً، لكن المسألة تتمثل في معرفة ما إذا كان ينبغي حقاً الاعتناء إلى هذا الحد بمكان مخصّص لتلقي فضالة أجسادنا. لا يليق تماماً بأجمل فتاة في العالم أن تكشف عن ردفيها وفخذيها للجمهور حتى ولو كانت بشرتها في لون الصَّدفة. كذلك فإنه من سوء التهذيب أن نضيء مثل هذا المكان بطريقة صارخة إلى هذا الحد: فعلاً، يكفي أن يكون الجزء المرئي نظيفاً جداً كي نطلق حكماً إيجابياً على الجزء اللّامرئي. في مكان كهذا، من الأفضل تماماً أن نحجب كل شيء بظلمة خفيفة غامضة، وألّا نترك إلا ما نكتشف به بالكاد الحد الفاصل بين ما هو نظيف وما هو أقل نظافة.

لكل هذه الأسباب اخترت، عندما بنيت بيتي الخاص، الجهاز الصحي، لكنّي اعترضت على التبليط، وهيَّأت أرضية من خشب الكافور. كنت آمل أن أهتدي بهذه الطريقة إلى شيء من طراز ياباني، لكن المشكلة كانت تتمثل في الحوض. أشرح ذلك: كل الأحواض المزوّدة بدفاقات ماء هي، كما نعلم، من الخزف الصيني الأبيض، وهي مصحوبة بقطع معدنية برّاقة. إلا أن ذوقي الشخصي يميل، بخصوص هذا النّوع من الأدوات، سواء للاستعمال الرجالي أو النسائي، إلى الخشب.
وطبعاً لا شيء يضاهي الخشب الملمّع، لكن الخشب الخام ذاته يتّخذ، بمرور الأعوام، لوناً أسمر جميلاً، فينبعث عندئذ من نسيج الخشب نوع من السحر يهدّئ الأعصاب بشكل غريب. ينبغي عليَّ توضيح أن المثل الأعلى، بالنسبة لي، يمكن أن يكون أحد هذه الأحواض التي تتّخذ شكل (زهرة اللبلاب) والتي صنعت من الخشب، وملئت بإبر صنوبر خضراء جداً، وهو شيء مستحبّ الرؤية، وبالإضافة إلى ذلك، هادئ تماماً.
ودون أن أتجرأ كثيراً، وأسمح لنفسي بإنجاز مثل هذا الشيء الغريب، أردت على الأقل أن أصنع حوضاً يتطابق مع ذوقي، مخاطراً بتزويده بدفاقة ماء. لكن ينبغي، للحصول على شيء متميّز إلى هذا الحد، القيام بمساعٍ عديدة وبذل مال كثير بحيث إني انتهيت بالتخلّي عن ذلك.
طبعاً، ليس لديّ أي اعتراض على تبنّي وسائل الراحة التي توفرها الحضارة بشأن الإضاءة والتدفئة أو أحواض المراحيض، لكني تساءلت هنا لماذا لا نولي، بناءً على ما قلت، عاداتنا وأذواقنا اهمية أكثر، وما إذا كان من المستحيل حقّاً أن نتكيّف معها أكثر ممَّا نفعل الآن.
"مديح الظلّ" للروائي الياباني تانيزاكي (1886-1965)
|| #محمد_أحمد_السويدي || #مقالات
كلَّما دلُّوني في أحد أديرة كيوتو أُنارا، على طريق المراحيض المبنيَّة على الطريقة القديمة ونصف المعتمة والنظيفة جداً بالرغم من ذلك، انتابني إحساسٌ قوي بالميزة النادرة للعمارة اليابانية. إن مقصورة الشَّاي مكان ممتع، وأنا أحب ذلك، أما المراحيض من طراز ياباني فهي قد ابتُكِرت حقاً لسلام الروح. إنها توجد دائماً بعيداً عن البناية الرئيسية، في حماية أجمة تنبعث منها رائحة أوراق الأشجار والطّحلب. بعد أن نعبر ممراً مغطّى يؤدي إليها، ونقرفص وسط الظلمة، وننغمس في ضوء سُوجي الناعم، ونستغرق في تخيّلاتنا، ينتابنا، ونحن نتأمل مشهد الحديقة التي تمتد تحت النافذة، إحساس يتعذَّر وصفه. ويذكر المعلم سُوزِيكي (سوزيكي (1867- 1916): أحد الروائيين اليابانيين الكبار في بداية القرن العشرين.)، فيما يبدو، أن من بين مُتَع الوجود الذهاب كل صباح إلى المراحيض للاستراحة، موضِّحاً أن هذه اللذة هي أساساً من صنف فيزيولوجي. ومن أجل تذَوُّق هذه المتعة بعمق، ليس هناك مكان ٌ أكثر ملاءمة من المراحيض التي من طراز ياباني، حيث نستطيع أن نتأمل، في حماية جدران بسيطة جداً وملساء، لازورد السماء وخضرة أوراق الأشجار. أضيف، وأنا أعرِّض نفسي للسقوط في التكرار، أن نوعاً معيناً من الظلمة ونظافة تامَّة وصمتاً عميقاً جداً بحيث إن طنين بعوضة يصدم الأذن، كل ذلك يشكل شروطاً ضرورية. حين أكون في مثل هذا المكان يروق لي أن أستمع إلى مطر ناعم ومنتظم وهو ينزل، خصوصاً في هذه البنايات الخاصة بالأقاليم الشرقية التي أعدت بها، في مستوى الأرضية، منافذ ضيقة وطويلة لصرف الكناسة، بحيث إننا نستطيع الاستماع عن قرب إلى الصوت المريح لقطرات الماء التي تنزل من حافة الإفريز أو من أوراق الأشجار، وترش قوائم الفوانيس الحجرية، وتبلل طحلب البلاطات قبل أن يمتصَّها التراب. والحقيقة أن هذه المراحيض تلائم أزيز الحشرات وزقزقة العصافير والليالي المقمرة أيضاً. إنها أحسن مكان لتذوق كآبة الأشياء الموجعة في كل فصل من الفصول الأربعة، ومن المؤكد أن شعراء الـ(هايكو) القدامى وجدوا فيه موضوعات كثيرة. وهكذا نستطيع أن نزعم أن العمارة اليابانية بلغت ذروة الرفاهية في بناء المراحيض. وللمفارقة، فقد نجح أجدادنا الذين كانوا يضفون بعداً شعرياً على كل شيء في تحويل المكان، الذي يفترض أن يكون بسبب استعماله أكثر الأماكن قذارة في البيت، إلى مكان ظريف، وفي إدراجه ضمن شبكة من تداعيات دقيقة للصّور، بواسطة اتفاق مع الطبيعة. إن موقفنا يبدو، بالمقارنة مع موقف الغربيين، الذين قرّروا عمداً أن المكان قذر وأنه يجب تجنُّب حتى مجرد التلميح إليه أمام الناس، أكثر حكمة إلى حدّ بعيد، لأننا في الحقيقة توغلنا في هذا المجال حتى عمق الرهافة. والسلبيات، إذا كان لا بد من سلبيات، يمكن أن تكون البعد، وانعدام الرفاهية الذي ينتج عن ذلك عندما يكون الإنسان مرغماً على الذهاب إلى ذلك المكان في عمق الليل، ومن جهة أخرى، خطر الإصابة بالزكام في الشتاء. وإذا كانت (الرّهافة شيئاً بارداً) حسب تعبير سيتو ريوكو. أو* ، فإن انتشار برد مماثل لبرد الهواء الخارجي في هذه الأماكن، يمكن أن يشكل متعة إضافية. إنني أنزعج من استعمال حرارة جهاز التدفئة المركزي لتدفئة المراحيض الموجودة في الفنادق من طراز غربي. إن المراحيض من نوع ياباني تمثِّل بالتأكيد، بالنسبة للذين يحبُّون الأُسلوبَ المعماري لمقصورة الشّاي، مثلاً أعلى. وهي تلائم تماماً الدير حيث البنايات واسعة نسبة إلى عدد الأشخاص الذين يعيشون فيها، وحيث لا يوجد أبداً نقص في اليد العاملة للتنظيف. أما في بيت عادي فالحفاظ على النظافة ليس أمراً سهلاً. إن القذارة تبرز، في النهاية، على أرضية متكوّنة من ألواح أو مغطّاة بحُصُر، حتى ولو راقبنا أنفسنا ومسحناها على الدوام بخرقة. لهذا السبب نقرر ذات يوم أن نبلطها وأن نركّب حوضاً مزوداً بدفاقة ماء ، وهو تجهيز صحي أكثر بالطبع، وصيانته أسهل، لكنه يفقد، في المقابل، أدنى علاقة بـ(الرهافة) أو (روح الطبيعة) حين نكون وسط ضوء ساطع، وبين أربعة جدران مائلة إلى البياض، نفقد كل رغبة في التمتّع (باللّذة الفيزيولوجية) الشهيرة التي تحدَّث عنها المعلم سوزيكي. صحيح أن كلَّ هذا البياض نظيف جداً، لكن المسألة تتمثل في معرفة ما إذا كان ينبغي حقاً الاعتناء إلى هذا الحد بمكان مخصّص لتلقي فضالة أجسادنا. لا يليق تماماً بأجمل فتاة في العالم أن تكشف عن ردفيها وفخذيها للجمهور حتى ولو كانت بشرتها في لون الصَّدفة. كذلك فإنه من سوء التهذيب أن نضيء مثل هذا المكان بطريقة صارخة إلى هذا الحد: فعلاً، يكفي أن يكون الجزء المرئي نظيفاً جداً كي نطلق حكماً إيجابياً على الجزء اللّامرئي. في مكان كهذا، من الأفضل تماماً أن نحجب كل شيء بظلمة خفيفة غامضة، وألّا نترك إلا ما نكتشف به بالكاد الحد الفاصل بين ما هو نظيف وما هو أقل نظافة.
لكل هذه الأسباب اخترت، عندما بنيت بيتي الخاص، الجهاز الصحي، لكنّي اعترضت على التبليط، وهيَّأت أرضية من خشب الكافور. كنت آمل أن أهتدي بهذه الطريقة إلى شيء من طراز ياباني، لكن المشكلة كانت تتمثل في الحوض. أشرح ذلك: كل الأحواض المزوّدة بدفاقات ماء هي، كما نعلم، من الخزف الصيني الأبيض، وهي مصحوبة بقطع معدنية برّاقة. إلا أن ذوقي الشخصي يميل، بخصوص هذا النّوع من الأدوات، سواء للاستعمال الرجالي أو النسائي، إلى الخشب.
وطبعاً لا شيء يضاهي الخشب الملمّع، لكن الخشب الخام ذاته يتّخذ، بمرور الأعوام، لوناً أسمر جميلاً، فينبعث عندئذ من نسيج الخشب نوع من السحر يهدّئ الأعصاب بشكل غريب. ينبغي عليَّ توضيح أن المثل الأعلى، بالنسبة لي، يمكن أن يكون أحد هذه الأحواض التي تتّخذ شكل (زهرة اللبلاب) والتي صنعت من الخشب، وملئت بإبر صنوبر خضراء جداً، وهو شيء مستحبّ الرؤية، وبالإضافة إلى ذلك، هادئ تماماً.
ودون أن أتجرأ كثيراً، وأسمح لنفسي بإنجاز مثل هذا الشيء الغريب، أردت على الأقل أن أصنع حوضاً يتطابق مع ذوقي، مخاطراً بتزويده بدفاقة ماء. لكن ينبغي، للحصول على شيء متميّز إلى هذا الحد، القيام بمساعٍ عديدة وبذل مال كثير بحيث إني انتهيت بالتخلّي عن ذلك.
طبعاً، ليس لديّ أي اعتراض على تبنّي وسائل الراحة التي توفرها الحضارة بشأن الإضاءة والتدفئة أو أحواض المراحيض، لكني تساءلت هنا لماذا لا نولي، بناءً على ما قلت، عاداتنا وأذواقنا اهمية أكثر، وما إذا كان من المستحيل حقّاً أن نتكيّف معها أكثر ممَّا نفعل الآن.
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles